"الشيخ
عبد الرحمن عبد الخالق.. ذكرى إمام وحسن ختام"
بقلم : أ د حاكم المطيري
الأمين
العام لمؤتمر الأمة
أستاذ
قسم التفسير والحديث
كلية
الشريعة - جامعة الكويت
12 صفر
1442هـ / 29 سبتمبر 2020م
الحمد الله القائل وهو أصدق القائلين وأحكم الحاكمين:
﴿إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا
تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون﴾ [فصلت: ٣٠]..
والقائل سبحانه:
﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾
[العنكبوت: ٦٩]..
والقائل تبارك اسمه:
﴿كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن
النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور﴾ [آل عمران: ١٨٥]
وصلى الله وسلم على النبي الأمين، ورحمة الله إلى العالمين،
القائل (يا أيها الناس أيما أحد من المؤمنين أصيب بمصيبة فليتعز بمصيبته
بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحدا من أمتي لن يصاب بمصيبة بعدي أشد
عليه من مصيبتي)..
وما أحسن قول أبي العتاهية:
اصبر لكل مصيبة وتجلد
واعلم بأن
المرء غير مخلد
وإذا أتتك مصيبة تشجى بها
فاذكر مصابك
بالنبي محمد!
اللهم خلقت وأفنيت، وأعدمت وأحييت، وأعطيت وأبليت، وأفقرت وأغنيت،
وأضللت وهديت، تباركت ربنا وتعاليت، كل شيء هالك إلا وجهك، تقدس اسمك، وتعالى جدك،
أنت الأول فليس قبلك شيء، والآخر فليس بعدك شيء، والظاهر فليس فوقك شيء، والباطن
فليس دونك شيء، أحق من عُبد، وأعز من حكم، وأجود من سُئل..
اللهم وفد عليك شيخنا عبد الرحمن بعد طول عمر قضاه في الجهاد
والهجرة في سبيلك والدعوة إليك، وحسن عمل ولا نزكيه عليك، فاللهم اكتب أجره،
وارفع قدره، وأكرم نزله، ووسع مدخله، وأنزله الفردوس الأعلى من الجنة مع النبيين
والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا...
اللهم واقبل دعاءنا له، وصلاتنا عليه، وشفاعتنا فيه، فإنك حبيبنا
وحبيبه، وولينا ووليه، واجعل له من ودك أوفر نصيب، كما وعدت وأنت أوفى من وعد،
وأكرم من رفد ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا﴾ [مريم: ٩٦]..
اللهم هذا الدعاء، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك..
..
(السلام مع اليهود خطة لانتزاع الإسلام من جذوره .. وفتح جزيرة
العرب لليهود يطالبون بما يسمونه تعويضا عن أرضهم وديارهم التي أخرجوا منها..
وإقرارهم على هذا كفر بالإسلام، وستكون خطة السلام التي تتضمن هذه البنود كفرا
بالله ورسوله ودينه)!
بهذه الفتوى العظيمة التي نشرها قبل وفاته بثلاثة أيام ختم الله
لشيخنا الإمام المجاهد -بالحجة والبيان والعلم البرهان- العلامة عبدالرحمن بن
عبدالخالق حياته الحافلة بخدمة الإسلام، والدفاع عنه، والذود عن حياضه، في الغربة الثانية
التي تعيشها الأمة وشعوبها منذ سقوط الخلافة، واجتياح الحملة الصليبية لأقطارها،
حتى توجت الغربة اليوم بصفقة القرن والتطبيع مع المحتل الصهيوني وفتح جزيرة العرب
أمام نفوذه وعودته، فلم يثن المرض الذي اشتد على الشيخ في آخر أيامه من نشر هذه
الفتوى التي لم يجرؤ على الصدع بها أحد من علماء جزيرة العرب كلها!
وكان ذلك من حسن الخاتمة له أن يوصي بما أوصى به النبي ﷺ وهو على فراش الموت بليال (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب لا
يبقى في جزيرة العرب دينان)..
لقد لزمت دروس شيخنا العلامة الفقيه المفسر عبدالرحمن بن عبدالخالق
وحضور خطبه منذ سنة ١٩٨٥م، وكان أشهر دروسه آنذاك درس التفسير من كتاب ابن كثير،
فقد كان رحمه الله آية في هذا الفن خاصة في خطبه إذا خطب فأخذت تتوارد على خاطره
الآيات على اختلاف مواردها من سور القرآن، وكأنه تعرض عليه عرضا، يفسر بعضها بعضا،
ويرد مشكلها إلى محكمها، وعامها إلى خاصها، ومطلقها إلى مقيدها، حتى كأنك تسمعها
أول مرة! فقد أخذ علم التفسير عن شيخه محمد الأمين الشنقيطي صاحب "أضواء
البيان"، وكان قد لزم دروسه في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية أول
تأسيسها..
