(إلقاء بريطانيا القبض على زعماء الأخوان وتسليمهم للرياض)
بقلم د حاكم المطيري
Ommah2000@yahoo.com
لقد نجحت بريطانيا في محاصرة الثوار في نجد، وقطع طرق الإمداد عنهم وعن قبائلهم سواء من طريق الكويت أو العراق أو الأردن، وبدأت الحلقة تضيق على قادة المعارضة، حيث أدركوا بعد فوات الأوان أن كل ما يتعرضون له ومنذ انتهاء الحرب العالمية الأولى، هو بترتيب بريطاني لفرض مشروعها الاستعماري في المنطقة!
الحرب الدعائية والإعلامية ضد الأخوان:
وقد بدأت الحرب الدعائية والإعلامية ضد الثوار لتشويه سمعتهم، وكما يقول دكسون:(وفي 19 تشرين لثاني وصل الشيخ حافظ وهبة ممثل ابن سعود في لندن إلى الكويت، وبدأت حملة دعاية مضادة واسعة النطاق ضد الثوار). [1]
قصف الطيران البريطاني للثوار :
وقد بدأت بريطانيا تقصف بطيرانها مخيمات الأخوان بما فيها من نساء وأطفال بكل وحشية، وكما يقول دكسون (وفي 23 تشرين الثاني وبعد أن بدأت مستنقعات الماء تجف في الصحراء أخذت جمال الثوار تصل إلى الجهراء في الأراضي الكويتية للحصول على الماء، ولكن خطوات حاسمة - من طرف بريطانيا - اتخذت لمنع ذلك في المستقبل - أي قصفهم بالطيران حتى لا يصلوا للجهراء واستقاء الماء - وكانت قوات الثوار تنتقل على طول شعيب الباطن، وتقيم على جانبي الباطن إلى الرقعي حيث تلتقي الحدود الكويتية العراقية في أقصى الجنوب، وبدأ الدويش مفاوضات رسمية مع ابن سعود، وفي الثامن والعشرين من كانون الأول وعند الغروب تقدم محسن الفرم شيخ قبيلة حرب والتي تشكل القوة الغربية والجناح الأيسر لقوات ابن سعود من شعيب فليج بقوة كبيرة من حرب وشمر والظفير وهاجم الثوار عند الفجر، وأخذوا فيصل الدويش على حين غرة، فيما كان ينتظر شروط الصلح مع ابن سعود، ولم تحدث خسائر كبيرة، فقد تجمع الثوار بسرعة وصدوا المهاجمين، لقد شن الفرم هجومه - كما يقول دكسون - دون أوامر من الملك ورد على أعقابه، ومع ذلك صور مؤرخو مكة الحادث بأنه معركة عظيمة ونصر حاسم للحملة وذلك ليس صحيحا على الإطلاق! وتجمعت القوات الأرضية لسلاح الجو الملكي البريطاني والسيارات المسلحة من العراق بالقرب من الرقعي لتمنع عبور الثوار إلى الكويت أو العراق، وفي 30 كانون أول انضمت مطير إلى العجمان في أم عمارة حيث قابلهم قائد القوة الجوية الملكية البريطانية في العراق تشارلز ستوارت الذي خيرهم بين الاستسلام أو العودة عبر الحدود، وبعد محادثات طويلة رفض الثوار شروط تشارلز للاستسلام، وعادوا جنوبا عبر الحدود دون أن يعرفوا مدى قرب جيش ابن سعود، وقمت - أي دكسون - بزيارة معسكر العجمان في وادي الباطن في الأراضي الكويتية وألححت على نايف بن حثلين أن يرمي بنفسه تحت رحمة ابن سعود، وقلت له:إذا كانت لديك القوة الكافية