المدينة المنورة … والحصار الأخير
تاريخ الحملة الصليبية ودولها الوظيفية في المنطقة العربية...

نظرات في السيرة النبوية
جميع حلقات نظرات في السيرة النبوية في صفحة واحدة ...

رأي الأسبوع
المقاومة.. والمسالمة (3) بين الشهيد أحمد عرفان.. والسير أحمد خان

المقاومة.. والمسالمة (3)


بين الشهيد أحمد عرفان.. والسير أحمد خان

 

بقلم أ.د. حاكم المطيري

 

3 / 8/ 1444هـ

23/ 2/ 2023م

 

كان أول ظهور لمذهب المسالمة للعدو المحتل في العالم الإسلامي هو بين المسلمين في الهند، وذلك بعد استشهاد السيد أحمد عرفان الحسني الهاشمي، في جهاده ضد الإنجليز والسيخ سنة ١٨٣١م، وكان أول عالم ومصلح في الهند دعا المسلمين إلى مقاومة المحتل البريطاني، وقاد الجهاد بنفسه، وأقام دولة إسلامية في المناطق التي حررها شمال غربي الهند، وكان شيخه الإمام السيد عبدالعزيز بن السيد ولي الله الدهلوي قد أصدر فتواه بأن الهند دار حرب يجب الهجرة منها، وجهاد الإنجليز فيها، وقال فيها عن ملوك دلهي: (إن حكم إمام المسلمين في هذه المدينة غير نافذ، والكفار أصحاب حكم وسلطة في شؤون إدارة البلاد، وتنظيم الرعية، والفصل في الخصومات..).

وقد حوّل الشهيد السيد أحمد عرفان دعوة شيخه عبدالعزيز الدهلوي إلى الجهاد في سبيل الله -ودعوة والده السيد ولي الله الدهلوي إلى التجديد والخلافة الراشدة- إلى حركة سياسية إصلاحية مقاومة، أقامت دولة إسلامية راشدة، وإن لم تدم طويلا بعد أن تآمر عليه حلفاء بريطانيا، كما جاء في سيرته التي ذكرها عبد الحي الحسني في "نزهة الخواطر" ٧/ ٨٩٩ فقال عنه: (السيد الإمام أحمد بن عرفان البريلوي، السيد الإمام الهمام، حجة الله بين الأنام، موضح محجة الملة والإسلام، قامع الكفرة والمبتدعين، وأنموذج الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين، مولانا الإمام المجاهد الشهيد السعيد، أحمد بن عرفان بن نور الشريف الحسني البريلوي، كان من ذرية الأمير الكبير بدر الملة المنير شيخ الاسلام قطب الدين محمد بن أحمد المدني.

ولد في صفر سنة إحدى ومائتين وألف ببلدة رائي بريلي في زاوية جده السيد علم الله النقشبندي البريلوي، ونشأ في تصون تام وتأله، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خلفا صالحا، برا تقيا، ورعا عابدا ناسكا، صواما قواما، ذاكرا لله تعالى في كل أمر، رجاعا إليه في سائر الأحوال، وقافا عند حدوده، وأوامره ونواهيه، لا تكاد نفسه تقنع من خدمة الأرامل والأيتام، كان يذهب إلى بيوتهم ويتفحص عن حوائجهم، ويجتهد في الاستقاء والاحتطاب واجتلاب الأمتعة من السوق..

وبايع الشيخ عبدالعزيز [الدهلوي] وأخذ عنه الطريقة حتى نال حظا وافرا من العلم والمعرفة، وفاق الأقران، وأتى بما يتحير منه أعيان البلدة في العلم والمعرفة، وكان ذلك في سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف.

ثم غلب عليه شوق الجهاد في سبيل الله، فذهب إلى معسكر الأمير المجاهد نواب مير خان، ولبث عنده بضع سنين، وكان يحرضه على الجهاد، فلما رأى أنه يضيع وقته في الإغارة ويقنع بحصول المغنم، وعلم أنه عزم على مسالمة الإنجليز والهدنة تركه ورجع إلى دهلي، وشد المئزر بنصرة السنة المحضة، والطريقة السلفية، واحتج ببراهين ومقدمات وأمور لم يسبق إليها، وأطلق عبارات أحجم عنها الأولون والآخرون وهابوا وجسر هو عليها، حتى أعلى الله مناره، وجمع قلوب أهل التقوى على محبته، والدعاء له، وكبت أعداءه وهدى رجالا من أهل الملل والنحل، وجبل قلوب الأمراء على الانقياد له غالبا وعلى طاعته، وأول من دخل في بيعته الشيخ عبد الحي ابن هبة الله البرهانوي، والشيخ إسماعيل بن عبد الغني الدهلوي، وناس كثيرون من عشيرة الشيخ عبد العزيز، وكل ذلك في حياة شيخه [عبدالعزيز الدهلوي]، فنهض من دهلي مع جماعة من الأنصار إلى بهلت، ولوهاري، وسهارنبور، وكده، مكتيسر، ورامبور، وبريلي، وشاهجهانبور، وشاه آباد، وغيرها من القرى والبلاد، فانتفع بمجلسه -وبركة دعائه، وطهارة أنفاسه، وصدق نيته، وصفاء ظاهره وباطنه، وموافقة قوله بعمله، والإنابة إلى الله سبحانه- خلق كثير لا يحصون بحد وعد، بل قام عليه جمع من المشايخ قياما لا مزيد عليه، بدعوه، وناظروه، وكابروه، وهو ثابت لا يداهن، ولا يحابي، وله إقدام وشهامة، وقوة نفس، توقعه في أمور صعبة، فيدفع الله عنه، وكان دائم الابتهال، كثير الاستعانة، قوي التوكل، ثابت الجأش، له أشغال وأذكار يداوم عليها بكيفية وجمعية في الظعن والاقامة..

 وكان الشيخ إسماعيل بن عبد الغني، والشيخ عبد الحي ابن هبة الله المذكوران، وخلق آخرون من العلماء والمشايخ في ركابه يأخذون عنه الطريقة، فلبث ببلدة رائي بريلي مدة، ثم سافر إلى لكهنؤ، وأقام بها على تل الشيخ بير محمد اللكهنوي على شاطئ نهر كومتي مع أصحابه، فبايعه ألوف من الرجال، وتلقاه الوزير معتمد الدولة بالترحيب والإكرام وضيفه، وعرض عليه خمسة آلاف من النقود..

فنهض السيد الإمام وخرج من لكهنؤ، ودار البلاد، فنفع الله به خلقا كثيرا من عباده، ثم رجع إلى رائي بريلي، وسافر إلى الحجاز، ومعه سبع وخمسون وسبعمائة من أصحابه، فركب الفلك في دلمؤ من أعمال رائي بريلي، وهي على شاطئ نهر كنك، فركب وبذل ما كان معه من شيء قليل من الدرهم على المساكين، وقال: نحن أضياف الله سبحانه لا نلجأ إلى الدينار والدرهم، فانطلق ومر على إله آباد، وغازيبور، وبنارس، وعظيم آباد، وغيرها من بلاد الهند، فدخل في بيعته خلق لا يحصون، بحد وعد، حتى وصل إلى كلكته، وأقام بها أياما قلائل بإذن الحاكم العام للهند، وتاب آلاف من الناس من البدع، والذنوب، وشرب الخمر، وأقفرت الحانات، وانطلقت موجة من الصلاح والتقوى، وأسلم مئات من الناس وحسن إسلامهم.

ثم ركب السفينة وذهب إلى الحجاز سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف -١٨٢٢م- وحصلت له الوقائع الغريبة، وكشوف وكرامات في ذلك السفر الميمون المبارك، وانتفع به خلق كثير من أهل الحرمين الشريفين، وحج وزار وقفل بعد سنة، حتى وصل إلى رائي بريلي في سنة تسع وثلاثين ومائتين وألف، فلبث بها نحو سنتين، وبعث الشيخ إسماعيل، والشيخ عبد الحي المذكورين إلى بلاد شتى للتذكير والإرشاد، فدارا البلاد، وهدى الله بهما خلقا كثيرا من العباد.