وكان منبر الشيخ عبدالرحمن في خطبة الجمعة آنذاك مركز إشعاع روحي
وعلمي وتربوي، وقد كان من أشهر العلماء الذين وقفوا مع الجهاد الأفغاني ضد الاتحاد
السوفيتي والمحتل الروسي، ووقف مع جهاد كل شعب مسلم ضد الاحتلال كما في البوسنة
والشيشان فضلا عن جهاد الشعب الفلسطيني، وكانت قضايا الأمة هي همه وشغله الشاغل في
خطبه ولقاءاته الخاصة والعامة، يدعو إلى الجهاد في سبيل الله ونصرة المجاهدين في
كل أرض بالنفس والمال والكلمة..
وكان يجلس بعد خطبة الجمعة للفتوى العامة، والإجابة عن أسئلة المصلين،
وكان مجلسه ذلك لا يقل أهمية عن دروسه وخطبه ومحاضراته، وقد آتاه الله حسن استدلال
بالنصوص، وقدرة على استحضارها من الكتاب والسنة على نحو فريد في علماء عصره..
وقد لزمت دروسه العامة ومنها شرحه "نيل الأوطار شرح منتقى
الأخبار"، ودروسه الخاصة ومنها شرح كتاب البيوع من "منار السبيل"،
ومن "منتقى الذهبي لمنهاج السنة"..
وقد طلب مني رحمه الله مراجعة كتابه في أصول الفقه (البيان المأمول في
علم الأصول)، وقال لي راجعه مراجعة ناقد واكتب ملاحظاتك عليه، فاعتذرت منه إلا أن
أقرأه عليه كاملا، بعد مراجعته، فقرأته عليه كاملا في عدة مجالس، ولم أجد فيه ما
أستدركه عليه، فهو أجل من أن يستدرك عليه مثلي..
وكذا طلب مني مراجعة كتابه (الصراط المستقيم في الاعتقاد)..
وقد توطدت العلاقة بيني وبينه منذ ١٩٩٠م، وكان يحرص على اصطحابي معه
لبيته بعد صلاة الجمعة للغداء، ويبث لي شجونه وهمومه، وكان من ذلك ما جرى بيننا
ونشرته في صحيفة الوطن بتاريخ ٣/ ٣/ ١٩٩٧م في مقالي (نداء الأطلال)، حيث قلت فيها
(صليت الجمعة -١٥ رمضان ١٤١٧ / ٢٤ يناير ١٩٩٧م- مع الشيخ عبدالرحمن عبدالخالق
في مسجد الهاجري رحمه الله في منطقة الجابرية حيث يخطب الشيخ الجمعة، وكانت
خطبته عن (التقوى)، وما سمعت الشيخ قط يستدل بالقرآن إلا تذكرت ما قيل في الإمام
مالك رحمه الله وأنه كان من أقدر الناس على الاستدلال، وأسرعهم انتزاعا للآيات
والشواهد القرآنية، وما رأيت أحداً يجاري الشيخ في هذا الميدان، وكيف لا يكون كذلك
وشيخه المفسر العلامة محمد الأمين الشنقيطي، وعنه أخذ التفسير! فلما قضيت الصلاة
جلس الشيخ كعادته للإجابة عن أسئلة الحاضرين، فلما قام وانتشر الناس، سلمت عليه
ودار بيننا حديث وركبنا سيارته، وأخذنا نتجول ساعة، وكان يوم غيم ومطر، فما شعرت
إلا ونحن أمام أحد المنازل في منطقة الجابرية، فأشار الشيخ بيده إلى حديقة المنزل
- بعد أن تأملها بعض دقائق - فقال بصوت هادئ حزين: (هذه الأشجار غرسها ورعاها ابني
محمد رحمه الله).
وأخذ الشيخ يعدد عليّ الشجيرات التي غرسها ابنه محمد - الذي توفي
صغيرًا في حادثة سيارة أيام الغزو العراقي للكويت - واحدة بعد أخرى، ثم قال: كنت
أسكن هنا مدة ثماني سنين إلى أيام الغزو، وما زلت أرتاح عند رؤيته، وأحنّ إليه،
وأمر عليه كالأطلال.
