(8)
نظرات شرعية
في النظم الدستورية والأنظمة الجمهورية
وموقف الشيخين
أحمد شاكر وعبد الرحمن السعدي
نموذجا
بقلم د. حاكم المطيري
جاء في الحديث الصحيح (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)، والمراد بالفقه في الدين هنا ليس المعنى العرفي الاصطلاحي الشائع وهو معرفة الأحكام الفرعية، بل المقصود به هنا الفهم عن الله وعن النبي صلى الله عليه وسلم مرادهما في كل ما جاء عنهما سواء في أصول الدين وكلياته، أو فروعه وجزئياته، والقدرة على تحري الحق والصواب فيما أشكل من النوازل، كما قال تعالى{ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا}، وإنما ضل من ضل من هذه الأمة بسبب الإعراض عن تدبر القرآن وهداياته، في كل باب، وعن الإعراض عن السنة وتدبرها، والعمل بها في كل شئون الحياة، ومن ذلك معرفة الغايات الكلية للخطاب السياسي القرآني والنبوي، ومراعاة المقاصد في هذا الباب!
هذا وإن للدعوة للإصلاح عامة، والإصلاح السياسي خاصة، أصولا وقواعد يجب على الدعاة للإصلاح مراعاتها ومعرفة أحكامها، حتى يؤتوا الحكمة فيها، ويوفقوا للصواب فيما أشكل منها، ومن ذلك:
أولا: أن يعرف المصلح السياسي تفاصيل ما يلي:
1- واقع المجتمع الذي يعيش فيه وإشكالاته ونوازله وكيفية علاجها.
2- والحكم الشرعي على هذا الواقع بمعرفة الواجبات ودرجاتها، والمحرمات ودرجاتها، وما يجب عند تزاحمها.
3- والحال التي يريد المصلح أن يصل بالمجتمع إليها، وحقيقة الإصلاح المنشود وصوره وأقسامه.
4- والمقدور له من ذلك بحسب ظرف المكان والزمان.
ولا شك لمن عرف الجاهلية وأحوالها، وعرف واقع الأمة المعاصر، أدرك بأنها اليوم تعيش جاهلية ثانية، سواء كانت:
· جاهلية العقائد والتصورات والظنون عن الله وحقيقة الوجود وغاياته، كما قال تعالى {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية}، حتى عبد الطاغوت من دون الله باسم ولي الأمر وطاعته، فحرموا ما أحل الله، وأحلوا ما حرمه! وحتى عبدت الشهوات، وطغت العقائد المادية، وشاعت العدمية واللاأدرية والإباحية!
· جاهلية الحكم والتشريع بقيام أنظمة حكم لا تحكم بالإسلام، ولا تحتكم إليه، فرضها الاستعمار الغربي على الأمة بلا رضاها ولا اختيارها {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون}.
· أو جاهلية اقتصادية بقيام مؤسسات الربا وشيوعها، حتى صار حجر الأساس للاقتصاد في كل بلد هو الربا، وقد قال صلى الله عليه وسلم (كل أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي، وكل ربا الجاهلية موضوع، قضى الله أن لا ربا).
· أو جاهلية اجتماعية كالعصبية القومية والوطنية والفئوية وكل أشكال العصبيات التي تفرق بين المؤمنين، بل بين الإنسان وأخيه الإنسان بلا حق، كما قال تعالى{إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين قال لخادمه يا ابن السوداء! (أعيرته بأمه إنك امرؤ فيك جاهلية)، وقد أصبحت هذه الجاهلية تسود واقع المجتمعات في العالم الإسلامي وتتحكم في العلاقات بين فئات المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على نحو غير مسبوق!
· أو جاهلية السلوك وانحلال القيم الأخلاقية كما قال تعالى{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}، وشيوع حالة من التحلل الأخلاقي والفراغ الروحي!
وقد عاد الإسلام اليوم غريبا بين أهله كما بدأ، كما قال صلى الله عليه وسلم (بدأ الإسلام غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ، فطوبى للغرباءالذين يصلحون ما أفسد الناس).
ومع ذلك كله فهذه الأحوال الجاهلية التي تعيشها الأمة اليوم سياسيا واقتصاديا وتشريعيا وأخلاقيا واجتماعيا، لا تخرج هذه المجتمعات عن كونها شعوبا إسلامية، ومجتمعات مسلمة، ولا عن كون أهلها مسلمين مستضعفين، تتحكم فيهم الجاهلية العالمية وتؤثر بهم، وتسوس شئونهم، بسبب ضعفهم وسيطرة العدو الأجنبي على شئونهم من جهة، وعجزهم عن تدبر هدايات الكتاب والسنة من جهة أخرى، ولا يمكن وصف دولهم وحكوماتهم بأنها إسلامية إلا على سبيل المجاز لا على الحقيقة، أي بحسب ما كانت عليه، أو بحسب ما يجب أن تكون عليه، أو لكونها تحكم شعوبا إسلامية، وكل ذلك مجاز لا حقيقة، إذ الحكومة الإسلامية هي التي تكون الشوكة فيها للأمة وللمؤمنين، فلا نفوذ ولا سيادة ولا شوكة للعدو الخارجي عليها، ويكون الحكم فيها للإسلام وشرائعه.
وإنما يجب على المصلحين معرفة مثل هذه الأحوال، ومعرفة الحكم الشرعي فيها، ليعرفوا الخلل، وكيفية علاجه، والحال التي يريدون نقل الأمة إليه، وكما قال تعالى {ولتستبين سبيل المجرمين}، وقال تعالى {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار}..الخ
فمن لم يعرف الجاهلية المعاصرة، وسبيل المجرمين، وأحوال الطغاة والظالمين، كان أعجز من أن يعرف السبيل للخروج بالأمة من حالتها الجاهلية إلى واقع إسلامي!
وقد لا يكون بين المصلحين الإسلاميين كبير خلاف في أن الغاية والهدف النهائي أن تعود الأمة كما بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم (أمة واحدة وخلافة راشدة) كما في الحديث(ثم تعود خلافة على منهاج النبوة)، وإنما الخلاف بينهم في الحكم على الواقع، والحكم على الأنظمة الحاكمة اليوم، وكيفية العودة بالأمة إلى الإسلام، وإصلاح شئونها، فأصبحوا طائفتين:
· طائفة ترى بأن الواقع الحالي مع انحرافه إلا أنه واقع مشروع من حيث الاعتراف بالدولة الوطنية والقطرية، والاعتراف بالأنظمة الحاكمة، أو بأكثرها أو بعضها، دون وجود معيار يفرقون به بين ما يعترفون بشرعيته وما لا يعترفون بشرعيته من هذه الأنظمة!
