بقلم د. حاكم المطيري
المنسق العام لمؤتمر الأمة
18/ 9/ 2011
بقدر ما أثبت الشعب السورية العظيم إنسانيته وحضاريته وسموه الأخلاقي - في
الثورة السورية التي ضربت أروع المثل في سلميتها ووطنيتها، ورفضها لشق وحدة الصف
الوطني بل مكوناته، وتأكيدها على أنها ثورة شعب بكل طوائفه، لا ثورة أكثرية، ولا
ثورة طائفية - بقدر ما أثبت النظام الحاكم وحشيته وهمجيته ودمويته وطائفيته التي
لم يعد أمام العالم خيار إلا الوقوف في وجهها، لوقف شلال الدماء، ووقف قتل مئات
الأبرياء من الشباب والأطفال والنساء!
لقد ضاقت اليوم الخيارات أمام الشعب السوري بعد ستة أشهر من الثورة
السلمية، ولم يعد أمامه إلا الثورة الشعبية المسلحة لفرض إرادته وتحرير وطنه من
العصابة الإجرامية!
لقد ثبت بشكل جلي أن الجيش السوري خارج دائرة التأثير، وعاجز عن حسم الموقف
لصالح شعبه، بسبب سيطرة العصابة الحاكمة على كل مراكز القيادة والوحدات المهمة
فيه، ومن الخطأ الرهان عليه، فمع كثرة الانشقاقات فيه، إلا إنه ظل عاجزا مشلولا عن
التدخل لإنقاذ الشعب، مما يؤكد أن بناءه منذ أربعين سنة على أساس طائفي، لم يكن
لحماية الوطن والشعب، بل لخدمة العصابة التي استولت على سوريا وحولتها إلى ضيعة
على حين غفلة من الشعب السوري، كجائزة للأسد الأب مقابل دوره المشبوه في سقوط
الجولان!
إن هناك فرقا كبيرا بين الجيش المصري والجيش التونسي الوطنيين، والجيش
السوري الذي تم تحييده وسيطرة قوات النظام الخاصة وشبيحته على قطاعاته وقياداته
ليحارب شعبه بدلا من حمايته، ومهما كانت أكثريته رافضة لما يقوم به النظام إلا
أنها بالنهاية تقاتل معه!
كما إن رفض قوى المعارضة السورية خيار الثورة المسلحة يعني حصر الشعب
السوري بين الموت البطيء، أو اللجوء للاستنجاد بالقوى الدولية الاستعمارية!
وهو ما يجعل من الثورة المسلحة اليوم آخر الحلول المشروعة، وهي الخيار
المتاح أمام الشعب السوري بعد قيام النظام الإجرامي بشن حروبه وقصف المدن بالطيران
والمدافع، واستنجاده بنجاد طهران وميليشياته في لبنان، وإرسال إيران بشحنات
الأسلحة إلى نظام الأسد، والتي استطاعت تركيا إيقاف بعضها، مما يؤكد أن الشعب
السوري لا يواجه نظاما وطنيا، بل يخوض حرب تحرير من احتلال أجنبي، تقوم حكومة نجاد
الطائفية فيه بتكرار دورها الإجرامي المشبوه لتكريس نفوذها في المنطقة على حساب
حرية الشعوب العربية واستقلالها وسيادتها، كما فعلت من قبل في العراق!
إن كلمة مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي الأسبوع الماضي والتي أكد فيه
دعم الثورة العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين دون أن يذكر سوريا لهو
دليل قطعي على أن النظام في طهران ما زال يقف خلف بشار وجرائمه بحق الشعب السوري،
وأن تظاهر نجاد بأنه غير شيئا من موقفه لصالح الشعب السوري ما هو إلا ذر للرماد في
العيون، بعد سقوط كل دعاوى الثورة الإيرانية بنصرة المستضعفين والوقوف ضد
المستكبرين!
لقد فضح المشهد السوري كل الأطراف فهناك تواطؤ عربي أجنبي للحفاظ على
النظام في سوريا، لتشابك مصالح الجميع وخشيتهم من البديل، ولو على حساب الشعب
وحريته، وقد ظنت الولايات المتحدة بأن النظام السوري قادر على حسم الموقف لصالحه
قبل تفاقم الوضع، فغضت الطرف عنه كما فعلت من قبل مع القذافي وحسني وابن علي، وما
تزال تفعل مع علي صالح، وكما هي عادتها حين تريد من عدوها الحليف تدبير شئونه
بأسرع وقت، وإن تظاهرت أنها ضده وضد جرائمه إعلاميا، واعتذرت عن استصدار قرار
الإدانة برفض روسيا والصين اللتين طالما حملتهما الولايات المتحدة على الانصياع
لما تريد عند الضرورة!
كما غضت واشنطن الطرف عن شحنات الأسلحة الإيرانية ودعم ميليشيات حزب الله
للأسد، تماما كما فعلت في العراق حين دعمت إيران وميليشيات لبنان حكومة الاحتلال
في بغداد، حيث التقت مصلحة الطرفان للحفاظ على النظام في بغداد ودمشق!
