بقلم د. حاكم المطيري
Ommah 2000@yahoo.com
(الثورة العربية والاحتلال الصليبي للحجاز ومؤتمر الكويت سنة 1916م)
ملحوظة هامة : قراءة التعليقات في الهامش بالأسفل قد تكون بأهمية قراءة المقال نفسه!
في الوقت التي كانت جيوش الحلفاء تجر أذيال الخيبة والهزيمة، بعد معركة غاليبولي على يد الجيش العثماني، وفي أواخر سنة 1915م، رجع مارك سايكس إلى لندن يحمل خبرا (أكثر مدعاة للذهول في ذلك الحين، وأهميته أكثر ديمومة، إنه نبأ شاب عربي غامض ادعى أمام سايكس أنه وأصدقاءه يستطيعون مساعدة بريطانيا على كسب الحرب، كان اسمه محمد شريف الفاروقي، لا شيء كان معروفا عن الفاروقي آنذاك، وقليل ما هو معروف عنه ألآن) [1].
مشروع المملكة العربية المتحدة :
لقد كان الفاروقي وسيط المنظمات العربية السرية والشريف حسين أمير مكة، الذي عرض على بريطانيا وقوف العرب معها، مقابل الاعتراف بحقهم في إقامة دولة عربية تضم الجزء العربي الآسيوي من الدولة العثمانية، أي الشام، والعراق، والجزيرة العربية، وكان الشريف قد اتفق مع المندوب السامي البريطاني في مصر هنري مكماهون منذ بداية الحرب العالمية في خريف 1914م أن يلزم الحياد كقوة روحية دينية دون أن يقف مع بريطانيا ماديا، فالمهم أن لا يستخدم مكانته الروحية ضد بريطانيا، غير أن موقف بريطانيا تغير بعد هزيمتها في غاليبولي، وبعد لقاء الفاروقي الذي أكد للبريطانيين أنه يمثل منظمات عربية سرية خلف خطوط الجيش العثماني، وأنها قادرة على الثورة ضد الدولة العثمانية، إذا ضمنت بريطانيا إقامة مملكة عربية واحدة كما طلب الشريف حسين، وقد اقتنع البريطانيون بأن الثورة العربية هي الأمل الوحيد لإنقاذ جيوش الحلفاء التي كانت تقاتل في سبيل إنقاذ أرواح جنودها، عند أطراف جزيرة غاليبولي في مضيق الدردنيل[2].
لقد كان النصر حليف الجيش العثماني مدة سنتين من اندلاع الحرب العالمية الأولى وكما يقول فرومكين: (كان أداء الدولة العثمانية في زمن الحرب ناجحا نجاحا مدهشا، فقد كانت تحارب على ثلاث جبهات، فهزمت بريطانيا وفرنسا في الفترة ما بين 1915 إلى 1916م، وسحقت قوات الهند البريطانية الزاحفة في الشرق - في العراق - وأوقفت قوات الغزو الروسي في الشمال، وكان الأداء العثماني خلف خطوط العدو أيضا مثيرا للإعجاب) [3].
لقد كانت ثورة الشريف حسين، وخيانة العرب في الجزيرة العربية، في يونيو 6/ 1916م، هي التي ستؤدي إلى قلب الموقف، وإلى كسب بريطانيا الحرب العالمية الأولى، وإنقاذ الحلفاء من هزيمة كانت قد تحققت على يد الجيوش العثمانية!
بداية الثورة العربية والاحتلال البريطاني للحجاز :
لقد بدأ الشريف حسين بثورته العربية بعد أن طلب من الدولة العثمانية نصف مليون جنيه من الذهب، لتجهيز جيش لمواجهة البريطانيين، وحماية الحجاز، وفي نفس الوقت استلم دفعة من بريطانيا، لتجهيز الثورة على الخلافة العثمانية، وبعد إعلانه للثورة في يونيو 1916م، طلب من بريطانيا حماية سواحل الحجاز، لمنع أي إنزال عثماني بحري على سواحل البحر الأحمر، إلا أنه لم يتعاطف معه أحد من العرب (فلم تنضم إليه أي وحدات عربية في الجيش العثماني، ولا انضم إليه، ولا إلى الحلفاء أية شخصية سياسية أو عسكرية في الدولة العثمانية، وكانت قوات الحسين مؤلفة من بضعة آلاف من رجال القبائل، الذين يحصلون على دعم مالي من بريطانيا، وهجماتهم على الحاميات العثمانية في مكة، والطائف، والمدينة، وجدة، قد صدت، ولم يكن هناك أي تأييد منظور للثورة في أي جزء من العالم العربي، وقد هبت السفن والطائرات البريطانية لنجدتها، فهاجمت جدة، وما أن ضمن البريطانيون السيطرة على الميناء، حتى أنزلوا جنودا مسلمين من الجيش المصري، بدءوا تقدمهم إلى الداخل لمساعدة الشريف في السيطرة على مكة والمدينة، وهكذا سيطر الأسطول البريطاني على ساحل شبه الجزيرة على البحر الأحمر، وأقام وجودا بريطانيا على البر في الموانئ)[4].