كما ترى هذه الطائفة أو بعضا مشروعية المشاركة بالواقع السياسي، حتى تورطت فيه، وأصبحت جزءا منه، وحتى قال بعضهم وهو نائب إسلامي في بلد خليجي (نحن نحتكم إلى الشريعة بنسبة 99 % في كل شئوننا والباقي نعمل على استكماله)!
وإنما أتيت هذه الطائفة من جهة جهلها في طبيعة النظام السياسي الإسلامي كما جاء في الكتاب والسنة، وكما قام به الخلفاء الراشدون، إذ هذا الموضوع خارج دائرة الفقه التقليدية والفروع الفقهية التي يعنى بها الفقهاء التقليديون، فتغيب عنهم معرفة مثل هذه الأصول والكليات، وتحار فيهم عقولهم، لعدم إحاطتهم بها، واقتصارهم على الجزئيات الفرعية، وانشغالهم بها، ظنا منهم أن هذا هو الفقه!
· وطوائف أخرى لديها تصور عام عن النظام السياسي الإسلامي، وعن ضرورة الخلافة، إلا إنها ترى عدم شرعية هذا الواقع وتحرم كل مشاركة فيه، وتدعو إلى مقاطعته، وتتفاوت فيما بينها في حدود هذه المقاطعة، حتى ذهب بعضهم إلى القول بأن المقاطعة تشمل حتى العمل في الوظائف الحكومية وكل قطاعات الدولة..الخ بدعوى أن الحكومات غير شرعية، دون وجود معيار تحتكم إليه هذه الطائفة في معرفة ما يحل من ذلك وما يحرم، وبلغ الحال ببعضها أن اعتزلت الواقع السياسي، وعاشت عزلة شعورية، حتى باتت غريبة عن واقع شعوبها، مع أنها تتأثر بالواقع ولا تأثر به!
وقد ظلت الخلافة أو الدولة الإسلامية عند هذا الفريق حلما ينتظرون إقامته على الأرض دون الأخذ بسنن المدافعة والمغالبة التي هي الشرط لقيام أي مشروع أو نظام سياسي!
والإشكالية الثانية لدى هذه الطائفة - مع إخلاصها وتضحياتها - هو في معرفة حقيقة الخلافة الراشدة، وأصولها وقواعدها، وغاياتها، وكيفية إعادتها، فصار غاية بعضهم إقامة دولة مستبدة لا توحيد خالصا فيها لله جل جلاله، ولا حرية فيها للإنسان، ولا شورى فيها للأمة!
بل ولا تعرف هذه الطائفة كيف السبيل إلى بعث الخلافة من جديد، وتحويلها من فكرة إلى واقع سياسي!
وزاد الأمر تعقيدا حين خاض كثير من المصلحين المخلصين فيما لا يحسنون فهمه من مشكلات العصر ونوازله، فهم يتحدثون عن حاكمية الله، ولا يعرفون حقيقتها؟
وعن الطاغوت ولا يعرفون كيف يواجهونه؟
وعن الدولة ولا يعرفون مشكلاتها وأوجه الخلل فيها وكيف معالجته؟
وعن الدستور والقانون وهم لا يعرفون الفرق بينهما؟
ولا يعرفون الفرق بين إرادة التحاكم إلى غير حكم الله، والحكم بغير ما أنزل الله، والإكراه على التحاكم إلى غير حكم الله؟
ولا يفرقون بين ما يصح من تصرفات السلطة غير الشرعية وما لا يصح؟
ولا يعرفون كيف يوجبون جهاد الدفع عن بلدان المسلمين اليوم مع أن الحكومات فيها غير شرعية أو طاغوتية...الخ؟
ولا كيف يحافظون على ثروات الأمة وأرضها ومصالحها تحت ظل حكومات غير شرعية؟!
فلما حارت في هذه النوازل أفهامهم، واضطربت فيها أحلامهم، رأوا اعتزال الواقع وعدم التورط فيه وفي إشكالاته أسلم لدينهم وآخرتهم، غير أنهم أرادوا من الأمة الاعتزال معهم، والوقوف حيث وقفوا، دون أن يدركوا بأن الحياة والمجتمعات لا تتوقف، ولا تنتظر من توقف، بل هي في حركة دائبة، وهي لمن غلب (ومن عز فيها بز)!
وسيطرت على بعضهم أوهام ظنوها حلولا ناجعة، فقيدوا بها أنفسهم وأتباعهم، وأصبحوا أسرى الأوهام، فلم تحقق لهم تلك الأوهام ولا للأمة بعد سبعين سنة شيئا، وصدق فيهم قول شوقي :
وهمٌ يقيد بعضهم بعضا به
وقيود هذا العالم الأوهامُ
بل ولم يستطيعوا حتى فهم كلام فقهاء الأمة وأعلامها المعاصرين لهذه النوازل، ولم يستفيدوا من رأيهم واجتهادهم، مع أنهم أول من شهد سقوط الخلافة، وعاصر قيام هذه الدويلات وأنظمتها وقوانينها!
أحمد شاكر والموقف من النظام البرلماني الدستوري :
لقد كان العلامة القاضي الشرعي والمحدث المجتهد الشيخ أحمد بن محمد شاكر - محقق مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي وتفسير ابن جرير الطبري - من أوائل فقهاء الأمة الذين أدركوا الفرق بين الدستور والقانون، وأجاز العمل السياسي البرلماني لتحقيق الإصلاح، حيث يقول عن القوانين الوضعية التي تصادم أحكام الشريعة(القضاء في الأعراض والأموال والدماء بقانون يخالف شريعة الإسلام، وإلزام أهل الإسلام بالاحتكام إلى غير حكم الله، هذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة)![1]
بينما يقول في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر) - التي كانت في الأصل محاضرات ألقاها على رجال القانون في مصر قبل سبعين سنة - (سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي، أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها للبرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب، ثم نفي لقومنا بما وعدناهم به من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة..).[2]
فكيف يكون التحاكم إلى القوانين كفر بواح وردة جامحة عند الشيخ أحمد شاكر، وقد نص على ذلك في كثير من مؤلفاته، وهو أشهر علماء الأمة الذين لم يترددوا في الحكم بالكفر على من يحكم بغير ما أنزل الله، وعلى كفر من يلزم الأمة بالتحاكم إلى غير حكم الله، بينما هو يدعو هنا إلى التحاكم إلى الدستور المصري، والعمل السياسي السلمي الدستوري من خلال الانتخابات، ودخول البرلمانات؟!
وما ذكره الشيخ أحمد هنا يكاد يوافقه عليه كافة علماء عصره ودعاتهم كالشيخ حسن البنا وقبلهما رشيد رضا وشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيرهم من المصلحين؟!