وهو ما يفسر صمت إسرائيل بإيعاز أمريكي عما يجري من دعم إيراني لسوريا الذي
يفترض أنه يهدد أمن إسرائيل القومي! ولم نعد نسمع عن ملف اغتيال الحريري والمحكمة
الدولية التي طالما اتخذتها أمريكا ذريعة لترتيب أوضاع المنطقة لصالحها، فكان
السكوت عنها اليوم تشجيعا لإيران وميليشياتها في لبنان للتدخل في سوريا وإنقاذ
نظام الأسد العدو الحليف للولايات المتحدة وإسرائيل!
إن على المعارضة السورية أن تدرك أن الرهان على التدخل الدولي رهان خاسر
لعدة أسباب:
الأول: أن دول أوربا والولايات المتحدة تدرك أهمية النظام السوري الحالي بالنسبة
لمصالحها ولأمن إسرائيل واستقرار المنطقة، وهو سبب تكلؤها حتى الآن في اتخاذ موقف
حاسم، مع الضغط الكبير الذي تواجهه من قبل المنظمات الحقوقية والإنسانية، ومن
الخطأ بعد مضي ستة أشهر العيش على أمل كاذب وانتظار برق خلب، بينما تجري الدماء في
طرقات مدن سوريا أنهارا كل يوم!
والثاني: أن ضريبة التدخل الدولي لن تكون أقل فداحة من الثورة المسلحة، بل
قد يسقط من الضحايا بالتدخل الدولي أكثر ممن قد يقع في الثورة المسلحة، فضلا عن
الثمن السياسي الذي سيكون على حساب سيادة واستقلال سوريا ونظامها القادم!
والثالث: أن التدخل في ليبيا جاء بعد أن نجحت الثورة الليبية المسلحة
بقدراتها الذاتية في تحرير الشرق الليبي كاملا حتى أشرفت على طرابلس خلال شهر واحد
من الثورة، وهو إنجاز تاريخي يحسب للثورة الليبية - التي كادت تسقط القذافي لولا
الدعم العسكري الروسي والأسباني للنظام بالأسلحة واستجلاب المرتزقة من أفريقيا –
وقد بلغت مساحة الشرق الليبي المحرر بالإضافة إلى الجبل ومصراته في الغرب أكثر من
نصف مساحة ليبيا، وهي مساحة تعادل مساحة سوريا كلها ثلاث مرات، وهو ما دفع أوربا
للوقوف مع الثورة بعد إنجازها هذا النصر العسكري على الأرض، وقد أكمل الشعب الليبي
حرب التحرير بعد ذلك بنفسه، ورفض نزول أي جندي على أرض ليبيا، وهذا ما تحتاجه
اليوم الثورة السورية، وهذا ثمن الحرية، ولن يقوم التدخل الدولي بإسقاط النظام،
ولا تحرير المدن بنفسه، ما لم يقم بذلك الشعب السوري!
إن خيار الثورة الشعبية المسلحة في مواجهة عصابات الموت
في سوريا هو خيار سياسي وأخلاقي وشرعي تفرضه كل القيم والنظم الإنسانية والشرائع
السماوية، كما قال تعالى {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم
لقدير}، ولقوله تعالى {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا}، وقال
تعالى {ومن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم} وجاء في الأحاديث (من
قاتل دون نفسه وماله وأهله وحقه فقتل فهو شهيد)..الخ
إن كل الثورات الشعبية الحديثة التي غيرت وجه التاريخ الإنساني المعاصر
كانت مسلحة كالثورة الفرنسية والأمريكية والروسية والصينية فالحق لا تحميه إلا
القوة، والطغاة لا يعرفون إلا لغة القوة، ولهذا جاء في وصف النبي محمد صلى الله
عليه وسلم بأنه (نبي الرحمة ونبي الملحمة)، فهو نبي الرحمة للعالمين جميعا {وما
أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، وكذلك نبي الملحمة والقوة لمواجهة الطغاة المجرمين
وتحرير المستضعفين من ظلمهم وطغيانهم، حين لا تجدي الكلمة، ولا تنفع والحكمة، وحين
يصبح الحق تحت رحمة الباطل وجبروته! وما يجري في سوريا اليوم هي جرائم حرب بكل ما
تعنيه الكلمة من معنى، تشنها عصابة إجرامية على شعب أعزل، فمنعه من الدفاع عن نفسه
- بذريعة سلمية الثورة - جريمة أخلاقية أخرى!
وأن يهب الشعب السوري كله ويفرض إرادته بالثورة المسلحة، ويحرر وطنه
بإرادته الحرة خير له ألف مرة من أن يحصل على حريته بتدخل أجنبي يرهن له نفسه
ووطنه وحريته!
إن ثمن الثورة المسلحة بالنسبة للحالة السورية اليوم، أقل كلفة من ثمن
التدخل الأجنبي، وأقل كلفة من ثمن فرض العصابة الإجرامية إرادتها عليه، وأقل كلفة
من أنهار الدماء التي ما تزال تجري دون وجود ما يدل على نهاية لهذه المحنة، إلا
بحسمها بالخيار المسلح!
