الأصول السياسية
والعقيدة
الغائبة
بقلم د. حاكم المطيري
لا تقتصر أصول أهل السنة والجماعة
العقائدية على مسائل الإيمان وإثبات الصفات وإثبات القدر ونحوها من مسائل العقائد
وقضايا الغيب ـ كما تحاول بعض الطوائف المعاصرة قصرها عليها وإشغال الأمة بها دون
غيرها مشايعة منها لأهواء الملوك والطغاة ـ بل لأهل السنة والجماعة أصولهم
العقائدية السياسية التي اشتهروا بالقول بها، وأجمعوا عليها، وثبتت عندهم بالكتاب
والسنة وإجماع سلف الأمة، ومن لم يقل بها فليس من أهل السنة والجماعة، وهذه الأصول
موافقة لصحيح المنقول وصريح المعقول، وهو ما تقره الفطر السليمة والعقول الحكيمة
ومن هذه الأصول :
الأصل الأول: وجوب إقامة
الخلافة، ونصب الإمام، وتنفيذ الأحكام، وظهور شرائع الإسلام، وأن الأصل
هو اختيار الأمة للإمام بعقد البيعة وبالشورى والاختيار لا بالنص ولا الإجبار،
وإثبات خلافة الخلفاء الراشدين، وأنه يجب اتباع سننهم والاقتداء بهديهم في باب
سياسة الأمة، وأنه يجب لزوم جماعة المسلمين والمحافظة على وحدتهم، وعدم الخروج على
الأمة إذا اجتمعت على خليفة، ويحرم تعدد الأئمة، فصار كل من يثبت الخلافة، وأنها
بالشورى والاختيار لا بالنص و الإجبار فهو من أهل السنة والجماعة :
قال الإمام أحمد ـ في رسالة عبدوس بن
مالك العطار ـ (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله والاقتداء
بهم ... ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار
خليفة وسمي أمير المؤمنين ـ صار إماما تجب طاعته ـ والغزو ماض مع الإمام إلى يوم
القيامة البر والفاجر لا يترك، وقسمة الفيء، وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض، ليس
لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم) انظر أصول السنة للإمام أحمد (ص24).
وقال في رواية إسحاق بن منصور، وقد
سئل عن حديث النبي (من مات وليس له إمام، مات ميتة جاهلية) فقال أحمد: تدري ما
الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا
إمام؛ فهذا معناه). انظر منهاج السنة لشيخ الإسلام (1/526-229).
وجاء في رواية التميميين كما فهماه من
مذهبه (وأن الفيء يقسمه الإمام، فإن تناصف المسلمون وقسموه بينهم فلا بأس به، وأنه إن بطل أمر الإمام لم يبطل الغزو والحج، وأن
الإمامة لا تجوز إلا بشروطها: النسب، والإسلام، والحماية، والبيت والمحتد، وحفظ
الشريعة، وعلم الأحكام، وصحة التنفيذ، والتقوى وإتيان الطاعة، وضبط أموال
المسلمين، فإن شهد له بذلك أهل الحل والعقد من علماء
المسلمين وثقاتهم، أو أخذ هو ذلك لنفسه ثم رضيه المسلمون جاز له ذلك، وأنه
لا يجوز الخروج على إمام ومن خرج على إمام قتل الثاني) انظر اعتقاد الإمام أحمد (ص
305).
وقد سئل عن خلافة علي فقال (أصحاب
رسول الله رضوا به واجتمعوا عليه، وكان بعضهم يحضر
وعلي يقيم الحدود فلم ينكر ذاك، وكانوا يسمونه خليفة، ويخطب ويقسم الغنائم فلم
ينكروا ذلك، قال حنبل قلت له خلافة علي ثابتة؟ فقال سبحان الله يقيم علي رحمه الله
الحدود، ويقطع، ويأخذ الصدقة ويقسمها .. نعم خليفة رضيه أصحاب رسول الله، وصلوا
خلفه، وغزوا معه وجاهدوا وحجوا، وكانوا يسمونه أمير
المؤمنين راضين بذلك غير منكرين، فنحن تبع لهم ونحن نرجو من الله الثواب
باتباعنا لهم إن شاء الله مع ما أمرنا الله به والرسول) السنة للخلال (2/413).
فيستفاد من هذه النصوص عن أحمد ـ عند
أصحابه على اختلافهم في بعضها إلا أنها صحيحة عنه من حيث الجملة ـ جملة أصول منها:
1 ـ أن موضوع الخلافة والإمامة من أصول أهل
السنة والجماعة ولها أحكامها الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة ومن لم يقل بها
فليس من أهل السنة.