بل حتى المنظمات السرية العربية في الشام والعراق، التي كان يراهن الشريف حسين على تأييدها للثورة (كانت تعارض شديد المعارضة مخططات بريطانيا تجاه الشرق الأوسط، وكانت عازمة على مساندة الدولة العثمانية لمواجهة الخطر الأوربي، وظلت وفية لما عزمت له، لقد فضلت الحكم الذاتي، أو الاستقلال إذا أمكن تحقيقه، وإلا فإنها تفضل حكم المسلمين الأتراك على حكم المسيحيين) [5].
لقد كان القوميون العرب يختلفون عن القوميين الغربيين آنذاك (ومع أن هؤلاء كثيرا ما يوصفون بأنهم قوميون، إلا أنهم لم يطالبوا بالاستقلال، بل بقدر أكبر من المشاركة، ومن الحكم المحلي، وكانوا راضين إلى حد كبير بأن يكون الحكم إلى حد كبير حكما تركيا، لأن الأتراك مسلمون، وهم خلافا لما كان عليه القوميون الأوربيون، أناس معتقداتهم قائمة في إطار ديني، أكثر مما هي قائمة في إطار علماني، فقد كانوا يعيشون ضمن أسوار مدينة الإسلام، ولا يتطابق عيشهم مع طريقة عيش أوربا ضمن العالم المسيحي منذ مطلع القرون الوسطى، ذلك أنه على غرار المدن التي شيدت في العالم العربي في القرون الوسطى، كانت حياة المسلمين تقع ضمن دائرة، نقطة المركز فيها هي المسجد، ولم يكونوا يمثلون جماعة أثنية) [6].
لقد أنفقت بريطانيا على ثورة الشريف حسين العربية من أجل إنجاحها 11 مليون جنيه إسترليني، أي ما يقارب أربعمائة مليون دولار بسعر العملة الحالي، ولم تستطع الثورة تحقيق أي تقدم عسكري لولا الطيران والبحرية البريطانية، لقد كانت القنابل، والقذائف البريطانية هي التي أسقطت جدة، وقد كتب ريجينالد وينغيت - الذي خلف كيتشنر ثم مكماهون في منصب الحاكم العام البريطاني في مصر – قائلا (لقد نظر المسلمون عامة حتى الآن إلى ثورة الحجاز، وإلى نصيبنا فيها، بعين الريبة والكراهية، وإنه لأمر هام ألا نسمح بأن يبدو الحسين فاشلا لئلا تسوء سمعة بريطانيا)[7].
