نشأة الشعار
وحقيقته والتنازع فيه
لا يجب على أحد من المؤمنين
الانتماء إلى غير الإسلام والمسلمين:
قال تعالى: {ومن أحسن قولا ممن دعا
إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين} وقال: {هو سماكم المسلمين} وقال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}... إلخ
فاختار الله لهذه الأمة أشرف الأسماء
(المسلمين) واشتقه من اسم الإسلام، وأوجب عليهم الانتماء إليه والتسمي به، فهو
الدين الذي اختاره الله لهم كما قال تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا} وقال: {إن
الدين عند الله الإسلام}.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه هم المسلمين المؤمنين ولم يأمرهم الله عز وجل ولا رسوله إلا بالانتماء إلى
الإسلام والمسلمين، وأمرهم باتباع هدايات كتابه وما جاء به رسوله صلى الله عليه
وسلم {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول} وقال: {وإن تطيعوه
تهتدوا}.
وقد رتب الشارع على هذين الوصفين
الشرعيين والاسمين الشريفين ـ الإسلام والإيمان ـ لمن تحققا فيه كل الأحكام
الشرعية في حقوق المسلم والمؤمن كقوله تعالى {إنما المؤمنون أخوة} وقوله صلى الله
عليه وسلم (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله) وقوله (لا يؤمن أحدكم
حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه) وقوله (المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم)
وقوله (حق المسلم على المسلم خمس) وقال (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)
وقال (لا تدابروا ولا تهاجروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا)...الخ.
وقد جعل الله الإسلام دين الحنيفية
السمحة كما في الحديث (بعثت بالحنيفية السمحة) فلا يحتاج الإنسان للدخول فيه إلا
إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فإذا هو قد أصبح مسلما له ما
للمسلمين وعليه ما عليهم، ثم يتحقق وصف الإيمان بالتصديق بأركان الإيمان وهي
الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر كما قال تعالى:
{آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا
نفرق بين أحد من رسله} وقال: {يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب
الذي أنزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه
ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا} وقال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر}.
وفي حديث جبريل في الصحيح: (أخبرني عن
الإيمان؟ قال الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر وبالقدر
خيره وشره من الله) .
ويتحقق له وصف الإسلام بالإتيان
بأركان الإسلام وهي الشهادتين والصلوات الخمس والزكاة وصوم رمضان وحج البيت الحرام
كما في الصحيح (بني الإسلام على خمس) وكما في حديث جبريل في الصحيح (أخبرني عن
الإسلام؟ قال الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام
الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا).
فإذا أتى الإنسان بأركان الإيمان
والإسلام مما هو معلوم من دين الإسلام بالضرورة القطعية، صار مسلما مؤمنا في
الدنيا، وناجيا من أهل الجنة في الآخرة، كما قال تعالى {قد أفلح المؤمنون. الذين
هم في صلاتهم خاشعون... أولئك هم الوارثون. الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون}
وكما قال الأعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم لما سأله عن فرائض الإسلام فأخبره قال
الأعرابي (هل علي غيرها؟ قال لا إلا أن تطوع! فقال الأعرابي: والله لا أزيد على
هذا ولا أنقص... فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دخل الجنة إن صدق)!
ثم يتفاضل المسلمون والمؤمنون بعد ذلك
في درجة الإحسان والتقوى بحسب تفاضلهم في الأعمال الصالحات كما قال تعالى {إن
أكرمكم عند الله أتقاكم} وكما في الحديث الصحيح السابق {وأخبرني عن الإحسان؟ قال
أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك}.
