ثانيا : الانحراف السياسي ومظاهره عند أهل السنة:
وكما كانت لدى طوائف المتأخرين من أهل السنة انحرافاتها العقائدية والسلوكية، فقد كانت أيضا لديها انحرافاتها السياسية والفقهية، وهذه الانحرافات أبرز ما تكون لدى الفقهاء والمذاهب الفقهية، منها عند أهل الحديث والصوفية، ومن هذه الانحرافات التي تصدى لها شيخ الإسلام ابن تيمية وأبان عن خطورتها:
1 ـ فصل السياسة عن الشريعة :
فقد كانت بوادر هذا الانحراف جلية مبكرا، في هذا الجانب، لما سبق ذكره من حدوث المحدثات السياسية بعد فترة الخلافة الراشدة، وتقبل الخطاب المؤول لها شيئا فشيئا، كما فصلته في (الحرية أو الطوفان) وفي (تحرير الإنسان)، وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية عن بدايات هذا الانحراف في هذا الباب ـ كما في مجموع الفتاوى (20/391) ـ فقال (وكما يجب أن يعرف أن أمر الله تعالى ورسوله متناول لكل من حكم بين الناس سواء كان واليا أو قاضيا أو غير ذلك، فمن فرق بين هذا وهذا بما يتعلق بأمر الله ورسوله فقد غلط، وأما من فرق بينهما بما يتعلق بالولاية لكون هذا ولي على مثل ذلك دون هذا فهذا متوجه، وهذا كما يوجد في كثير من خطاب بعض أتباع الكوفيين وفي تصانيفهم إذا احتج عليهم محتج بمن قتله النبي صلى الله عليه وسلم أو أمر بقتله؛ كقتله اليهودي الذي رض رأس الجارية، وكإهداره لدم السابة التي سبته وكانت معاهدة، وكأمره بقتل اللوطي ونحو ذلك، قالوا : هذا يعمله سياسة! فيقال لهم: هذه السياسة : إن قلتم هي مشروعة لنا فهي حق؛ وهي سياسة شرعية، وإن قلتم : ليست مشروعة لنا فهذه مخالفة للسنة، ثم قول القائل بعد هذا سياسة : إما أن يريد أن الناس يُساسون بشريعة الإسلام، أم هذه السياسة من غير شريعة الإسلام؟ فإن قيل بالأول فذلك من الدين وإن قيل بالثاني فهو الخطأ، ولكن منشأ هذا الخطأ أن مذهب الكوفيين فيه تقصير عن معرفة سياسة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسياسة خلفائه الراشدين، وقد ثبت في الصحيح عنه أنه قال(إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام نبي، وإنه لا نبي بعدي وسيكون خلفاء يكثرون؛ قالوا : فما تأمرنا؟ قال: أوفوا بيعة الأول فالأول وأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم) فلما صارت الخلافة في ولد العباس واحتاجوا إلى سياسة الناس وتقلد لهم القضاء من تقلده من فقهاء العراق، ولم يكن ما معهم من العلم كافيا في السياسة العادلة، احتاجوا حينئذ إلى وضع ولاية المظالم، وجعلوا ولاية حرب غير ولاية شرع، وتعاظم الأمر في كثير من أمصار المسلمين حتى صار يقال: الشرع والسياسة، وهذا يدعو خصمه إلى الشرع وهذا يدعو إلى السياسة، سوغ حاكما أن يحكم بالشرع والآخر بالسياسة ، والسبب في ذلك أن الذين انتسبوا إلى الشرع قصروا في معرفة السنة فصارت أمور كثيرة إذا حكموا ضيعوا الحقوق وعطلوا الحدود حتى تسفك الدماء وتؤخذ الأموال وتستباح المحرمات؟ والذين انتسبوا إلى السياسة صاروا يسوسون بنوع من الرأي من غير اعتصام بالكتاب والسنة، وخيرهم الذي يحكم بلا هوى، وتحرى العدل، وكثير منهم يحكمون بالهوى ويحابون القوي ومن يرشوهم ونحو ذلك، وكذلك كانت الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل المدينة يكون فيها من الحكم بالعدل ما ليس في غيرها من جعل صاحب الحرب متبعا لصاحب الكتاب ما لا يكون في الأمصار التي ظهر فيها مذهب أهل العراق ومن اتبعهم حيث يكون في هذه والي الحرب غير متبع لصاحب العلم، وقد قال الله تعالى في كتابه{لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم} الآية فقوام الدين بكتاب يهدي وسيف ينصر {وكفى بربك هاديا ونصيرا}) انتهى كلامه.
والمقصود هنا بالسياسة التي صارت مقابل الشرع في اصطلاح الفقهاء القدماء، والتي تحدث عنها شيخ الإسلام كمظهر من مظاهر الانحراف، ليست هي السياسة بمفهومها المعاصر التي موضوعها الدولة والسلطة ووظيفتها، بل معناها الأفعال التي يحتاجها الولاة لتنفيذ أحكام الشرع وسياسة شئون الأمة بالاجتهاد فيما لا نص فيه، أما الفصل بين الشرع والسياسة اليوم فقد وصل حدا لم يخطر على فقهاء الأمة ببال، ولم يتصور لها في خيال، وهو تعطيل أحكام الشرع نفسها وإبطالها بقطعياتها، واستبدال القوانين الوضعية بها، وهو الكفر البواح الصراح، ومع ذلك فلا تكاد تجد اليوم حكومة إلا ولها فقهاء يسوغون لها مثل هذا الانحراف، أو يبررونه ويعتذرون لها عنه!
2 ـ مشايعتهم السلطان بالأهواء واستباحتهم الأموال والدماء :
وقد كان علماء أهل السنة وفقهاؤهم أكثر عرضة لهذا الانحراف من غيرهم، بسبب وقوفهم مع الخلافة والدولة لإقامة الإسلام، وشرائع الأحكام، إلا أنهم ربما مال بعضهم في أهواء السلطان، كما قال ابن أبي ليلى (أكلنا من حلوائهم وملنا في أهوائهم)! وذلك لكون السلطة مظنة الفساد، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين سأله الولاية (إنك امرؤ ضعيف، وإنها أمانة، وإنها خزي وندامة يوم القيامة، إلا من أداها بحقها)!
وقد تحدث شيخ الإسلام عن بعض صور هذا الانحراف في هذا الباب ـ في مجموع الفتاوى (4/451) ـ وكيف أن الفقهاء المتأخرين خلطوا بين حكم من خرجوا عن طاعة ذي سلطان الذي لم تأمر النصوص بقتالهم، ومن خرجوا عن حكم الشريعة وخرجوا على الأمة، وهم الذين وردت النصوص بمشروعية قتالهم لردهم عن كفرهم كالمرتدين، أو دفعا لشرهم كالحرورية المارقين، فقال (الأصل الثابت بكتاب الله وسنة رسوله هو الفرق بين القتال لمن خرج عن الشريعة والسنة، فهذا الذي أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، وأما القتال لمن لم يخرج إلا عن طاعة إمام معين، فليس في النصوص أمر بذلك، فارتكب الأولون ـ أي الفقهاء الذين يشايعون أهواء الأمراء ـ ثلاثة محاذير:
الأول: قتال من خرج عن طاعة ملك معين وإن كان ـ الخارج عليه ـ قريبا منه أو مثله، في السنة والشريعة، لوجود الافتراق، والافتراق هو الفتنة.
والثاني: التسوية بين هؤلاء وبين المرتدين عن بعض شرائع الإسلام.