مؤتمر القبائل في الكويت للإعلان عن تأييد بريطانيا والوقوف معها:
بعد أن رأى العالم بأنه لم يقف أحد في العالمين العربي والإسلامي مع ثورة الشريف، بل نظر المسلمون إليها على أنها خيانة للإسلام، قامت بريطانيا بترتيب مؤتمر عربي إعلامي لشد أزر الشريف، وإثبات تأييد العرب له، وعقدت الحكومة البريطانية اجتماعا موسعا في الكويت - من أجل دعم ثورة الشريف حسين التي لم يتعاطف معها أحد - بتاريخ 23/ 11/1916م، ودعت إليه جابر بن مبارك، وابن سعود، وخزعل، ومائة شيخ من شيوخ عشائر قبيلة مطير، والظفير، والعجمان، وغيرهم من شيوخ القبائل، وترأس المؤتمر برسي كوكس كبير الضباط البريطانيين في العراق، الذي أعلن في المؤتمر عن نيات بريطانيا الحسنة تجاه العرب، وأنها ترغب في استعادة مجدهم، وتوحيدهم وجمع كلمتهم، ليكونوا كتلة واحدة[8]، ليستطيعوا صد أي هجوم خارجي على بلادهم، وضرورة أن تعود الخلافة للعرب، ووجه كلمته لابن سعود قائلا (إن جلالة ملك بريطانيا يستحسن إسناد منصب الخلافة إليك ويساعدك في تحقيقه)، وقد تحدث ابن سعود في كلمة مطولة عن عداوته للدولة العثمانية التي فرقت العرب، وتعهد بتحالفه مع بريطانيا التي تسعى لحمايتهم وتوحيدهم، كما أكد للحضور بأن الشريف حسين هو الأصلح ليكون خليفة على العرب، وقد أثارت كلمته إعجاب المسئولين البريطانيين لما أبداه ابن سعود من حماس للتعاون معهم ودعمهم في حربهم ضد الخلافة العثمانية! بينما لم يزد جابر في كلمته على قوله بأنه (واحد من العرب ولن يخالف ما يتفقون عليه)، وفي رواية مؤرخ الكويت الرشيد (أما جابر فقال قولا أكبره الناس لأجله قال: نحن مسلمون، فإذا ما أجمع المسلمون على شخص، فنحن له طائعون)، وقد خرج المؤتمرون بإعلان دعمهم المطلق لبريطانيا ضد الدولة العثمانية، ووجهوا برسائل التأييد للشريف حسين بإيعاز من البريطانيين، وقد تم في هذا المؤتمر تقليد جابر بن مبارك وابن سعود وسام فارس الهند البريطاني للخدمات الجليلة، وهو أعلى وسام يقدم لحلفاء بريطانيا، وقد بعث ابن سعود وجابر المبارك ببرقية إلى نائب ملك بريطانيا في الهند يشكراه على الوسامين جاء فيها: (حضرة صاحب السعادة حاكم الهند العام ونائب جلالة الملك المعظم والإمبراطور، نشكر عواطفكم الكريمة بتنازلكم بالتهنئة على النياشين السامية الشأن، التي تعطف بها صاحب الجلالة الملك المعظم على المخلصين الصادقين، إننا نقبل هذه التعطفات بمزيد الشكر والامتنان، ونرجوا أن نكون دائما كاسبين رضاكم بالخدمة الخالصة، وملحوظين بعين عنايتكم الجليلة)، وقد دعا كوكس بعد هذا المؤتمر ابن سعود لزيارة البصرة[9].
لقد ظهرت فكرة عقد هذا المؤتمر القبلي في الكويت في تشرين 1915 عندما أرسل الوزير لبريطاني السير شمبرلن إلى نائب الملك في الهند يأمره بالاهتمام لكسب ولاء شيوخ العرب وجاء فيه (إن العرب مترددون وقد يقفون مع الأتراك إذا نحن لم نبذل الوسائط الفعالة في الإغراء)، وفي نهاية 1916 وجه كوكس دعوة إلى ابن سعود وابن صباح وإلى أكثر من مائة شيخ من شيوخ العشائر العربية وضرب لهم موعدا في الكويت[10].
(وقد عقد هذا المؤتمر في 23 نوفمبر سنة 1916م وحضره بجانب ابن سعود وجابر الصباح والشيخ خزعل أكثر من مائة من رؤساء العشائر العربية في الإحساء وجنوب العراق) [11].
وقد ورد في الوثائق البريطانية ذكر شيوخ قبيلة مطير والعجمان والظفير وغيرهم ممن حضروا ذلك المؤتمر بدعوة من كوكس، مما يؤكد أن بريطانيا بتوجيهها الدعوة لهم مباشرة كانت تتعامل معهم في هذه الفترة، كما كان الحال في فترة الحكم العثماني الذي يتعامل مع القبائل بشكل مستقل عن شيوخ الموانئ والمدن، فقد بعث الكرنل ويلسن المندوب البريطاني في جدة بتاريخ 26/11/1916 كتابا إلى الشريف حسين في مكة يخبره بالاجتماع الذي تم في الكويت ورد فيه:
(تسلمت برقية من المقيم السياسي البريطاني في الخليج العربي السير برسي كوكس يخبر فيها أنه عقد اجتماعا في الكويت حضره ابن سعود وشيخا الكويت والمحمرة، وحوالي مائتين من رؤساء عشائر شمر والظفير ..الخ وقد ألقى هؤلاء الشيوخ خطبا ضد تركيا، وشكروا بريطانيا على ما أظهرته للعرب دائما من مساعدة وعطف....الخ) [12].
