(نحو وعي سياسي راشد)
(9)
التنظيم الراشدي
وشروط النصر
بقلم د. حاكم المطيري
إذا كان من شرط استعادة الخلافة الراشدة قيام حكومات راشدة، تحمل على عاتقها تحقيق هذا المهمة التاريخية على مستوى الأمة، فإن إقامة حكومات راشدة في كل قطر يشترط أن يسبقه وجود تنظيمات سياسية راشدة، تسعى لتحقيق هذه المهمة في كل بلد إسلامي، وهو ما يقتضي أن يتنادى المصلحون الراشدون إليها، وأن يتداعوا عليها، ليكملوا النقص، ويسدوا الخلل، ويتداركوا ما فات الحركات الإصلاحية الأخرى، على أساس التكامل والتعاون معها في تحقيق مشروع نهضة الأمة.
وهنا لا بد أن يتوفر لهذه التنظيمات السياسية الراشدة شروط ومواصفات في قياداتها وأنصارها وأحزابها ومشروعها السياسي لتحقيق النصر المنشود.
وقد صف القرآن الجيل الأول من الصحابة رضي الله عنهم بالرشد، فقال تعالى عنهم{ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان ألئك هم الراشدون}، وجعل الرشد غاية الإيمان وثمرة الاستجابة فقال تعالى {فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون}، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم من جاء بعدهم بلزوم هديهم ليرشدوا مثلهم، فقال كما في الحديث الصحيح (إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)، وقال (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)!
فكان الرشد أشرف صفات أهل الإيمان، وهو غاية طاعتهم وعبادتهم واستجابتهم لله ولرسوله، وذلك بأن يتحقق لهم الرشد وهو الاهتداء والاستقامة، وبلوغهم درجة الكمال روحا وعقلا، وصلاح أحوالهم قولا وفعلا، فلا يتحرون إلا الحق، ولا يفعلون إلا الصواب، ولا يريدون إلا الخير، ولا يحبون إلا العدل.
ولهذا كان على الجيل الراشدي الجديد الذي يحمل على عاتقه مهمة إعادتها من جديد (أمة واحدة وخلافة راشدة)، أن يترسم خطاهم فيما هو بسبيله، إذ لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وهذا معنى الاقتداء بهم كما في الحديث(اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر)، فالاقتداء يشمل حتى التشبه بهم وبأحوالهم وأفعالهم وهديهم، وهو أعم من اتباع سننهم!
إن معرفة ذلك كله، ومعرفة أسباب النصر وشروطه التي تحقق لهم بها التمكين والاستخلاف في الأرض، كل ذلك شرط لتحقق النصر للراشدين والمصلحين الجدد، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن غربة ثانية، وعودة للإسلام ثانية فقال (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس)!
وهناك شروط وصفات يجب أن تتوفر لقيادات العمل الراشدي اليوم لتكون أهلا للنصر، كما يجب أن تتوفر في أنصارهم وأشياعهم صفات الرشد التي تجعلهم أهلا للقيام بالمهمة :
أولا : صفات القيادة الراشدة:
وليس المقصود هنا الصفات العامة التي تحققت في أهل الإيمان كما فصل فيها القرآن كالإيمان والتقوى والصلاح، وإنما المراد الصفات الخاصة التي توفرت في الخلفاء الراشدين قبل أن يصبحوا خلفاء، والتي أهلتهم للاستخلاف في الأرض، تلك الصفات التي تحلوا بها قبل أن يكونوا خلفاء، والتي اشتهروا بها منذ آمنوا وأسلموا، إذ كانوا جميعا قادة الدعوة مع النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، إلى أن أقاموا الدولة في المدينة، ثم أقاموا الخلافة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، ومن ينظر في أبرز صفات الخلفاء الراشدين يجدها تتمثل في:
1- صديقية أبي بكر وعقائديته التي لا يطرأ عليها شك، ولا يخالطها ريب، ولا يعيقها تردد، وهو إيمانه المطلق بأن الله حق، والرسول حق، وأن ما جاء عنهما هو الحق، ووعدهما الحق، وهي الصفة التي شهرت أبا بكر حتى لقب بالصديق، كما وصفه القرآن {والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون}، ومنزلة الصديقية هي التالية لمنزلة النبوة من حيث تحقق الإيمان واليقين كما قال تعالى {مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين}.