فما الفرق بين الدستور والقوانين عند هؤلاء الأئمة؟
وكيف أجازوا العمل السياسي الحزبي، وخوض الانتخابات، والوصول للبرلمانات، والتحاكم إلى الدستور التي صارت عند بعض المتأخرين من الشرك بالله؟
ولماذا أصبح الأمر مشكلا عند المتأخرين فيما كان واضحا جليا عند المتقدمين؟
ولماذا تراجع الوعي الشرعي والملكة الفقهية والوعي السياسي عند جيل الصحوة وجماعاتهم؟!
إن معرفة كل هذه المسائل وأحكامها الشرعية، هي في غاية الأهمية لمن أراد الخوض في الدعوة للإصلاح السياسي الشرعي!
إن الشيخ أحمد شاكر فقيه مجتهد وقاض شرعي يعرف الفرق الشاسع بين القوانين الوضعية التي هي أحكام، يقضي بها القضاء، ويلتزم بها المحكوم عليهم، بينما الدستور هو وثيقة سياسية وعقد ينظم شئون الدولة، فتجري عليه أحكام العقود وما يصح منها وما يبطل، وما يصح منها دون الشرط الفاسد فيها، ومن هنا صار من يخالف القانون يتعرض للعقاب، بينما من يخالف الدستور ونصوصه لا يتعرض لعقاب بل تبطل تصرفاته، ولهذا لم يشكل لا على أحمد شاكر ولا على حسن البنا ولا على أهل ذلك العصر الفرق بين القوانين التي هي أحكام قد تضاد حكم الله ورسوله، وبين الدستور الذي هو عقد بين السلطة والشعب، يتضمن مبادئ عامة، وشروطا سياسية، لا يلزم الأمة منها إلا ما وافق الشرع، ويبطل ما خالفه!
فلما رأوا أن الدساتير تنص على أن (دين الدولة الإسلام)، و(الشريعة المصدر الرئيس للتشريع)، ثم رأوا أن باقي المبادئ والشروط في الدساتير مما لا يتعارض مع الشريعة عموما، لم يروا في ذلك مشكلة، إذ مثل هذا العقد إذا وجد إرادة قوية تقف خلفه لتنفيذه، فلن يكون هناك عائق أمام أسلمة قوانين الدولة كلها، خاصة وأن خبراء الدستور يؤكدون أن نص (دين الدولة الإسلام) كاف وحده في إلزام السلطة بعدم مخالفة دين الدولة في شيء من ممارساتها..الخ
وهذا السبب ذاته الذي حمل الفقهاء المتأخرين كالشيخ بن باز وابن عثيمين على القول بجواز دخول البرلمان، والمشاركة السياسية، والإصلاح من خلالهما لتعديل القوانين التي تخالف حكم الشريعة!
لقد كان المسلمون وقبل سقوط الخلافة العثمانية يمارسون العمل السياسي، ويعرفون الأحزاب السياسية، وينتخبون أعضاء المبعوثان وهو البرلمان، في كل ولايات الدولة العثمانية، كما عرفوا المشروطية وهو الدستور، ولم يقل أحد من علماء الأمة آنذاك، بأن هذا العمل محرم، أو أن دخول البرلمان في حد ذاته شرك وكفر، أو أنه يحرم على الأمة أن تشرع الأنظمة والقوانين التي تحقق المصالح العامة لها، فيما لا نص فيه!
إلا أن المشكلة ليست في هذا كله، فليست هي في الدساتير، ولا حتى في القوانين الوضعية المصادمة للشريعة مع كونها كفرا، بل المشكلة وراء ذلك كله فهي في تنازع الإرادات، وفي نفوذ إرادة الطاغية والمستبد على الأمة كلها، حتى استطاع أن يكرهها على التحاكم لغير حكم الله، وعجز الأمة في المقابل عن فرض إرادتها، فرأى هؤلاء المصلحون أن العمل السياسي السلمي الدستوري هو أسلم طريق يحقق الإصلاح، دون أن يفضي إلى قتال ودماء، ولم يدركوا بأن الدستور والبرلمان والانتخابات ما لم تكن وراءها إرادة أمة نافذة، وإلا صارت أدوات في يد الطاغية يفرض من خلالها إرادته على الأمة باسمها!
إن هذا هو السبب ذاته الذي جعل فقهاء الأمة قديما يعرفون دار الإسلام بتعريف واحد، وهو (أن تكون الشوكة فيها للمسلمين)، كما هو الحال في المدينة حين هاجر لها النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الفقهاء لم يتصوروا أصلا أن تكون الشوكة والقوة للمسلمين في أرضهم، ولا يتحاكمون للكتاب والسنة، لأنهم يخرجون بذلك من دائرة الإسلام، ولهذا صار بعض الفقهاء يزيد في تعريف دار الإسلام قيدا آخر إضافيا وهو (وتكون الأحكام فيها أحكام الإسلام)!
وقد فصلت ذلك في رسالة(الأجوبة الفاصلة في المسائل النازلة) وفي (تحرير الإنسان).
لقد انشغل المصلحون السياسيون في موضوع تعديل الدستور أو تعديل القوانين، ودخلوا في صراع عقيم مع السلطة، دون أن يدركوا بأن المشكلة ليست في الدستور ولا القوانين، بل المشكلة في غياب الشوكة والقوة للأمة في أرضها، والتي هي مناط وصف الدار بالإسلام!
إن فقد الأمة للإرادة الحرة هو سبب الأزمة، فالواجب تقديم استرجاع هذه الإرادة، واستعادة الشوكة والقوة للأمة، وتحرير الأمة وإرادتها، على الانشغال بتعديل نصوص من حبر على ورق!
كما انشغل السياسيون الإسلاميون في البرلمانات في موضوع تطبيق الشريعة، دون أن يدركوا شيئا مما تمنوه، لأن الشوكة والقوة واليد ليست لهم ولا للأمة معهم، بل هي للسلطة المدعومة من الغرب، والتي لا تسمح بتحقيق ذلك!
لقد كان الفقهاء يدركون هذه الحقيقة، إلا أنهم رأوا بأن تحرير الأمة بالقوة قد يفضي إلى العنف والفتن، وقد صرح الشيخ أحمد شاكر في رسالته هذه بموقفه من العنف حيث يقول(لست رجلا خياليا، ولست داعيا إلى ثورة جامحة على القوانين، وأنا أعتقد أن ضرر العنف اليوم أكثر من نفعه)!
إلا أن خوف الشيخ شاكر ورفضه للثورة وأد حلمه بالإصلاح، في ظل عملية سياسية صورية، تفتقد للعنصر الأساسي وهو (نفوذ الإرادة) الحقيقية للأمة!