2 ـ وأن الخلافة والإمامة تثبت في حالتين:
الأولى: حال السعة والاختيار وهي
الحال الطبيعية كما كان عليه الصحابة حيث الشوكة للأمة تختار من تشاء، وفي هذه
الحال لا يتم عقد الإمامة ولا اختيار السلطة إلا بالبيعة والشورى والرضا من الأمة
ابتداء، ويشترط فيها أن يكون الإمام عدلا قادرا على سياسة شئون الأمة كفؤا لها،
ويعقدها له أهل الحل والعقد العدول الثقات نيابة عن الأمة.
الثانية: حال الضيق والاضطرار وهي
الأوضاع الاستثنائية حين تقع الفتن وتعجز الأمة وتضطرب أحوالها فهنا من تصدى
للإمامة واستطاع جمع كلمة الأمة ولم شعثها وتوحيد شملها حتى استقر له الأمر ورضيت
به الأمة خليفة عليها حتى صار لا ينازعه أحد فيها فهو إمام تجب له الطاعة، إذا
تحقق به الرضا انتهاء.
فاشترط رضا الأمة في الحال الطبيعية
ابتداء، وفي الحال الاستثنائية انتهاء.
3 ـ وأنه لا يكون للأمة إلا أمام واحد فمن
جاء ينازعه ـ وقد اجتمعت عليه الأمة ورضيت به ـ ليفرق وحدتها ويشق جماعتها فيجب
قتاله.
4 ـ وأن مهمة الإمام إظهار الإسلام وتنفيذ
الأحكام وحماية البيضة وإقامة الجهاد ودفع العدو وقسم الفيء..الخ.
5 ـ وأنه إن بطل أمر الإمامة وتعطلت الخلافة
ـ إما لفتن داخلية بين المسلمين أو موت الخليفة ولم تجتمع الأمة على أحد بعده ـ
فإن الجهاد ماض لا يتعطل ولا يفوت وكذا الحج وغيرهما من الأحكام فيقوم بها من
استطاع من المسلمين من أهل الشوكة والقدرة، إذ المقصود من نصب الإمام إقامة
الأحكام، فإن تعذر نصبه، لم تتعطل إقامتها على من قدر عليها.
وقد عبر شيخ الإسلام ابن تيمية عن
ضرورة الإمامة والخلافة لقيام الدين وظهور الإسلام وتنفيذ الأحكام بقوله (يجب أن
يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا
قيام للدين ولا للدنيا إلا بها، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا باجتماع
لحاجة بعضهم إلى بعض، ولابد لهم عند الاجتماع من رأس... فأوجب ـ الشارع ـ تأمير
الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر، تنبيها بذلك على سائر أنواع الاجتماع،
ولأن الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،
ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة، وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج
والجمع والأعياد ونصر المظلوم. وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة،
فالواجب اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله؛ فإن التقرب إليه فيها
بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء
الرياسة أو المال بها..وإن انفرد السلطان عن الدين، أو الدين عن السلطان فسدت
أحوال الناس). انظر مجموع الفتاوى (28/390-394و391).
والمقصود هنا بالإمامة
والولاية والإمارة عند أهل السنة والجماعة أي الإمامة والولاية الشرعية، التي هي
رئاسة سياسية عامة نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إقامة أحكام الإسلام، إذ
الإمام الشرعي الذي طاعته من طاعة الله ورسوله هو الذي ينوب عن النبي صلى الله
عليه وسلم في إمامة الأمة وسياسة شئونها وفق حكم الكتاب والسنة، وليس كل ذي سلطان
مهما كان خارجا عن أحكام الشرع كما يتصور الجاهلون!
قال ابن حزم في الفصل (4/87) (اتفق
جميع أهل السنة وجميع المرجئة والخوارج على وجوب الإمامة، وأن الأمة واجب عليها
الانقياد للإمام العادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم
بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال ابن قدامة المقدسي الحنبلي ـ كما
في الشرح الكبير 2/51 ـ في اختصاص الخليفة ببعض الأحكام وتعليل ذلك بأنه نائب عن
النبي صلى الله عليه وسلم يقوم مقامه في أمته (يجوز للخليفة دون بقية الأئمة، فانه
قال في رواية المروزي ليس هذا لأحد إلا الخليفة، وذلك لأن رتبة الخلافة تفضل رتبة
سائر الأئمة فلا يلحق بها غيرها، وكان ذلك للخليفة، وخليفة
النبي صلى الله عليه وسلم يقوم مقامه).