لقد كان أبو بكر قبل خلافته وبعدها النموذج في عقائديته، فكان أول من آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم من الرجال، وأول من صدق حادثة الإسراء والمعراج، حين كذب بها من كذب، وشك من شك، حتى إذا هرعت قريش لأبي بكر تسأله فإذا جوابه جواب الصديقين (ويحكم أنا أصدق محمدا بخبر السماء ينزل عليه صباح مساء، فكيف لا أصدقه بالإسراء)!
إنه الإيمان المطلق بالغيب والتصديق بأخبار الوحي عما مضى من الأحداث، وعما يستقبل منها كأنه يراها رأي العين!
لقد ضعفت عرى الإيمان لدى أكثر المسلمين ودعاتهم وعلمائهم اليوم حتى أصبح كثير منهم على (دين بلا يقين) فهم في شك من دينهم، وفي شك من كمال شريعتهم، وفي شك من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه في سياسة الأمة، وفي شك من وجوب اتباعها، وفي شك من صلاحيتها لعصرهم، وفي شك من بطلان هذه الجاهلية التي تحكمهم وتسوس شئونهم، وفي شك من وعد الله لهم بالنصر إن هم نصروه، وفي شك من عودتها خلافة راشدة كما أخبر بذلك صلى الله عليه وسلم، وكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله!
ففقدوا بهذه الشكوك المتراكمة - التي ثبطتهم عن القيام لله بالقسط والحق - درجة الصديقية!
لقد تجلى إيمان أبي بكر العميق الراسخ رسوخ الجبال في مواقف تاريخية كبرى، وكان أولها حين دخل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته وهو على سريره، فقبله وقال(طبت حيا وميتا يا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، ثم لن تموت بعدها أبدا)، وخرج على الناس وهم في المسجد وقد أصابهم هول المصيبة حتى طاشت عقولهم، وعمر يهذي ويقول: والله ما مات رسول الله وإنما ذهب يناجي ربه كما ذهب موسى!
فجاء أبو بكر يمشي حتى وقف في المكان الذي حق له الوقوف به وخطب الناس بكلماته الخالدة (أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، وقرأ {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبت على أعقابكم})!
لقد وقف أبو بكر موقف الصديقين الموقنين، فثاب المسلمون إلى رشدهم، وأدركوا أن الواجب عليهم في هذه اللحظة ليس البكاء بل نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كنصره في حياته، وذلك بنصر دينه، وحمل رسالته، وحماية دولته، وإكمال مهمته، فبادروا إلى السقيفة في اليوم ذاته ليتشاوروا في أمر الخلافة واختيار السلطة، ومن يسوس شئون الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة، اختلفوا واضطربوا حتى كادوا أن يقتتلوا، فإذا الصديقية تتجلى من جديد في أعظم حادثة تمر على الأمة وفي أشد أيامها، فانبرى لهم أبو بكر بثباته وإيمانه وخاطبهم بقوله للأنصار(أما ما ذكرتم من فضل فأنتم له أهل، إلا أن العرب لا ترضى إلا بهذا الحي من قريش، فاختاروا أي الرجلين ترون عمر أو أبا عبيدة بن الجراح)؟
فقالوا : بل أنت يا أبا بكر! فتتابع المهاجرون ثم الأنصار على بيعته، كأن لم يختلفوا فيها قبل قليل حتى كادوا أن يتفرقوا!
ثم خطب فيهم من الغد خطبته التاريخية ليبين لهم سنن الإمامة والخلافة الراشدة (أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني... أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فيكم، فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم)!
ثم كانت أول قضية واجهها الصديق بصديقيته وإيمانه المطلق قضية أهل الردة، فقد اضطرب الصحابة في حكم من بقوا منهم على إسلامهم ومنعوا أداء الزكاة للدولة والخليفة بعد رسول الله، حتى قال عمر :كيف تقاتل الناس وقد شهدوا أن لا إله إلا الله!
فقال أبو بكر (والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه)!