والثالث: التسوية بين هؤلاء وبين قتال الخوارج المارقين من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية؛ولهذا تجد تلك الطائفة ـ أي من هؤلاء الفقهاء ـ يدخلون في كثير من أهواء الملوك وولاة الأمور، ويأمرون بالقتال معهم لأعدائهم بناء على أنهم أهل العدل وأولئك البغاة؛ وهم في ذلك بمنزلة المتعصبين لبعض أئمة العلم أو أئمة الكلام أو أئمة المشيخة على نظرائهم مدعين أن الحق معهم أو أنهم أرجح بهوى قد يكون فيه تأويل بتقصير لا بالاجتهاد، وهذا كثير في علماء الأمة وعبادها وأمرائها وأجنادها، وهو من البأس الذي لم يرفع من بينها؛ فنسأل الله العدل؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا به) انتهى كلامه رحمه الله.
فقد صار هؤلاء الفقهاء يجوزون القتال مع الولاة لتأييد سلطانهم وفرض طغيانهم، واستباحة دم كل من خرج عليهم، وإن كانوا خرجوا دفعا للظلم عن أنفسهم، الذي أجمع سلف الأمة وأئمة أهل السنة أنه لا يحل قتالهم حتى مع الإمام العدل، إلا بعد التحكيم ورفع الظلم عنهم، كما قال علي في شأن الخوارج (إن خرجوا على إمام جور فلا تقاتلوهم فإن لصاحب الحق مقالا، وإن خرجوا على إمام عدل فقاتلوهم).
وأما الإمام الجائر فلا يرى أهل السنة القتال معه على من خرج عليه مطلقا، خاصة إذا خرج عليه أهل العدل ـ كما سبق تفصيله ـ ومع ذلك كله فقد بلغ الانحراف في هذه الطائفة من المتفقهة المشايعة لأهواء أمرائها وولاتها أن جعلت حكم كل من خرج عليهم حكم الخوارج المارقين أو الكفار المرتدين!!
وهذا الانحراف الذي تحدث عنه شيخ الإسلام إنما كان حين كان، لما كانت الخلافة قائمة، والشريعة حاكمة، والجهاد ماض، ولم يبلغ الأمر ما بلغ اليوم في ظل عصر دويلات الطوائف، وسلطان الطواغيت، من تعطيل أحكام الإسلام وقطعيات الدين، وإعلان الحرب على الله ورسوله والمسلمين!
فمن تأمل هذه النصوص عن شيخ الإسلام عرف أسباب انحلال قوة المسلمين، وفساد أحوالهم، بسبب تحالف أئمة الجور، وفقهاء السلطة، لتكون الأمة هي الضحية!
3 ـ إباحة أن يخرج الولاة عن سنن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في سياسة شئون الأمة، وفي المقابل تحريم خروج الأمة عن طاعة الولاة مطلقا :
وهذا شائع بين طوائف الفقهاء الذين يعملون للأمراء، فيسوغون لهم كثيرا من المحرمات، ويوجبون طاعتهم مطلقا عمليا وواقعيا، وإن كانوا ينفون وجوبها نظريا، وقد تحدث شيخ الإسلام عن انحراف هذه الطائفة من الفقهاء ومشايعتها لأهواء الأمراء، فقال في الفتاوى (35/22) ـ عنهم وأن منهم (من يبيح الملك مطلقا من غير تقيد بسنة الخلفاء كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراخ المرجئة)!
وقد عمت هذه الفتنة وطمت في العصر الحديث، حتى لا يكاد فقهاء أي دولة يخرجون عما تذهب إليه السلطة التي تحكمهم، وحتى صارت الفتوى مرهونة بموقف السلطة السياسية، وحتى صار الشيء يكون حراما تارة، وحلالا فترة أخرى، لا لسبب إلا لكون السلطة أرادت ذلك، ثم لا يقف الانحراف والإباحية عند ذلك حتى يُمنع بل يُقمع كل من أراد بيان المنكر، أو من يبدي اعتراضا عليه، ولو بالكلمة! وكل ذلك لترسيخ ظلم السلطة وطغيانها باسم الإسلام والسنة!
وإذا أردت أن ترى الصورة جلية واضحة أشد ما تكون في هذا الانحراف، فانظر إلى الفتاوى والرسائل ـ ككتاب حمد عثمان وتقريض الفوزان ـ التي تدعو إلى طاعة الطاغوت الذي لا يحكم أصلا بشريعة الإسلام، وإلى نصرته وتوليه، والذب عنه، والدعوة إليه، والرضا به، والدعاء له, بدعوى أنه ولي أمر للمسلمين، مع قوله تعالى {يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به}!
ثم لا يتردد هؤلاء المتفقهة أن يصفوا من يدعو إلى هذه الوثنية بأنه على السنة والسلفية، ويصفوا في المقابل من يدعو إلى توحيد الله في الحاكمية وجعل الكتاب والسنة هو المرجعية التشريعية بأنه من المعتزلة والحرورية، ليجعلوا للطاغوت ـ في كل بلد ابتلي المسلمون فيه بحكمه ـ ذريعة لسفك دماء العلماء المصلحين، والدعاة المجاهدين، بدعوى أنهم بغاة على الطاغوت يحل قتلهم وسجنهم حتى يتوبوا ويؤمنوا بالطاغوت وحده، وحقه في الحكم بينهم من دون حكم الله ورسوله!
وإنما حمل هؤلاء المفتونين في دينهم : غرورهم بما هم عليه من دعوى أنهم أهل التوحيد والسنة والسلفية، ورضاهم بما هم عليه من الفتنة في الحياة الدنية، ظنا منهم أنهم على الحق، وما شعروا بمدى الانحراف الذي آلت إليه أمورهم حد عبادة الطاغوت ومولاته وحزبه!
ولا يعتذر مفتون بأن هذا الكفر من هؤلاء الطواغيت هو كفر تأويل، كما أطلق بعض السلف على بعض خلفاء المسلمين كالمأمون، فهذا اعتذار باطل، وتبرير عاطل، فإن كفر التأويل هو اجتهاد من مسلم أراد طاعة الله ورسوله تعظيما لشرعه ودينه، كما فعل المأمون والمعتصم، فإنهم كانوا يتصورون أن ما هم عليه هو دين الله وشرعه فأرادوا حمل الأمة عليه، وكذا أهل الأهواء من أهل القبلة، فأكثرهم اجتهد فيما ذهب إليه خشية الله واليوم الآخر، حتى قال علي في شأن من خرجوا عليه وكفروه، حين سئل عنهم أكفار هم؟ قال من الكفر فروا! قيل أمنافقون هم؟ قال إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا!
فهؤلاء يدخلون في عموم قوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} قال الله (قد فعلت) وفي الحديث (إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) فرفع الله عن هذه الأمة المؤمنة به إثم الخطأ والنسيان والإكراه.
أما هؤلاء الطواغيت فأكثرهم كما يعرف من حالهم وأقوالهم ماديون لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ولا بأركان الإيمان، ولا بفرائض الإسلام، ولا بوجوب التحاكم إلى الله ورسوله، ولا يعظمون حرمات الله، بل الإسلام والشريعة في نظرهم تخلف ورجعية، وهم جادون في حرب كل من يدعوهم إلى العودة إلى الإسلام وتحكيم شريعته، بالقتل والسجن والتهجير، فكفرهم كفر إباء واستكبار في الأرض بغير الحق، فمن قاس حال هؤلاء بحال خلفاء المسلمين الذين وقع بعضهم بكفر التأويل، فإنما هو كمن قاس حال آدم حين عصى الله بحال إبليس!
ومن لم يفرق بين هذا وهذا، فقد خلط بين أحكام التأويل، وأحكام الردة التي لا يخلو كتاب فقهي من بيانها!