وكان السيد الإمام يجهز للهجرة والجهاد في تلك الفرصة، وخرج مع أصحابه في سنة إحدى وأربعين وألف ومئتين -١٨٢٦م- من بلدته وسافر إلى بلاد أفغانستان، فلما وصل إلى بنجتار وقف بها، وحرض المؤمنين على الجهاد، وبعث أصحابه إلى كابل، وكاشغر، وبخارى، ليحرضوا ملوكها على المشاركة، والإعانة، فبايع الناس للجهاد، وولوه عليهم، واجتمع تحت لوائه ألوف من الرجال، وزحف على جيوش رنجيت سنكه ملك بنجاب، وهو من قوم طوال الشعور، ففتح الله سبحانه على يده بلادا حتى قرئت باسمه الخطبة في بلدة بشاور، فأعلى الله مناره، وكبت أعداءه: أعداء الدين، وجبل قلوب الأمراء والخوانين على الانقياد له غالبا، وعلى طاعته، فأحيا كثيرا من السنن المماتة، وأمات عظيما من الأشراك والمحدثات، فتعصب أعداء الله ورسوله في شأنه وشأن أتباعه حتى نسبوا طريقته إلى الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي، ولقبوهم بالوهابية، ورغبوا إلى الكفار [الإنجليز ] وصاروا أولياءهم في السر، حتى انحازوا عنه في معركة بالاكوث، فنال درجة الشهادة العليا، وفاز من بين أقرانهم بالقدح المعلى، وبلغ منتهى أمله وأقصى أجله في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة ست وأربعين ومائتين وألف -١٨٣١م- واستشهد معه كثير من أصحابه..).

ثم شاع مذهب المسالمة بعد هزيمة المسلمين في الهند، والقضاء على ثورتهم الكبرى سنة ١٨٥٧م، ونفي بريطانيا آخر ملوكهم بهادر شاه، وإنهائها للحكم الإسلامي، الذي دام أكثر من ثمان قرون، فكانت الهند في ذلك الأندلس المفقودة الثانية، تلك غربا، وهذه شرقا!

وقد نصب المحتل البريطاني بعد الثورة مشانق محاكم التفتيش، كما نصبها الأسبان في الأندلس، واقترف أبشع المجازر بالمسلمين، وأعدم قادة الثورة، واستعان بالهندوس والسيخ عليهم، وحل بمسلمي الهند ما حل بالمسلمين في الأندلس!

وأدى تتابع هزائم المسلمين في الهند، وتخلّي ملوكهم عن الجهاد، أمام زحف الجيوش البريطانية بأسلحتها المتطورة إلى صدمة حضارية كبرى زعزعت يقين كثير منهم في أهمية الجهاد، وإمكان النصر على العدو، وكلما توالت الهزائم عليهم؛ زاد تزعزع الإيمان في نفوسهم، وزاد اليقين بالعلوم المادية الطبيعية، حد الانبهار بها واعتبارها معيارا لمعرفة الحق والصواب في أحكام الدين نفسه، وزاد أتباع مذهب المسالمة في الهند باتساع نفوذ بريطانيا فيها، فضلا على أن لمجاورتهم للهندوس أثرا في الميل لهذه النزعة الاستسلامية!

وكان أول دعاة هذا المذهب وأبرز المبهورين بالقوة البريطانية والحضارة الأوربية السيد أحمد خان الحسيني نسبا، الذي كان هو وأسرته من رجال الدولة التيمورية الإسلامية في دلهي، وكان قد ألف تاريخا لملوك الهند المسلمين وآخرهم بهادر شاه، ثم تولى بعض الأعمال لحكومة الهند البريطانية، حيث تصدى لدعوة المقاومة -التي قادها أحمد عرفان، وكثر أتباعها في الهند- وبدأ دعوته الإصلاحية العلمية السلمية الرافضة لفكرة الجهاد، كأثر من آثار الهزيمة التي عاشها وشاهد تداعياتها على المسلمين في الهند، بعد ثورتهم، وكيف انتهى بهم الحال بعد أن كانوا ملوكها إلى أن فقدوا كل أسباب العيش الكريم فيها!

ولم يشترك أحمد خان في الثورة، التي شارك فيها كثير من أفراد أسرته واستشهدوا، وكان يرى بأن المسلمين أضعف من أن يقاوموا المحتل البريطاني بعد أن تخلوا عن العلم والمعرفة، ودراسة علوم الطبيعة والحياة كما درسها الإنجليز واستفادوا منها. 

وقد كتب مذكرة بيّن فيها أسباب الثورة، وفشل الحكومة البريطانية في معالجتها، ودعا المسلمين إلى اعتزال السياسية وترك الانشغال بها، وتدارك ما فاتهم من العلوم المادية، فالإسلام هو دين الفطرة والطبيعة، ولا يتعارض مع ما أثبته العلم المادي، فوجدت هذه المذكرة اهتماما من المسئولين البريطانيين في الهند، وصار من مشاوريهم وأهل الرأي عندهم.

وبهذا تشكل في الهند تحت الاحتلال البريطاني وسطوته، وبسبب الهزيمة أمام جيوشه؛ مذهبان إسلاميان إصلاحيان متضادان:

الأول: مذهب المقاومة الذي دعا إليه الشهيد السيد أحمد عرفان الحسني ملهم المسلمين في الهند وأفغانستان روح الجهاد في سبيل الله، بعد أن عجز ملوكهم عن التصدي للمحتل البريطاني وحلفائه، والذي امتد أثر حركته من شمال الهند إلى أفغانستان التي سيستوطنها هذا الفكر المقاوم وهذه الروح الجهادية منذ استشهاده وإلى اليوم، وسينجح هذا الفكر لاحقا في تحرير أفغانستان وهزيمة ثلاث حملات صليبية غازية خلال قرن!

والثاني: مذهب المسالمة الذي دعا إليه السير أحمد خان، الذي سيصبح -برعاية بريطانية- ملهما للحركة الإسلامية السلمية في الهند، ثم في العالم الإسلامي، والذي ستظل كل البلدان التي استوطنها هذا الفكر تحت نفوذ الحملة الصليبية منذ ظهور ذلك المذهب وإلى اليوم!

لقد عرف الفقه الإسلامي أحكام الضرورات حال الاستضعاف، والأخذ بآيات الصفح والمسالمة، كما في الخطاب المكي، وعمل به المسلمون تحت حكم المغول، وأفتى به كثير من فقهائهم في الأندلس، وفي الصين، وأجازوا تولي القضاء للمسلمين، تحت ولاية الكفار، إلا أن ذلك ظل من أحكام الضرورات والرخصة عند العجز وعدم القدرة، ولم يصبح من أحكام العزيمة إلا بعد الاحتلال البريطاني وظهور فهم جديد للإسلام لا يرى أصلا مشروعية الجهاد كما عرفه المسلمون في مرحلة الاستخلاف، ولا ضرورة الخلافة والدولة في الإسلام، ولا وجوب إقامة الأحكام!

 

تبديع الشهيد أحمد عرفان والتشهير به:

لقد تعرضت حركة الشهيد أحمد عرفان لحرب إعلامية في حياته وبعد استشهاده، للتشهير به، والتنفير منه، كان وراءها المحتل البريطاني نفسه، بواسطة حلفائه، وقد ذكره أحمد أمين في كتابه "زعماء الإصلاح" ص ١٢٦ وقال عنه: (وجاء مصلح آخر اسمه أحمد عرفان ۱۷۸۲ – ۱۸۳۱م، فحج واعتنق مذهب ابن عبدالوهاب، وجاء إلى الهند داعيا بدعوته من تحريم زيارة الأضرحة والشفاعة بالأولياء ونحو ذلك مما ذكرنا قبل، وزاد على ذلك دعوته أن الهند دار حرب لا دار إسلام، وأن الجهاد فيها واجب على المسلمين، فاصطدم هو وأتباعه بالحكومة الإنجليزية...