وعلى هذا القدر من تعريف الإسلام
العام والإيمان الإجمالي أجمع المسلمون على اختلاف طوائفهم وهم أهل القبلة كافة
الذين يشملهم اسم الإسلام وأخوة الإيمان بنص القرآن كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية
(ما أجمع عليه المسلمون من أمور دينهم الذي يحتاجون إليه
أضعاف أضعاف ما تنازعوا فيه، فالمسلمون سنيهم وبدعيهم متفقون على وجوب الإيمان
بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ومتفقون على وجوب الصلاة والزكاة
والصيام والحج، ومتفقون على أن من أطاع الله ورسوله فإنه يدخل الجنة...وأمثال هذه
الأمور التي هي أصول الدين وقواعد الإيمان التي اتفق عليها المنتسبون إلى الإسلام
والإيمان فتنازعهم بعد هذا في بعض أحكام الوعيد أو بعض معاني الأسماء أمر خفيف
بالنسبة لما اتفقوا عليه) (مجموع الفتاوى 7/357).
وهذا الإسلام العام والإيمان الإجمالي
هو الذي كان عليه عامة المسلمين في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل العرب
كلهم في دين الله أفواجا في عام الوفود سنة 9 للهجرة فكان أكثرهم من الأعراب
والكبار والصغار والرجال والنساء الذين لا يمكنهم معرفة أكثر من ذلك من أحكام
الدين وشرائعه فكان الإسلام حقا هو الحنيفية السمحة دين إبراهيم والأنبياء قبله
وبعده، وهو دين النبي الأمي ودين الأميين، لا أغلال فيه ولا آصار ولا طلاسم فتحقق
به للعرب الجاهليين التوحيد الديني بعبادة الله وطاعته وحده لا شريك له، والتوحيد
السياسية باتباع رسوله وتحكيمه والاجتماع عليه.
فلا يجب على آحاد المسلمين
وأفرادهم أكثر مما وجب على الأعراب الذين أسلموا في عصر النبوة، ولا يجب على أحد
الانتماء إلا إلى الإسلام وحده دين الله ودين جميع الأنبياء ودين الفطرة التي فطر
الله الخلق عليها، ومن أوجب عليهم الانتماء إلى غيره من الطوائف أو المذاهب
والأسماء مما لم يوجبه النبي صلى الله عليه وسلم فقد ابتدع في الدين ما لم يأذن به
الله، وما لم يكن يومئذ دين فليس هو اليوم بدين.
من أصول الدين اتباع
الصحابة رضي الله عنهم أجمعين:
وإذا كان العرب قد دخلوا في الإسلام
العام والإيمان الإجمالي أفواجا في عام الوفود، فقد كان الصحابة وهم خاصة النبي
صلى الله عليه وسلم هم أهل الإحسان وهم المؤمنون حقا كما وصفهم القرآن، ولما كان
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق به وبدينه وهم الشهداء على الأمم بعده
وهم الأمة الوسط كما قال تعالى {وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس
ويكون الرسول عليكم شهيدا} وهم خير أمة أخرجت للناس {كنتم خير أمة أخرجت للناس}
أمر الله لذلك المؤمنين باقتفاء سبيلهم والاهتداء بهديهم فيما كان طاعة لله
ولرسوله كما قال تعالى {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} فأخبر
الله بمحكم كتابه أن رسوله ومن تبعه وهم أصحابه على بصيرة وهدى من ربهم، وقال {ومن
يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله
جهنم} وقال تعالى {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان
رضي الله عنهم..} فاشترط للرضا عمن جاء بعد المهاجرين والأنصار إتباعهم بإحسان..
فالإسلام والإيمان والإحسان هو ما كان
عليه النبي وأصحابه من بعده، وما كانوا عليه هو الإسلام والإيمان والإحسان، إذ هم
الذين حملوا الإسلام عنه وبلغوه الأمم وبهم ظهر واشتهر كما قال تعالى {وعد الله
الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم
وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم..} وقال {كنتم خير أمة أخرجت للناس}..الخ
وقد مكن الله لهم دينهم الذي ارتضى
لهم على يد أبي بكر بعد ردة العرب، وعلى يد عمر وعثمان بالفتوح والاستخلاف في
الأرض على نحو فريد في تاريخ العالم كله، حتى لم تمض بعد وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم عشرون سنة إلا ودينه قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وهوت أمامه عروش كسرى
وقيصر، وتحقق موعود الله لهم {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها
عبادي الصالحون} ولا يعرف التاريخ أن أمة من أمم الأنبياء كلهم ورثوا الأرض كما
ورثها الخلفاء الراشدون والصحابة المهديون وكانوا كما جاء وصفهم في التوراة
والإنجيل {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ...ذلك مثلهم
في التوراة ومثلهم في الإنجيل... ليغيظ بهم الكفار} فأغاظ الله بهم أمم الكفر
وطواغيتها منذ فتحوا العالم إلى يوم القيامة!
فأصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم هم الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، وهم الذين استخلفهم الله في الأرض،
وفتحوا الدول وحرروا الأمم والشعوب من عبادة العباد والعبودية للطغاة إلى عبادة رب
العباد، وأقاموا العدل والقسط بعد شيوع الظلم والجور، فما أجمعوا عليه من أمر
الدين فهو الحق من ربهم، وما اختلفوا فيه فالحق لا يخرج عن مجموعهم، ومن خالف منهم
شيئا من الكتاب والسنة فإن كان عن اجتهاد وتأويل فقوله خطأ ولا حجة فيه وله أجر
المجتهد، وإن كان عن تقصير وحظ نفس، فهو ذنب مغفور له لا يتابع عليه ولا يطعن به
بسببه لما أخبر الله عنهم بأنه رضي عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها
الأنهار، وقد وعدهم الله جميعا الحسنى فقال: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح
وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى} وقد
أمر الله من جاء بعدهم باتباع سبيلهم بإحسان والدعاء لهم بالغفران فقال تعالى:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم..}
وقال تعالى: {والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا
بإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا}...
كانت السنة والسلفية
قبل البدعة والطائفية:
ومضى الصدر الأول والسلف الصالح من
الصحابة وآل البيت على هدي القرآن والسنة وعلى الإسلام والإيمان والإحسان لا
يعرفون إلا بذلك ولا يعرف ذلك إلا بهم قبل وجود الطوائف والفرق والمذاهب والبدع.
ثم كان عامة علماء الأمة من التابعين
بعدهم يقتدون بهم ويهتدون بهديهم ـ إذ إنهم إنما أخذوا الإسلام والقرآن والسنن
والعلم والعمل عن الصحابة رضي الله عنهم ـ إلا من خالف برأي أو نجم ببدعة فاشتهر
بها فصار يرمى بها ويعزى إليها.
فلما كثر أهل الأهواء واشتهروا
بأهوائهم التي خالفوا فيها الكتاب أو السنة أو ما كان عليه سلف الأمة كمن قالوا
بنفي القدر في أفعال العباد وأن الأمر أنف فرد عليهم ابن عمر والصحابة قولهم
واشتهروا بالقدرية، وكذا من كفروا المسلمين كالحرورية الذين خرجوا على علي لما رضي
بالتحكيم فرد عليهم علي رضي الله عنه والصحابة كلهم بدعتهم واشتهروا بالخوارج
والحرورية، وكمن ادعوا النص على علي وغلوا فيه وطعنوا في الخلفاء قبله ونفوا أن
يكون الأمر في الخلافة شورى فرد عليهم علي رضي الله عنه والصحابة قولهم واشتهروا
بالرفض، ومع ذلك كله أثبت علي رضي الله عنه والصحابة معه للجميع على اختلاف بدعهم
حكم الإسلام والإيمان وأحكام أهل القبلة، وأنهم لا يخرجون بهذه البدع عن دائرة
الإسلام والإيمان، حتى قال حين سئل عن الحرورية ـ الذين كفروه وكفروا معاوية ومن
معه وكفروا كل من خالفهم ـ أكفار هم؟ فأجاب علي (من الكفر فروا) قيل له أمنافقون
هم؟ قال (إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلا) قيل ما هم فقال (قوم أصابتهم
فتنة فعموا وصموا)!.