ثم إن كفر التأويل إنما هو في مسائل عقائدية نظرية غيبية لا يترتب عليها عمل، ولم يخض فيها سلف الأمة بل اكتفوا فيها بالإيمان الإجمالي، فجاء من بعدهم فتعمقوا وتأولوا القرآن على غير وجهه فأخطأوا، أما تعطيل الشرع فهو قضية عملية إجماعية قطعية لا يتصور فيها التأويل والخطأ، فالمسلمون كافة على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وعقائدهم مجمعون على وجوب الحكم بين المسلمين بحكم الله ورسوله، وأن هذا هو الإسلام منذ أن جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وعمل به بعده الخلفاء الراشدون ثم الخلفاء المسلمون مدة ألف وثلاثمائة عام، لم يقع بينهم خلاف في ذلك، ولا يتصورون الخلاف فيه لكونه من الإجماع العملي المقطوع به، حتى أنهم اختلفوا في توحيد الصفات ومسائل الإيمان والأسماء والأحكام والقضاء والقدر، ولم يختلفوا في حاكمية الله وضرورة التحاكم إليه والنزول على حكمه للدخول في عقد الإسلام!
بل أجمع السلف وأهل السنة على وجوب جهاد وقتال من لم يلتزم بشريعة واحدة من شرائع الإسلام ولو كان يقر بها، فالترك وحده موجب لجهاده، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في الفتاوى (28/ 502- 503) ـ (كل طائفة ممتنعة عن التزام شريعة من شرائع الإسلام الظاهرة المتواترة من هؤلاء القوم وغيرهم، فإنه يجب قتالهم حتى يلتزموا شرائعه، وإن كانوا مع ذلك ناطقين بالشهادتين، وملتزمين بعض شرائعه، كما قاتل أبو بكر الصديق والصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة - مع أنهم لم يجحدوا وجوب الزكاة عليهم - وعلى ذلك اتفق الفقهاء بعدهم، فاتفق الصحابة رضي الله عنهم على القتال على حقوق الإسلام، عملاً بالكتاب والسنة...فعلم أن مجرد الاعتصام بالإسلام مع عدم التزام شرائعه، ليس بمسقط للقتال، فالقتال واجب حتى يكون الدين كله لله، وحتى لا تكون فتنة، فمتى كان الدين لغير الله فالقتال واجب، فأيما طائفة امتنعت من بعض الصلوات المفروضات، أو الصيام، أو الحج، أو عن التزام تحريم الدماء، والأموال، والخمر، والزنا، والميسر، أو عن نكاح ذوات المحارم، أو عن التزام جهاد الكفار، وغير ذلك من واجبات الدين ومحرماته، التي يكفر الجاحد لوجوبها، فإن الطائفة الممتنعة تقاتل عليها، وإن كانت مقرة بها، وهذا مما لا أعلم فيه خلافاً بين العلماء).
فتأمل هذا النص كيف نقل فيه شيخ الإسلام إجماع سلف الأمة على وجوب جهاد وقتال أي طائفة لا تلتزم بممنع المحرمات القطعية كالربا، والزنا، والخمر، حتى لو أقرت بحرمتها! دع عنك عدم تطبيق الشريعة كلها وتعطيلها جملة، وفرض القوانين المسيحية الإنجليزية والفرنسية بدل الكتاب والسنة، فهذه ردة جامحة لا يشك فيها إلا من لم يعرف القرآن وحقائق الإيمان!
فكيف يسوغ القول بأن لمثل هذه الطوائف وحكوماتها طاعة شرعية وولاية على الأمة، مع أن الواجب هو جهادها ومفارقتها والبراءة منها، لا الجهاد معها، والسمع والطاعة لها!
وقد قرر شيخ الإسلام أيضا – كما في الفتاوى (28/356-359) ـ بأن هذا حكم عام في كل طائفة تدعي الإسلام وتترك شيئا من شرائعه الظاهرة ولو شريعة واحدة، وجهادها واجب على الأمة كلها، فمن قدر عليه وجب عليه (وأيما طائفة انتسبت إلى الإسلام، وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة، فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين، حتى يكون الدين كله لله، كما قاتل أبو بكر الصديق رضي الله عنه وسائر الصحابة رضي الله عنهم مانعي الزكاة، وكان قد توقف في قتالهم بعض الصحابة، ثم اتفقوا، حتى قال عمر بن الخطاب لأبي بكر رضي الله عنهما: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله ( "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله؛ وأن محمدًا رسول الله، فإذا قالوها، فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؛ وحسابهم على الله"؛ فقال له أبو بكر: فإن الزكاة من حقها، والله لو منعوني عناقًا كانوا يؤدونها إلى رسول الله لقاتلتهم على منعها، قال عمر: فما هو إلا أن رأيت الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال: فعلمت أنه الحق) ...فثبت بالكتاب والسنة وإجماع الأمة، أنه يقاتل من خرج عن شريعة الإسلام، وإن تكلم بالشهادتين... وقتال هؤلاء واجب ابتداء بعد بلوغ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم.. فهو فرض على الكفاية، إذا قام به البعض سقط الفرض عن الباقين، وكان الفضل لمن قام به).
فصارت هذه الطوائف الممتنعة بحكوماتها اليوم، التي لا تلتزم منع الربا في دولها، ولا منع الزنا، ولا منع الخمر، ولا منع سفك الدماء ظلما وعدوانا، ولا الحكم بشريعة الإسلام : كلها - في نظر هؤلاء الفقهاء - حكومات شرعية لها على الأمة وجوب السمع والطاعة، لا جهادها ومجاهدتها، ثم لا يتردد هؤلاء الفقهاء المفتونون، والأئمة المضلون أن ينسبوا أقوالهم إلى سلف الأمة وأهل السنة!
4 ـ تعطيل فرض الجهاد والتخذيل عنه والاعتذار لتركه :
وهذا من مظاهر الانحراف السياسي عند كثير من الفقهاء، فهم في هذا الباب أجبن مما سواه، وإنما أُتيت الأمة من هؤلاء، حتى وقع المسلمون في كثير من البلدان تحت الاحتلال، بخور هؤلاء الفقهاء وجبنهم، فقد أفتى كثير من علماء الشام حين غزاها التتار بحرمة جهادهم، وقاموا بتخذيل الناس عنه، تارة بدعوى عدم القدرة عليهم، وتارة بدعوى أن مع التتار مسلمين معصومي الدم، وقد تصدى شيخ الإسلام لكل هذه الشبه، وأكثر من الردود عليهم، وقرر جواز رميهم، وإن قتل المسلمون الذين معهم إذا كانوا مكرهين، وإلا فحكمهم إن كانوا غير مكرهين حكم أهل الردة، ونعى على فقهاء عصره تخليهم عن الجهاد وتقاعسهم عنه، حتى قال – كما في الاستقامة (1/265) - عن الجهاد في سبيل الله بأنه (أعلى ما يحبه الله ورسوله، واللائمون عليه كثير،إذ كثير من الناس الذين فيهم إيمان يكرهونه، وهم إما مخذِّلون مفتِّرون للهمة والإرادة فيه، وإما مرجفون مضعِّفون للقوة والقدرة عليه، وإن كان ذلك من النفاق، قال تعالى{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً}[الأحزاب:18]، وقال تعالى{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب:60]).