لم يعجب السيد أحمد خان هذا كله وتساءل في حزم: ما علة هذا الجهل وضيق العقل والفقر وسوء الحال؟ وأجاب في حماسة: إنه التربية. ومن ذلك الحين ابتدأ يضع منهج التربية التي يريدها، وصادف ذلك أن ثورة سنة ١٨٥٧م كشفت لعقلاء المسلمين في الهند حالهم ووجوب تغيير موقفهم، وشعورهم بتخلفهم عن الطوائف الأخرى، فتناغم تفكير السيد أحمد، واستعداد الرأى العام المتنور، فأنتج هذا التناغم حركة إصلاح تعد نقطة تحول في تاريخ المسلمين في الهند).

ولم يعتنق الشهيد عرفان المذهب الوهابي -كما توهمه أحمد أمين بتأثير من الدعاية الإنجليزية- وهو ما أشاعه عنه خصومه في الهند من شيوخ الصوفية الخرافية، ممن حرضتهم بريطانيا ضده لينفض الناس عنه، وعن حركته الجهادية، فقد كانت دعوته قد انتشرت وبايعه الناس قبل حجه، وكان من أشهر تلاميذ الشيخ عبدالعزيز الدهلوي، ابن الإمام المحدث السيد ولي الله الدهلوي الذي عمت دعوته السلفية الهند، ومنها امتدت إلى الحجاز ونجد، وقد كان حجه سنة ١٨٢٢م، بعد استعادة محمد علي للحجاز بسنوات، ولا وجود فيها للدعوة الوهابية آنذاك، وإنما شاعت في الحجاز دعوة المحدث ولي الله الدهلوي كما في الهند، ورأت بريطانيا في الدعوة للجهاد التي دعا لها الدهلوي خطرا يهدد وجودها في الهند ومصالحها في الخليج العربي، وكانت قد أمرت سلطان مسقط بمشاركة أسطولها البحري في القضاء على القواسم الوهابية، والتعاون مع حملة إبراهيم باشا التي استعادت سواحل الخليج العربي، وتسليم مناطق القواسم له!

 

بدء النفوذ البريطاني في مصر:

وفي أثناء إحكام بريطانيا طوقها على الهند؛ كانت قد أمنت الطريق إليها من مصر التي أصبحت بعد استقرار حكم محمد علي تحت النفوذ البريطاني، وسيسود فيها مذهب المسالمة كما ساد في الهند!

فقد عقد محمد علي اتفاقية سرية مع بريطانيا، وافق بموجبها على الخضوع للحماية البريطانية بعد معركة رشيد سنة ١٨٠٧م، كما جاء في تقرير الجنرال فريز قائد الحملة البريطانية على مصر، حيث يقول -كما جاء في "مصر في مطلع القرن التاسع عشر" لمحمد فؤاد شكري ٢/ ٤٤١-: (أرجو أن تسمحوا لي بأن أبسط لكم ليكون موضع نظركم فحوى محادثة جرت بين باشا مصر والميجور جنرال "شربروك"، والكابتن "فيلوز" أثناء قيامهما بمهمتهما لدى سموه، ولدي ما يجعلني أعتقد، من هذه المحادثة ومن اتصالات خاصة كثيرة أخرى كانت لي معه، بأنه جاد وصادق فيما يقترحه. لقد أبدى محمد علي باشا والي مصر، رغبته في أن يضع نفسه تحت الحماية البريطانية، ووعدنا بإبلاغ مقترحاته إلى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية؛ كي يقوم هؤلاء بإبلاغها إلى الحكومة الإنجليزية للنظر فيها. ويتعهد محمد علي من جانبه بمنع الفرنسيين والأتراك، أو أي جيش تابع لدولة أخرى من الدخول إلى الإسكندرية لغزوها من طريق البحر، ويعد بالاحتفاظ بالإسكندرية، وامتلاكها كصديق وحليف لبريطانيا العظمى، ولكنه لا مناص له من انتظار أن تعاونه إنجلترة بقواتها البحرية إذا وقع هجوم عليه من جهة البحر؛ لأنه لا يملك سفنا حرب…)، وقد سلمت له بريطانيا بموجب هذا الاتفاق الإسكندرية وانسحبت منها بعد أن ضمنت ولاءه لها!

وقد راجت دعوة أحمد خان المسالمة في الهند -برعاية بريطانية- ووصلت إلى مصر، حتى عدّه أحمد أمين من أبرز زعماء الإصلاح في العالم الإسلامي في العصر الحديث!

 

أثر الاستشراق على أحمد خان:

لقد كان أحمد خان أول مسلم داع لهذا المذهب الجديد في المسالمة للمحتل، وأول من بشر بالعصرانية، ومصالحة الحضارة الغربية العلمانية، كمخرج للأمة مما هي فيه من ضعف وهوان، وكان قد أوتي بيانا ساحرا، وعزما ماضيا، سخره لدعوته هذه من أجل نهضة المسلمين في الهند، وقد نزع بعقلانيته هذه حد التطرف بمحاولة التوفيق بين العلوم الطبيعية والنصوص القرآنية، ليؤكد عدم معارضة الإسلام للعلم الحديث، وقد كانت شبهات المستشرقين حول الإسلام تؤرقه وتقض مضجعه، وكان مشغولا بالرد عليهم، ومتأثرا بهم في آن واحد، فكان مغالبا لهم، مغلوبا بهم!

 وقد زار بريطانيا سنة ١٨٦٩م، والتقى بالملكة فيكتوريا، ورجال السياسة فيها، ورد على المستشرق وليم موير وكتابه "حياة محمد"، وفنّد شبهاته في كتابه "خطابات أحمدية"، وزار الجامعات والمدارس فيها للاستفادة من مناهجها في إحداث النهضة العلمية المنشودة، وعاد إلى الهند وأسس المجلات العلمية التي جعل أسها وأساسها، وغاية رسالتها: بعث العلم والمعرفة في المجتمع الإسلامي الهندي. ودعا علماء الهند للنهوض في التعليم وترك الاشتغال في السياسية التي أضرت بهم، وعقد مؤتمرا سنويا يجتمع فيه علماء المسلمين لتدارس شئونهم، ثم أسس جامعة عليكرة سنة ١٨٧٥م، واهتم بترجمة الكتب الأوربية إلى الأوردية، وكانت حكومة الهند البريطانية تسهل له هذه المهمة، التي كفتها مؤونة الثورات الإسلامية والجهاد في الهند، حتى منحته لقب "سير"، وبدأت آراؤه الإصلاحية تشق طريقها وتحدث صدى كبيرا وقبولا واسعا بين الشباب المثقفين من المسلمين -فكان أمير علي والشاعر محمد إقبال من أتباعه في أول حياتهما- كما وجدت دعوته أيضا رفضا شديدا من علمائهم، الذين رأوا في نزعته العقلية ما يصطدم بنصوص القرآن القطعية، وكذا رأوا في دعوته لمسالمة بريطانيا والتعاون معها بدلا من جهادها خطرا على وجود الإسلام نفسه، هذه المسالمة التي سيضطر إليها تحت ضغط الواقع أكثر المسلمين في الهند بعد ذلك بسبب التطرف الهندوسي ضد المسلمين ولغتهم، واعتبارهم دخلاء على الهند، ما دعا أحمد خان لتأسيس المؤتمر والرابطة الإسلامية، والدعوة إلى تأسيس دولة خاصة للمسلمين بالتعاون مع بريطانيا، بعد أن كان من دعاة الأمة الهندية الواحدة على اختلاف أديانها.