لقد جاء سيد قطب ورأى المشهد السياسي بكل أبعاده، فإذا الدستور والبرلمان والانتخابات في مصر كلها وسيلة لفرض إرادة الطاغوت باسم الشعب، فثار ضد هذا الزيف، وكفر به كله، ودعا إلى اعتزال هذا الواقع، والثورة عليه، إلا إنه سرعان ما وأدت الجماعة روح الثورة القطبية، وتأثر خطاه أقوام لم يفهموه، فاعتزلوا المجتمع فلم يعودوا إليه، ودخلوا عزلة شعورية فلم يخرجوا منها، ولم يستطيعوا تحريك الشعب وإحداث التغيير الذي كان يرنوا إليه سيد قطب!
لقد تحقق للخميني والشعب الإيراني من خلال الثورة الشعبية ضد الشاه، ما لم يتحقق للشعوب السنية بالمحاولات السلمية مع الطغاة!
والمقصود من ذلك كله فهم موقف علماء الأمة من الإصلاح السياسي السلمي، حيث كانوا يرون جوازه، ويدعون إليه، طمعا في تحقيق الإصلاح التدريجي، من خلال تأسيس الأحزاب السياسية، ودخول الانتخابات، والوصول إلى البرلمان، فإن حازوا على الأغلبية من الأمة ساسوها وفق حكم الإسلام وشريعته، وغيروا القوانين والأحكام التي تعارض حكم الله، وإن كانوا أقلية أمروا نواب الأمة وممثليها بالمعروف ونهوها عن المنكر، وبينوا حكم الله فيما يعرض عليهم من القضايا..الخ.
ولم يخطر ببال أولئك العلماء المجتهدين والدعاة المصلحين ما طرأ على من بعدهم بأن دخول البرلمان شرك وكفر واعتراف بالطاغوت!
إلا أن الذي حال دون تحقيق الإصلاح كما كان يرجو المصلحون في القرن الماضي، هو أن العملية السياسية كانت وما تزال صورية، لأنها تحت ظل نفوذ احتلال أجنبي، وأنظمة حكم تحت سيطرته، فلا يمكن أن تكون العملية السياسية السلمية وحدها هي وسيلة الإصلاح، ما لم تفضي إلى تحرير إرادة الأمة وإطلاق يدها، ونفوذ إرادتها!
ومما يؤكد هذه الحقيقة ما جرى في تركيا من تحولات سياسية جزئية، لتحرر إرادة الأمة وأكثريتها من قبضة السلطة العسكرية جزئيا، فتأتى للأحزاب القوية التي حازت على ثقة الشعب، أن تحقق بعض الإصلاحات التي يطمح إليها الشعب التركي، فتحرير الإرادة للشعب، وحصول الشوكة للأمة في أرضها أهم مما سواهما، لأن الشريعة لا تقيمها إلا الأمة، ولا تحميها إلا الأمة، فإذا كانت الأمة مسلوبة الإرادة، مغلولة اليد، مكسورة الشوكة، تسلط عليها عدوها الخارجي أو الداخلي، فعطل شريعتها، واستعبدها، وضيع حقوقها ومصالحها وأرضها، ولهذا قال شيخ الإسلام(ليس أوجب بعد الإيمان بالله من دفع العدو الكافر عن أرض الإسلام، فإنه ببقائه لا يبقى دين ولا دنيا)!
ثم تأتي القضية الرابعة التي يجب على المصلح معرفتها وتقديرها حق قدرها ألا وهي معرفة حدود المقدور له فردا كان أو جماعة بحسب المتاح له زمانا ومكانا وإمكانات، فهنا يجب تحديد الأهداف والوسائل، وهي في مجال الإصلاح السياسي على ثلاث درجات: إصلاح كلي على مستوى الأمة، أو إصلاح كلي على مستوى قطر من الأقطار، أو إصلاح جزئي، وهي على النحو التالي:
1- الغاية المثلى والهدف الأقصى أن تعود (أمة واحدة وخلافة راشدة)، وهذه لا يمكن بداهة أن تكون هدفا لفرد، ولا لجماعة قطرية، إذ هو هدف يشترك فيه المسلمون كلهم، على اختلاف بلدانهم، ولا يتصور أن يتحقق إلا بالأمة كلها، أو كثرها، من خلال حكوماتها التي تمثلها، كلها أو أكثرها، فكل من يعيش حلم عودة الخلافة دون وجود الوسيلة والأداة السياسية لتحقيق هذا الهدف، وهو وصوله للسلطة في أكثر الأقطار فهو واهم، وكذلك لا يمكن تحقيق هذا الهدف الأقصى ما لم تتوفر الشروط الموضوعية له وهي:
· تحرر الأمة وأقطارها كلها أو أكثرها، من الاحتلال والنفوذ الأجنبي، فلن تقوم خلافة في ظل احتلال العدو للأرض، ووجود قواعده العسكرية في كل بلد!
· تحرر إرادة الأمة من الاستبداد الداخلي، وإقامتها لحكوماتها الإسلامية، التي تمثلها وتختارها، وتعبر عن إرادتها، فلا يتصور أن تقوم الحكومات التي أوجدها الاستعمار الغربي على أنقاض الخلافة بإعادتها، أو أن تقوم حكومات علمانية لا تؤمن بالإسلام بتحقيق هذا الهدف!
· توحيد الأمة وأقطارها، كلها أو أكثرها، سواء باختيار شعوبها عند تحررها، أو بتوحيد دولة مركزية لمحيطها، لتكون الأساس القادر على النهوض بالخلافة العامة وأعبائها.
فقبل تحقق هذه الأهداف المرحلية لا يمكن الحديث عن الهدف النهائي، إلا من باب بيان الحكم الشرعي، ودعوة الأمة للعمل من أجل تحقيقه، فلن تقوم الخلافة في الهواء الطلق، ولا في الفضاء الرحب، بل ستقوم على الأرض، وفي دار الإسلام، بشرط تحرر دولها من أي احتلال خارجي أجنبي، وتحرر إرادة شعوبها من كل طاغوت داخلي!
2- الغاية الوسطى والهدف المرحلي، وهو أن تقوم (حكومة راشدة)، في كل بلد يمكن إقامتها فيه، وهذا هدف مقدور لكل حزب سياسي قطري قادر على الوصول للسلطة في بلد يتمتع بسيادة واستقلال، أو يمكن أن يتمتع بها في حال تغير السلطة القائمة، وقيام سلطة راشدة تقيم حكومة راشدة، ولا يحتاج تحقيق هذا الهدف ما يحتاجه الهدف الأول من عمل مشترك وتنظيم سياسي على مستوى الأمة.