وقد أوجب شيخ الإسلام في جهاد الدفع ـ إذا دهم العدو دار الإسلام ـ صد العدو وقتاله بكل وسيلة، على كل المسلمين، سواء من قصدهم العدو، أو من لم يقصدهم العدو، وأنه لا يشترط لجهاد الدفع أي شرط، وأن من امتنع عن هذا النوع من الجهاد فحكمه حكم الطائفة الممتنعة من بعض شرائع الإسلام يجب جهادها كما يجاهد العدو! فقال ـ كما في الفتاوى (28/359) ـ (فأما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين، فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين كلهم، وعلى غير المقصودين، لإعانتهم، كما قال الله تعالى{وَإِنْ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمْ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} [الأنفال:72]، وكما أمر النبي النبي صلى الله عليه وسلم بنصر المسلم، وسواء كان الرجل من المرتزقة للقتال ـ أي جندي ـ أو لم يكن، وهذا يجب بحسب الإمكان على كل أحد بنفسه وماله، مع القلة والكثرة، والمشي والركوب، كما كان المسلمون لما قصدهم العدو عام الخندق لم يأذن الله في تركه لأحد، كما أذن في ترك الجهاد ابتداء لطلب العدو، الذي قسمهم فيه إلى قاعد وخارج، بل ذم الذين يستأذنون النبي {َقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا} [الأحزاب:13]، فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار، وذلك قتال اختيار: للزيادة في الدين وإعلائه، ولإرهاب العدو، كغزاة تبوك ونحوها، فهذا النوع من العقوبة ـ أي القتال لمن لم يجاهد جهاد الدفع ـ هو للطوائف الممتنعة).
وقد رأينا في هذه العصر الذي استولى العدو على الأمة بجيوشه وحروبه الاستعمارية كيف خرج بعض المفتين المفتونين ليقول بأنه لا جهاد اليوم، وأنه لا جهاد بلا راية وإمام؟ مع أن الأمة اليوم أحوج ما تكون إلى الجهاد والقتال والتعبئة والتحريض عليه! ثم لا يترددون عن تسويق باطلهم وخيانتهم لله ورسوله وللمسلمين من ادعاء أن قولهم هذا قول أهل السنة وسلف الأمة!
وقد كانت مساجد المسلمين قبل عشرين سنة تعج وتضج بالدعوة لجهاد الروس حين احتلوا أفغانستان، ولم يتخلف الفقهاء في كل بلد من إصدار الفتاوى بوجوب ذلك، مشايعة من أكثرهم لأهواء حكوماتهم التي تدور في فلك أمريكا، فلما خرج الروس وجاء الصليبيون الغربيون، واحتلوا العراق وأفغانستان، فإذا فقهاء السلطة يبتدعون شرط الراية والإمام من عند أنفسهم افتراء على الله وعلى السنة وسلف الأمة!
فتارة يصفون الجهاد بأنه فتنة، وتارة بأنه إرهاب، وتارة بأنه خروج وإفساد في الأرض، وتارة بأنه عبث لا مصلحة منه، وأحسنهم طريقة من لا يرى وجوبه على الأمة، والعدو يدهم بلدان المسلمين بلدا بلدا!
فإذا نظرت في الأمور وخباياها فإذا القوم يقولون ما يقولون، مشايعة لحكوماتهم وتوجهاتها السياسية لا طاعة لله ولا هم يحزنون!
هذا مع أن كل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية والمواثيق الدولية تقرر حق كل شعب في مقاومة الأجنبي المحتل، ومع ذلك صادر علماء الفتنة على الأمة ما تقرره كحق إنساني كل أمم الأرض!
هذا مع إجماع الأمة على قتال العدو إذا دهم أرض المسلمين، وأن قتاله ليس قتال فتنة، بل الفتنة هي في تركه وعدم مدافعته، بل ليس بعد الشرك بالله أعظم من الصد عن قتاله، كما قال ابن حزم في المحلى 7 / 300 (ولا إثم بعد الكفر أعظم من إثم من نهى عن جهاد الكفار وأمر بإسلام حريم المسلمين إليهم)!
كما لا شيء أوجب بعد الإيمان بالله من دفع العدو عن أرض الإسلام، ولا يشترط للجهاد في هذه الحال أي شرط إطلاقا ـ خلا شروط التكليف العامة في كل واجب ـ بل على كل أحد الدفع بما استطاع فلا يستأذن الولد والده، ولا الزوجة زوجها،ولا الغريم غريمه، وكل هؤلاء أحق بالإذن والطاعة من الإمام، ومع ذلك سقط حقهم في هذه الحال، إذ الجهاد فرض عين على الجميع فلا يشترط له إذن إمام فضلا عن وجوده، قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ في الفتاوى المصرية 4 / 508 - (أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان)، وقال أيضا(وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليها بلا إذن والد ولا غريم)، وقال (وقتال الدفع مثل أن يكون العدو كثيرا لا طاقة للمسلمين به، لكن يخافون إن انصرفوا عن عدوهم عطف العدو على من يخلفون من المسلمين، فهنا صرح أصحابنا بأنه يجب أن يبذلوا مهجهم ومهج من يخاف عليهم في الدفع حتى يسلموا،ونظيره أن يهجم العدو على بلاد المسلمين، وتكون المقاتلة أقل من النصف فإن انصرفوا استولوا على الحريم، فهذا وأمثاله قتال دفع لا قتال طلب لا يجوز الانصراف فيه بحال).
وليس وجود الإمام شرطا في وجوب الجهاد بنوعيه عند أهل السنة والجماعة، فضلا عن إذنه، وإنما يشترط وجوده الشيعة الإمامية، أما عند أهل السنة فالعكس هو الصحيح، إذ إقامة الجهاد شرط لصحة إمامة الإمام، فلا إمام بلا جهاد، لا أنه لا جهاد بلا إمام، كما قال العلامة عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب في بيان بطلان هذا الشرط ـ في الدرر السنية في الفتاوى النجدية 7/ 97 ط أولى ـ(بأي كتاب أم بأي حجة أن الجهاد لا يجب إلا مع إمام متبع؟ هذا من الفرية في الدين والعدول عن سبيل المؤمنين، والأدلة على بطلان هذا القول أشهر من أن تذكر من ذلك عموم الأمر بالجهاد والترغيب فيه والوعيد في تركه)، ثم استدل على مشروعية ذلك بجهاد أبي بصير ومن معه للمشركين فقال(فهل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أخطأتم في قتال قريش لأنكم لستم مع إمام؟ سبحان الله ما أعظم مضرة الجهل على أهله؟!)، ثم قرر هذه القاعدة السياسية العظيمة في باب الإمامة وحكم الجهاد، وأن الإمام لا شرعية له إذا ترك الجهاد في سبيل الله (كل من قام بالجهاد في سبيل الله فقد أطاع الله وأدى ما فرضه الله، ولا يكون الإمام إماما إلا بالجهاد، لا أنه لا يكون جهاد إلا بإمام).
ثم إن أخطر ما في هذه الآراء القاديانية أنها تعرض على الأمة باسم السنة والسلفية!
فانظر في حال هذه الطوائف السنية كيف صار عندهم اليوم أصلا من أصول الدين، ما كان بالأمس من الفرية في الدين، والعدول عن سبيل المؤمنين!
وانظر كيف أطبقوا على السكوت عن وجوب نصرة المسلمين في أفغانستان والعراق، وهو جهاد دفع بأوضح صوره، حتى لا تكاد تسمع فتوى من عالم من علماء هذه الطوائف بوجوب ذلك لا فرض عين ولا فرض كفاية! بل فتاواهم على عكس ذلك فهي أشد فتكا بالأمة من أسلحة عدوها!
5 ـ حملهم الأمة على فتاواهم الفقهية وآرائهم السياسية السلطانية والحبس لمن خالفها :
وهذا من مظاهر الانحراف عند بعض متأخري فقهاء أهل السنة، هذا مع أن المعلوم من أصول أهل السنة أنهم لا يوجبون اتباع أحد بعينه في مواطن النزاع والاجتهاد، دع عنك إلزامهم بما يرونه حراما في مذاهبهم، فضلا عن الحبس والتعذيب، مما لا تعرفه إلا محاكم التفتيش المسيحي!