للقتال فقاتل، وإلا دع القتال من أجل نسائك وأطفالك، ولم يصغ إلى كلامي! وووصلت قوات ابن سعود إلى الرقعي في الخامس من كانون الثاني فعاد الثوار وغيروا اتجاههم ثانية نحو الشمال الشرقي، وشقوا طريقهم بصورة اضطرارية إلى واحة الجهراء تاركين آلاف الأغنام والجمال تموت في الطريق، وتخفيت أنا وعدد من رجال الشيخ أحمد الجابر بثياب البدو وسرنا معهم في الليل، وكنت أبلغ سلاح الجو الملكي البريطاني باتجاه سيرهم، وفي اليوم التالي فاجأتهم قوة مشتركة من الطائرات والسيارات المسلحة قرب الأطراف على بعد عشرة أميال إلى الغرب من الجهراء، فوجدتهم في حالة من الفوضى يهربون في كل اتجاه، وخشي الثوار وهم في هذه الحال من هجوم جيش ابن سعود عليهم، وفي السابع من كانون الثاني انتقلوا إلى الجهراء حيث قامت الطائرات بإلقاء قنابلها حول القرية في فترات منتظمة لتجميعهم![2] وهناك توجهت لزيارة فيصل الدويش، معرضا سيارتي لنيران الطائرات البريطانية، وتوسلت إلى الدويش مدة ساعتين كاملتين أن يستسلم لسلاح الجو لملكي وأن لا يحاول شق طريقه كما يريد أن يفعل لئلا يدخل في معركة حاسمة مع قوات ابن سعود التي تنتظره عند حدود الكويت الجنوبية، وتركته دون أن أستطيع إقناعه، وبعد عدة مراسلات سرية مع نايف بن حثلين أقنعته أن يستسلم في التاسع من كانون الثاني، إلى فرقة السيارات المسلحة التابعة لسلاح الجو الملكي، الأمر الذي دفع فيصل الدويش إلى تغيير رأيه في شق طريقه عبر قوات ابن سعود للاستيلاء على نجد، واستسلم الدويش ومعه صاهود بن لامي - شيخ قبيلة الجبلان من مطير - في العاشر من كانون الثاني 10 يناير، وركب معي فيصل الدويش بصورة احتفالية مؤثرة إلى معسكر القيادة الجوية البريطانية حيث سلم سيفه، وأُرسل الزعماء الثلاثة إلى البصرة بطريق الجو، وهناك نقلوا إلى سفينة حربية بريطانية في شط العرب، وأبلغ فلول الثوار من مطير ومعظمهم من الدوشان والدياحين، والقسم الأكبر من العجمان أن ينتقلوا شمالا إلى منطقة الروضتين في دولة الكويت على بعد خمسة عشر ميلا جنوب صفوان حيث بقوا بحراسة السيارات المسلحة البريطانية التابعة لسلاح الجو الملكي إلى أن يصبح بالإمكان تسليمهم إلى ابن سعود! وبدأت بالعمل لتأمين الطعام والملابس لنساء وأطفال الثوار الذين تركوا في حالة بائسة من الجوع والحرمان بين بساتين النخيل في الجهراء، وكان بين أولئك نساء فيصل الدويش زوجته عمشا وشقيقاته الثلاث وابنتان صغيرتان وسبع وعشرون من قريباته وكلهن من الدوشان ومن ذوات المولد الرفيع، وقبل أن ينقل من البصرة ترك الدويش نساءه في عهدتي وكانت كلماته الأخيرة لي: أسلم حريمي لك يا دكسون من ذمتي إلى ذمتك! ونقل أولئك النسوة إلى القصر الأحمر في الجهراء، حيث اعتنت بهن زوجتي)[3].