وقد اشتهر في المقابل علماء الأمة في
آخر عصر التابعين ومن بعدهم باسم (أهل السنة والجماعة) كما جاء في مقدمة صحيح مسلم
عن إمام التابعين محمد بن سيرين (كانوا لا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة
قالوا سموا لنا رجالكم فمن كان من أهل السنة أخذوا عنه ومن كان من أهل البدعة
تركوه) والمراد بالفتنة على الصحيح فتنة المختار بن عبيد أو فتنة الحجاج والقراء.
وقد أطلق ابن سعد في طبقاته هذا الوصف
على عدد من صغار التابعين وأتباعهم فقال عن زائدة بن قدامة (ت160) (صاحب سنة
وجماعة) وعلى حمزة الزيات (ت156) (صاحب سنة).
وكذا وصف العجلي في ثقاته إسماعيل بن
أبي خالد (تابعي ثقة صاحب سنة) والحكم بن عتيبة (صاحب سنة واتباع وكان فيه تشيع)
وزهير بن معاوية (كوفي ثقة صاحب سنة واتباع) وسفيان الثوري (صاحب سنة واتباع وكان
من أقوى الناس بكلمة شديدة عند سلطان يتقى).
وأقدم من وصفه العجلي بأنه صاحب سنة
الحسن البصري وعاصم بن أبي النجود.
فمصطلح (من أهل السنة) و(صاحب سنة) في
هذه الفترة لا يعني طائفة بعمومها إذ لا وجود للطائفة آنذاك، بل يطلق فقط على من
اشتهر من العلماء في أواخر عصر التابعين آنذاك بالعناية بالسنن وروايتها، وعدم
الطعن في الصحابة، ومن اشتهر باتباع السنة خاصة في باب الاعتقاد، وهي طريقة سلف
الأمة من الصحابة رضي الله عنهم في الإيمان والتسليم للنصوص بعيدا عن الجدل والخصومة
في الدين التي اشتهر بها علماء الحرورية والقدرية والشيعة والمرجئة الذين بدؤوا في
تقرير أصولهم ونصرتها بالجدل وبالحجج العقلية والنظرية الكلامية.
فبقي المسلمون أمة واحدة يجمعهم اسم
الإسلام العام قبلتهم واحدة ودينهم واحد ومساجدهم واحدة ومقابرهم واحدة وانقسم أهل
العلم إلى أقسام أهل البدع والأهواء على اختلاف أهوائهم وافتراقهم، وأهل السنة
والجماعة واجتماعهم واتفاقهم وهم عامة علماء الأمة، وذلك للزومهم السنة والجماعة
وما كان عليه سلف الأمة، ثم شاع في عصر أتباع التابعين وفي نصف القرن الثاني
استعمال هذا اللفظ حتى قال عبد الرحمن بن مهدي (إذا رأيت حجازيا يحب مالك بن أنس
فهو صاحب سنة، وإذا رأيت بصريا يحب حماد بن زيد فهو صاحب سنة، وإذا رأيت الشامي
يحب الأوزاعي وأبا إسحاق الفزاري فهو صاحب سنة) وكان حماد بن سلمة البصري (ت167
هـ) صاحب سنة شديدا على أهل البدع، وكذا أبو بكر بن عياش، وعلي بن مسهر، وليث بن
أبي سليم، وشريك بن عبد الله، وأبو الزناد المدني، وجرير بن حازم البصري... إلخ.
ومع ذلك فقد كان أبو نعيم الفضل بن
دكين شيخ الإمام أحمد يتشيع وكان إذا قال عن رجل بأنه مرجيء فهو من أهل السنة!
لأنهم كانوا يستثنون في الإيمان فيقولون مؤمنون إن شاء الله ولا يقطعون!
وكان وكيع بن الجراح وهو شيخ الإمام
أحمد يتشيع فلم يحدثه زائدة بن قدامة لذلك وكان لا يحدث إلا صاحب سنة!
وذلك لأن تشيع بعض أهل السنة كان
فاشيا في الكوفة وهو تفضيل علي على عثمان قبل أن يستقر القول عندهم على أن ترتيبهم
في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وأن من فضل عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين
والأنصار الذين اختاروا عثمان بالشورى والاختيار.