وكما قال الشوكاني (فهذه الألفاظ تدل
على أن المراد الإمامة الإسلامية، وأما أمر الجاهلية فقد انقرض... ومعنى الخلافة
معنى الإمامة في عرف الشرع، وهؤلاء الذين نص النبي صلى الله عليه وسلم على خلافتهم
هم الخلفاء الأربعة، وليس المراد بالإمامة هنا هو المعنى
اللغوي الشامل لكل من يأتم به الناس ويتبعونه على أي صفة كان بل المراد الإمامة
الشرعية) (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار 1/937).
وهذا الأصل المجمع عليه عند أهل السنة
والجماعة وهو وجوب نصب الخليفة، وأن يتم عقد البيعة له بالشورى والرضا والاختيار
بلا إكراه ولا إجبار، وأنه يحرم تفرق الأمة وتعدد الأئمة..الخ كل ذلك قائم على أصل
آخر قطعي وهو ثبوت إجماع الصحابة على خلافة الخلفاء الراشدين، وأنها ثبتت لهم
بالشورى والاختيار لا بالنص ولا الإجبار، وأنهم حافظوا على الخلافة ووحدة الأمة
وإقامة الملة..الخ
قال الإمام الإسماعيلي في اعتقاد أئمة
الحديث (ص24) (ويثبتون خلافة أبي بكر رضي الله عنه بعد رسول الله صلى الله عليه
وسلم، باختيار الصحابة إياه، ثم خلافة عمر بعد أبي بكر رضي الله عنه باستخلاف أبي
بكر إياه، ثم خلافة عثمان رضي الله عنه باجتماع أهل الشورى وسائر المسلمين عليه عن
أمر عمر، ثم خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن بيعة من بايعه من البدريين).
وليس مقصود أهل الحديث بالنص على هذا
الاعتقاد إثبات هذه القضايا تاريخيا، بل المقصود إثبات أن هذه هي السنة وما كان
عليه سلف الأمة في باب الإمامة، وأن النظام السياسي في الإسلام هو الخلافة لا
الملك العضوض ولا الجبرية ولا الإمامة بالنص كما يدعيه الإمامية، وأن الأمر فيها شورى
واختيار ورضا وبيعة من الأمة للإمام، وقد أوجب النبي صلى الله عليه وسلم على من
جاء بعدهم الاهتداء بهديهم واتباع سننهم كما قال (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي) وقد أجمع الصحابة على قول عمر ـ كما في صحيح البخاري ـ (من بايع
رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له ولا للذي بايعه تغرة أن يقتلا).
وهذه القضية هي أول قضية حدثت في
الإسلام كما قال الإمام أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/2) عن اختلاف
أهل الإسلام (فصاروا فرقا متباينين، وأحزابا متشتتين، إلا إن الإسلام يجمعهم،
ويشتمل عليهم، وأول ما حدث من الاختلاف بين المسلمين بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم
اختلافهم في الإمامة، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قبضه الله عز وجل
ونقله إلى جنته ودار كرامته اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعده بمدينة الرسول
وأرادوا عقد الإمامة لسعد بن عبادة وبلغ ذلك أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما فقصدا
نحو مجتمع الأنصار في رجال من المهاجرين...ثم بايعوا أبا بكر رضوان الله عليه
واجتمعوا على إمامته، واتفقوا على خلافته، وانقادوا لطاعته، فقاتل أهل الردة على
ارتدادهم، كما قاتلهم رسول الله على كفرهم، فأظهره الله عز وجل عليهم أجمعين،
ونصره على جملة المرتدين، وعاد الناس إلى الإسلام أجمعين، وأوضح الله به الحق
المبين، وكان الاختلاف بعد الرسول في الإمامة، ولم يحدث خلاف غيره في حياة أبي بكر
رضوان الله عليه وأيام عمر إلى أن ولى عثمان بن عفان رضوان الله عليه).
قال الشهرستاني في كتاب الملل
والنحل(1/20) (الخلاف الخامس: في الإمامة، وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ
ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة في كل زمان).