وقد كان شيخ الإسلام ابن تيمية قد تعرض هو نفسه لطغيان الخطاب الديني السياسي حتى سجن بسبب فتواه بأن الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة، وقد حاول السلطان والقضاة منعه من ذلك بحجة أنه مخالف لإجماع المذاهب الأربعة! فلم ير ابن تيمية للسلطان الحق في منعه، لحديث (من كتم علما ألجمه الله بلجام من نار)، وكان لا يرى أن السكوت يسعه، ولهذا نعى على قضاة عصره وفقهاء مصره مثل هذه التجاوزات والانحرافات في سياسة الأمة، وكان يبين أصول أهل السنة والجماعة وسلف الأمة في إقرار التعددية الاجتهادية، واحترام الاختلاف في الرأي، فقال ـ في الفتاوى (20/10) ـ (وأما أقوال بعض الأئمة كالفقهاء الأربعة وغيرهم؛ فليس حجة لازمة ولا إجماعًا باتفاق المسلمين، بل قد ثبت عنهم رضي الله عنهم، أنهم نهوا الناس عن تقليدهم؟ وأمروا إذا رأوا قولاً في الكتاب والسنة أقوى من قولهم: أن يأخذوا بما دل عليه الكتاب أو السنة ويدعوا أقوالهم؛ ولهذا كان الأكابر من أتباع الأربعة لا يزالون إذا ظهر لهم دلالة الكتاب أو السنة على ما يخالف قول متبوعهم اتبعوا ذلك).
كما قال أيضا ـ في الفتاوى (35/378-381) ـ (كان أئمة السنة والجماعة لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد ولا يكرهون أحدًا عليه، ولهذا لما استشار هارون الرشيد مالك بن أنس في حمل الناس على موطئه، قال له: (لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله ( تفرقوا في الأمصار فأخذ كل قوم عمن كان عندهم وإنما جمعت علم أهل بلدي)، أو كما قال، وقال مالك أيضًا (إنما أنا بشر أصيب وأخطئ، فاعرضوا قولي على الكتاب والسنة).
وقال أبو حنيفة (هذا رأي فمن جاءنا برأي أحسن منه قبلناه).
وقال الشافعي (إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط)، وقال (إذا رأيت المحجة موضوعة على الطريق فإني أقول بها).
وقال المزني في أول مختصره (هذا كتاب اختصرته من علم أبي عبدالله الشافعي لمن أراد معرفة مذهبه، مع إعلامه نهيه عن تقليده)) انتهى كلام شيخ الإسلام.
وقال أيضا (وقد فرض الله على ولاة أمر المسلمين اتباع الشرع الذي هو الكتاب والسنة، وإذا تنازع بعض المسلمين في شيء من مسائل الدين ولو كان المنازع من آحاد طلبة العلم لم يكن لولاة الأمور أن يلزموه باتباع حكم حاكم ـ أي حكم القاضي ـ بل عليهم أن يبينوا له الحق كما يبين الحق للجاهل المتعلم، فإن تبين له الحق الذي بعث الله به رسوله وظهر وعانده بعد هذا استحق العقاب،وأما من يقول: إن الذي قلته هو قولي، أو قول طائفة من العلماء المسلمين؛ وقد قلته اجتهادًا، أو تقليدًا: فهذا باتفاق المسلمين لا تجوز عقوبته، ولو كان قد أخطأ خطأ مخالفًا للكتاب والسنة، ولو عوقب هذا لعوقب جميع المسلمين، فإنه ما منهم من أحد إلا وله أقوال اجتهد فيها أو قلد فيها وهو مخطئ فيها؛ فلو عاقب الله المخطئ لعاقب جميع الخلق، فالمفتي والجندي والعامي إذا تكلموا بالشيء بحسب اجتهادهم اجتهادًا أو تقليدًا قاصدين لاتباع الرسول بمبلغ علمهم لا يستحقون العقوبة بإجماع المسلمين، وإن كانوا قد أخطأوا خطأ مجمعًا عليه،وإذا قالوا إنا قلنا الحق، واحتجوا بالأدلة الشرعية: لم يكن لأحد من الحكام أن يلزمهم بمجرد قوله، ولا يحكم بأن الذي قاله هو الحق دون قولهم، بل يحكم بينه وبينهم الكتاب والسنة والحق الذي بعث الله به رسوله لا يغطى بل يظهر، فإن ظهر رجع الجميع إليه، وإن لم يظهر سكت هذا عن هذا وسكت هذا عن هذا؛ كالمسائل التي تقع يتنازع فيها أهل المذاهب لا يقول أحد إنه يجب على صاحب مذهب أن يتبع مذهب غيره لكونه حاكمًا، فإن هذا ينقلب، فقد يصير الآخر حاكمًا فيحكم بأن قوله هو الصواب، فهذا لا يمكن أن يكون كل واحد من القولين المتضادين يلزم جميع المسلمين اتباعه، بخلاف ما جاء به الرسول فإنه من عند الله؛ حق وهدى وبيان، ليس فيه خطأ قط، ولا اختلاف ولا تناقض قال تعالى{أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا}،وعلى ولاة الأمر أن يمنعوهم من التظالم، فإذا تعدى بعضهم على بعض منعوهم العدوان؛ وهم قد أُلزموا بمنع ظلم أهل الذمة؛ وأن يكون اليهودي والنصراني في بلادهم إذا قام بالشروط المشروطة عليهم، لا يلزمه أحد بترك دينه؛ مع العلم بأن دينه يوجب العذاب، فكيف يسوغ لولاة الأمور أن يُمكِّنوا طوائف المسلمين من اعتداء بعضهم على بعض؛ وحكم بعضهم على بعض بقوله ومذهبه، وهذا مما يوجب تغير الدول وانتقاضها؛ فإنه لا صلاح للعباد على مثل هذا، وهذا إذا كان الحكام قد حكموا في مسألة فيها اجتهاد ونزاع معروف، فإذا كان القول الذي قد حكموا به لم يقل به أحد من أئمة المسلمين، ولا هو مذهب أئمتهم الذين ينتسبون إليهم؛ ولا قاله أحد من الصحابة والتابعين؛ ولا فيه آية من كتاب الله وسنة رسوله، بل قولهم يخالف الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، فكيف يحل مع هذا أن يُلزم علماء المسلمين باتباع هذا القول، وينفذ فيه هذا الحكم المخالف للكتاب والسنة والإجماع، وأن يقال: القول الذي دل عليه الكتاب والسنة وأقوال السلف لا يقال، ولا يفتى به بل يعاقب ويؤذى من أفتى به، ومن تكلم به، ويؤذى المسلمون في أنفسهم وأهليهم وأموالهم لكونهم اتبعوا ما علموه من دين الإسلام وإن كان قد خفي على غيرهم، وهم يَعذرون من خفي عليه ذلك ولا يُلزمون باتباعهم، ولا يعتدون عليه، فكيف يعان من لا يعرف الحق بل يحكم بالجهل والظلم، ويلزم من عرف ما عرفه من شريعة الرسول أن يترك ما علمه من شرع الرسول لأجل هذا؟ لا ريب أن هذا أمر عظيم عند الله تعالى وعند ملائكته وأنبيائه وعباده، والله لا يغفل عن مثل هذا)انتهى كلامه رحمه الله.