3- الغاية الدنيا والهدف القريب، وهو الإصلاح الجزئي، بإصلاح ما يمكن إصلاحه في أي بلد إسلامي، وتحقيق ما يمكن تحقيقه من العدل، ورفع ما يمكن دفعه من الظلم فيه عن الشعب، إذ كل نهضة في أي بلد من بلدان المسلمين وتطويره وإصلاح أحوله، يصب في النهاية في مصلحة الأمة وقوتها، وتسهيل مهمة عودتها وعودة خلافتها.
وكذا تعزيز قدرات التنظيم السياسي الإصلاحي في هذا البلد أو ذاك، ليكون رديفا قادرا على ملأ الفراغ السياسي عند حدوثه، أو أحداث التغيير عند وجود الفرصة لتحقيقه.
والمقصود بأن المصلحين أفرادا كانوا أو جماعات عليهم أن يحددوا هدفهم السياسي بحسب ظروف بلدانهم وقدراتهم في أوطانهم، فالبلدان المركزية في العالم الإسلامي، تختلف عن البلدان الثانوية أو الهامشية، التي لا يمكن بداهة أن تكون أساسا لقيام مشروع (الخلافة الراشدة)، فيتم الاقتصار فيها على العمل من أجل مشروع (الحكومة الراشدة)، عملا بالحديث الصحيح (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم)، فإن كانت الظروف لا تساعد حتى على تحقيق هذا الهدف في ذلك القطر، فلا يتعطل المصلحون عن الدعوة فيه إلى تحقيق ما يمكن من الإصلاح السياسي الجزئي، بتحقيق ما يمكن من العدل، وصيانة الحرية، ودفع الظلم، وحماية مصالح شعوبهم وحقوقها، حتى لو كانوا خارج السلطة، أو في ظل حكومة غير شرعية، من خلال الوسائل المتاحة إن كان بالإمكان الإصلاح من خلالها، كالعمل السياسي السلمي، ودخول مجالس الشعب، والوصول إلى الأمة من خلال كل الوسائل، كالنقابات العمالية والمهنية لدعوتها وتحريكها..الخ،
أو من خلال تحضير الأمة وإعدادها للثورة الشعبية العامة إن كان ذلك ممكنا، لبسط يدها، ونفوذ إرادتها.
أو من خلال إعداد العدة والشوكة والعصبية القادرة على التغيير بالقوة، ورفع الظلم والطغيان عن الأمة حال عجزها وضعفها، ورد الأمر إليها، وإعدادها لتحكم نفسها ينفسها.
والمقصود أن لا يحصر المصلحون وسائل التغيير المشروعة، ولا يحجروا على الأمة واسعا، ما دامت النصوص الشرعية قد جاءت بذلك كله، وتركت الأمر للمكلفين بفعل المقدور لهم من ذلك، كما في حديث (ألا ننابذهم السيف)، وحديث (إلا أن تروا كفرا بواحا)، وحديث (من جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن)، وحديث (لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا)، وحديث (من رأى منكم منكرا فليغيره)..الخ
فالواجب على الأمة كلها أن تعمل لعودتها (أمة واحدة وخلافة راشدة)، والواجب على أهل كل بلد العمل من أجل إقامة (حكومة راشدة)، وإلى أن يتحقق شيء من ذلك، فلا يتوقف المصلحون عن الإصلاح حسب الإمكان والمتاح، فالأنظمة الديمقراطية خير للأمة من الأنظمة الدكتاتورية وأخف ضررا، والأنظمة الجمهورية الليبرالية خير من الأنظمة العسكرية الشمولية وأهون شرا!
ثانيا : أن يعمل المصلحون، وأن يمارسوا العمل السياسي، وفق المتاح لهم بحسب الظرف المكاني والزماني، على أساس معرفة الأحكام الشرعية السياسية التالي:
1- أن بلدان العالم الإسلامي، هي في الأصل دار إسلام، وأهلها مسلمون، وأن الولاية الشرعية فيها للأمة، لا تسقط بحال من الأحوال، حتى لو كانت أحوالها جاهلية، وحكوماتها غير شرعية، كما قال تعالى{إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، وقال تعالى {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض}، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الأحوال التي تطرأ على الأمة بعده، والفتن التي تتعرض لها، كما في حديث (ثم يكون ملكا عضوضا، ثم ملكا جبريا) وفي رواية (ثم يكون الطواغيت)، (ثم تعود خلافة على منهاج النبوة)، وقال (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا)، وقال (لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا)، وكل ذلك خطاب للأمة إلى قيام الساعة، حتى في حال استضعافها، فولايتها ووجوب الجهاد عليها سواء جهاد الكلمة أو جهاد السيف قائمان إلى قيام الساعة، وهذا معنى قول أهل السنة والجماعة بأنه (الجهاد ماض إلى يوم القيامة لا يبطله جور جائر)، وكما في الحديث الصحيح (يكون أمراء يقولون ما لا يفعلون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن)، وقال في الحديث الصحيح (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق يقاتلون لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك)، وكل ذلك يؤكد أن ولاية الأمة على نفسها لا تسقط بوجود حاكم جائر أو كافر، بل الواجب عليها بحكم هذه الولاية التي لها على نفسها أن تقوم بعزله أو قتاله والخروج عليه، فإن عجزت فلا يسقط حقها في تغييره، إلى أن تقوى على القيام بالواجب، كما تؤكد هذه النصوص أن جهادها الداخلي بالكلمة أو باليد والقوة، وكذا جهادها للعدو الخارجي بالسيف، كل ذلك لا يسقط بأي حال من الأحوال، وهو فرع عن ثبوت ولاية الأمة العامة على نفسها.
كما إن في هذه الأحاديث الأمر بالإصلاح في كل الأحوال، في حال القوة باليد، وفي حال الضعف بالكلمة، وفي أسوأ الأحوال رفض الفساد واعتقاد بطلانه ولو بالقلب!
ويدخل في مفهوم (التغيير باليد) كل ما يصدق عليه أنه من القوة كالضغط السياسي، والمغالبة السلمية للسلطة الجائرة، وتحريك الشعب لتحقيق الإصلاح ورفع الظلم.
والمقصود أن الأمة اليوم هي كما كانت بالأمس على أرضها، وفي دارها، وفي أوطانها وبلدانها، والحق والولاية لها، حتى وإن كانت إرادتها مغلولة، ويدها مشلولة، بوجود حكومات جائرة أو كافرة، فالواجب على الأمة بسط إرادتها، وإطلاق يدها، والأخذ على يد الظالم وأطره على الحق أطرا، ورفع يده ويد الكافر عن ولايتها التي جعل الله لها.