نهاية الثورة وتسليم بريطانيا قادتها إلى ابن سعود:
لقد نجحت بريطانيا في القضاء على الثورة وتم حسم المعركة بسلاح الجو البريطاني وكما يقول المستشرق النمساوي محمد أسد الذي كان بمعية ابن سعود(وهكذا أرسلت الطائرات والمصفحات البريطانية لمنع الدويش من التراجع مرة أخرى إلى الكويت وأدرك الثائر أنه خسر قضيته وبعد معركة حارب فيها الثوار إلى آخر نفس دحروا نهائيا). [4]
وكما يقول جون س وفي ظل(غياب الزعامة الاسمية انتهت ثورة الأخوان، وبدأ البريطانيون يواجهون مشكلة إعادة جماعات الأخوان، وطي قيد الزعماء الرسميين، وقد كان البريطانيون قد عاهدوا ابن سعود من قبل على أنهم سيسلمون له قادة الأخوان بشرط أن يبقي على حياتهم ويعاملهم معاملة إنسانية، وبعد أن أصبح الأخوان في قبضة البريطانيين فعلا حاولوا أن يحنثوا في عهدهم، وفي 17/1/1930م صدرت التعليمات من وزارة الخارجية البريطانية للعقيد بسكو المندوب المقيم في الخليج أن يصحب كل من دكسون وبيرنت لمقابلة ابن سعود، ومناقشته في مصير الثوار، الذين أصبحوا في أيدي البريطانيين، وقد ناقشوا إمكانية نفي زعماء الأخوان إلى قبرص، أو إلى أي مستعمرة بريطانية أخرى، وتم نقل كل من الدويش وابن حثلين وابن لامي بالطائرة إلى البصرة، ومنها تم نقلهم إلى البارجة لوبن التابعة للبحرية البريطانية والتي كانت في شط العرب، وأما بقية الأخوان من مطير والعجمان فقد صدرت إليهم التعليمات بالتجمع في منطقة صفوان على مسافة خمسة عشر ميلا من حدود الكويت، حيث قامت بحراستهم العربات المدرعة للقوات الملكية البريطانية، إلى أن يتم تسليمهم إلى ابن سعود، وبعد وصول الزعماء الثلاثة إلى البارجة، طار العقيد بسكو من الكويت إلى ابن سعود لمناقشة موضوع تسليم الزعماء وعدم الحاجة إلى نفيهم وبرر بسكو هذا الموقف بما يلي:
1- أن بريطانيا زودت ابن سعود بالأسلحة والذخيرة والطائرات بل وبالأفراد مساعدة منها له على إخضاع الأخوان.
2- أن بريطانيا قد اتخذت إجراءات صارمة لضمان عدم تقديم أية تسهيلات للقبائل الثائرة على ابن سعود.
3- أن موقف بريطانيا هو موقف الاستعداد للمساعدة في مقاومة الثوار.
وفي 28/1/1930م تم نقل الزعماء الثلاثة من البارجة إلى أحد المهابط الجوية بالقرب من خباري وضحا في إحدى الطائرات البريطانية، وبصحبتهم دكسون، وقد أودع الزعماء الثلاثة ابن بجاد، وفيصل الدويش، وابن حثلين، في سجن الرياض ... وبالإضافة إلى مساعدة البريطانيين ابن سعود بتسليمه الزعماء الثلاثة الرئيسيين، فقد ساعدوه أيضا في مطاردة معظم المتمردين الثمانية عشر الآخرين الذين كانوا على قائمة المطلوبين ...) [5].
وقد روى دكسون الذي كان في تلك البعثة البريطانية تفاصيل تسليم قادة الثورة بقوله (وتقرر إيفاد بعثة إلى ابن سعود الذي كان مخيما في خباري وضحا على بعد 93 ميلا إلى الجنوب الغربي من الكويت وتتألف من بيسكو المقيم السياسي في الخليج منذ سنة 1929م ونائب مرشال الجو بيرنيت وأنا لبحث وسائل وطرق تسليم الزعماء الثائرين وأتباعهم، وبعد أن وقع ابن سعود والسير بيسكو على شروط الاستسلام عادت البعثة إلى الكويت في 27 كانون الثاني، وفي اليوم الثاني أنزل الزعماء الثائرين الثلاثة من السفينة البريطانية لوبين ونقلوا إلى مخيم ابن سعود بطريق الجو تحت إشرافي، وتعرضت قوات الثوار أثناء إبعادها في شمال الكويت لغزوات ليلية قاسية سلبتهم جمالهم وأغنامهم على مرأى من سلاح الجو الملكي، وقد اقتادتهم السيارات المسلحة التابعة لسلاح الجو البريطاني عبر طريق معين باتجاه المناقيش على