وقال عبد القاهر البغدادي في الفرق
بين الفرق (1/340) عن قول أهل السنة والجماعة بشأن الخلافة والإمامة (وقالوا في
الركن الثاني عشر المضاف إلى الخلافة والإمامة: إن الإمامة فرض واجب على الأمة،
لأجل إقامة الإمام ينصب لهم القضاة والأمناء، ويضبط ثغورهم، ويغزى جيوشهم، ويقسم
الفيء بينهم، وينتصف لمظلومهم من ظالمهم.
وقالوا ـ أي أهل السنة والجماعة ـ بأن
طريق عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة الاختيار بالاجتهاد.
وقالوا من شرط الإمام العلم والعدالة
والسياسة، وأوجبوا من العلم له مقدار ما يصير به من أهل الاجتهاد في الإحكام
الشرعية، وأوجبوا من عدالته أن يكون ممن يجوز حكم الحاكم بشهادته، وذلك بأن يكون
عدلا في دينه، مصلحا لماله وحاله، غير مرتكب لكبيرة، ولا مصر على صغيرة، ولا تارك
للمروءة في جل أسبابه، وليس من شرطه العصمة من الذنوب كلها خلاف قول من زعم من
الإمامية أن الإمام يكون معصوما من الذنوب كلها ..
وقالوا ـ أي أهل السنة والجماعة ـ إن
الإمامة تنعقد بمن يعقدها لمن يصلح للإمامة إذا كان العاقد من أهل الاجتهاد
والعدالة.
وقالوا لا تصلح الإمامة إلا لواحد في
جميع أرض الإسلام، إلا أن يكون بين الصقعين حاجز من بحر أو عدو لا يطاق، ولم يقدر
أهل كل واحد من الصقعين على نصرة أهل الصقع الآخر، فحينئذ يجوز لأهل صقع عقد
الإمامة لواحد يصلح لها منهم).
وقال عبد القاهر البغدادي أيضا في
أصول الدين (ص 274) عن أهل السنة والجماعة أنهم لا يجوزون أن يكون للأمة إمامان في
وقت واحد واجبي الطاعة ثم رد على من جوزها من الكرامية فقال (فيا عجبا من طاعة
واجبة على خلاف السنة! ولو جاز إمامان وأكثر لجاز أن ينفرد كل ذي صلاح بالإمامة
فيكون كل واحد منهم بولاية محلته وعشيرته وهذا يؤدي إلى سقوط فرض الإمامة من
أصلها)!
وقال ابن حزم في كتاب الدرة في
الاعتقاد (ص 374) (لا يجوز أن يكون في الناس إمامان ألبتة، ولا يحل أن يكون في شرق
الأرض وغربها إلا إمام واحد، وهذا إجماع الأمة وقال تعالى {ولا تنازعوا} وقال {ولا
تفرقوا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني
منهما)).
وما حذر منه عبد القاهر هو ما تحقق
فعلا على أرض الواقع فلما فرضت الحملة الصليبية على العالم الإسلامي هذا الواقع
الجديد، وأقامت دويلات الطوائف على أنقاض الخلافة العثمانية، وتخلى أهل السنة وهم
عموم الأمة تحت ضغط الواقع عن إيمانهم بفرض إقامة الخلافة والإمامة الشرعية التي
تعبر عن وحدة الأمة، جاز قيام عشرات الدويلات الضعيفة، وصار الطريق مفتوحا لتجزئة
كل دويلة وفق هذا القول المبتدع المخترع المصادم لقطعيات القرآن والسنة وإجماع أهل
السنة وسلف الأمة!
وصارت الأمم الأخرى على اختلاف
أديانها وقومياتها تنزع إلى الوحدة والاتحاد بضرورة المصلحة وحكم العقل بينما صار
المسلمون يروجون باسم الإسلام والسنة لدويلات الطوائف الصليبية ويضفون عليها
الشرعية باسم الوطنية الإسلامية مع أنها ليست سوى قواعد عسكرية للحملة الاستعمارية
منذ سقوط الخلافة العثمانية إلى اليوم!
وهذا الأصل في كون الإمامة والخلافة
تثبت بالشورى والاختيار يوافق عليه أهلَ السنة والجماعة كلُ طوائف الإسلام
كالمعتزلة والخوارج والشيعة الزيدية ولم يخالف في ذلك إلا الشيعة الإمامية.
قال الشهرستاني (1/77) (والجبائي وأبو
هاشم ـ وهم أئمة المعتزلة ـ قد وافقا أهل السنة في الإمامة وأنها بالاختيار، وأن
الصحابة مترتبون في الفضل ترتبهم في الإمامة).