وما ذكره شيخ الإسلام هو بعينه ما يجري اليوم في أكثر بلدان المسلمين، فصار يعاقب بالسجن والتهجير كل من يفتي بخلاف هوى الحكومات، دع عنك من يتصدى لجورها، حتى امتلأت السجون من يرون ـ مجرد رأي ـ وجوب جهاد العدو المحتل الصائل على المسلمين، وكل من يجاهده بماله ونفسه وفتواه، مع أن ذلك من المعلوم وجوبه بالضرورة القطعية في دين الإسلام، وليس من القضايا الخلافية التي نقل شيخ الإسلام بأنه لا عقاب على من قال فيها باجتهاده أو بتقليده لإمام من أئمة المسلمين!
فتأمل كيف كان أئمة أهل السنة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ينهون عن التقليد، ويدعون إلى الاجتهاد، ويقررون احترام التعددية الفقهية، ويمنعون من إلزام أحد بغير مذهبه الفقهي، ثم كيف آل الأمر بالمتأخرين حتى ضاق بهم العطن ليس في القضايا الخلافية، بل حتى في القضايا الإجماعية فيريدون حمل الأمة كلها على أهواء طغاتهم وطواغيتهم وأحبارهم ورهبانهم مما خالفوا فيه الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة!
بل حتى مسألة الإمام الجائر وطاعته وحدود هذه الطاعة كل ذلك قضايا خلافية عند أئمة أهل السنة لا يسوغ حمل أحد على خلاف ما يدين الله به من هذه الأقوال كما يحاول ذلك فقهاء السوء في هذا العصر ليستحل الطغاة دماء الأبرياء ظلما وعدوانا بفتاوى فقهاء الفتنة!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كون هذه القضية خلافية أيضا ـ في منهاج السنة (4/525-527) ـ (وللناس نزاع في تفاصيل تتعلق بهذه الجملة ليس هذا موضعها، مثل إنفاذ حكم الحاكم الفاسق إذا كان الحكم عدلاً، ومثل الصلاة خلف الفاسق هل تعاد أم لا؟ والصواب الجامع في هذا الباب أن من حكم بعدل أو قسم بعدل نفذ حكمه وقسمه، ومن أمر بمعروف أو نهى عن منكر أعين على ذلك، إذا لم يكن في ذلك مفسدة راجحة، وأنه لا بد من إقامة الجمعة والجماعة، ... وإذا لم يمكن صلاة الجمعة والجماعة وغيرهما إلا خلف الفاجر والمبتدع صليت خلفه ولم تعد).
وقال أيضا ـ في منهاج السنة (3/390-391) ـ (الناس قد تنازعوا في ولي الأمر الفاسق والجاهل: هل يطاع فيما يأمر به من طاعة الله، وينفَّد حكمه وقسمه إذا وافق العدل؟ أو لا يطاع في شيء، ولا ينفذ شيء من حكمه وقسمه؟ أو يفرَّق في ذلك بين الإمام الأعظم وبين القاضي ونحوه من الفروع؟ على ثلاثة أقوال، أضعفها عند أهل السنة هو رد جميع أمره وحكمه وقسمه، وأصحها عند أهل الحديث وأئمة الفقهاء هو القول الأول، وهو أن يطاع الله مطلقًا وينفذ حكمه وقسمه إذا كان فعله عدلاً مطلقًا، والقول الثالث: هو الفرق بين الإمام الأعظم وبين غيره، لأن ذلك لا يمكن عزله إذا فسق إلا بقتال وفتنة، بخلاف الحاكم ونحوه، فإنه يمكن عزله بدون ذلك، وهذا فرق ضعيف، فإن الحاكم إذا ولاَّه ذو الشوكة لم يمكن عزله إلا بفتنة، ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه، لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين لدفع أدناهما، وكذلك الإمام الأعظم).
فتأمل كيف جعل شيخ الإسلام قضية طاعة الجائر خلافية عند أهل السنة، بينما يريد دعاة الفتنة جعلها أصل من أصول الدين، مع أن شيخ الإسلام إنما يتحدث عن الإمام الفاسق أو الجائر في ظل دولة الإسلام وخلافته هل يطاع وينفذ حكمه أم لا؟ بينما دعاة الفتنة يقررون وجوب طاعة طواغيتهم الذين لا يحكمون أصلا بالإسلام، ويجعلون طاعتهم ليس قضية اجتهادية لا تثريب على من خالفهم فيها، بل قضية إجماعية وأصلا من أصول أهل السنة وسلف الأمة!!
وشيخ الإسلام يقرر أن القول الراجح عند أهل السنة تنفيذ أمره وطاعته في حال واحده وهو ما كان عدلا وحقا موافقا الكتاب والسنة، بينما دعاة الفتنة يوجبون طاعته فيما هو مضاد لحكم الله ورسوله، كسجن الحكومات لمن جاهد العدو، ولمن أعانه، ولمن أفتى له، مع أن هؤلاء إنما قاموا بما أوجب الله ورسوله عليهم، ومما لا يحتاجون فيه إلى إذن أحد بإجماع الأمة!
وقد أدى انحراف الفقهاء المتأخرين إلى فتنة كبرى للمسلمين، حتى صاروا أحد أسباب تخلف الأمة السياسي، حين يزينون للطغاة ظلمهم وعدوانهم وطغيانهم واستبدادهم، ويوجبون على الأمة طاعتهم، كما أدى ضيق عطنهم بالرأي المخالف لأهوائهم وأهواء ولاة أمرهم إلى ضيق الأمة بهم، وتخوفها منهم، حتى صار الناس يفضلون العلمانية وإقصاء الدين ورجاله عن شئون الأمة، لما رأوه من فظائعهم، فهم حين يتدخلون في السلطة وشئونها يفرقون الأمة، ويمزقون شملها، ويحرضون الطغاة عليها، وهي فتنة عامة في كل بلد، على اختلاف درجاتها شدة وخفة، وقد رأى الشعب العراقي من ذلك أهوالا تشيب لها الولدان حين حكم رجال الدين الطائفيون، فاستباحوا الدماء حتى بلغ عدد من صدرت فيهم أحكام بالإعدام خلال خمس سنوات فقط خمسة عشر ألف، سوى عشرات الآلاف من القتلى دون محاكمات تم تصفيتهم بفرق الموت بالطرقات، ليستعيد التاريخ ذكرى الحشاشين وفرق موتهم!
وفي الطرف الآخر استباح المتطرفون باسم السنة والسلفية دماء الأبرياء بحجة المقاومة!
فصار الشعب العراقي يفضل العلمانيين والليبراليين على رجال الدين وأحزابهم الطائفية السنية والشيعية، لما رأوه من عجزهم عن إقامة العدل بينهم!
فهذه فتنة عامة فلم يعد الإسلام الممسوخ الذي يدعو إليه هؤلاء الفقهاء قادرا على جمع كلمة الأمة، ولا على تحقيق العدل بينها، ولا على تحريرها من الظلم والطغيان، ولا على تحررها من الاستعمار والاحتلال، فحيثما وليت وجهك وجدت دعاة الفتنة وفقهاء السلطة يحولون بين الأمة وبين كل ذلك، حتى فتنوها في دينها ودنياها، فصارت تبحث عن حل مشاكلها بالقومية تارة، وبالشيوعية والاشتراكية تارة، وبالديمقراطية والليبرالية تارة، لتخرج من هذا التيه الذي هي فيه، مع أن الحل جلي بين كما جاء في الحديث الصحيح (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا كتاب الله وسنتي) وقال (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وإياكم ومحدثات الأمور).
وإنما لما كان هؤلاء الفقهاء من حيث العلم والمعرفة أجهل من أن يعرفوا سنن النبوة والخلافة الراشدة، فضلا عن أن يجتهدوا في التفقه فيها والغوص في غاياتها ومراميها، لحل مشكلات الأمة ونوازلها، وكانوا أيضا من حيث الإرادة والعزيمة أجبن من أن يقوموا لله بالقسط ليصدعوا بالحق ويأمروا بالعدل، فضلا عن أن يجاهدوا في الله حق جهاده، كانت النتيجة هذه الفتنة التي افتتنوا فيها ، وفتنوا معهم الأمة!