الحدود حيث تم تسليمهم إلى مبعوثي ابن سعود، وتم نقل الزعماء الثلاثة إلى الرياض ومصادرة مواشي الثوار وتقديرا لحياده ورفضه مساعدة الثوار تلقى الشيخ أحمد الجابر سنة 1930 وساما رفيعا مع تقدير الحكومة البريطانية، وتوفي فيصل الدويش في الرياض في الثالث من تشرين الأول سنة 1931، وقد ظل يشكو لمدة شهر من ألم بسبب تورم في حنجرته، وفيما كان يمشي مع ابن حثلين في باحة السجن سقط على الأرض والدم ينزف من فمه بسبب انفجار الورم، وظل فاقد الوعي حتى المساء، وعندما استعاد وعيه لمدة قصيرة طلب أن يرى الملك ولكن ابن سعود رفض أن يأتي إليه، وأرسل إليه الدويش تحية الوداع غافرا له الأخطاء التي ارتكبها ابن سعود في حقه قائلا إن الحكم الأخير لن يصدر قبل أن يقفا كلاهما أمام الله، ثم فارق الحياة وغسل ودفن في تلك الليلة، وقد نقلت أخبار الوفاة بالتفصيل بحيث لم يبق شك بأنه قد توفي، لقد أحس جميع البدو - كما يقول دكسون - بأسى عميق لوفاة ذلك الزعيم الصحراوي الكبير الذي كان ملكا بين شيوخ العرب، فهو وشيوخ الدوشان في مطير من قبله يمكن مقارنتهم بصانعي الملوك في انجلترا في القرون الوسطى، وخلال تاريخهم تجرؤا وحاولوا أن يصنعوا وأن يكسروا وأحيانا بنجاح الحكام السعوديين في نجد، إن مساعدة مطير وحدها بقيادة جد فيصل الذي كان يحمل نفس الاسم هي التي مكنت القائد لمصري إبراهيم باشا من مهاجمة واحتلال المملكة الوهابية في أوائل القرن الماضي، إن الجزيرة العربية لم تنجب فارسا أو مقاتلا أعظم من فيصل الدويش الذي لم يكن لابن سعود من أتباعه واحدا أكثر إخلاصا منه، إلى أن دفعت السياسة فيصل إلى الثورة، وظل زعماء الثورة الآخرون في السجن في الرياض حتى سنة 1934 حين اتهموا بمحاولة الفرار عندما كان ابن سعود يقاتل يحيى إمام اليمن، ونقلوا إلى الهفوف حيث سجنوا في الدياجير التركية المظلمة تحت الأرض، وانقطعت أخبارهم منذ ذلك الوقت) [6].
لقد كانت آثار تلك الحرب التي رتبت بريطانيا لها للقضاء على الثوار أعمق في الوجدان الاجتماعي والثقافي، وكما يقول جون س:(لم تنته مشاكل ابن سعود بانتهاء قمع الأخوان، فقد أحس كثير من الأخوان الذين لم يشاركوا في الثورة بأن ابن سعود قد خانهم، وخان دينهم، وتأكد لهم أن ابن سعود استخدمهم كأداة لتحقيق أهدافه الشخصية وتحقيق طموحه)[7].
وكما يقول دكسون (لقد أخمدت الثورة ويعود الفضل في انتشال ابن سعود من الوضع السيء الذي كان فيه إلى الحكومة البريطانية، فلولا جهودها في إبقاء الكويت والعراق على الحياد، ووضعها قوة كبيرة على حدود الكويت الجنوبية أجبرت الثوار على الاستسلام لما تمكن ابن سعود من سحق الثورة، ولكان تعرض هو والبيت السعودي إلى أخطر النتائج، وبانهيار الثورة ووفاة فيصل الدويش يمكن القول إن مذهب الإخوان الحماسي قد ولى إلى غير رجعة، وفهم عامة الإخوان الآن أن ابن سعود أطلق صرخة الدين سنة 1914 لأغراضه الخاصة، ولذلك شعروا بالندم والألم لأنهم استخدموا كمطية، فلم تعد لديهم رغبة في الولاء والاندفاع، ولم يعد الملك بالنسبة لهم بطلا ولا أبا لشعبه، كان المرء - كما يقول دكسون - يجد شعورا أشبه بخيبة أمل مريرة حتى بين القبائل الموالية له كشمر والسهول وسبيع والعوازم فضلا عن القبائل الثائرة عليه، ويرجع السبب إلى واحد أو أكثر من الأسباب التالية:
1- كان الشعور السائد أن ابن سعود لم يقف مع الأخوان كما كان مفروضا، فهم الذين رفعوه إلى المكانة التي احتلها وكانوا مسلمين صالحين.
2- أنه طلب مساعدة البريطانيين وبمساعدتهم تمكن من سحق رعاياه المسلمين.