 

تصدي جمال الدين الأفغاني لمذهب أحمد خان:

وفي حين كان مذهب المسالمة يتمدد في الهند ليمتد معه سلطان إنجلترا ويتعزز نفوذها أكثر وأكثر؛ كان مذهب المقاومة في أفغانستان يحقق نصرا تاريخيا ويسحق الجيش البريطاني سنة ١٨٤٢م، في أكبر هزيمة يتعرض لها، وسيخرج بعدها جمال الدين الأفغاني رائد دعاة مذهب المقاومة فكريا وسياسيا!

لقد كان الواقع السياسي في الهند وأفغانستان يصنع رجاله، ويصوغ مذاهبهم، ويعيد إنتاج أفكارهم، التي سيكون لها أكبر الأثر على العالم الإسلامي كله لاحقا!

فكان أشد من تصدى لدعوة السير أحمد خان؛ معاصره السيد جمال الدين الأفغاني -أبرز دعاة المقاومة للاحتلال- بعد أن نفي من مصر إلى الهند سنة ١٨٧٩م، ورأى أثر دعوة السير خان بين المثقفين المسلمين، فألّف رسالته في الرد على الدهريين الطبائعيين، التي كانت جوابا عن سؤال ورده من أحد علماء الهند، يذكر فيه شيوع الدعوة إلى الطبيعة، وزيادة أعداد أهلها بين مسلمي الهند، فكتب الأفغاني رسالته تلك، وأبطل مذهب الدهريين وشنع عليهم وعلى أحمد خان، وكشف خطورة هذه الدعوة على المجتمعات الإنسانية عامة، والإسلامية خاصة، وذكر تاريخ ظهورها قبل الإسلام وبعده، وأثر الدين في المحافظة على القيم الإنسانية، فقال في "الرد على الدهريين" ص ٣٩ وأثر دعوتهم في الأمة الإسلامية، فقال: (جاءتها الشريعة المحمدية والديانة السماوية فأشربت قلوبها تلك العقائد الجليلة، ومكنت في نفوسها تلك الصفات الفاضلة، وشمل ذلك آحادهم، ورسخت بينهم تلك الأصول الستة -العقائد الثلاث التي جاءت بها كل الأديان وهي التصديق بتكريم الإنسان واستخلافه، والاعتقاد بصحة كل دين عند أهله، والإيمان باليوم الآخر والاستعداد له، والخصال الثلاث وهي الحياء، والأمانة، والصدق- بدرجة يقصر القلم دون التعبير عنها، فكان من شأنهم أن بسطوا سلطانهم على رؤوس الأمم من جبال الألب إلى جدار الصين في قرن واحد، وحثوا تراب المذلة على رؤوس الأكاسرة والقياصرة مع أنهم لم يكونوا إلا شرذمة قليلة العَدد، نزرة العُدد، ولم ينالوا هذه البسطة في الملك والسطوة في السلطان إلا بما حازوا من العقائد الصحيحة، والصفات الكريمة، هذا إلى ما جذبه مغناطيس فضائلهم من مائة مليون دخلوا في دينهم في مدة قرن واحد من أمم مختلفة، مع أنهم كانوا يخيرونهم بين الإسلام وشيء زهيد من الجزية لا يثقل على النفوس أداؤه!

 هكذا كان حال هذه الأمة الشريفة من العزة ومنعة السلطان، فلما كان القرن الرابع بعد الهجرة ظهر النيشريون (الطبائعيون) بمصر تحت اسم الباطنية [الإسماعيلية الشيعة] وخزنة الأسرار الإلهية، وانبثت دعاتهم في سائر البلاد الإسلامية خصوصًا بلاد إيران، وعلم هؤلاء الدهريون أن نور الشريعة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم قد أنار قلوب المسلمين كافة، وأن علماء الدين الحنيفي قائمون على حراسة عقائد المسلمين وأخلاقهم بكمال علم، وسعة فضل، ودقة نظر، فلهذا ذهب أولئك المفسدون مذاهب التدليس في نشر آرائهم، وبنوا تعليمهم على أمور:

 أولا: إثارة الشك في القلوب حتى يتفكك عقد الإيمان.

وثانيا: الإقبال على الشاك وهو في حيرته ليمنوه بالنجاة منها وهدايته إلى اليقين الثابت، فاذا انقاد لهم أخذوا منه مواثيقهم ثم أوصلوه إلى مرشدهم الكامل.

 وثالثا: أوعزوا إلى دعاتهم أن يلبسوا لرؤساء الدين الإسلامي لباس الخدعة، وجعلوا من شروط الداعي أن يكون بارعا في التشكيك، ماهرًا في التلبيس، مقتدرًا على إشراب القلوب مطالبه، فاذا سقط الساقط من المغرورين في حبالة مرشدهم الكامل فأول ما يلقنه المرشد قوله: إن الأعمال الشرعية الظاهرة كالصلاة والصيام ونحوها، إنما فرضت على المحجوبين دون الوصول إلى الحق، والحق هو المرشد الكامل! فحيث إنك وصلت إلى الحق فإليك أن تلقي عن عاتقك ثقل الأعمال البدنية، فإذا مضى عليه زمن في عهدهم صرحوا له بأن جميع الأعمال الباطنة والظاهرة وكذلك سائر الحدود والاعتقادات إنما ألزمت فرائضها بالناقصين المصابين بأمراض من ضعف النفوس ونقص العقول أما وقد صرت كاملًا فلك الاختيار في مجاوزة كل حد مضروب، والخروج من أكناف التكاليف إلى باحات الإباحة الواسعة: ما الحلال وما الحرام؟ ما الأمانة وما الخيانة؟ ما الصدق وما الكذب؟ ما هي الفضائل وما هي الرذائل؟

ألفاظ وضعت لمعان مخيلة ومالها من حقيقة واقعية في زعم المرشد!

فاذا قرر المرشد أصول الإباحة في نفوس أتباعه؛ التمس لهم سبيلًا لإنكار الألوهية وتقرير مذهب النيشرية والدهريين فأتى إليهم من باب التنزيه! فقال الله منزه عن مشابهة المخلوقات ولو كان موجودًا لأشبه الموجودات؟ ولو كان معدومًا لأشبه المعدومات؟ فهو لا موجود؟ ولا معدوم! يعني أنه يقر بالاسم وينكر المسمى!

مع أن شبهته هذه سفسطة بديهية البطلان! فإن الله منزه عن مشاركة الممكنات في خصائص الإمكان، أما في مطلق الوجود فلا مانع من أن يتفق إطلاق الوصف عليها وعليه، وإن كان وجوده واجبًا ووجودها ممكنًا.

وقد جدت طائفة الباطنية في إفساد عقائد المسلمين زمانا غير قصير أخذا بالحيلة، ونفاذا بالخدعة، حتى انكشف أمرهم لعلماء الدين ورؤساء المسلمين؛ فانتصبوا لدرء مفاسدهم وتحويل الناس عن ضلالاتهم، فلما رأوا كثرة معارضيهم شحذوا شفار الغيلة، ففتكوا بكثير من الصالحين، وأراقوا دماء جم غفير من علماء الأمة الإسلامية، وأمراء الملة الحنيفية، وبعض أولئك المفسدين عندما أمكنته الفرصة ووجد من نفسه ريح القوة أظهر مقاصده على منبر "قلعة الموت" في خراسان!

وجهر بآرائه الخبيثة فقال: إذا قامت القيامة حطت التكاليف عن الأعناق، ورفعت الأحكام الشرعية، سواء كانت متعلقة بالأعمال البدنية الظاهرة، أو الملكات النفسية الباطنة، والقيامة عبارة عن قيام القائم الحق، وأنا القائم الحق! فليعمل عامل ما أراد فلا حرج بعد اليوم إذ رفعت التكاليف، وخلصت منها الذمم! أي أغلقت أبواب الانسانية وفتحت أبواب البهيمية!