إن اللجوء للسلاح يكون عادة محظورا في الثورة الشعبية حتى لا تكون هناك
ذريعة للنظام لشن حرب على الشعب، أما في سوريا فالحرب تشن على الشعب منذ ستة أشهر،
مما يجعل من الخوف من استخدام السلاح خوفا موهوما، بل صار هذا الخوف يفضي إلى
تمادي النظام أكثر وأكثر في سفك الدماء، وهو ما ينافي الحكمة من إعداد القوة
لتحقيق الردع {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة .. ترهبون به عدو الله وعدوكم}!
وحين تقرر قوى الشعب السوري في الداخل إطلاق شرارة الثورة المسلحة فإن
الحسم لن يستغرق أسابيع، حيث سيسهل على الجيش الانحياز للشعب، وسيزداد زخم الثورة
أكثر وأكثر، مما يعجل بسقوط النظام، وفرار أنصاره، حين يرون انقلاب موازين القوة
على الأرض لصالح الشعب.
إننا لا نشك بأن الثورة السورية وهي تسطر ملحمة الخلود
بدماء ثوارها الأطهار، وعزيمة أحرارها الأبرار، ستنتصر بالنهاية، إلا أننا لا
نريده نصرا بأيدي القوى الدولية التي كانت وراء نظام الأسد منذ أربعين عاما!
إن الخوف من تكرار تجربة حماة ليس له ما يبرره اليوم، فهناك فرق كبير بين
ما جرى في حماة بالأمس بين النظام ومجموعة مسلحة معارضة له لم تكن الظروف في
صالحها، والثورة الشعبية اليوم، فالشعب السوري كله اليوم ثائر ضد النظام، والعالم
كله معه لعدالة قضيته، ولن يستطيع النظام الهالك في دمشق إخضاع الشعب مهما طالت
المعركة، إلا أن ذلك كله سيكون على حساب دماء الأبرياء من الأطفال والنساء!
لقد كان ثمن الثورة المسلحة في ليبيا وتضحياتها أغلى من الثورة المصرية
والتونسية، إلا أن انجازها أعظم وأجل وأسرع، فقد أسقطت النظام الليبي من جذوره،
بخلاف تونس ومصر، واللتين ستعيشان صراعا ونضالا طويلا مع بقايا النظام السابق حتى
تستقر أهداف الثورة فيهما.
كما إننا حين ندعو إلى الثورة المسلحة لا ندعو إلى الفوضى، ولا إلى تحويل
سوريا إلى ساحة حرب مفتوحة لا تخدم أهداف الشعب السوري، ولا تحافظ على مصالحه
ووحدته واستقلاله واستقراره بعد ذلك، بل نؤكد على أن قرار تحول الثورة من سلمية
إلى مسلحة يجب أن يكون لدى قيادات الثورة في الداخل، فهم من يقررون ذلك، وإنما يجب
جعل هذا الخيار متاحا لا محظورا، فقد أمر الإسلام بمواجهة الطاغوت وأمر بالتصدي
للطغيان وترك الوسائل دون تعيين، وترك للأمة في كل زمان ومكان تقدير المستطاع لها
والأنجع، ابتداء من جهاد الكلمة وانتهاء بالثورة المسلحة كما في الأحاديث الصحيحة
(من رأى منكم منكرا فليغيره بيده)، وقال (ثم تخلف خلوف أمراء .. فمن جاهدهم بيده
فهو مؤمن)، واليد تطلق على كل معاني القوة وتشمل القوة السياسية والعسكرية المادية
والمعنوية، الثورة السلمية والثورة المسلحة، وقال أيضا (لتأخذن على يد الظالم
ولتأطرنه على الحق أطرا)..الخ
كما يجب أن يكون هدف الثورة المسلحة هدفا سياسيا واضحا ومحددا، وهو حماية المدن
من الشبيحة، وتطهيرها من وجودهم، وتحرير الشعب السوري من العصابة الحاكمة في دمشق،
لينتهي دور السلاح عند تحقيق هدف الثورة السياسي، وليقوم الشعب السوري بعدها وبكل
حرية، ومن خلال توافق وطني بوضع دستور ونظام حكم سياسي راشد، يحافظ على هوية الشعب
السوري العربية والإسلامية، ويحفظ حقوق كافة مكوناته القومية والدينية، ويصون
العدل والحرية للجميع على أساس المواطنة والحقوق الإنسانية، ويقوم بانتخاب حكومة
تعبر عن إرادته، وانتخاب مجلس شعب يمثل كل مكونات المجتمع السوري وقواه السياسية..
هذا ونسأل الله للشعب السوري ولجميع الشعوب العربية المظلومة فرجا قريبا
ونصرا مؤزرا واستقلالا وتحررا..
الأحد 20/10/1432ه
الموافق
18/ 9/ 2011م