3- أنه عامل فيصل الدويش ونايف بن حثلين وسلطان بن حميد وهم ثلاثة من أعظم زعماء الجزيرة العربية بقساوة لا داعي لها في الوقت الذي كانت طرق الشهامة كافية لمواجهة القضية.
ومع مرور الزمن لم يعد البدو يطلقون على ابن سعود لقب الإمام، ولست أعتقد أن مذهب الأخوان سينتعش ويعود للحياة مرة أخرى، مع أنه ليس من الحكمة التنبؤ في بلاد أعاد التاريخ فيها نفسه مرات ومرات) [8].
لقد قامت بريطانيا بالقضاء على القوة الوحيدة التي نجحت في توحيد نجد والحجاز بعد ثورة الشريف حسين وسقوط الخلافة العثمانية وتقسيم أقاليمها، تلك القوة التي قامت في نجد قبل مجيء ابن سعود من الكويت، كما اعترف بذلك جون س بقوله(إن توحيد ابن سعود لشبه الجزيرة العربية كان أمرا مستحيلا في غياب الأخوان، وأعمال الأخوان العسكرية الفذة غير العادية، هي أبرز ما في الأمر، إن عددا صغيرا منهم فقط هم الذين شاركوا في المعارك والغزوات مشاركة فعلية، كان هناك حزب من قبيلة عتيبة بزعامة ابن بجاد يتمركز في الغطغط، وعناصر من قبيلة مطير بقيادة الدويش في الأرطاوية، يعاونها مشايخ مستقلين، هذه العناصر هي التي تحملت الدور الرئيسي في مسئوليات الأخوان العسكرية، أما بقية الأخوان فقد كانوا يعيشون في هجر صغيرة، وأسهموا بنصيب قليل في نشاط الأخوان)، كما لم تكلف قوات الأخوان ابن سعود شيئا بعد مبايعتها له إماما، فقد كان الأخوان البدو المجاهدون (يتسلحون في معظم الأحيان ببنادق عتيقة، أو برماح بدائية محلية الصنع، ويقتاتون على حفنة من التمر، وصاع من الدقيق، وقاموا بحملات عسكرية لم تكلف الخزانة العامة شيئا)، بل إن ما كانوا يغنمونه في فتوحاتهم لا يأخذون منه شيئا، بل كانوا يأتون به إلى الخزينة العامة بكل أمانة وإخلاص، فلم تكن الغنائم (هدفا رئيسيا لمحاولتهم الخاصة التي كانوا يرمون من ورائها إلى استعادة الإسلام الصحيح، ونشره بين أولئك الناس الذين كانوا يعدونهم مسلمين مارقين وغير حقيقيين، إن حياة الأخوان شخصيا بعد الغزوات التي قاموا بها، لم تتغير عن تلك التي كانوا يحيونها قبل القيام بالغزوات، ولم يستغلوا موارد الأرض التي فتحوها لصالحهم، ولم يخرب الأخوان أي منطقة تخريبا اقتصاديا، ولم يتلفوا المحاصيل كيدا وحقدا، ولم يحرقوا أو يدمروا أي مدينة من المدن..)[9].
لقد تم القضاء على تلك القوة لسببين رئيسيين :
الأول: رفضهم للوجود البريطاني في الجزيرة العربية ومحيطها، سواء في الرياض، أو الكويت، أو الخليج، أو العراق، أو الشام.
الثاني: رفض الاستعمار البريطاني لوجود أي قوة وطنية في أي بلد تحت حمايته تشكل خطرا على وجوده في المستقبل.
وكما يقول جون س(فقد بات الأخوان يشكلون تهديدا للمصالح البريطانية على ساحل الخليج العربي والعراق وشرقي الأردن...وروج فيصل الدويش ضد ابن سعود بأنه قد باع نفسه لبريطانيا بلد الكفر، خصوصا بعد أن استقبل كلايتون في المدينة المنورة عام 1927م، وعدوا الأخير قد نجس الأراضي المقدسة للمسلمين...كما اعترض الأخوان على إرسال ابن سعود نجله فيصل إلى بريطانيا عام 1926 وجولاته هناك، وعلى علاقة ابن سعود مع مصر التي كانت تخضع للإنجليز آنذاك) [10].