كما جاء في تقرير مطول كتبه برسي كوكس نفسه بتاريخ 9/1/1917 تفصيلا عن المؤتمر وما دار فيه وذكر حضور شيوخ عشائر الأسلم من شمر، وشيوخ الظفير، وشيوخ مطير ..وأنه تمت مراسلة شيوخ عنزة فهد الهذال وابن مهيد وجزاع بن مجلاد شيخ الدهامشة وغيرهم للانضمام إلى التحالف الذي أسفر عنه مؤتمر الكويت.. الخ.[13]
وقد نجحت بريطانيا في هذا المؤتمر - الذي حضره مائتا شيخ من شيوخ القبائل على قدم المساواة مع ابن سعود وابن صباح - بتشكيل أكبر تحالف قبلي في الجهة الشرقية من الجزيرة العربية، لمواجهة الدولة العثمانية - كما نجحت في الوقت نفسه في الإعداد للثورة العربية مع الشريف حسين وقبائل الحجاز، في الجهة الغربية من الجزيرة العربية، ودعم الجميع ماديا وعسكريا - والذي سيكون لهما أكبر الأثر في ترسيخ الوجود الاستعماري البريطاني في الخليج والجزيرة العربية[14].
لقد تبنت بريطانيا فكرة استقلال العرب عن الدولة العثمانية، تحت شعار القومية العربية، ووعدتهم بالحماية والمساعدة على تحقيق هذا الهدف، بإقامة (المملكة العربية المتحدة)، التي تضم الجزيرة العربية، والشام، والعراق، أي الجزء العربي الآسيوي من الدولة العثمانية، كما جاء في تعهدات هنري مكماهون الذي (استخدم عن قصد كلمات شديدة الالتواء، قصد منها ألا يلزم نفسه بشيء) [15].
تلك التعهدات التي قال عنها نائب الملك في الهند: (أخشى أن يكون المندوب السامي قد حصل على انطباع بأني من المؤمنين بإنشاء مملكة عربية موحدة برئاسة الشريف، هذا التفكير بعيد كل البعد عن آرائي الحقيقية، ولكن اعتقد أنه من المناسب لنا جميعا أن نعطي قادة الحركة العربية هذا الانطباع) [16].
مشروع الخلافة العربية تحت السيادة البريطانية:
لقد وعد بريطانيا الشريف حسين ليس فقد بإقامة (المملكة العربية المتحدة)، بل وبدعم ونقل الخلافة إلى عربي صميم من آل بيت النبي محمد!
وعلى حد قول فرومكين في كتابه ولادة الشرق: (لقد كانت إعادة الخلافة إلى شبه الجزيرة العربية حيث مولد محمد هي استراتيجية كيتشنر التي رسمها استعدادا للمنافسة مع روسيا التي ستتبع انتهاء الحرب ضد ألمانيا، ولكن أنى للعرب الذين كانوا يعيشون في الإطار السياسي لشبه جزيرة العرب أن يفهموا ما يدور في ذهن كيتشنر..... بل كان الراجح ألا يدركوا أن كيتشنر ووينغيت وكلايتون كانوا قاصرين عن فهم طبيعة الخلافة، إن الانشقاق بين السلطتين الدينية والدنيوية الذي وضع البابا في مواجهة الإمبراطور في أوربا القرون الوسطى ليس له وجود في العالم الإسلامي، لقد أخطئوا في اعتقادهم أن الخليفة يمكن أن يكون زعيما روحيا فقط، ذلك أن الحياة كلها في الإسلام بما فيها الحكومة والسياسة تقع في نطاق حكم الشريعة بحيث أن المسلمين السنة، والسلطان العثماني، وأمير مكة منهم، يرون أن سلطة الخليفة بصفته حامي الشريعة هي سلطة شاملة، إن الخليفة حاكم وقائد في المعركة، مثلما هو إمام في الصلاة، وكانت خطة كيتشنر تدعو ابن سعود زعيم الطائفة الوهابية، إلى الاعتراف بالسلطة الروحية لحاكم مكة السني) [17].