وقد كان من أشد الأخطاء تصورا اعتقاد أن كفر الحاكم في بلد إسلامي، وفي دار الإسلام، يفضي إلى فقد الأمة لولايتها على نفسها، وعلى أرضها ودولها، بحيث تترتب الأحكام كلها بالنظر إلى الحاكم وطروء الكفر عليه، بينما الصحيح أن كفره لا يبطل ولاية الأمة، ولا يحرم عليها شيئا مما ثبت لها من الحقوق والولايات، بل العكس هو الصحيح حيث أن ولايته هي التي تسقط بكفره وردته، ومما يؤكد ثبوت ولاية الأمة ثبوت حقها في عزله والخروج عليه بل وقتاله.
2- أن كل ولاية اليوم غير ولاية الأمة على نفسها، وغير الولاية الشرعية التي شرع الله لها، هي ولاية باطلة، ولا شرعية لها، وليس للإسلام نظام سياسي شرعي إلا الخلافة على أصولها، كما قال الإمام أحمد عن حديث (من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)، فقال أحمد (أتدري من ذاك؟ ذاك الذي يجمع المسلمون عليه كلهم يقول هذا هو الإمام)، فليس في زمن الفتنة والفرقة العامة، حين تغيب الخلافة الجامعة كما في هذا العصر، بيعة شرعية لأحد، كما جاء في الحديث الصحيح (يكون خلفاء فيكثرون فأوفوا بيعة الأول فالأول)، فدل على أنه لا بيعة إلا لخليفة واحد للأمة، وجاء في الصحيح (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما)، ولهذا اعتزل أكثر الصحابة في الفتنة حتى قال ابن عمر (والله لا أبذل بيعتي في فرقة ولا أمنعها في جماعة)، ويؤكده الحديث الصحيح (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال فاعتزل تلك الفرق كلها)، وفي رواية (إن كان لله في الأرض خليفة فالزمه)!
فكل دويلات الطوائف اليوم، والدول القومية، والوطنية القطرية في العالم الإسلامي، لا شرعية دينية لها، ولا بيعة شرعية لها واجبة على الأمة ولا على بعضها، بل هي فرقة عامة يجب على الأمة رفضها وإصلاح خللها، وهذا لا ينفي كون حكوماتها لها سلطة بحكم الأمر الواقع، فينفذ من أحكامها ما وافق الحق والعدل وحقق المصلحة، وإنما إذا قامت حكومة إسلامية في بلد من بلدان المسلمين، باختيار أهل ذلك البلد وشوكتهم، فولايتها عليهم ولاية قاصرة على أهل ذلك البلد ومستمدة منهم، وهي ولاية عرفية أو سياسية تعاقدية، وهي أشبه بإمارة السفر كما في الحديث (إذا كنتم في سفر فأمروا أحدكم)، فيجب على أهل ذلك البلد إعانتها على القيام بالواجبات الشرعية، والمصالح السياسية، والوفاء لها بما ولوها من ولاية، وطاعتها بالمعروف، ولا تعد تلك الحكومة خلافة شرعية، في حال عجزها عن تحرير وتوحيد الأمة كلها أو أكثرها، وفي حال عجزها عن نفوذ إرادتها على الأمة أو أكثرها، لأن الخلافة شأن عام للأمة كلها أو أكثرها، لا يفتأت عليها فيه أحد، إلا من استطاع تحريرها وتوحيدها، أو من بايعته الأمة أو أكثرها على إمامته السياسية ونفوذ ولايته عليها.
3- وأنه لا تلازم بين عدم شرعية الأنظمة التي تحكم العالم الإسلامي، وكفرها أو عدم كفرها، وهو الشَرَك الذي وقعت فيه بعض الحركات الإصلاحية، فانشغلت في موضوع الحكم على الأنظمة بالكفر أو عدمه، وأضاعت وقتها في جدل عقيم، دون أن تغير من واقعها السياسي شيئا، مع أن مقصود الشارع أصلا هو تغيير المنكر، وتحقيق الإصلاح، سواء وصمت هذه الأنظمة بالكفر أو عدمه، فالواجب إزالة المنكر والجور والجائر سواء قيل بأنه مسلم أو كافر.
وقد أفضى جدل بعض الحركات حول هذه القضية، أن صار من يحكم بإسلام هذه الأنظمة يشاركها فيما هي فيه، ويرى بأن لها ولاية شرعية ليس عليه وحده فحسب، بل على كل مسلم تحت سلطتها، حتى اتسع الخرق على الراقع، واقتحموا باب ردة جامحة، فصدقوا الطغاة بكذبهم، وأعانوهم على باطلهم وظلمهم، وركنوا إليهم، فصاروا زبانيتهم وأعوانهم!
وذهب من حكم عليهم بالكفر إلى اعتزال الواقع، والحكم على الأمة إما بالكفر معهم، أو بأنها في العهد المكي، ولا يجب على الأمة أن تقوم بشيء من واجباتها وفروض كفاياتها، قبل إسقاط الطواغيت، وإقامة الخلافة!
وكلا الرأيين مجانب للصواب، مخالف للنصوص، فالأمة منذ أن نزل قوله تعالى{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} وهي في حال استخلاف في الأرض إلى يوم القيامة، حتى وهي في حال الاستضعاف، وهي مخاطبة بكل الأحكام الشرعية، فلا يتعطل المقدور منها والميسور لها، بتعذر المعسور عليها.
4- وأن الإصلاح باب واسع، وهو منوط بالقدرة والاستطاعة، كما في قوله تعالى عن شعيب {إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله}، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن الغرباء (الذين يصلحون ما أفسد الناس)، فهو عام في كل من يصلح ما أفسده المفسدون، وكما في الصحيح (من رأى منكم منكر فليغيره) وهذا عام في كل منكر، وفي كل عصر، إلا أن الإصلاح درجات، وبعضها أشرف وأجل وأعظم درجة عند الله من بعض، كما في الحديث (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر)، و(سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله)، إذ في إصلاح السلطة تحقيق الإصلاح الشامل لكل شئون الأمة والدولة، وفي فسادها فساد كل شئونها، كما في الحديث الصحيح (أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون)، وقال (أخوف ما أخاف على أمتي جور الأئمة)، وفي رواية (جور السلطان)، لأن في جوره وطغيانه وانحرافه انحراف الأمة معه، إذ الأمم على دين ملوكها!
ولشرف الإصلاح في هذا الباب جاء في الحديث (من أحيا سنتي عند فساد أمتي كان له أجر سبعين شهيدا)، والمراد بسنته هنا سنته في باب الإمامة وسياسة شئون الأمة التي قال عنها (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور)، وهي المراد بقوله (أول من يغير سنتي رجل من بني أمية)، فإذا كان سيد الشهداء وأفضل المجاهدين من تصدى للإمام الجائر، فكيف بمن أزال الإمام الجائر، وأبطل الجور، وأحيا سنن العدل وأقام سنن النبوة في الأمة ألا يكون له أجر سبعين شهيدا؟!
ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم بلزوم سنته وسنن الخلفاء الراشدين من بعده فقال (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)، أي سننهم في باب سياسة الأمة بإقامة أحكام الدين والعدل والقسط، وبشر بعودتها بعد وقوع المحدثات التي حذر منها فقال (ثم يكون ملكا عضوضا، ثم ملكا جبريا - وفي رواية ثم يكون الطواغيت - ثم تعود خلافة على منهاج النبوة)، فدل على أن أعظم ما يكون من الإصلاح في الأرض بعد عهد النبوة هو الخلافة الراشدة، ثم أعظم ما يكون من الإصلاح في الأرض بعد حدوث المحدثات والملك العضوض والملك الجبري والملك الطاغوتي عودة الخلافة الراشدة من جديد!
ثم لا يتوقف الإصلاح عند هذا الأمر العظيم، بل كما قال صلى الله عليه وسلم (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فيجب القيام بكل ما يمكن من المأمور به شرعا بحسب استطاعة الأمة وأفرادها وجماعاتها، كما في الحديث الصحيح (كل ميسر لما خلق له).
فإن استطاعت أي حركة إصلاحية في أي بلد إسلامي الوصول إلى السلطة، وتحرير إرادة الأمة، وإقامة حكم الله بالعدل والقسط، واجتهدت حسب قدرتها واستطاعتها بالإصلاح، فهي داخلة في عموم البشارة في الذين يصلحون ما أفسد الناس، وقد أدت ما عليها من الواجب الكفائي، كما قال تعالى{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}، وقال تعالى {ما جعل عليكم في الدين من حرج}.
ثم دون ذلك من الإصلاح كل إصلاح يقوم به المصلحون في بلدانهم أفرادا كانوا أو حركات سياسية، وإن لم تكن أنظمة الحكم فيها شرعية ولا إسلامية، إذ عدم شرعية الأنظمة وعدم إسلاميتها، لا يعطل وجوب الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الإصلاح والخير وذلك من وجوه:
الأول : أن هذا هو الواجب الشرعي في كل حال، على كل مسلم، فردا كان أو جماعة، سواء كانوا تحت حكومة مسلمة أو غير مسلمة، ولهذا كان خطاب القرآن عاما، كما في خطابه للمشركين ودعوته لهم بالعدل وإقامة القسط والرحمة باليتيم والضعيف، ولهذا توعدهم على ظلمهم كما قال تعالى {ويل للمطففين. الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون. وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون. ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم}، وقال تعالى{أرأيت الذي يكذب بالدين. فذلك الذي يدع اليتيم. ولا يحض على طعام المسكين}، وكقوله {ما سلككم في سقر. قالوا لم نك من المصلين. ولم نك نطعم المسكين}، وقال شعيب لقومه {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين. وزنوا بالقسطاس المستقيم. ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين}..الخ
فالقرآن حين نزل خاطب الإنسانية كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم كما وصفه القرآن{رحمة للعالمين} كلهم، وقد دعاهم إلى كل حق وخير وعدل ورحمة، ونهاهم عن كل باطل وظلم وشر، ولهذا اختلف الأصوليون في(هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم لا؟ وهل يحاسبون عليها يوم القيامة أم لا؟) والصحيح أنهم مخاطبون بها، ويجازون عليها، ولا يقبل ذلك منهم لدخول الجنة إلا بالشهادتين، لعموم نصوص القرآن التي خاطبتهم في مكة كما في قوله تعالى {قل تعالوا أتلوا ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم... ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن... ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق... ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط.. وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا.. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله}..الخ.
موقف الشيخ عبد الرحمن السعدي من الأنظمة الجمهورية :
ولهذا فالواجب الإصلاح السياسي حتى في غير دار الإسلام، كما قال الشيخ السعدي في تفسيره لقصة شعيب في سورة هود، والفوائد التي تستفاد منها (أن الكفار، كما يعاقبون، ويخاطبون، بأصل الإسلام, فكذلك بشرائعه وفروعه، لأن شعيبا دعا قومه إلى التوحيد، وإلى إيفاء المكيال والميزان، وجعل الوعيد، مرتبا على مجموع ذلك..
ومنها: أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة.
وحقيقة المصلحة، هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية.
ومنها: أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه، وفي غيره، ما يقدر عليه) انتهى كلام السعدي.
ولهذا لم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم وهم في مكة عن الدعوة إلى كل عدل وخير وبر، ومن ذلك قصة الأراشي - كما في السيرة - وكان رجلا غريبا عن مكة، وكان له عند أبي جهل حق، وقد رفض أبو جهل أن يرد عليه حقه، فجاء يشتكي لقريش فأشاروا عليه أن يذهب للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه مشى معه صلى الله عليه وسلم حتى ضرب باب دار أبي جهل وهو (فرعون هذه الأمة) كما في الحديث، وقال له أعط الرجل حقه! فارتعد منه أبو جهل ودفع إليه حقه!
فلم يتوقف النبي صلى الله عليه وسلم عن الدفاع عن المظلوم وإقامة العدل، بدعوى أنه في مكة، ولا شوكة له فيها، أو أنه لا بد من حكومة إسلامية، أو أن الطاغية لا يؤمر بإصلاح، ولا ينهى عن فساد حتى يسلم!
وكذا قال صلى الله عليه وسلم (شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفا - وكان على نصرة المظلوم - لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)!
وهذا يؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل على التزامه بهذا الحلف وهو في مكة قبل قيام الدولة الإسلامية، وكذا في المدينة بعد قيامها.
والمقصود أن الأمة لا تتعطل عن الإصلاح في كل مجال، وفي كل بلد، حسب استطاعتها، فتدعو إلى العدل، وتأخذ على يد الظالم، وتسعى لتحقيق المساواة، وإصلاح شئون حياتها..الخ.
فأعظم الإصلاح وأفضل المصلحين من عمل من أجل إقامة (الخلافة الراشدة) في الأمة كلها، ثم من عمل من أجل إقامة (الحكومة الراشدة) في أي بلد من بلدان المسلمين، ثم من تصدى لتحقيق أي إصلاح ولو جزئي، في أي بلد إسلامي بأي وسيلة مشروعة تحقق الإصلاح سلمية كانت أو ثورية، دستورية كانت أو جماهيرية، بحسب الظرف المحيط به.