وبالجملة فهؤلاء الدهريون من أهل التأويل من الأجيال السابقة الإسلامية عملوا على تغيير الأوضاع الإلهية بفنون من الحيل، ودعوا كل كمال إنساني نقصًا، وكل فضيلة رذيلة، وخيلوا للناس صدق ما يزعمون، ثم تطاولوا على جانب الألوهية، فحلوا عقود الايمان بها بالسفسطة التي سموها تنزيها، ومحوا هذا الاعتقاد الشريف من لوح القلوب، وفي محوه محو سعادة الإنسان في حياته وسقوطه في هاوية اليأس والشقاء، فأفسدوا أخلاق الملة الإسلامية شرقًا وغربًا، وزعزعوا أركان عقائدها، وساعده مد الزمان على تلويث النفوس بالأخلاق الرديئة وتجريدها من السجايا الكاملة التي كان عليها أبناء هذه الملة الشريفة حتى تبدلت شجاعتهم بالجبن، وصلابتهم بالخور، وجرأتهم بالخوف، وصدقهم بالكذب، وأمانتهم بالخيانة، ووقع المسخ في هممهم. فبعد أن كان مرماها مصالح الملة عامة، صارت قاصرة على المنافع الشخصية الخاصة، وعادت رغباتهم لا تخرج عن الشهوات البهيمية، وكان من عاقبة ذلك أن جماعة من قزم الأفرنج [الحملات الصليبية الفرنجية] صدعوا أطراف البلاد الشامية، وسفكوا فيها دماء آلاف من أهاليها الأبرياء، وخربوا ما أمكنهم أن يخربوا وثبتوا بها نحو مائتي سنة، والمسلمون في عجز عن مدافعتهم! مع أن الإفرنج كانوا قبل عروض الوهن لعقائد المسلمين، وطروء الفساد على أخلاقهم، في قلق لا يستقر لهم أمن على حياتهم، وهم في بلادهم خوفًا من عادية المسلمين!

 وكذلك قام جماعة من أوباش التتر والمغول مع جنكيز خان واخترقوا بلاد المسلمين وهدموا كثيرا من المدن المحمدية، وأهدروا دماء ملايين من الناس، ولم تكن للمسلمين قدرة على دفع هذا البلاء عن بلادهم مع أن مجال خيولهم في بدء الإسلام على قلة عددهم، كان ينتهى إلى أسوار الصين!

وما نزل بالمسلمين شيء من هذه المذلات والإهانات، ولا رزئوا بالتخريب في بلادهم، والفناء في أرواحهم، إلا بعد ما كلت بصائرهم، ونغلت نياتهم، ومازج الدغل قلوبهم، وخربت أمانتهم، وفشا الغش والإدهان بينهم، ودار كل منهم حول نفسه، لا يعرف أمة، ولا ينظر إلى ملة، فأصبحوا بقناة خوارة، بعد أن كانت قناتهم لا تلين لغامز، إلا أن بقية من تلك الأخلاق المحمدية كانت لم تزل راسخة في نفوس كثير منهم، كامنة في طي ضمائرهم، فهي التي أنهضتهم من كبوتهم، وحملتهم على الجد في كشف السطوة الغريبة عن بلادهم، فأجلوا الأمم الإفرنجية بعد مئتين من السنين، وخلصوا البلاد الشامية من أيديهم، وطوقوا الجنكيزيين بطوق الإسلام، وألبسوهم تيجان شرفهم، ولكنهم لم يستطيعوا حسم داء الضعف، وإعادة ما كان لهم من الشوكة إلى المقام الأول، فإن ما كان من شوكة وقوة إنما هو أثر العقائد الحقة، والصفات المحمودة، فلما خالط الفساد هذه وتلك؛ تعسر عود السهم إلى النزعة.

ولهذا ذهب المؤرخون إلى أن بداية الانحطاط في سلطة المسلمين كانت من حرب الصليب، والأليق أن يقال إن ابتداء ضعف المسلمين كان من يوم ظهور الآراء الباطلة، والعقائد النيشرية والدهرية في صورة الدين، وسريان هذه السموم القاتلة في نفوس أهل الدين الاسلامي).

وهكذا عدّ الأفغاني دعوة أحمد خان امتدادا للحركات الباطنية الشيعية والمذاهب الطبائعية التي كانت سببا في سقوط العالم الإسلامي أمام العدو الخارجي!

وإذا كان السير أحمد خان يعزو ضعف المسلمين إلى تخليهم عن علوم الطبيعة وتركهم الأخذ بأسباب القوة المادية؛ فإن جمال الدين يعزوه إلى ضعف الهمة، وفتور العزيمة، وتخليهم عن إيمانهم ودينهم وما يدعوهم إليه من الأخلاق الفاضلة -وأولها المغالبة والقتال في سبيل الله- حين شاعت الباطنية الدهرية والروح الفردية، فما عاد يهم المسلم الأمة والملة والغلبة بقدر اهتمامه بنفسه وبالشهوة والرغبة!

وقد كان رد جمال هذا هو الذي دعا أحمد خان بعد ذلك إلى أن يطور فكرته عن شروط النهضة في العالم الإسلامي، فأضاف "تهذيب الأخلاق" إلى العلم والمعرفة ودراسة علوم الطبيعة، مع بقائه على مذهبه في اعتزال السياسة وترك مغالبة المحتل، وسرت هذه الروح في كل أتباعه وخريجي جامعته، كما قال عنها أحمد أمين في "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" ص١٣٠: (وتم بناؤها واستقبلت طلبتها تعلّمهم على المنهج الذي اختطه، ونجحت في خلق جيل من المسلمين جديد مثقف ثقافة واسعة، مع سعة في العقل، وسماحة في الدين؛ وانتشر خريجوها في أقطار الهند يحملون رسالة جامعتهم ويضيئون ما حولهم، وأصبحت كلمة "عليكره" لا تدل فقط على كلية أو جامعة، وإنما تدل أيضا على نوع من العقلية الراقية، والصبغة الخلقية والاجتماعية الخاصة.

لقد أخذ الوطنيون المسلمون على خريجي هذه الجامعة وطلبتها أنهم لا يشتركون في الحياة السياسية مع فضلهم، وسعة عقلهم، وغزارة علمهم، حتى إنهم لا يضربون يوم تضرب الجامعات الإسلامية لغرض سياسي، ولكن هذه الصبغة هي التي صبغ بها السيد أحمد طلبته، إقبال على العلم، وبعد عن السياسة).

وفي الوقت الذي كانت بريطانيا ترعى مذهب المسالمة، وتفتح له الطريق، وتشجع المسلمين على تمويل أنشطته؛ كانت تحارب مذهب المقاومة وتنفي رجاله وتعتقلهم وتعذبهم كما فعلت بالأفغاني، ثم بمحمد عبده إلى أن تخلى عن مذهب شيخه وتبنى مذهب المسالمة ليعود إلى مصر، ويتولى منصب الإفتاء!

وهي السياسية البريطانية التي ستمتد بعد ذلك لتتجاوز الهند إلى مصر والعالم الإسلامي كله وإلى يومنا هذا!