لقد كانت بريطانيا - من خلال رجالها في المنطقة - تخطط لما بعد الحرب، وكانت أخشى ما تخشاه وقوف الخليفة العثماني - بما يملكه من سيطرة روحية على العالم الإسلامي - إلى صف ألمانيا أو روسيا، فيشكل بذلك خطرا على مصالح بريطانيا في الهند ومصر، حيث الشعوب الإسلامية الأكثر عددا تحت الحكم البريطاني، فعملت بريطانيا (ليكون مرشحها هو الخليفة، وبما أن النبي محمدا ولد في شبه الجزيرة العربية فقد شجعت الرأي القائل بأن الخليفة يجب أن يكون من شبه الجزيرة العربية، وقد رأت ميزة ذلك في سهولة سيطرة الأسطول البريطاني على ساحل شبه الجزيرة العربية، وبذلك تستطيع بريطانيا أن تعزل الخليفة عن نفوذ منافسيها الأوربيين، وأنه ما إن تتمكن من تنصيب خليفة داخل الجزيرة العربية حتى تتمكن من التحكم بالإسلام، وأن أمير مكة مرشح عربي للخلافة) [18].
وقد نجحت بريطانيا في مؤتمرها في الكويت لترويج هذا الرأي عن طريق ابن سعود الذي كان من أشد الحاضرين حماسة لهذه الخطة البريطانية.
لقد كانت قضية حيوية بالنسبة لبريطانيا البحث في (إمكانية حلول زعيم من شبه الجزيرة العربية صديق لبريطانيا محل السلطان العثماني في مركز خليفة المسلمين... ولما كنت الأماكن المقدسة في مكة والمدينة ضمن الحجاز، فإن من يحكم الحجاز هو في وضع قوي للحفاظ على حق المسلمين البريطانيين في مواصلة أداء الحج)[19].
لقد كان مخطط تحريك القبائل في الجزيرة العربية وثورتها ضد الدولة العثمانية من اختراع ريجينالد وينغيت، الذي طرح الفكرة سنة 1914م - عندما كان حاكما عاما للسودان، قبل أن يحل محل مكماهون في مصر كمندوب سامي لبريطانيا في مصر وحاكم عام فيها - وقد نجح توماس لورنس في إقناعه باستخدام قبائل الشريف حسين كقوات غير نظامية، في حرب عصابات، تحت قيادة بريطانية، ويكون هو ضابط الاتصال الذي سيتعامل معه فيصل بن الحسين، الذي سيقود تلك القوات، التي فشلت في تحقيق أي نصر عسكري، مع ما دفعته بريطانيا لها من الذهب والأسلحة، وفشلت في إسقاط المدينة المنورة، التي كانت تحميها حامية عثمانية، غير أن القبائل بقيادة فيصل، وتوجيه الضباط البريطانيين، نجحت في قطع سكك الحديد التي تربط الشام بالحجاز، لقطع المدد عن حامية المدينة ومحاصرتها. [20]
لقد نجحت الخلافة العثمانية في الصمود في وجه أعدائها ما بين خريف سنة 1916م، إلى خريف 1917م، بينما انهارت جميع الحكومات في دول الحلفاء، في بريطانيا، وروسيا، وفرنسا، جراء الهزائم التي تعرضت لها قواتها، في كل مكان، على يد الجيش العثماني.[21]
التيار السياسي الصهيو - صليبي وقيادته للحملة الصليبية:
لقد أصبح لويد جورج رئيسا للوزراء في لندن، وكان يؤمن بأن الشرق سيكون السبب في كسب الحرب، وكان ينطلق من كره شديد للدولة العثمانية، ويتبنى طموحات الصهيونية في فلسطين، وكان يتوقع قيام وطن قومي يهودي فيها، تحت حكم بريطانيا، لقد كان أول رئيس وزراء بريطاني يجعل من الشرق الأوسط غاية وهدفا في حد ذاته، لا مجرد طريق ووسيلة لحماية مصالح بريطانيا في الهند[22].
لقد كانت السياسة الاستعمارية الإمبريالية الطاغية قد بلغت ذروتها في هذه الفترة، وقد صاحبها فساد سياسي عريض في كل الحكومات الغربية تمثل في (الفساد المالي، ومضاربات بالعقارات، وبامتيازات السكك الحديدية، وامتيازات الكابل البحري للاتصالات والبرقية) وقد وصف تشرشل ما كان يجري في فرنسا من فساد في استغلال السلطة بأنه (لا مثيل له إلا في عالم العصابات في شيكاغو)[23].