وقد نبه شيخ الإسلام لخطورة هذا الانحراف وما يقع بسببه من ظلم وعدوان، وبغي وطغيان، فدعا إلى احترام التعددية والخلاف في الأصول والفروع، وأن يقر الناس بعضهم بعضا على ما هم عليه من خلاف في الدين، فإن تجادلوا ففي الأدلة من الكتاب والسنة، وحرم العدوان بسبب مثل هذا الاختلاف فقال ـ في الفتاوى (17/311-312) ـ (مسائل النِّزاع التي تنازعت فيها الأمة في الأصول والفروع إذا لم ترد إلى الله والرسول لم يتبين فيها الحق، بل يصير فيها المتنازعون على غير بينة من أمرهم، فإن رحمهم الله أقر بعضهم بعضًا، ولم يبغ بعضهم على بعض، كما كان الصحابة في خلافة عمر وعثمان يتنازعون في بعض مسائل الاجتهاد فيقر بعضهم بعضًا، ولا يعتدي عليه، وإن لم يرحموا وقع بينهم الاختلاف المذموم، فبغى بعضهم على بعض إما بالقول مثل تكفيره وتفسيقه، وإما بالفعل مثل حبسه وضربه وقتله،وهذه حال أهل البدع والظلم كالخوارج وأمثالهم، يظلمون الأمة ويعتدون عليهم، إذا نازعوهم في بعض مسائل الدين، وكذلك سائر أهل الأهواء، فإنهم يبتدعون بدعة، ويكفرون من خالفهم فيها، كما تفعل الرافضة والمعتزلة والجهمية وغيرهم، والذين امتحنوا بخلق القرآن كانوا من هؤلاء؛ ابتدعوا بدعة وكفروا من خالفهم فيها، واستحلوا منع حقه وعقوبته، فالناس إذا خفي عليهم بعض ما بعث الله به الرسول إما عادلون، وإما ظالمون، فالعادل فيهم الذي يعمل بما وصل إليه من آثار الأنبياء ولا يظلم غيره، والظالم الذي يعتدي على غيره، كما قال تعالى{وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [آل عمران:29]، وإلا فلو سلكوا ما علموه من العدل أقر بعضهم بعضًا، كالمقلدين لأئمة الفقه الذين يعرفون من أنفسهم أنهم عاجزون عن معرفة حكم الله ورسوله في تلك المسائل، فجعلوا أئمتهم نوابًا عن الرسول، وقالوا هذه غاية ما قدرنا عليه، فالعادل منهم لا يظلم الآخر، ولا يعتدي عليه بقول ولا فعل، مثل أن يدعي أن قول متبوعه هو الصحيح بلا حجة يبديها، ويذم من يخالفه مع أنه معذور).
وقال أيضا في بيان أن كلام الفقهاء يحتج له لا يحتج به - في الفتاوى (26/502-503) - (وليس لأحد أن يحتج بقول أحد في مسائل النِّزاع، وإنما الحجة النص والإجماع، ودليل مستنبط من ذلك تقرر مقدماته بالأدلة الشرعية، لا بأقوال بعض العلماء؟ فإن أقوال العلماء يحتج لها بالأدلة الشرعية، لا يحتج بها على الأدلة الشرعية، ومن تربى على مذهب قد تعوده واعتقد ما فيه وهو لا يحسن الأدلة الشرعية وتنازع العلماء لا يفرق بين ما جاء عن الرسول وتلقته الأمة بالقبول بحيث يجب الإيمان به، وبين ما قاله بعض العلماء، ويتعسر أو يتعذر إقامة الحجة عليه، ومن كان لا يفرق بين هذا وهذا لم يحسن أن يتكلم في العلم بكلام العلماء، وإنما هو من المقلدة الناقلين لأقوال غيرهم، مثل المحدث عن غيره، و الشاهد على غيره لا يكون حاكمًا، والناقل المجرد يكون حاكيًا لا مفتيًا).
ولهذا كان شيخ الإسلام مع شدته على أهل الأهواء والبدع إلا أنه كان يعاملهم بالعدل والإنصاف، ولا يبخسهم حقهم، ولم يأمر بظلمهم أو حبسهم، ولا يرد الحق الذي عندهم، وكان يذكر ما لهم وما عليهم، ويقر بفضل أهل الفضل منهم، فقد قال عن التنازع بين أهل السنة في مسألة الإيمان التي خالف فيها حماد وتلميذه أبو حنيفة فأخرجوا الأعمال من اسم الإيمان بأن الخلاف بين الفريقين خلاف لفظي صوري لا حقيقي - كما في مجموع الفتاوى (ج 7 / ص 297) - (ومما ينبغي أن يعرف أن أكثر التنازع بين أهل السنة في هذه المسألة هو نزاع لفظي، وإلا فالقائلون بأن الإيمان قول من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان وهو أول من قال ذلك ومن اتبعه من أهل الكوفة وغيرهم، متفقون مع جميع علماء السنة على أن أصحاب الذنوب داخلون تحت الذم والوعيد وإن قالوا : إن إيمانهم كامل كإيمان جبريل فهم يقولون: إن الإيمان بدون العمل المفروض ومع فعل المحرمات يكون صاحبه مستحقا للذم والعقاب كما تقوله الجماعة، ويقولون أيضا بأن من أهل الكبائر من يدخل النار كما تقوله الجماعة، والذين ينفون عن الفاسق اسم الإيمان من أهل السنة متفقون على أنه لا يخلد في النار، فليس بين فقهاء الملة نزاع في أصحاب الذنوب إذا كانوا مقرين باطنا وظاهرا بما جاء به الرسول وما تواتر عنه أنهم من أهل الوعيد، وأنه يدخل النار منهم من أخبر الله ورسوله بدخوله إليها ولا يخلد منهم فيها أحد، ولا يكونون مرتدين مباحي الدماء ولكن " الأقوال المنحرفة " قول من يقول بتخليدهم في النار كالخوارج والمعتزلة، وقول غلاة المرجئة الذين يقولون: ما نعلم أن أحدا منهم يدخل النار ؛ بل نقف في هذا كله، وحكي عن بعض غلاة المرجئة الجزم بالنفي العام).
وقال أيضا عن المتكلمين وما لهم من مساع مشكورة - في درء تعارض العقل والنقل (2/102-103) - (ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة مالا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداء عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكر المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك؛ منهم من يعظمهم؛ لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم؛ لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها، وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله تعالى يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10]. ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه، تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286]، ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنِّع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهو من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك أو أعظم فيمن يعظمه هو من أصحابه، فقل من يسلم من مثل ذلك في المتأخرين، لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبُعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول به عن القلوب الشك والارتياب).
وقال أيضا – في الفتاوى (3/348-349) - (ومما ينبغي أيضًا أن يعرف أن الطوائف المنتسبة إلى متبوعين في أصول الدين والكلام؛ على درجات، منهم من يكون قد خالف السنة في أصول عظيمة ومنهم من يكون إنما خالف السنة في أمور دقيقة، ومن يكون قد رد على غيره من الطوائف الذين هم أبعد عن السنة منه؛ فيكون محمودًا فيما رده من الباطل وقاله من الحق؛ لكن يكون قد جاوز العدل في رده بحيث جحد بعض الحق وقال بعض الباطل، فيكون قد رد بدعة كبيرة ببدعة أخف منها؛ ورد بالباطل باطلاً بباطل أخف منه، وهذه حال أكثر أهل الكلام المنتسبين إلى السنة والجماعة، ومثل هؤلاء إذا لم يجعلوا ما ابتدعوه قولاً يفارقون به جماعة المسلمين؛ يوالون عليه ويعادون؛ كان من نوع الخطأ، والله سبحانه وتعالى يغفر للمؤمنين خطأهم في مثل ذلك، ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها: لهم مقالات قالوها باجتهاد، وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة؛ بخلاف من والى موافقه؛ وعادى مخالفه وفرق بين جماعة المسلمين، وكفر وفسق مخالفه دون موافقه في مسائل الآراء والاجتهادات؛ واستحل قتال مخالفه دون موافقه، فهؤلاء من أهل التفرق والاختلاف).