ولا يقتصر ذلك الإصلاح على الأمة في دار الإسلام، بل حتى في غير دار الإسلام، فللمسلمين في كل بلد، أن يدعوا إلى الإصلاح والعدل والخير والبر، والاستعانة بأقوامهم وعصائبهم وتجمعاتهم على تحقيق الإصلاح، كما قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله {ولولا رهطك لرجمناك} وأنه يجوز للمسلمين في دار الكفر أن يؤيدوا قومهم في إقامة أنظمة الحكم الجمهورية، لما يتحقق لهم فيها من عدل وصلاح، بخلاف أنظمة الحكم المستبدة!
قال السعدي في تفسيره (ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها, وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم، أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان،فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكنفيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى، من استسلامهم لدولةتقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًالهم.
نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة) انتهى كلام السعدي.
وهذا هو السبب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه بالهجرة للحبشة لما فيها من عدل!
والضابط في هذا كله قوله تعالى{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} وهذه الآية نزلت في شأن التعاون مع المشركين على العدل والخير والبر.
والثاني : أنه لا يسوغ عقلا ولا شرعا القول بوجوب ترك المسلمين في كل بلد لشئون حياتهم ومصالحهم في أرضهم وبلدانهم ودولهم وولايتهم التي جعل الله لهم، بدعوى عدم شرعية السلطة، أو بدعوى أنها سلطة طاغوت، فإن الله أرسل موسى لفرعون وهو إمام الطواغيت فقال له {اذهب إلى فرعون إنه طغى. فقل هل لك إلى أن تزكى}، وقال تعالى{اذهبا إلى فرعون إنه طغى. فقولا له قولا لينا. لعله يتذكر أو يخشى}، وقال موسى له بعد أن أبى فرعون وطغى {أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم}، فبعد أن يئس من هدايته طلب منه رفع الظلم عن قومه، فإذا كان باستطاعة الأمة رفع يد الطاغوت عنها فذلك الواجب عليها، فإن عجزت عن ذلك، فلها أن تدعوه إلى الإسلام والإيمان، فإن رفض فلا أقل من دعوته إلى كف ظلمه عن المظلومين!
والثالث : لأن الاعتزال اليوم في ظل الدولة الحديثة مستحيل، فليس هناك شعاب وصحراء يلجأ إليها الإنسان، حتى يأمن فيها من تدخل الدولة في شئون حياته، منذ ولادته إلى وفاته، فهو يحمل جنسيتها وجواز سفرها وبطاقتها، ويدرس في مدارسها، ويعمل في وظائفها..الخ فمن لم يؤثر بها أثرت به شاء أم أبى!
ثم إن الشارع أمر الفرد بالاعتزال إذا وجد وسيلة لذلك، كما في الحديث (إذا رأيت شحا مطاعا، وهوى متبعا، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة)، وقال عند غياب الخلافة (فاعتزل تلك الفرق كلها)، أما الأمة والجماعة فهي مخاطبة بمجموعها بإقامة الواجبات الشرعية، بحسب قدرتها وطاقتها، كما قال صلى الله عليه وسلم (إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك الله أن يعمهم بعقابه)، وقال (لتأمرون بالمعروف، ولتنهون عن المنكر)، (ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا)..الخ
فللإنسان الذي يخاف على دينه ويجد وسيلة للاعتزال أن يعتزل، وللجماعة التي لا تستطيع مواجهة هذا الواقع أن تعتزله إذا استطاعت تحقيق ذلك فعلا، إلا أنه لا يعقل أن يدعو إنسان أو جماعة الأمة كلها بشعوبها التي تبلغ مليار ونصف، أن تعتزل الواقع، وأن لا تمارس حياتها، وألا تعمل في دولها وأوطانها، وألا تدافع عن حقوقها وحرياتها ومصالحها، وحماية أرضها من العدوان، بدعوى أن حكوماتها غير شرعية، أو أنها أنظمة حكم طاغوتية، أو أنه لا يجوز للشعوب أن تدعو هذه الحكومات إلى رفع الظلم، أو تحقيق العدل، أو تحقيق الوحدة بين شعوب الأمة وبلدانها التي فرقها الاستعمار، أو لا يحق للشعوب دعوة هذه الحكومات للدفاع عن الشعب الفلسطيني، أو رفع الحصار عن غزة، أو دعم الشعب العراقي، أو إنقاذ الشعوب المنكوبة بالفيضانات والمجاعات في بلدان العالم الإسلامي..الخ بدعوى أنها حكومات طاغوتية لا تحكم بما أنزل الله!
إن الأمة لن تتوقف عن الحياة ولن تموت، لأن بعض الجماعات توقفت عنها وماتت سياسيا! ولن تنتظر الأمة وشعوبها حتى يبلور الإسلاميون نظرياتهم عن الخلافة والحكومة الإسلامية، وهم خارج دائرة التأثير في واقعها السياسي، ولن تنتظر الأمة المهدي المنتظر، بل ستعيش الأمة حياتها، وستحافظ على ما يمكن لها أن تحافظ عليه من مصالحها، وستدافع عن حقوقها بفطرتها الطبيعية، وستدافع عن لقمة عيشها بغريزتها الفطرية، إلى أن تتحرر إرادتها، من قبضة عدوها الخارجي وعميله الداخلي، وستقف الأمة مع من يشاركها همومها وآلامها وآمالها، وستمضي مع من يضحي من أجلها لا من أجل نظرياته وأفكاره الخاصة به، ولن تشك الأمة في إسلامها وإيمانها، لأن هذه الجماعة أو تلك لها موقف من هذا النظام أو ذاك، فمن يستطيع تغيير هذا الواقع فليفعل بالعمل السلمي أو الثوري، وإلا فلا يطالب الأمة فوق طاقتها، إذ لا يقود الشعوب نحو التغيير والحرية والخلاص إلا القادة التاريخيون وعصائبهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)، مع أن المسلمين الذين لم يحضروا أكثر ممن شهد بدرا!
فإذا تأخر ظهور القادة التاريخيين وعصائبهم، فلا يكلف العامة بما لا يستطيعون، ولهذا جاءت البشارة بالطائفة المنصورة الظاهرة بالحق، وبالغرباء الذين يصلحون ما أفسد الناس، فالإصلاح هو مهمة النخبة من الأمة، الذين يجاهدون في الله حق جهاده، فإن نجحوا في مهمتهم وقامت الأمة معهم، وإلا فقد أدوا الذي عليهم، وكان للأمة عذرها في عدم قيامها معهم، سواء لعجزها وضعفها ووقوعها تحت حكم الطاغوت، أو لعجز المصلحين عن إقناعها وعجزهم عن تحريكها نحو الإصلاح!
[1] حاشية تفسير ابن جرير بتحقيق آل شاكر 2/348 .
[2] ص 28 - 35