لقد كانت تلك الحكومات التي تعاني كل ذلك الفساد هي التي تخطط للسيطرة على الخلافة العثمانية، التي كانت عاصمتها اسطنبول قد خلبت ألباب السياسيين الغربيين بعظمتها، حتى قال تشرشل حين شن حملته العسكرية في غاليبولي :
(هذه واحدة من أعظم الحملات العسكرية في التاريخ، فكروا بما تمثله القسطنطينية شرقا، إنها أهم من لندن، وباريس، وبرلين، مجتمعة في مدينة واحدة، فكروا بسيطرتها على الشرق، وفكروا بما يعنيه سقوطها)[24].
لقد صمدت الدولة العثمانية في مواجهة كل الظروف القاسية المعاكسة، وقد تم إسقاط كل الحكومات التي أدخلت دول الحلفاء في الحرب ضد الدولة العثمانية، فسقطت حكومة اسكويث في بريطانيا، وسقطت حكومة رينه فيفياني في فرنسا، وحكومة القيصر في روسيا، وقامت الثورة البلشفية فيها سنة 1917م، وخرجت بذلك روسيا من الحلفاء، ورفضت الاشتراك في الحرب، وقد كان لصمود الدولة العثمانية، وصمود جيشها في مضيق الدردنيل، أكبر الأثر في سقوط تلك الحكومات[25].
لقد رفضت الولايات المتحدة آنذاك دخول الحرب مع الحلفاء، وقد حذر الرئيس الأمريكي ويلسون - الذي كان قبل ذلك يؤيد مسح تركيا من الخريطة، وكان همه في الشرق الأوسط منصبا على دعم الإرساليات التبشيرية في المنطقة، لنزعته المسيحية الدينية - من خطورة أهداف الحرب الإمبريالية الاستعمارية، وعندما اطلع على اتفاقية سايكس بيكو، وغيرها من الاتفاقيات السرية، التي تهدف إلى تقسيم الدولة العثمانية بين الحلفاء، قال رافضا لها (هذه خطة كلها سوء، وهذا ما قلته لبلفور، إنهم يجعلون من الشرق الأوسط مكانا يستولد حربا في المستقبل)[26].
وقد جاء لويد جورج - الذي كان محاميا لدى الحركة الصهيونية ولدى مؤسسها تيودور هرتزل في بريطانيا سنة 1903م - إلى الحكومة وهو يتطلع إلى احتلال فلسطين على وجه الخصوص، وإقامة وطن قومي لليهود فيها، لقد(تربى على دراسة تعاليم الكتاب المقدس)، وكان يطمح إلى إعادة فلسطين إلى الحياة من جديد وفق ما ورد عنها في الكتاب المقدس، وكان على معرفة تامة بالاتجاهات المسيحية الإنجيلية، التي تدعو إلى تقدم الصفوف من أجل إعادة فلسطين لليهود، وهذه الاتجاهات هي التي شكلت عقلية لويد جورج وعقيدته، كواحد من أبرز الصهاينة المسيحيين في بريطانيا، وهو الاتجاه الأكثر شيوعا بين الطبقات العليا في المجتمع البريطاني، الذين يؤمنون بأن المسيح المخلص لن يعود إلا إذا عاد اليهود إلى فلسطين، وهو ما ظلت الدولة العثمانية ترفضه بكل شدة، حتى وهي في أضعف فتراتها التاريخية، كما سيفتح إعادة اليهود إلى فلسطين الطريق لبريطانيا للتدخل المباشر في شئون الدولة العثمانية، بدعوى حماية اليهود، كما تفعل روسيا مع المسيحيين الأرثوذكس، وفرنسا مع الطائفة المارونية في لبنان، كما عزز هذه السياسة البريطانية والتطلعات الصهيو-مسيحية تحالفها مع التيارات الليبرالية في بريطانيا التي كانت تجد الدعم من اليهود، لقد (أراد لويد جورج شأنه شأن وودرو ويلسون، الذي كان اهتمامه في الشرق الأوسط موجها إلى المدارس والإرساليات البروتستانتية الأمريكية، أن تتولى بلاده ما كان يعتبره عمل الرب في المنطقة)، وهو ما أدى إلى إعلان وعد بلفور سنة 1917م بإقامة وطن قومي يهودي في فلسطين[27].
وهكذا نجحت بريطانيا في تحريك القوميتين العربية واليهودية لمواجهة الدولة العثمانية في الحرب العالمية، وكما قامت بدعم العرب ماليا وعسكريا للثورة، عملت أيضا على تشكيل كتيبة يهودية في الجيش البريطاني من أجل تحقيق أهدافهما.