 

أثر المذاهب المادية في ضعف الأمة الإسلامية:

وقد تحدث جمال الدين في رده على الدهريين عن أثر المذاهب المادية في ضعف الخلافة العثمانية فقال ص٤٦: (الأمة العثمانية: إنما رقّت حالتها في الأزمنة المتأخرة بما دب في نفوس بعض عظمائها وأمرائها من وساوس الدهريين، فإن القواد الذين اجترحوا إثم الخيانة في الحرب الأخيرة بينها وبين الروسية كانوا يذهبون مذهب النيشريين والدهريين! وبذلك كانوا يعدون أنفسهم من أرباب الأفكار الجديدة "أبناء العصر الجديد" -زعموا- بما كسبوا من أوهام الدهريين، وأن الإنسان حيوان كالحيوانات لا يختلف عنها في أحكامها، وهذه الأخلاق والسجايا التي عدوها فضائل تخالف بجميعها سنن الطبيعة المطلقة، وإنما وضعها تحكم العقل، وزادها تطرف الفكر! فعلى من بصر بالحقيقية -على زعم أولئك المارقين- أن يستنج كل طريق لتحصيل شهواته، واستيفاء لذاته، ولا يأخذ نفسه بالحرمان من ملاذّه وقوفًا عند خرافات القيود الواهنة والموضوعات الانسانية الواهية! وحيث أن الفناء حتم على الأحياء فما هو الشرف والحياء؟ وما هي الأمانة والصدق؟ وأي شيء هو العفة والاستقامة؟ ولهذا خان أولئك الامراء ملتهم مع ما كان لهم من الرتب الجليلة، ورضوا بالدنية واستناموا إلى الخسة، ونسفوا بيت الشرف العثماني في تلك الحرب، وجلبوا المذلة على شعوبهم بعرض من الحطام قليل!)!

لقد كان جمال الدين في كل ما كتبه في الرد على الدهريين يعرّض بأحمد خان، ومن هو على مذهبه في المسالمة والمخادمة للعدو المحتل!

وقال عنه في العروة الوثقى ص ٤١٤: (فظهر بمظهر الطبيعيين الدهريين، ونادى بأن لا وجود إلا للطبيعة العمياء، وليس لهذا الكون إله حكيم، وإن هذا إلا الضلال المبين، وأن جميع الأنبياء كانوا طبيعيين، لا يعتقدون بالإله الذي جاءت به الشرائع -ونعوذ بالله- ولقب نفسه بالطبيعي، وأخذ يغرى أبناء الأغنياء من الشبان الطائشين فمال إليه أشخاص منهم، تملصا من قيود الشرع الشريف، وسعيًا خلف الشهوات البهيمية، فراق لحكام الإنجليز مشربه، ورأوا فيه خير وسيلة لإفساد قلوب المسلمين، فأخذوا في تعزيزه و تكريمه، وساعدوه على بناء مدرسة في عليكره، وسموها مدرسية المحمديين، لتكون فخًا يصيدون به أبناء المؤمنين ليربوهم على أفكار هذا الرجل أحمد خان بهادور)!

وحذر من تفسيره فقال: (كتب أحمد خان تفسيرا على القرآن الكريم لحرف الكلم عن مواضعه، وبدل ما أنزل الله، وأنشأ جريدة باسم "تهذيب الأخلاق"، لا ينشر فيها إلا ما يضلل عقول المسلمين، ويوقع الشقاق بينهم، ويلقى العداوة بين مسلمي الهند وغيرهم، خصوصًا بينهم وبين العثمانيين، وجهر بالدعوة لخلع الأديان كافة، لكن لا يدعو إلا المسلمين. ونادى: الطبيعة! الطبيعة! ليوسوس للناس بأن أوربا ما تقدمت في المدنية وما ارتقت في العلم والصنعة، وما فاقت في القوة والاقتدار إلا برفض الأديان والرجوع إلى الغرض المقصود من كل دين على زعمه وهو: بيان مسالك الطبيعة، قد افترى على الله كذبا).

وقال عن أثره على الشباب المسلم في الهند حين نفي جمال إليها من مصر: (لما كنا بحيال الدين في الهند -في سنة ١٨٧٩م- أحسسنا بعض ضعاف العقول اغترارًا بترهات الرجل وتلامذته، فكتبنا رسالة في بيان مذهبهم الفاسد، وما ينشأ عنه من المفاسد، وأثبتنا أن الدين أساس المدنية، وقوام العمران، وطبعت رسالتنا في اللغتين الهندية والفارسية اسمها "الرد على الدهريين"..).

لقد أدرك جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده خطورة هذه الدعوة الانهزامية التي دعا إليها أحمد خان، فكانا أشد المحذرين منه ومن دعوته، فقالا عنها في مجلة العروة الوثقى ص ٤١٤: (لما استقرت أقدامهم –الإنجليز– في الهند وألقوا به عصاهم، ومحيت آثار السلطنة التيمورية (نسبة إلى تيمورلنك مؤسس دولة المغول في القرن السادس عشر الميلادي)، نظروا إلى البلاد نظرة ثانية، فوجدوا فيها خمسين مليونًا من المسلمين، كل واحد منهم مجروح الفؤاد بزوال ملكهم العظيم، وهم يتصلون بملايين كثيرة من المسلمين شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وأحسوا أن المسلمين ما داموا على دينهم، وما دام القرآن يتلى بينهم فمحال أن يخلصوا في الخضوع لسلطة أجنبي عنهم، خصوصا إن كان ذلك الأجنبي خطف الملك منهم بالخديعة أو المكر تحت ستار المحبة والصداقة! فطفقوا يفتشون بكل وسيلة لتوهين الاعتقاد الإسلامي، وحملوا القسس والرؤساء الروحانيين على كتابة الكتب و نشر الرسائل محشوة بالطعن في الديانة الإسلامية، مفعمة بالشتائم والسباب لصاحب الشريعة  -برأه الله مما قالوا- فأتوا من هذا العمل الشنيع ما تنفر منه الطباع، ولا يمكن معه لذي غيرة أن يقيم على أرض تنتشر فيها تلك الكتب، وأن يسكن تحت سماء تشرق شمسها على مرتكبي ذلك الإفك العظيم.. وما قصدهم بذلك إلا توهين عقائد المسلمين، وحملهم على التدين بمذهب الإنكليز، هذا من جهة،  ومن جهة أخرى أخذوا في تضييق سبل المعيشة على المسلمين، وتشديد الوطأة عليهم والإضرار بهم من كل وجه، فضربوا على أيديهم في الأعمال العامة، وسلبوا أوقاف المساجد والمدارس، ونفوا علماءهم وعظمائهم إلى جزائر (إندومان) و(فلفلان)، رجاء أن تفيدهم هذه الوسيلة إن لم تفدهم الأولى -في رد المسلمين عن دينهم بإسقاطهم في أغوار الجهل بعقائدهم حتى يذهلوا عما فرضه الله عليهم- فلما خاب أمل أولئك الحكام الجائرين في الوسيلة الأولى، وطال عليهم الأمد في الاستفادة من الثانية نزعوا إلى تدبير آخر في إزالة الدين الإسلامي من أرض الهند أو إضعافه؛ لأنهم لا يخافون إلا من المسلمين أصحاب ذلك الملك المنهوب، والحق المسلوب. فاتفق أن رجلا اسمه أحمد خان بهادور ( لقب تعظيم في الهند) كان يحوم حول الإنكليز لينال فائدة من لديهم، فعرض نفسه عليهم، وخطا بعض خطوات لخلع دينه، والتدين بالمذهب الإنجليزي، وبدأ الأمر بكتابة كتاب يثبت فيه أن التوراة والإنجيل ليسا محرفين ولا مبدلين، لينال بذلك الزلفي عندهم، ثم راجع نفسه فرأى أن الإنجليز لن يرضوا عنه حتى يقول: إني نصراني،  وأن هذا العمل الحقير لا يؤتى عليه أجرًا جزيلا، خصوصا وقد أتى بمثل كتابه ألوف من القسس والبطارقة، وما أمكنهم أن يحولوا من المسلمين عن الدين أشخاصا معدودة، فأخذ طريقا آخر في خدمة حكامه الإنجليز بتفريق كلمة المسلمين و تبديد شملهم).