إلا أن الأصول العامة التي تجمع عامة
أهل السنة والجماعة ـ مع اختلافهم الجزئي في بعض هذه المسائل ـ تنقسم إلى قسمين رئيسين:
القسم الأول: الأصول
الدينية العقائدية والفقهية.
والقسم الثاني: الأصول الشرعية
السياسية.
وهذا بيان موجز لهذه الأقسام:
القسم الأول: الأصول
الدينية العقائدية والفقهية:
وهي لزومهم الكتاب والسنة وإجماع
الصحابة رضي الله عنهم فيما أجمعوا عليه، وعدم الخروج عن مجموع أقوالهم فيما اختلفوا
فيه، في قضايا الدين أصولا وفروعا، وهذا هو الأصل الذي بنى عليه الأئمة الفقهاء
الأربعة في القرن الثاني مذاهبهم الفقهية والأصولية وهم أبو حنيفة ومالك والشافعي
وأحمد الذي أفتى وحدث قبل سنة 200هـ، وكذا عامة الأئمة في عصرهم كالثوري والأوزاعي
والليث بن سعد وداود الظاهري واشتهرت مذاهبهم الفقهية بذلك، ولهذا اشتهرت كلها
بمذاهب أهل السنة والجماعة لشهرة هذا الأصل وهو حجية الكتاب والسنة ـ وهذا يوافقهم
عليه حتى المخالفون من حيث الجملة ـ وحجية إجماع الأمة وهم الصحابة على وجه الخصوص
إذ بعدهم لا يثبت إجماع على التحقيق بل الأمة تبع لهم فيما أجمعوا عليه وفيما
اختلفوا فيه.
ولكثرة الصحابة الذين كانوا في حجة
الوداع أكثر من مائة ألف، وانتشارهم في كل الأمصار والثغور ينشرون الإسلام،
ويبلغون القرآن ويعلمون المسلمين السنن والأحكام، كانت الأمة كلها تبعا لهم في
القرن الأول، فشاعت في الأمة طريقتهم وهديهم وعلومهم فكانوا أكثر تابعا ممن خالفهم
من أهل البدع، وكذا الحال في القرن الثاني فلشهرة أئمة الحديث وأئمة الفقه وكثرة
أتباع هؤلاء الأئمة من العلماء وكثرة أصحابهم ـ كأبي حنيفة (ت 150هـ) والثوري (ت
160هـ) في العراق، ومالك (ت179 هـ) في الحجاز، والليث بن سعد (ت 175هـ) بمصر،
والأوزاعي (ت 156 هـ) في الشام ـ صار هؤلاء وأصحابهم من بعدهم ـ كالشافعي وأصحابه
وأحمد وأصحابه وابن جرير الطبري وأصحابه وداود الظاهري وأصحابه ـ هم المفتين
والأئمة في الدين إليهم يرجع عامة المسلمين في معرفة الأحكام وشرائع الإسلام في
عامة الأقطار، وبدأ العلم يفشو ويشيع، وبدأ عصر التدوين والنهضة العلمية فتشكلت
المدارس الفقهية التي أمدت الدولة والخلافة بالقضاة والأئمة، والمدارس الحديثية
التي عنيت بالسنة النبوية جمعا وحفظا ونشرا، فامتد بامتداد ذلك كله مفهوم أهل
السنة ليصبح شعارا ليس لطائفة من أهل العلم كما في أواخر القرن الأول بل اسما عاما
لعموم الأمة التي فشت فيهم مذاهب الأئمة الأربعة وأئمة الفقه والحديث الذين بلغ
أصحابهم وأتباعهم الآلاف من القضاة والولاة وعلماء الفقه والحديث الذين كانوا
يشكلون ثقافة المجتمع الفقهية والدينية، فصار عامة الأمة تبع لهؤلاء الأئمة إلا من
خالف من علماء الفرق الأخرى.