لقد كانت الحرب على الدولة العثمانية بكل أبعادها حربا صليبية، توجهها العقيدة المسيحية المتطرفة في ميولها الصهيونية، كما عبر عن ذلك ليو أيميري مساعد أمين السر في مجلس الوزراء البريطاني الحربي حين قال:
(فيما عدا الولايات المتحدة، ما من بلد سوى انجلترا، الشغوفة بالكتاب المقدس، والتي يغلب الكتاب المقدس على تفكيرها، يعتبر دائم الرغبة في عودة اليهود إلى وطنهم القديم)[28].
لقد كان لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني الجديد يؤمن بأنه(سيأتي اليوم الذي تتحقق فيه كلمات الأنبياء ويعود شعب إسرائيل إلى أرضه)، وكان رجال حكومته يؤمنون بأنه لا تعارض بين طموحات القوميتين العربية واليهودية، وأن فلسطين، والعراق، والجزيرة العربية، يجب أن تظل ضمن النظام الإمبراطوري البريطاني وتحت سيطرته، حتى بعد انتهاء الانتداب، وبعد استقلالها[29].
لقد كانت رؤية سايكس للمستقبل تقوم على تحقق (تفاهم بريطاني فرنسي بالتحالف مع العرب واليهود والأرمن، يجعل الإسلام عديم الأذى) [30].
لقد اقترح سايكس على حكومته دعم إثارة القبائل العربية خلف خطوط الدولة العثمانية، ووافقت بشرط عدم الالتزام للعرب بأي تعهدات قد تضر بالمصالح البريطانية[31].
وقد تم إقامة حفل في لندن، نظمه الاتحاد الصهيوني، بعد الإعلان عن وعد بلفور بثلاثة أيام، حضرته وفود عربية، ويهودية، وأرمينية، تحدث فيه الجميع عن ضرورة مضي الجميع قدما في مساعدة بعضهم بعضا، ضد الدولة العثمانية، وقد ساد الحفل (روح التوراة، والاحتفاء والإيمان بعاطفة حماسية بقرب تحقيق نبوءة قديمة)، فقد كانت النبوءة التوراتية هي الدافع الأول التي دفعت بريطانيا لدعم إقامة الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين، لقد صدر وعد بلفور بتشاور مع أمريكا، وفرنسا، وإيطاليا، والفاتيكان، ووجد ترحيبا لدى الرأي العام الغربي كافة[32].
وما زالنا مع مأساة (الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية)!
[1] ولادة الشرق 195 .
[2] ولادة الشرق 196-200 .
[3] ولادة الشرق 239 .
[4] ولادة الشرق 246-247 . وما زالت المأساة تتكرر، فقد كانت بريطانيا بالأمس تحتل السودان بالجيش المصري، وتحتل الحجاز بالجيش المصري، واليوم تقوم الجيوش العربية بتسهيل مهمات دخول الجيوش الصليبية، وتفتح المطارات لها، وتزودها بكل المؤون والوقود، وتحميها من أي مقاومة شعبية، وتجند بريطانيا وأمريكا من الأفغان ومن العراقيين من يقاتلون نيابة عنها ليحتل الصليبيون أرضهم ثم يعلنوا على العالم لقد تحررنا!
[5] ولادة الشرق 248 .
[6] ولادة الشرق 113 .
[7] ولادة الشرق 250-151 .
[8] وقارن بين هذا المؤتمر ومن وراءه وما قيل فيه والشعارات التي رفعها والأهداف التي أعلن عنها، ومؤتمر المعارضة الأفغانية سنة 2001م في ألمانيا، والمعارضة العراقية سنة 2002م في لندن، وما قيل فيهما، ومن كان يرأسهما، ويرتب شئونهما، لتعرف أن المسرحية نفسها ما زالت تعرض مشاهدها في العالم الإسلامي وإن تبدل أبطالها ورجالها!
[9] العلاقات بين الكويت ونجد 184، وتاريخ الكويت للرشيد 231، ولخزعل 3/105 .
[10] تاريخ الكويت السياسي لخزعل 3/33 .
[11] تاريخ الخليج العربي 3/38 .
[12] الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية2/779 و794 و801 .
[13] الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية 3/649و651-652 .
[14] وتأمل كيف نجحت بريطانيا وأمريكا في تشكيل تحالف قبائلي وسياسي لاحتلال أفغانستان والعراق فما أشبه اليوم بالبارحة!
[15] ولادة الشرق 201 .