وكذا أصل كون الإمام والخليفة لا يكون
إلا واحدا هو قائم على أصل وحدة الأمة وحرمة تفرقها واختلافها كما قال تعالى
{واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} وقوله {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا}
ولهذا أجمع أهل السنة والجماعة على هذا الأصل قال شيخ الإسلام ابن تيمية في إبطال
التحليل (3/143) (ومعاوية لم يدع الخلافة; ولم يبايع له بها حين قاتل عليا, ولم
يقاتل على أنه خليفة , ولا أنه يستحق الخلافة...بل لما رأى علي رضي الله عنه
وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته, إذ لا يكون
للمسلمين إلا خليفة واحد, وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب,
وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب, فتحصل الطاعة).
وكل ما سبق ذكره من أصول أهل السنة
والجماعة العقائدية السياسية في باب الإمامة قال به المتأخرون ونقلوا عليه الإجماع
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم: (وأجمعوا على أنه يجب على المسلمين نصب
خليفة) وقال (واتفق العلماء على أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين في عصر واحد سواء
اتسعت دار الإسلام أم لا).
ونقل الإجماع عليه القرطبي وقال (هذه
الآية ـ إني جاعل في الأرض خليفة ـ أصل في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع
به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين
الأئمة .. فدل على وجوبها وأنها ركن من أركان الدين الذي به قوام المسلمين) كما
أجمعوا على أنها تنعقد بالشورى والاختيار ...الخ.
كما أنها أحكام معللة معقول المعنى
فليست الإمامة مقصودة لذاتها وإنما لتقوم بما أوجب الله على الأمة القيام به
ابتداء كالأمر بالمعروف وإقامة العدل والقسط كما قال الجويني في غياث الأمم (ص22)
عن الخلافة بأنها(رياسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة والعامة، في مهمات الدين
والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف
الحيف والخيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين،
وإيفاؤها على المستحقين).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يقرر
كلام أهل السنة في باب الإمامة وأنها تثبت ببيعة الجمهور والأكثر ويرد على
المتكلمين الذين قالوا بأنها تنعقد ببيعة رجل واحد كما في بيعة عمر لأبي بكر يوم
السقيفة فقال (بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال
بعضهم: تنعقد ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه أقوال أئمة
السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا يصير الرجل إماما حتى
يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة، فإن المقصود من
الإمامة إنما يحصل بالقدرة والسلطان، فإذا بويع بيعة حصلت بها القدرة والسلطان صار
إمامًا ...فمتى صار قادرًا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره،
فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله، ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن
مالك العطار: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله إلى أن قال:
(ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي
أمير المؤمنين، فدفع الصدقات إليه جائز .. وقال في رواية إسحاق بن منصور، وقد سئل
عن حديث النبي (: "من مات وليس له إمام، مات ميتة جاهلية"، ما معناه:
فقال: تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام؛ فهذا
معناه) منهاج السنة (1/526-229).
وقال أيضا عن بيعة أبي بكر وأنها تمت
ببيعة الجمهور والأكثر مع وجود أقلية معارضة (ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه
بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة، لم يصر إماماً بذلك، وإنما صار ـ أبو بكر
ـ إماماً بمبايعة جمهور الصحابة، والذين هم أهل القدرة والشوكة، ولهذا لم يضر تخلف
سعد بن عبادة، لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة
والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل بموافقة الجمهور على ذلك،
فمن قال إنه يصبر إمامًا بموافقة واحد أو اثنين أو أربعة، وليسوا هم ذوي القدرة
والشوكة، فقد غلط؛ كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو الاثنين والعشرة يضر، فقد غلط)
منهاج السنة(1/530-531).
وكذا احتج بأن عمر لم يصبح خليفة
بمجرد عهد أبي بكر له وترشيحه للخلافة بعده، وإنما صار إماما بعد وفاة أبي بكر
ببيعة الصحابة له برضاهم وطوعهم، ولو لم يبايعوه لما صار خليفة عليهم بالعهد حيث
قال عن خلافة عمر (وكذلك عمر لما عهد إليه أبو بكر إنما صار إماما لما بايعوه
وأطاعوه، ولو قُدِّر أنهم لم ينفذوا عهد أبي بكر ولم يبايعوه لم يصر إماما).