فما كان من الفاروق وهو الفاروق إلا أن قال (والله ما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر لهذا القول حتى عرفت أنه الحق)!
إنه التسليم من عمر لا عن تقليد لأبي بكر، بل عن اعتراف له بالصديقية التي ثبتت له بنص القرآن وبشهادة رسول الله له، وبالأمر النبوي بلزوم هدي أبي بكر، فكان عمر مع رفضه لقتال مانعي الزكاة ومجادلته أبا بكر فيهم، أول من رجع عن رأيه لرأي أبي بكر، حتى أجمع الصحابة على قتالهم، حتى قال ابن مسعود : لقد كدنا نهلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين ارتدت العرب، قلنا نعبد الله ولا نقاتل على حقة وابن لبون، حتى هدانا الله بأبي بكر، فقال والله لأقاتلنهم، فوالله ما قبل منهم إلا الحرب المجلية، أو الخطة المخزية!
فلما جاء المرتدون تائبين، أبى أبو بكر حتى يشهدوا على أن قتلاهم في النار، وقتلى الصحابة في الجنة!
لقد كان أبو بكر رجلا عقائديا إيمانيا لا يقبل أن يطرأ على دين الحق شك وريب، ولا أن يخالط الإيمان شبهة رأي، فأراد منهم قبل كل شيء، وقبل أن يعودوا إلى صفوف المؤمنين، أن يجددوا إيمانهم بالله ورسوله وبدينه، حتى لا تتكرر ردة باسم الإسلام، ولا يختلط الحق بالباطل، وحتى لا يزعم زاعم أنه قاتلهم اجتهادا!
ثم كانت الحادثة الثالثة في الأيام الأولى من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي واجهها أبو بكر بإيمان وطمأنينة، إنفاذ جيش أسامة بن زيد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر الجيش بالاستعداد للتوجه للشام، فتوفي صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج الجيش، فأشار بعض الصحابة على أبي بكر أن يؤجل خروج الجيش، حتى يحمي المدينة من أهل الردة الذين يحاصرونها، فما كان من الصديق إلا أن وقف الموقف الذي يقتضيه مقام الصديقية، فقال (والله لا أحل عقدة عقدها رسول الله، حتى لو تخطفتنا الطير)، وأمضى الجيش إلى وجهته للشام، وترك المدينة بلا حماية، إيمانا منه بأن أمر رسول الله نافذ على الجميع في حياته وبعد موته صلى الله عليه وسلم، وأن طاعته هي سبب النصر والتوفيق والهداية {وإن تطيعوه تهتدوا}!
فكانت طاعته لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته، كما هي في حياته، إنها تسليم مطلق، وانقياد تام، فهو النبي والإمام والقائد العام، حيا وميتا صلى الله عليه وسلم!
ثم كان الموقف التاريخي الآخر للصديق حين رجع العرب إلى الإسلام، بعد حرب داخلية استمرت سنة كاملة، جيّش لها الصديق أحد عشر جيشا لمواجهة الردة وأهلها، وأخذ يشاور الصحابة في جهاد هرقل الروم أو كسرى الفرس وبأيهما يبدأ، وكان كلا الفريقين يتربص بالمسلمين ودولتهم الفتية الدوائر، فقال بعضهم دع الناس حتى يستجموا ويستعيدوا عافيتهم بعد حروب الردة، وقال آخرون بل نبدأ بالفرس، وقال بعضهم بل نبدأ بالروم، فأجابهم أبو بكر بكل ثقة بالله ووعده ونصره (بل نبدأ بالطائفتين معا) استجابة للأمر الإلهي {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة}!
ليبدأ الصديق عصر الفتوح التي غيرت وجه التاريخ الإنساني إلى اليوم، وليتحقق موعود الله لعباده المؤمنين الراشدين {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض..}!