[16] ولادة الشرق 207 . تأمل في هذه العبارة فهي توجز لك الطريقة الاستعمارية الصليبية في قطع الوعود وعقد المعاهدات ثم التنصل منها كما حذر منهم القرآن في قوله تعالى{كلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم}!
[17] ولادة الشرق لديفيد فرومكين 115 .
[18] ولادة الشرق 109، وهذا ما تحقق لها فعلا بعد ذلك بإقامة حكم هاشمي في مكة تحت النفوذ البريطاني وما تلاه من ترتيبات لبقاء هذا النفوذ!
[19] ولادة الشرق 112 .
[20] ولادة الشرق 255 .
[21] ولادة الشرق 259.
[22] ولادة الشرق 263 .
[23] ولادة الشرق 265، وهو ما يجري اليوم تماما في العراق وأفغانستان حيث يتنافس نائب الرئيس ديك تشيني وشركته هالي بيرتون وغيره من المسئولين الأمريكان وحلفائهم العرب على نهب ثروات المنطقة تحت شعار تحريرها من الأنظمة الاستبدادية وإقامة أنظمة حكم ديمقراطية!
[24] ولادة الشرق 279 .
[25] ولادة الشرق لديفيد فرومكين 279.
[26] ولادة الشرق 284و288-289 .كان الرئيس الأمريكي يرفض تقاسم الدولة العثمانية في الوقت الذي بدأت الولايات المتحدة تأخذ مكانها على المسرح الدولي دون أن يكون لها نصيب الأسد من الغنيمة، وهو مشابه لموقف فرنسا الرافض اليوم من احتلال بريطانيا والولايات المتحدة للعراق لخسارة شركاتها النفطية، ومع ذلك صرح الرئيس شراك بأن فرنسا لن تقبل بهزيمة جيوش الحلفاء في العراق!
[27] ولادة الشرق لديفيد فرومكين 300- 307 .قارن بين تصريح الرئيس الأمريكي آنذاك وودروا ولسن حول تنفيذه مهمة وعمل الرب في المنطقة، وتصريحات جورج بوش الثاني وإعلانه أنه يقوم بمهمة كلفه بها الرب، وأن حملته ستكون حملة صليبية ليتأكد صحة ما قاله رئيس الوزراء الصهيوني شمعون بيريز في كتابه(معركة السلام)بأن السياسة الأمريكية لا ترتكز ولا تقوم على الدولار بل على التوراة في عهديه القديم والجديد، وكما يعزو الرئيس الأمريكي نيكسون في كتابه(ما وراء السلام) سبب النصر على الشيوعية لكون الولايات المتحدة (دولة تحت خيمة الرب)!
[28] ولادة الشرق 311.
[29] ولادة الشرق 317 ، وهو ما تم فعلا فقد ظلت تحت سيطرة بريطانيا إلى أن سلمت العهدة إلى أمريكا وما تزال التحالفات كما هي والحلفاء والوكلاء للاستعمار في المنطقة كما هم!
[30] ولادة الشرق لفرومكين 326 .وهو ما يجري اليوم على أرض الواقع من خلال التحالف الغربي العربي لفرض ثقافة إسلامية جديدة في مناهج التعليم والإعلام ترفض حق الأمة في مقاومة الاحتلال، تحت ذريعة مكافحة التطرف والإرهاب، حتى جاءت كوندليزا رايس لتعلم العالم الإسلامي قيم الإسلام السامية الداعية للتسامح التي نسيها المسلمون، في الوقت الذي تدك جيوشها المدن في العراق وأفغانستان بشكل همجي إجرامي لا مثيل له في التاريخ الإنساني حتى بلغ ضحايا هذه الحرب الصليبية خمسة ملايين عراقي بين قتيل وجريح ومهجر!
[31] ولادة الشرق 323 .
[32] ولادة الشرق 334 .وانظر كيف اجتمع العرب واليهود في لندن للاحتفال بوعد بلفور، قبل كامب ديفيد وأوسلوا بسبعين سنة!وانظر إلى الروح الصليبية الطاغية لدى الرؤساء الغربيين في تلك الفترة وقارنها بالروح الصليبية التي تحرك بوش وبلير وبيرلسكوني رئيس وزراء إيطاليا وعدائه الصريح للإسلام، في دول تدعي العلمانية وهي ما تزال تخوض حربا صليبية على العالم الإسلامي ليظهر جليا مدى تأثير الدين وسلطانه في العالم الغربي!