وقالا عنه أيضا: (أما أحمد خان وأصحابه فإنهم كما يدعون الناس لنبذ الدين يهونون عليهم مصالح أوطانهم، ويسهلون على النفوس تحكم الأجنبي فيها، ويجتهدون في محو آثار الغيرة الدينية والجنسية... لا لأجر جزيل، ولا شرف رفيع، ولكن لعيش دني، ونفع زهيد. وهكذا يمتاز دهري الشرق عن دهري الغرب بالخسة والدناءة، بعد الكفر والزندقة).

وقالا في العروة الوثقى ص ٨٥: (من هذا ما سلك الإنجليز في الهند لما أحسوا بخيال السلطنة يطوف على أفكار المسلمين منهم لقرب عهدها بهم، وفي دينهم. ما يبعثهم على الحركة إلى استرداد ما سلب منهم، وأرشدهم البحث في طبائع الملل إلى أن حياة المسلمين قائمة على الوصلة الدينية، وما دام الاعتقاد المحمدي والعصبية الملية سائدة فيهم فلا تؤمن بعثتهم إلى طلب حقوقهم، فاستهدوا طائفة ممن يتسمون بسمة الإسلام، ويلبسون لباس المسلمين، وفي صدورهم غل و نفاق، وفي قلوبهم زيغ وزندقة، وهم المعروفون في البلاد الهندية بالدهريين والطبيعيين، فاتخذهم الإنجليز أعوانًا لهم على إفساد عقائد المسلمين، وتوهين علائق التعصب الديني؛ ليطفئوا بذلك نار حميتهم، ويبددوا جمعهم، ويمزقوا شملهم، وساعدوا تلك الطائفة على إنشاء مدرسة عليكره ونشر جريدة لبث هذه الأباطيل بين الهنديين، حتى يعم الضعف في العقائد، وتهن الصلات بين المسلمين، فيستريح الانجليز في التسلط عليهم).

مذهب المسالمة والمراجعات الفكرية:

وما ذكره جمال الدين عن أحمد خان وكفره وزندقته لم يوافقه عليه كثير من علماء الهند، الذين وإن خالفوا أحمد خان وشنعوا عليه، وبدعوه، إلا أنهم يعترفون بفضله في توجيه اهتمامهم للعلوم الحديثة، وحبه للإسلام ودفاعه عنه، والرد على شبهات المستشرقين، وإن كان قد غلا في عقلانيته وماديته إلا أنه لم يتخل عن دينه وأمته، وقد كان لهذا الكلام الشديد من الأفغاني أثره على حركة أحمد خان والتخفيف من غلوائها في الطبائعية، فقد استعان أحمد خان بالعلامة شبلي النعماني وعينه مدرسا في جامعته سنة ١٨٨٣م، وكان للنعماني أكبر الأثر في تعزيز روح التدين في شبابها وتعزيز ثقتهم بالإسلام، كما قال محمد أكرم الندوي في كتابه عن النعماني ص ٩٧: (كان السيد أحمد خان وأتباعه قد انبهروا بالحضارة الغربية والثقافة الحديثة فأقبلوا عليها، وأخذوها على علاتها ومفاسدها، وقاموا بتأويل الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، والمعتقدات الدينية في ضوء المعارف الغربية، بينما كانت الطبقة المحافظة من العلماء قد أغلقت على نفسها كل باب، فحرمت على نفسها حتى الاستفادة من العلوم الغربية الإنسانية والتجريبية. ولكن العلامة شبلي بفضل تربيته الخاصة وعقليته الإسلامية المتفتحة اختار طريقًا وسطًا، فلم يحرم المعارف الحديثة، ولم يؤمن بها إيمانًا أعمى، بل استفاد منها بعين مفتوحة وعقل واسع ناقد، كأن الله تعالى تولى تربيته وإعداده في أكبر معهد علمي حديث في الهند لذلك العمل الجليل، الذي حققه بمؤلفاته القيمة ومقالاته البديعة الغالية، وأدائه دورًا بارزًا في حركة ندوة العلماء، ورسمه خطة دار العلوم لندوة العلماء، وصياغته المنهاج التعليمي الجديد المستمد من تجارب المناهج التعليمية العالمية. فبرز العلامة شبلي في عليكره كنجم متألق في فلك العلم والمعرفة، لا يقاربه أحد من قادة حركة السيد أحمد خان).

 

عقيدة جمال الدين الأفغاني ومذهبه:

ومع كل ما كتبه جمال ومحمد عبده في العروة الوثقى من تحذير وبيان لخطورة مذهب المسالمة، إلا أن ذلك كله سيصبح صرخة في واد، وستنجح بريطانيا في تشكيل رأي عام شعبي يصم جمال الدين نفسه بالزندقة، وبالباطنية، وبالتشيع، وبترك الصلوات والفرائض!

بينما كان جمال الدين كما وصفه أعلم الناس به، وأعرفهم بظواهره وبواطنه تلميذه محمد عبده في مقدمة كتابه "الرد على الدهريين"  (ط ٣ سنة ١٣٢٠ - ١٩٠٢م) ص ١٤ حيث يقول عنه: (أما مذهب الرجل فحنيفي حنفي، وهو وإن لم يكن في عقيدته مقلدًا لكنه لم يفارق السنة الصحيحة، مع ميل إلى مذهب السادة الصوفية رضى الله عنهم، وله مثابرة شديدة على أداء الفرائض في مذهبه، وعرف بذلك بين معاشريه في مصر أيام إقامته بها، ولا يأتي من الأعمال إلا ما يحل في مذهب إمامه -أبي حنيفة- فهو أشد من رأيت في المحافظة على أصول مذهبه وفروعه، أما حميته الدينية؛ فهي مما لا يساويه فيها أحد! يكاد يلتهب غيرة على الدين وأهله!

أما مقصده السياسي الذي قد وجه إليه أفكاره وأخذ على نفسه السعي إليه مدة حياته، وكل ما أصابه من البلاء أصابه في سبيله؛ فهو إنهاض دولة إسلامية من ضعفها وتنبيهها للقيام على شؤونها، حتى تلحق الأمة بالأمم العزيزة، والدولة بالدول القوية، فيعود للإسلام شأنه، وللدين الحنيفي مجده، ويدخل في هذا تنكيس دولة بريطانيا في الأقطار المشرقية، وتقليص ظلها عن رؤوس الطوائف الإسلامية وله في عداوة الإنكليز شؤون يطول بيانها..).

وقد كتب ذلك عنه محمد عبده سنة ١٩٠٣م بعد وفاة جمال، وبعد أن تخلى عبده عن مذهب المقاومة، وتبنى مذهب المسالمة! يرد بذلك على الأكاذيب التي روجها خصومه عنه بعد وفاته، وقال عن حاله في مصر ونفيه إلى الهند:(هذا كله لم يؤثر في مقام الرجل من نفوس العقلاء العارفين بحاله، ولم يزل شأنه في ارتفاع، والقلوب عليه في اجتماع، إلى أن تولى خديوية مصر حضرة خديويها المغفور له توفيق باشا، وكان السيد [جمال] من المؤيدين لمقاصده، الناشرين لمحامده، إلا أن بعض المفسدين ومنهم (مستر فيفيان) قنصل إنكلترا الجنرال سعى فيه لدى الجناب الخديوي، ونقل المفسد عنه ما الله يعلم أنه برئ منه! حتى غير قلب الخديوي عليه، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري، هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة ١٢٩٦ وأقام بحيدر آباد الدكن، وفيها كتب هذه الرسالة في نفي مذهب الدهريين، ولما كانت الفتنة الأخيرة بمصر -ثورة عرابي ١٨٨٢م- دعي من حیدر آباد إلى كلكته، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقضى أمر مصر، وفتأت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد، فاختار الذهاب إلى أوربا، وأول مدينة أصعد اليها مدينة لوندره [لندن] أقام بها أياما قلائل ثم انتقل عنها إلى باريز [باريس]، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات، ووافيناه -حين نفي محمد عبده بعد هزيمة عرابي- في أثنائها، ولما كلفته جمعية "العروة الوثقى" أن ينشئ جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء الخلافة الإسلامية أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة ثمانية عشر عددًا، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموما والمسلمين خصوصًا ما لم يأخذه قبلها وعظ واعظ، ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية في تحريرها، وصحة المقصد في تحبيرها، ثم قامت الموانع دون الاستمرار في إصدارها حيث قفلت أبواب الهند عنها، واشتدت الحكومة الإنكليزية في إعنات من تصل إليهم فيه).