ولهذا قال ابن حزم (ت 456 هـ) في
تعريف أهل السنة في الفصل في الملل والنحل (2/90) (وأهل السنة، هم الصحابة رضي
الله عنهم وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمه الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن
اتبعهم من الفقهاء جيلا فجيلا، إلى يومنا هذا أو من اقتدى بهم من العوام في شرق
الأرض وغربها رحمة الله عليهم).
وليس مقصود ابن حزم أن الصحابة كانوا
يُسمَّون أهل السنة والجماعة! فهذا لا يقوله أحد وإنما أراد أن الصحابة هم الذين
نشروا السنن، وأقاموا الخلافة، وحضوا على الجماعة والاتباع، وحذروا من الفرقة
والابتداع، وعنهم أخذ التابعون هذه الطريقة، ثم ظهر مصطلح أهل السنة والجماعة في
آخر عصر التابعين، واشتهر في آخر القرن الثاني، ثم صار اسما لكل عامة المسلمين ممن
ليس من المخالفين.
ويبين ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج
السنة (2/601) حيث يقول (ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق
الله أبا حنيفة ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنه مذهب الصحابة الذين تلقوه عن نبيهم،
ومن خالف ذلك كان مبتدعًا عند أهل السنة والجماعة، فإنهم متفقون على أن إجماع
الصحابة حجة، ومتنازعون في إجماع من بعدهم).
فالمذهب والطريقة هو مذهب الصحابة
وطريقتهم وليس أمرا مخترعا، أما الاسم والشعار (أهل السنة والجماعة) فمستحدث بعد
عصر الصحابة، وصار يطلق على من لزم طريقتهم بعدهم.
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى (3/345)
في بيان أن مذهب أهل السنة هو مذهب جماهير الأمة وعامتها (أهل السنة والجماعة، وهم
الجمهور الأكبر والسواد الأعظم، وأما الفرق الباقية فإنهم أهل الشذوذ والتفرق
والبدع والأهواء ولا تبلغ الفرقة من هؤلاء قريبا من مبلغ الفرقة الناجية فضلا عن
أن تكون بقدرها، بل قد تكون الفرقة منها في غاية القلة، وشعار هذه الفرق معارضة
الكتاب والسنة والإجماع؛ فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة
والجماعة).
وهنا حدد ابن تيمية أمرين:
الأول: من أطلق عليهم الاسم والشعار
وهم عامة الأمة وجماهيرها.
والثاني: على من يصدق هذا الاسم؟ وما
المعيار الذي يعرف فيه أهل السنة من أهل البدعة؟ وقد حدده بأنه (القول بالكتاب
والسنة والإجماع).
وليس المقصود بالقول أي العمل الفعلي
إذ عامة المسلمين لا يلتزمون إلا بالحد الأدنى، وقد يقع منهم تقصير وتفريط، وإنما
المراد عدم وقوعهم في البدع التي تخرجهم من اسم أهل السنة كالطعن في الصحابة أو
نفي الصفات أو نفي القدر أو إكفار الأمة واستحلال دمائها مما يخالف نصوص الكتاب
والسنة وما كان عليه سلف الأمة.
وقال في منهاج السنة (3/406) بأن أهل
السنة والجماعة (متفقون على محبة الصحابة وموالاتهم وتفضيلهم على سائر القرون وعلى
أن إجماعهم حجة، وعلى أنه ليس لهم الخروج عن إجماعهم).
وقال في الفتاوى (24/241) (أهل السنة
والجماعة، هم سلف الأمة وأئمتها، ومن تبعهم بإحسان).
وبناء على هذا التعريف فليس
مصطلح (أهل السنة والجماعة) شعارا على طائفة بعينها فقط، بل هو معيار موضوعي في
تعريف وتحديد مفهوم (السنة والجماعة) وأنه ما كان عليه الصحابة وهم سلف الأمة، ومن
كان على طريقتهم في فهم الدين بلزوم إجماعهم فيما أجمعوا عليه، وعدم الخروج عن
مجموع أقوالهم فيما اختلفوا فيه في أصول الدين وفروعه، ويدخل في الصحابة دخولا
أوليا آل البيت رضي الله عنهم أجمعين.