(لقد وقفت بريطانيا إلى جانب ابن سعود في تصديه للأخوان لاعتقادها بأنه لو فقد السيطرة عليهم فإن جميع القبائل في الصحراء سوف تعلن تمردها كذلك، مما يؤدي تهديد كيان حكومتي العراق والأردن وقد يصل إلى الكويت، لذا أمدت ابن سعود بالأسلحة والتأييد السياسي، وألقت القبض على زعيم الأخوان فيصل الدويش، وسلمته لابن سعود، وساهمت في القضاء على هذه الحركة) [11].
كما كان من أسباب ثورة الأخوان اتفاقية جدة بين ابن سعود وبريطانيا سنة 1927م الذي اعترف ابن سعود فيها لبريطانيا بمركزها ونفوذها في الخليج العربي[12].
وقد واكب مخطط القضاء على الأخوان - كقوة توحيد وتحرير في بداية أمرها، وكقوة معارضة سياسية ضد ابن سعود في نهايتها - حرب إعلامية شرسة صورتهم في أبشع صورة، سواء من قبل حلفاء بريطانيا وأعداء ابن سعود في البداية كالشريف حسين، وابن صباح، أو من ابن سعود في النهاية، وكما يقول دكسون (وبالرغم مما كتب عن قسوة الأخوان وفظاظتهم ولكن رأيي هو أن ذلك مبالغ فيه بقصد لكي يتلاءم مع الغايات السياسية في ذلك الوقت) [13].
لقد أثبتت الوثائق والتقارير أن الأخوان لم يرتكبوا أي جرائم حرب في كل معاركهم التي خاضوها وكانت تحت قيادتهم، وقد دخلوا الحجاز دون أن يقع منهم أي تجاوزات تذكر، وذلك بخلاف المعارك التي كانت بقيادة الملك عبد العزيز أو أحد أفراد أسرته كما جرى في حربه مع العجمان أو معركة السبلة أو ما جرى في حروب السيطرة على عسير ونجران بعد القضاء على الأخوان!
تخلي علماء الأخوان عنهم ووقوفهم مع ابن سعود :
لقد نجحت بريطانيا وابن سعود بضرب حركة الأخوان بالدعاية الإعلامية حين تم تصوير معارضتهم السياسية له على أنها حول إدخال البرقية والسيارة، لإظهار مدى تخلفهم، مع أن هذه القضايا لم تكن هي السبب الرئيسي في الموضوع، وقد تم تجاوزها بعد فتوى العلماء في إباحتها، ولم تؤد إلى القتال بين الطرفين، غير أن السبب الرئيسي في الخلاف السياسي بين الأخوان وابن سعود هو علاقته بالإنجليز، التي بدأ الأخوان يشعرون بها، وبمدى تأثيرها على مواقف ابن سعود وسياسته، دون أن يعلموا بأنه قد عقد معهم معاهدة حماية كتلك التي عقده معهم مبارك الصباح، وشيوخ ساحل الخليج العربي، حيث أصبح تحت الاحتلال البريطاني باسم معاهدات الحماية!
وهي القضية التي لم يجب عنها علماء نجد في كل مؤتمراتهم، والتي كان الأخوان يخشون عواقبها المستقبلية[14]، حتى انبرى علماء الرياض ضدهم مؤكدين أنهم لم يروا ما يريبهم، ولا حرج في توقيع معاهدات الحماية مع الإنجليز، - بعد أن كان علماء نجد يفتون بكفر أهل الخليج لدخولهم تحت حماية الإنجليز حيث أفتى عبد الله بن عبد اللطيف آل الشيخ فتوى في أهل الخليج جاء فيها(وانتقل الحال بهم حتى دخلوا في طاعتهم، واطمئنوا إليهم، وطلبوا صلاح دنياهم بذهاب دينهم، وهو بلا شك أعظم أنواع الردة .. وقد قال تعالى{ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}، وقال سبحانه{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}...فكل من دخل في طاعتهم، وأظهر موالاتهم، فقد حارب الله ورسوله، وارتد عن دين الإسلام ووجب جهاده ومعاداته).[15]
وكذا كان يفتي عبد الله بن عبد اللطيف وإبراهيم بن عبد اللطيف وسليمان بن سحمان بأن الدخول تحت الحماية البريطانية ردة عن الإسلام[16]- فكان الأخوان بفطرتهم أصدق إيمانا، وأبعد نظرا، وأقدر على إدراك الخطر المحدق بهم، وبدولتهم التي أقاموها بسيوفهم ودمائهم، من بعض علماء نجد الذين تحالفوا مع السلطة ليجنوا - من تضحيات الأخوان وجهادهم - ثروة وجاها ونفوذا لم يكن لهم يد في صناعته، مقابل توظيف الدين والفتوى في خدمة السلطة وأهوائها وخدمة الاحتلال من ورائها!