وكذلك عثمان لم يصبح إماما وخليفة
بمجرد ترشيح عمر له في الستة، ولا برضا الخمسة الآخرين به، وإنما صار خليفة
للمسلمين بعد أن عقدها الصحابة له في المسجد بالبيعة العامة، حيث قال شيخ الإسلام
ابن تيمية (عثمان لم يصر إماما باختيار بعضهم بل بمبايعة الناس له، وجميع المسلمين
بايعوا عثمان لم يتخلف عن بيعته أحد).
وبناء على إجماع الصحابة على هذه
السنن في باب الإمامة وسياسة الأمة أجمع أهل السنة والجماعة عليها بعدهم، وصارت
شعارا لهم، يرون أن هذا هو الإسلام والسنة والحق والدين والواجب في باب الإمامة،
فليست القضية عندهم مجرد عقيدة تاريخية لدفع الطعن عن الخلفاء الراشدين لا أثر لها
غير ذلك في واقع الأمة السياسي ـ كما يتوهم الجاهلون، وله يروجون ـ وإنما هي عقيدة
شرعية سياسية قائمة على أن ما فعله الصحابة في هذا الباب هو الحق والدين والإسلام
كما ثبت بالنص والإجماع، وأن الأمر في الإمامة هو الخلافة ـ لا الملك العضوض ولا
الملك الجبري ولا ولاية الفقيه ولا الإمام المعصوم ولا المهدي المنتظر الغائب في
سردابه ـ وأنها قائمة على الشورى والرضا والاختيار والاجتهاد كما أجمع عليه
الصحابة رضي الله عنه، وأنه لا يسوغ فيها التعدد، ولا التفرق، حيث لم يقبل بذلك
أبو بكر حين قاتل المرتدين، ولا علي حين قاتل البغاة والمتأولين لوضوح هذا الأصل وهو
وحدة الأمة ووحدة الإمامة والخلافة.
لقد تم تهميش ذلك كله حتى صار أدعياء
السنة اليوم لا هم لهم في شأن الصحابة إلا عقد مجالس الثناء والدعاء ـ كمجالس
الشيعة في العزاء والبكاء ـ أما إحياء نهجهم وسننهم في باب الإمامة، والاقتداء
بهم، ودعوة الأمة إليه، والجهاد في سبيل إحيائه ولو بالكلمة والرأي ـ كما جاء بذلك
الأمر النبوي (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ
وإياكم ومحدثات الأمور) ـ فكل ذلك صار عندهم نسيا منسيا، بل هم اليوم أشد الناس
دفاعا عن المحدثات والملك العضوض والملك الجبري، بل وعبادة الطاغوت والرضا
بالتحاكم إليه والدعاء له بالبقاء والرفاء! وهم اليوم دهاقنة هذا الواقع وسماسرة
الطغاة، إلا من رحم الله منهم وقليل ما هم!
لقد صارت هذا الأصول العقائدية عند
أهل السنة والجماعة بالأمس العقيدة الغائبة والفريضة المهجورة اليوم، وأصبحت
تاريخا وقصصا يروى عند أدعياء السنة اليوم، بل تجاوزوا ذلك حتى صار من يتحدث
بموضوع الخلافة وإقامتها على أصولها في نظرهم اليوم أحد رجلين إما خارجي وإما
حالم!
مع أن الخلافة كنظام سياسي هي التي
حكمت العالم الإسلامي وحققت له السيادة على المسرح الدولي مدة ثلاثة عشر قرنا حتى
أسقطته الحملة الاستعمارية الصليبية في الحرب العالمية الأولى! ومع أن النبي صلى
الله عليه وسلم قد بشر بعودتها بقوله (ثم تعود خلافة على منهاج النبوة) كما بشر
بفتح روما بعد فتح القسطنطينية!
فلا هؤلاء الأدعياء قاموا بالأمر ولا
آمنوا بالخبر ثم لا يترددن أن يرفعوا شعار أهل السنة والجماعة ويدعون عليه الوصاية
وهم أول من كفروا بأصول أهل السنة ونقضوها، وردوا النصوص القطعية وعارضوها، فلا
تكاد تجد في خطابهم العام حديثا عن الخلافة، ولا عن حق الأمة في الشورى والاختيار،
ولا عن العدل بالقضية والقسم بالسوية، ولا عن وجوب الوحدة ورفض القطرية والوطنية،
التي فرضها مشروع سايكس بيكو على الأمة، ولا عن وجوب إقامة الجهاد وأنه لا تتعطل
بذلك الأحكام حتى لو بطل شأن الإمامة وسقطت الخلافة كما جرى بعد الحرب الاستعمارية
الصليبية وللحديث بقية!