 

المسالمة والمقاومة ومآلاتها السياسية:

وقد أيّد أحمد أمين في كتابه "زعماء الإصلاح في العصر الحديث" السير أحمد خان في مذهبه المسالم واعتبر طريقته هي المثلى لتحقيق النهضة والاستقلال، فعدّه أبرز دعاة الإصلاح في الهند، فقال عنه ص ١٢٢: (هو في الهند أشبه شيء بالشيخ محمد عبده في مصر بعد مفارقته للسيد جمال الدين وعودته من نفيه، الإصلاح عندها إصلاح العقلية بالتثقيف والتهذيب، والنظر إلى الدين نظرة سماحة ويسر، والاستقلال يأتي بعد ذلك تبعا؛ فلا استقلال لجاهل ولا مخرف، إنما عماد الاستقلال العلم، العلم بالدنيا وبالدين، العلم بكل شيء أتت به المدنية الحديثة، من طبيعة وكيمياء، ورياضة وفلك، و نفس واجتماع، ونظام الحكم والإدارة؛ ذلك كله إلى دين يحيى القلب ولا يقيد العقل، ويغذى النفس، ولا يشل التفكير، والإسلام إذا فهم على أصوله كفيل بذلك؛ فليس فيه ما يمنع الإنسان أن يصل في العلوم ونظم الدنيا إلى غايتها، بل فيه ما يبعث على ذلك ويشجعه، وفيه ما يحيى القلب، ويوجه الإنسان في حياته وفي علمه وفى تفكيره إلى الخير. ثم كلاهما كان يرى أن السلطان في مصر وفى الهند في يد الإنجليز، ولهم من القوة المادية من الأسلحة والذخائر في البر والبحر، ومن القوة العامية والسياسية ما لا تستطيع الهند ومصر مقاومته. قد يستطيعون المقاومة إذا اتحدوا، ولكن كيف يكون اتحادهم مع جهلهم وضعف خلقهم؟ بل كيف يكون ذلك مع فساد أمرائهم إذ ذاك، وبحثهم عن منافعهم الشخصية ولو على حساب الأمة!

 قالا: إذا فالأولى مسالمة الإنجليز والتفاهم معهم، وأخذ ما نستطيع لخير الشعب منهم؛ لتفهم الإنجليز أن عليهم واجب النهضة بالشعوب التي يحكمونها عقليا كما ينهضون بها ماديا، وأنهم مسئولون عن جهل الأمم التي يحكمونها، كما أنهم مسئولون عن فقرها، وأن العلم والثقافة وإثارة الأذهان في مصلحة المستعمِر والمستعمَر، ولنأخذ منهم ما نستطيع أن نأخذه من طريق الإقناع والمسالمة والمصالحة، وما تأخذه نستغله في خير الشعوب وثقافتها خير استغلال، والزمن بعد كفيل بإظهار النتائج.

ثم كلاها عانى من المتاعب ما عانى الآخر من جهتين: فمسالمة المستعمرين لا ترضى عادة دعاة الوطنية والاستقلال، ويرون فيها خيانة. وقد يرى بعضهم أن لا مفاوضة ولا مطالبة ولا مسالمة إلا بعد الجلاء، وكل من يطلب شيئا دون هذا بائع لوطنه يستحق أن يهاجم وينقد ويؤنب...

 ومن جهة أخرى هناك الطبقة الجامدة من العلماء التي ترى العلوم الحديثة التي أتت بها المدنية الأجنبية مفسدة، والقول بأن قوانين الدنيا في الزراعة والاجتماع والصحة والمرض وكل شيء مبنى على السبب والمسبب كفر بالقضاء والقدر، وإنكار سلطة المشايخ والأولياء والأضرحة زندقة. فهؤلاء وهؤلاء يشنون الغارة على مثل الشيخ محمد عبده والسيد أحمد خان، فيختطون هم دعوتهم وسط هذه الأشواك الحادة. وقد يمدّ الأمراء دعاة الرجعية بوسائلهم للنيل إلى أقصى حد من المصلحين من القبيل؛ لأنهم نقموا عليهم الالتجاء إلى معونة الأجنبي دونهم، ولو التجأوا إليهم، مع الأسف ما نفعوهم. كل ذلك كان في مصر وفى الهند، لأن طبيعة الأشياء واحدة، وقوانين الطبيعة لا تتخلف.

كانا على غير رأى السيد جمال الدين في الإنجليز والاحتلال؛ كان السيد يكره الإنجليز ويشنع عليهم ما استطاع، بحكم ما لقى منهم في الأفغان والهند ومصر وباريس، حتى لقد عاتبه بعض أصحابه يوما وقال له: إننا نراك عادلًا في حكمك على الأشخاص والأمم، تذكر بالخير حسناتهم، وبالشر سيئاتهم، ولا نراك تفعل ذلك في الإنجليز! قال السيد: ليس من ينكر أن الإنجليز كأمة من أرقى الأمم، تعرف معاني العدل، وتعمل بها، ولكن في بلادها، ومع الإنجليز أنفسهم، ثم ذكر له ما فعلته في الهند ومصر. ولخص رأيه مرة أخرى وقال: إن الشرقيين تصرفوا في أملاكهم وأراضيهم وبلادهم تصرف السفيه المبذر، ثم قضى عليهم أن يكون الحاكم لهم هو الغرب، والغرب في الحقيقة ليس من مصلحته إصلاح سيرة الشرق ولا منعه من السفه، بل من أمانيه أن يتمادى الشرق في غيه وإسرافه، ليطول عهد الحجر عليه. فلما كانت عقيدة جمال الدين هذا، كانت سيرته في حياته ما ذكرنا.

أما السيد أحمد خان والشيخ محمد عبده فيريان أن الإنجليز خصوم شرفاء معقولون، يمكن التفاهم معهم، وأخذ أشياء من أيديهم تدريجًا لمصلحة الأمة، حتى إذا نضجت الأمة أمكنها الحصول على حقوقها كاملة، حيث لا تستطيع أن تنال شيئا منها مع الجهل والغفلة).

وما زالت الهند ومصر لم تصلا بعد إلى الاستقلال ودرجة النضج الذي وعد بتحققهما أحمد أمين إن هي أخذت بمذهب السير أحمد خان، ونبذت مذهب الشهيد أحمد عرفان!

لقد توفي أحمد خان سنة ١٨٩٨م، بعد سنة واحدة من وفاة جمال الدين سنة ١٨٩٧م، وقد ظل أثر كل منهما ومذهبه في المسالمة والمقاومة يتجلى في بلده، وما زال المسلمون في الهند بعد قرن ونصف من شيوع مذهب المسالمة لا يزدادون في وطنهم إلا ذلة وضعفا واضطهادا، حتى صار متطرفو الهندوس اليوم يهددون ثلاثمئة مليون مسلم فيها بالطرد من أرضهم! بينما استطاع الأفغان بمذهب المقاومة تحرير أفغانستان ثلاث مرات، وهزيمة المحتل البريطاني سنة ١٩١٩، ثم هزيمة المحتل الروسي سنة ١٩٨٩م، ثم هزيمة المحتل الأمريكي سنة ٢٠٢١م!

وما زال لكل دعوة وارث، وما زالت الأفكار والمذاهب تمحصها الأيام وتمخضها الحوادث، وما زال للحديث -بإذن الله- بقية!