لقد كشفت الرسائل التي بين علماء نجد وابن سعود بخصوص الخلاف بينه وبين الأخوان أن الأزمة أعمق من خلاف فقهي أو سياسي، بل هي أزمة أخلاقية واجتماعية كانت تفتك بالمجتمع، حيث كانت تتحكم وتؤثر فيه الفئوية والعصبية الجاهلية، أكثر من تأثير الدين وقيمه، فقد تنصل بعض علماء نجد الذين كانوا يحرضون الأخوان على مواجهة ابن سعود والتصدي له وتخلوا عنهم، وكان الأخوان يعظمونهم ويرجعون إلى أقوالهم، ولم يكتف العلماء بالتخلي عن الأخوان فقط، بل حرضوا على قمعهم، وتبرءوا منهم، وكان أشد ذلك خطرا هو نظرة الاحتقار والازدراء القائمة على أساس فئوي وعنصري، تلك النظرة التي كان ينظر بها هؤلاء العلماء لأتباعهم من الأخوان كما كشفته الوثائق والرسائل!
فقد جاء في رسالة الشيخ عبد الله العنقري مفتي الأخوان إلى ابن سعود، وكان العنقري من كبار علماء الأخوان الذي يرجع الأخوان إلى قوله خاصة زعمائهم كفيصل الدويش وابن حميد، وكان قاضيا في الأرطاوية، وكان عبد العزيز قد اطلع على دوره في تهييج الأخوان ضده، فأرسل العنقري رسالة سنة 1925م يتنصل فيها من ذلك ويقول (من قبل كتابنا لابن حميد فأنت تعلم أدام الله وجودك أني صاد في جلاجل ولا أدري عن كثير من الأخبار...أما الدين فالفضل لله ثم لكم علينا وعلى أهل نجد، وأما الدنيا فأنا بالخصوص معروفكم علي كبير، ولا أنا بشيء إلا بالله ثم بكم، وأما البدو فلا عندي أبغض منهم ومخالطتهم... ومن طرف مجيء الدويش إلي فوالله إن أروع الروعات يوم جاءني ولكن أنا رجل أستحي.. ونحن لسنا في شك من طرفكم حتى نطاوع خفخاف بدو لا معهم علم ولا دين ولا أدب، ويوم جاءنا ابن الدويش وبخناه وأبوه كذلك.. وعلى كل فالمرجو المسامحة من جنابكم إن كان هناك شيء غارنا، لأن الإنسان محل الزلل)![17]
لقد دفع الأخوان ثمن صدقهم وإخلاصهم دماءهم وأموالهم ظنا منهم أنهم يقيمون مجتمع الإيمان والأخوة والإسلام الذي كانوا يتطلعون إلى إقامته في جزيرة العرب، فكانت المفاجأة أن تحالف علماؤهم والسلطة وبريطانيا على القضاء عليهم باسم الإسلام والتوحيد والسنة!