فبدأ أبو بكر مهمة الفتح التاريخي، ورحل بعد سنتين من استخلافه، ليصنع في تينك السنتين تاريخ الإسلام وخلافته ووحدته وفتوحاته كلها، فإذا كل الملايين من المسلمين على اختلاف قومياتهم منذ ذلك التاريخ إلى اليوم هم من حسنات أبي بكر وفي ميزان أعماله يوم القيامة، كما جاء في الحديث (وزنت في كفة والأمة في كفة فرجحت، ووزن أبو بكر في كفة والأمة في كفة ولم أكن فيها، فرجح أبو بكر)، كل ذلك بسبب صديقيته وإيمانه ويقينه، حتى قال عنه بكر بن عبد الله المزني : ما فضلهم أبو بكر الصديق ولا سبقهم بكثرة صوم ولا صلاة، بل بشيء وقر في قلبه!
2- العبقرية العمرية التي اشتهر بها الفاروق عمر كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح (فلم أر عبقريا يفري فريه)، والإلهام والتحديث كما قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم (كان فيما مضى محدثون فإن يكن في أمتي فعمر)!
فإذا كانت إقامة الخلافة، ومواجهة الردة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وبدأ الفتوحات، مواقف تاريخية تحتاج إلى قائد عقائدي لا يتزعزع كأبي بكر الصديق، فإن اتساع دولة الإسلام لتضم إمبراطورية كسرى في الشرق، وقيصر في الغرب، وما كانتا عليه من حضارة ونظم، وما تعانيه شعوبهما من قهر وظلم، تحتاج إلى قائد عبقري فذ كعمر رضي الله عنه، ليسوس شئونها بكل ذكاء وحنكة وكفاءة، ليبسط الأمن ويحقق العدل للجميع، فكانت نتيجة تلك العبقرية فهم غايات ومقاصد الإسلام في إقامة الأحكام، فأوقف الأرض المغنومة ورفض أن تقسم على الفاتحين، وجعلها وقفا على الدولة والأمة كلها، ليمنع أن تكون الأموال والأرض {دولة بين الأغنياء}، ودون الدواوين واستفادها من فارس والروم عملا بحديث (أنتم أعلم بأمور دنياكم)، وحين رفض نصارى تغلب أن يدفعوا الجزية وقالوا نحن عرب ندفع كما يدفع العرب، قال افرضوا عليهم الصدقة، وأمر أن يفرض من بيت مال المسلمين للمحتاجين، من المسلمين وغير المسلمين، وأن يفرض للأطفال الرضع وأمهاتهم ما يغنيهم، وسن للأمة سنن الهدى في باب سياسة الأمة، حتى ضرب به المثل في العدل، كل ذلك بذكاء وعبقرية هي أهم ما تحتاجه سياسة الأمم بعد الإيمان والصلاح والتقوى، فكان عمر إمام الراشدين في هذا الباب!
3-القديسية بحلمها وحيائها ورحمتها وسخائها، والتي تجلت في أوضح صورها بالخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، فكان منذ أن آمن وهو يحوط الدعوة بماله ونفسه وأهله، فهاجر الهجرتين، وبذل ماله في سبيل الله والإسلام أحوج ما يكون للبذل والإنفاق، حتى اشترى الجنة بماله مرتين، حين اشترى بئر رومة وأوقفها على المسلمين، بعد أن سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول من يشتريها وله الجنة، وحين جهز جيش العسرة في غزوة تبوك وهو أكبر جيش خرج فيه النبي صلى الله عليه وسلم، وبلغ عدده نحو أربعين ألف، وكان المسلمون في حال عسرة وحاجة وشدة، فجاء بالأموال فصبها بين يدي رسول الله صبا طاعة لله ولرسوله ونصرة لدينه، حتى قال رسول الله (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم! ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم!).
كما اشتهر عثمان بالحياء، فكان أشد حياء من البكر في خدرها، وبلغ من حيائه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستحي منه ويقول (ألا أستحي من رجل تستحي منه الملائكة)!