ولا شك أن الأمة اليوم تحت نفوذ عدوها وشوكته أحوج ما تكون إلى مثل هذه الأصول التي تجمع ولا تفرق، وتعصم الدماء والأموال والأعراض ولا تصطلم، وتقر التعددية وتحترمها.
وقال شيخ الإسلام أيضا عن الشيعة الإمامية - في منهاج السنة (2/369) – وأن فقههم في الفروع غالبه موافق لمذاهب أهل السنة (الرافضة قولهم في الشرائع غالبه موافق لمذهب أهل السنة، أو بعض أهل السنة، ولهم مفردات شنيعة لم يوافقهم عليها أحد، ولهم مفردات عن المذاهب الأربعة قد قال بها غير الأربعة من السلف وأهل الظاهر وفقهاء المعتزلة وغير هؤلاء، فهذه ونحوها من مسائل الاجتهاد التي يهون الأمر فيها، بخلاف الشاذ الذي يُعرف أنه لا أصل له لا في كتاب ولا سنة رسول الله ولا سبقهم إليه أحد).
وقد اختار شيخ الإسلام في مسألة الطلاق الثلاث أنها تقع طلقة واحدة، مع أنه لم يبق من يقول بذلك في عصره إلا الشيعة الزيدية والشيعة الإمامية، وقد عُدّ هذا القول شعارا للرافضة منذ القرن الثاني، وأطبقت المذاهب الأربعة على الأخذ بقول عمر بأنه يقع ثلاث طلقات، فلم يلتفت شيخ الإسلام على ذلك، ونصر القول الآخر، واحتج بالسنة الصحيحة كما في حديث ابن عباس في صحيح مسلم.
وكذا اختار أن الطلاق في الحيض لا يقع، وكذا الطلاق البدعي، وقال بأن الحلف بالطلاق فيه كفارة يمين، وكل ذلك مما اشتهر أنها أقوال للشيعة، مع أنها أيضا قول الظاهرية من أهل السنة، وقول كثير من السلف.
وقد تأثر ابن القيم خطا شيخه ابن تيمية واحتج - في الصواعق المرسلة 2/117 – بنقل الإمامية في مسألة الحلف بالطلاق حيث قال ( الوجه التاسع : أن فقهاء الإمامية من أولهم إلى آخرهم ينقلون عن أهل البيت أنه لا يقع الطلاق المحلوف به، وهذا متواتر عندهم عن جعفر بن محمد وغيره من أهل البيت، وهب أن مكابرا كذبهم كلهم، وقال قد تواطؤوا على الكذب عن أهل البيت، ففي القوم فقهاء وأصحاب علم ونظر واجتهاد، وإن كانوا مخطئين مبتدعين في أمر الصحابة، فلا يوجب ذلك الحكم عليهم كلهم بالكذب والجهل، وقد روى أصحاب الصحيح عن جماعة من الشيعة، وحملوا حديثهم، واحتج به المسلمون، ولم يزل الفقهاء ينقلون خلافهم، ويبحثون معهم، والقوم وإن أخطأوا في بعض المواضع لا يلزم من ذلك أن يكون جميع ما قالوه خطأ حتى يرد عليهم هذا..).
6- تهوينهم من شأن الظلم وتعظيمهم أمر الإثم :
وهي من أبرز مظاهر الانحراف السياسي عند كثير من المتفقهة من أهل السنة، فتحت ذريعة طاعة ولي الأمر، والصبر على الجور، هان في نظرهم قيمة العدل، وسوء عاقبة الظلم، وانقلبت في نظرهم الأولويات، فصار موضوع منع المنكر والإثم، أهم عندهم من منع الجور والظلم، لأن الأول يقع من العامة أكثر، فيسهل على المتفقهة وأهل الاحتساب التصدي له، وتسليط ولاة الأمر عليهم لمنعه، بينما الظلم والجور إنما يقع عادة من الولاة، ولهذا شاع في الثقافة العامة عن أهل السنة تعظيم المنكرات كلها إلا الظلم والجور، وصاروا أزهد ما يكون بالعدل والقسط، بل صاروا يتمنون الظلم والطغيان العام، مع منع المنكرات، على العدل العام مع وقوعها!
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية على خطورة هذا الانحراف في المفاهيم والتصورات، فأكد على أن العدل هو نظام الحياة، وعليه تستقيم أحوال الأمم، وإن وقع منها إثم، وأن الله ينصر الكافر العادل ويخذل المسلم الظالم، فقال – في مجموع الفتاوى - (28/ 14) –(وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم : أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم ؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال : الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم) فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء ؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق ومتى لم تقم بعدل لم تقم وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة ..
والناس هنا ثلاثة أقسام : قوم لا يقومون إلا في أهواء نفوسهم ؛ فلا يرضون إلا بما يعطونه، ولا يغضبون إلا لما يحرمونه ؛ فإذا أعطي أحدهم ما يشتهيه من الشهوات الحلال والحرام زال غضبه وحصل رضاه وصار الأمر الذي كان عنده منكرا، ينهى عنه ويعاقب عليه؛ ويذم صاحبه، ويغضب عليه، مرضيا عنده، وصار فاعلا له، وشريكا فيه؛ ومعاونا عليه؛ ومعاديا لمن نهى عنه وينكر عليه، وهذا غالب في بني آدم يرى الإنسان ويسمع من ذلك ما لا يحصيه، وسببه : أن الإنسان ظلوم جهول ؛ فلذلك لا يعدل، بل ربما كان ظالما في الحالين، يرى قوما ينكرون على المتولي ظلمه لرعيته واعتداءه عليهم ؛ فيرضي أولئك المنكرين ببعض الشيء فينقلبون أعوانا له، وأحسن أحوالهم أن يسكتوا عن الإنكار عليه، وهؤلاء قد يعودون بإنكارهم إلى أقبح من الحال التي كانوا عليها، وقد يعودون إلى ما هو دون ذلك أو نظيره، وقوم يقومون ديانة صحيحة يكونون في ذلك مخلصين لله مصلحين فيما عملوه ويستقيم لهم ذلك حتى يصبروا على ما أوذوا، وهؤلاء هم الذين آمنوا وعملوا الصالحات وهم من خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر).
وهذا الانحراف ظاهر في هذا العصر أكثر من أي عصر مضى حتى استبيحت المحرمات، وشاع الظلم، وتعطل العدل، في أكثر بلدان المسلمين، حتى صاروا يفرون من بلدانهم إلى بلدان غير المسلمين، لما يجدونه عندهم من التناصف والعدل فيما بينهم، ما لا يجدونه في بلدانهم!
وقد رأينا ما ذكره شيخ الإسلام عن هذه الطوائف رأي العين حتى ربما تصدى للمنكر طائفة من هؤلاء، ثم يرضيهم السلطان بشيء من حطام الدنيا، ثم لا يلبثون أن يكون هؤلاء المحتسبين سدنة له وأعوانا له على الأمة!
فهذه بعض ـ وليس كل ـ الانحرافات السياسية وللحديث بقية!