فأردت أن أسليه، أو أواسيه؛ فما قدرت على الكلام، فلما رآني صامتًا لا
أحير جوابا أراد أن ينسيني هذا الموقف فابتسم ابتسامته الرزينة المعهودة، غير أن
الموقف كان أكبر في نفسي من أن يزول أثره بهذه الابتسامة الحزينة، فقد كان موقفا
مؤثرا مؤلما، ويعلم الله ما رأيت الشيخ يذكر شيئا من أمور الدنيا قط إلا هذه
المرة، وإذا كان الشيخ قد رجع إلى داره في ذلك اليوم دامع العين، فقد رجعت أنا
خافق القلب، لم تهدأ جوانحي ووجداني إلا بعد أن بكيت شعراً يعبر عن ذلك الموقف حيث
تم اللقاء، ودار الحوار بيننا وبين تلك الشجيرات، فقلت:
سقى الله الشجيرات اللواتي
لها
في النفس أغلى الذكرياتِ
سقاها الله ما دامت عيــونٌ
بواكي
أو ثـــغـور ضاحكــاتِ
شجيرات لها في القــلب مثوى
بقــايا
من حيــاتي مورقــاتِ
سقاها الله وسـمــيا
كريما
يعــاود
بالــعشــي وبالغــداةِ
وددت بأن أساقيها دموعي
إذا
كفت عيــون الواكــفــاتِ
وقــفـت بها أناجيــــها لعلي
أرى
فيها السنين الماضيــاتِ
رعى الله الشجيرات اللواتي
تذكرنا
الأحبـــة في الحيــــاةِ
عجبت لها أتضحك أن رأتنا
ونبكي
نحن من رؤيا النباتِ
وكم فرحت ولو نطقت لقالت
محمد
أين عــهد الســالفاتِ
تظن محــمــدا فيـــنا ولّما
تصل
أنبــاؤه للبــاســقــاتِ
تظن بأن فينا من سقاها
وأودعــهــا
بأم الكــــائناتِ
وهــــذبها وشـــذبها
لتحــيا
يفوح
أريجـها في الزهراتِ
ألم تعــلم بأنا في
حـــنــيـن
له
من سبــعــة منـذ الوفـاةِ
دعـــاه داعـي الرحمن فينا
وكــلٌ
بعـــده الرحمـن آتي
فلو كان البـكـــاء يرد ميْتا
لأبكينا
الجبــــال الراسيـاتِ
فصبرا إن وعـــد الله
حق
فإن
الصــبر خير الباقياتِ
فدتك النفس ابنك كان
حرا
يريد
لك الشــفــاعة للنجـاةِ
إذا ما الابن سارع في
قدوم
ليشفع
كان ابن المكـرماتِ
كريم من كـــريم من كـــرام
وابن
المؤمـنــات القانتاتِ
فإن يك غرســه أشجار ورد
فـغــرس
أبيـه آلاف الهداةِ
فكم ربّى من الأجيــــال
حتى
غـدت
آثاره في المعجزاتِ
وكم يعلو المنـابر في خشوع
وفي
المحراب يتلو البيناتِ
إذا ما فـــسـر القـــرآن يوما
أتى
في قــــوله بالبـــاهـراتِ
إذا اختلفت على الناس الفتاوى
فتاوى
الشيخ تبدو واضحاتِ
إذا اشتبهت وجوه الناس يوما
فسيما
وجهه نور الصلاةِ
عفيــف صـــــادق بـر
كـريـــم
جريء
القلب عند النائباتِ
إذا اشتبهت أمــــور في
أمور
فكــل
شـــئونه في الصــالحـاتِ
حياتك في ذرا العليـــاء
دوما
أعيــــذك
من عيـــون العادياتِ
فلو جاز الرثا والمــرء حـي
رثيتك
في الحياة وفي المـماتِ
رضيت من الغنيـمة فيك قسما
وخذ
عهد الثــقـات من الثقاتِ
إذا مرجت عـهـــود بعد
عقد
عليك
بعـهـد أبنــــاء السـراةِ
لك المجد التليد ودمت فينا
إمام
الخيــر عنـــوان الثباتِ)..
وبعد نشر المقالة والقصيدة ثارت شجون عدد من أصحاب الشيخ وخاصته
وجاروها بقصائد أجود منها يعبرون فيها عن حبهم وإجلالهم للشيخ رحمه الله، وقد نشرت
كلها في صفحة المشكاة من صحيفة الوطن..
فاتصل بي الشيخ رحمه الله متأثرا، وقال ما عزاني أحد كما عزتني هذه
القصيدة، وليس عندي ما أكافئك به، ولو كنت شاعرا لجاريتك شعرا، فلما التقينا نزع
عباءته وأهدانيها، وما تزال عندي وهي من أحب ما أملك اليوم!
وقد ظلت العلاقة بيني وبين الشيخ وثيقة لا تزداد مع الأيام إلا قوة،
ويسره ما أكتبه وأدعو إليه، فيدعو لي بالثبات، ويدعوني إلى الصبر، حتى بدأ يتعرض
للضغوط بسبب زيارتي له، بسبب دعوتي للإصلاح والتغيير في المنطقة، فآثرت تجنيبه هذه
الضغوط، فأخذ يتواصل معي سرا، ويرسل رسائله لي مع خاصة من يثق بهم، كالشيخ حجاج
العجمي يؤكد فيها حبه وتقديره لما أقوم به، ويشتكي من العيون حوله، وكان آخر لقاء
بيننا في مسجده في منطقة مشرف، قبل عزمي على الهجرة، سنة ٢٠١٨م، بعد رجوعه من الحج
١٤٣٩هـ، وقد اشتد به المرض، وكم كنت في شوق لزيارته ورؤيته، فلما رأيت خبر دخوله
المستشفى خشيت أن يسبق الأجل إليه قبل أن أسمع صوته وأفوز بدعوة منه، فاتصلت ببعض
خاصته وطلبت منه أن يتصل بي إذا زار الشيخ في المستشفى حتى أكلمه، فقضى الله ألا
يكون ذلك في الدنيا، فعسى أن يكون اللقاء بيننا في الفردوس الأعلى ﴿في مقعد
صدق عند مليك مقتدر﴾ [القمر: ٥٥]..