فجمع هذا القديس الطاهر بين السخاء والحياء، كما اشتهر بالرحمة وهي صفة لا تنفك عن صفة السخاء والحياء، حتى بلغ به الحال أن آثر أن يضحي بنفسه ولا يسفك بسببه قطرة دم، فأبى أن يجابه المعارضة بالقوة حين جاءته تنكر على بعض ولاته تجاوزاتهم، ورفض أن يضربهم أو يؤذيهم بل أكرمهم وفاوضهم وصالحهم والتزم لهم بما شرطوا عليه، فلما رجعوا وحاصروه أقسم على كل من كان يحرس داره أن يتركوه ولا يقاتلوا دونه، ولزم داره يقرأ القرآن الذي حفظه صدرا وسطرا، حتى قتل شهيدا، وهو خليفة المسلمين الذي كانت جيوشه قد وصلت أطراف الهند، وكان باستطاعته بكلمة واحدة أن يقضي على مخالفيه ومعارضيه، إلا أن قديسيته وسخاء نفسه وخلقه وحيائه وشمائله الكريمة أبت عليه إلا أن يكف يده عن رعيته حتى لو ذهبت نفسه!
4- الفدائية والطهورية وكان النموذج فيها الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فكان فدائي الإسلام الأول، حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة، وقد أحاط المشركون بالدار، وقد عزموا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم على فراشه، وحين خرج يوم الخندق لعمرو بن ود وهو فارس العرب، حين دعا رسول الله لمبارزته فخرج له الليث الغالب وقد باع نفسه لله ولرسوله، وحين حمل الراية يوم خيبر وهو مريض يوعك طاعة لله ورسوله، فلا يدعوه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنائبة إلا أتاه، ولا لملحمة إلا كفاه، فكان الجندي الفدائي، حتى إذا وقعت الفتنة واحتاجته الأمة لسياسة شئونها، فإذا الطهورية تتجلى في أبهى صورها فإذا هو الخليفة الزاهد العادل الذي بلغ من طهوريته وورعه ونزاهته أن قسم الأبزار بين الناس بالسوية، ورفض أن يداهن أحدا على شيء في أمور الإمامة والسلطة وكان أحوج ما يكون إلى تأليفهم، فحملته طهوريته على رفض كل مساومة حتى وإن كان على حساب سلطانه ونفوذ أمره وطاعته!
لقد كانت هذه الصفات توفرت في الخلفاء الأربعة جميعا، إلا أن كل واحد منهم كان أشهر ببعضها من بعض، كما كان أبو عبيدة بن الجراح وهو من قيادة الدعوة في مكة، ومن قيادة الدولة في المدينة، ومن العشرة المبشرين، قد اشتهر بصفة الأمانة حتى قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم حين أراد أن يبعثه إلى اليمن (أمين هذه الأمة أبو عبيدة)!
إن هذه الصفات التي اشتهر بها الخلفاء الراشدون ومن معهم من قيادات الصحابة رضي الله عنهم - العقائدية والعبقرية والقديسية والفدائية والطهورية والأمانة - هي أهم صفات القيادة الراشدة الجديدة، فإذا اجتمع للقيادات الراشدة :
1- إيمان القلوب وصفاؤها.
2- وعبقرية العقول وذكاؤها.
3- وطهورية الارواح وزكاؤها.
4- وكرم النفوس وشجاعتها ورحمتها وسخاؤها وحياؤها.
فقد استجمعت كل ما تحتاجه من شروط النجاح وتحقق النصر والاستخلاف في الأرض!
فالأمة اليوم أحوج ما تكون إلى قيادات راشدة، تجمع بين العلم والفهم، والحلم والحزم، والأمانة والزهد، حتى إذا ما مكن الله لها في الأرض كانت رحمة للعالمين، تنصر الحق، وترحم الخلق، وتسوسهم بإيمان أبي بكر وصديقيته، وكفاءة عمر وعبقريته، ورحمة عثمان وقديسيته، وزهادة علي وطهوريته، وصيانة أبي عبيدة وأمانته!
إن الأمة اليوم تتطلع إلى قيادات سياسية تعف عن أموالها، وتكف عن دمائها، وتلم شعثها، وتوحد كلمتها، وتحسن سياستها، وتحررها من عبوديتها، بعد أن أترعت الدماء على أيدي الطغاة، وأهدرت الأموال، وانتهكت الأعراض، وامتلأت السجون بالمظلومين، ببغي المجرمين، فإذا كانت قيادات الحركات السياسية الإصلاحية لم تعد نفسها إعدادا روحيا وأخلاقيا للتصدي لمهمة الإصلاح، فإن تأخر النصر خير لها وللأمة من فجر كاذب، وبرق خلب!