الإعلان عن قيام المملكة العربية السعودية:
وبعد القضاء على الأخوان وعلى مشروعهم السياسي، تم الإعلان مباشرة عن قيام مشروع (المملكة العربية السعودية)، فلم يعد ابن سعود إماما كما كان قبل القضاء على الأخوان سنة 1930م، بل صار ملكا، بعد أن طلب عبد العزيز بإلحاح من بيرسي كوكس أن يقنع حكومة الهند البريطانية بتسميته بذلك منذ سنة 1920م، كما في الوثائق البريطانية[18]، وظلت بريطانيا تتحفظ على لقب ملك، بينما سمحت له بلقب سلطان نجد والحجاز، ثم بعد القضاء على حركة الأخوان وافقت بريطانيا على تسميته ملكا، أسوة بالملكية الصورية التي سمحت بها بريطانيا قبل ذلك للشريف فيصل في العراق، وللشريف عبد الله في الأردن، مع كونهم تحت الاحتلال البريطاني، وتم الاستعاضة عن مشروع الشريف حسين الوحدوي(المملكة العربية المتحدة)، بمشروع التجزئة (المملكة العربية السعودية) ليقوم المجتمع السعودي بعد ذلك على أساس طبقي وفئوي يقوم على التمييز العنصري في كل شئون الدولة والمجتمع، بما في ذلك شئون الدين نفسه، التي سيقتصر الأمر في الإشراف عليها وإدارتها على فئة اجتماعية محددة، حيث أصبحت مهمة فهم الدين وتفسيره شأنا خاصا بأسر دينية نجدية محددة بصورة كهنوتية، يتحالف فيها السياسي بالديني بشكل غير مسبوق في تاريخ الإسلام!
لقد انتهى بالقضاء على حركة الأخوان في نجد كل خطر يمكن أن يهدد الوجود الاستعماري البريطاني في الخليج والجزيرة العربية، وستظل المنطقة تحت الاحتلال البريطاني حتى الحرب العالمية الثانية وضعف الإمبراطورية البريطانية، حيث سيحل الاحتلال الأمريكي شيئا فشيئا مكانها في المنطقة وسيرث مستعمراتها، وبتحالف أيضا بين الاحتلال الأجنبي والسلطة ورجال الدين، وستدفع شعوب الخليج العربي والجزيرة العربية حريتها واستقلالها ثمنا لهذا التحالف المشؤوم وإلى اليوم!
وما زلنا مع (الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية) وللحديث بقية!
ملحوظة : ما سبق سرده من أحداث تاريخية عن الأخوان عامته معروف ومتواتر بالرواية الشفهية، ومازال بعض كبار السن ممن عايشوا تلك الأحداث أحياء، وسجل كثير منهم شهادتهم، إلا أنني اقتصرت على المصادر المحايدة خاصة للكتاب الغربيين الذين كانت لدولهم وما تزال يد طولى في ما يجري في المنطقة!
[1] الكويت وجاراتها لدكسون 1/330 .
[2] يحاول دكسون هنا أن يخفي جرائم الطيران البريطاني ولا يعترف بها صراحة فيقول (اجراءات اتخذت) دون أن يصرح بأنه قصفهم بالقنابل وقتل النساء والأطفال في خيامهم، ويزعم بأن قصفهم في الجهراء كان بهدف تجميعهم في مكان واحد لا بهدف القضاء عليهم!
[3] الكويت وجاراتها لدكسون 1/330-334 .
[4] الطريق إلى مكة (إلى الإسلام) ص 238 .
[5] الأخوان السعوديون لجون س 239-244 بتصرف واختصار.
[6] الكويت وجاراتها لدكسون 1/337-342 .
[7] الأخوان السعوديون لجون س 246 .
[8] الكويت وجاراتها لدكسون 1/342-344 .
[9] الأخوان السعوديون لجون س 252-254.
[10] عبد العزيز وبريطانيا 302 .
[11] عبد العزيز وبريطانيا 304 .
[12] عبد العزيز وبريطانيا 321، وجزيرة العرب لجان بيربي 58 .
[13] الكويت وجاراتها لدكسون 1/142 .
[14] وانظر رسالة عبد العزيز بن فيصل الدويش لعبد العزيز بن سعود بخصوص إرسال أبنائه لبريطانيا، في كتاب (لسراة الليل ..الملك عبد العزيز دراسة وثائقية) لعبد العزيز التويجري ط1 ص 361
[16] الدرر السنية 10/435 .
[17] انظر الرسالة في كتاب (لسراة الليل ..الملك عبد العزيز دراسة وثائقية) لعبد العزيز التويجري ط1 ص 325 .
[18] انظر كتاب نجدة فتحي (الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية) 5/409 و414 و454 وستجد تفاصيل ذلك في الكتاب الوثائقي الموسوعي للمؤلف (الدويلات الصليبية في الخليج والجزيرة العربية).