فشعار أهل السنة والجماعة
هو لزوم السنن النبوية والآثار السلفية القائمة على الاتباع، بخلاف أهل الأهواء
والابتداع، الذين صارت العقائد عندهم تؤسس على الحجج النظرية والعقلية تأثرا
بالفلسفة اليونانية وهي الآراء (والأهواء) القائمة على الابتداع.
وبناء على هذا المعيار فكل
من قال من أهل السنة والجماعة قولا في الدين يخالف كتابا أو سنة أو إجماعا فقوله
باطل وإن كان من أئمة أهل السنة، ومن قال قولا في أمر الدين لا يستند إلى كتاب أو
سنة أو إجماع، أو قولا لا يعرفه الصحابة رضي الله عنهم فليس قوله حجة بل هو رأي
واجتهاد.
ثم لما تطور علم الكلام وتحول الخلاف
من صراع سياسي ـ بين الدولة من جهة والخوارج والشيعة والمعتزلة الذين يمثلون
الأقلية المعارضة من جهة أخرى ـ إلى صراع عقائدي تستهدف فيه هذه الفرق عقيدة الأمة
نفسها لا السلطة فقط ـ حيث اضطرهم الجدل والأخذ باللوازم إلى الخوض فيما جرى بين
الصحابة وتحديد الموقف منهم، وما وقع بينهم من خلاف واقتتال، وما جرى في شأن
الخلافة، وحكم من وقع في كبيرة... الخ ـ وجد علماء الأمة أنهم في حاجة للتصدي
بالحجج والجدل لهذه الشبه دفاعا عن السنة والصحابة وسلف الأمة من جهة، وحماية
لعقيدة عامة المسلمين من جهة أخرى، ولصيانة الدولة والخلافة التي ما زالت تقوم
بالفتوحات وتواجه التحديات الخارجية من جهة ثالثة، فظهر في القرن الثالث متكلمو
أهل السنة والجماعة كابن كلاب وابن كرام وأبي الحسن الأشعري وأبي منصور الماتريدي
وتصدوا لهذه المهمة، وكان لهم دور كبير في الدفاع عن عقائد أهل السنة وعامة الأمة
وإبطال حجج المخالفين، إلا أنهم لم يسلموا من الوقوع في بعض المآخذ في هذا الباب،
مما أدى إلى التنازع فيما بينهم من جهة، وفيما بينهم وبين أهل الحديث من جهة أخرى
في أحقيتهم بشعار أهل السنة والجماعة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان
تلبيس الجهمية (2/87) (الإمام أحمد كان يحذر مما ابتدعه عبد الله بن سعيد بن كلاب
ومن أصحابه كالحارث ـ أي المحاسبي ـ وذلك لما علموه في كلامهم من المسائل والدلائل
الفاسدة، وإن كان في كلامهم من الأدلة الصحيحة وموافقة السنة ما لا يوجد في كلام
عامة الطوائف، فإنهم أقرب طوائف أهل الكلام إلى السنة والجماعة والحديث، وهم يعدون
من أهل السنة والجماعة عند النظر إلى مثل المعتزلة والرافضة وغيرهم، بل هم أهل
السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم).
وهنا تجاوز مفهوم (السنة والجماعة)
المعيار الموضوعي الذي يحتكم إليه عند الاختلاف، إلى شعار يدعيه كل طرف، وبدأ
الخلاف يدب بين الفريقين، في أيهم أحق باسم أهل السنة، خاصة بعد النصر التاريخي
على مستوى الفكر الذي تحقق على يد الإمام أحمد وعامة أهل الحديث والفقه في
مواجهتهم لتحول الدولة إلى الاعتزال في عصر المأمون والمعتصم والواثق، حيث فشلت
السلطة فشلا ذريعا في فرض عقيدة المعتزلة على الأمة، بعد رفض علماء الحديث وعلماء
الفقه في كل أمصار المسلمين لهذه العقيدة المتأثرة بالفلسفة اليونانية وعلم
المنطق، ودخل أهل السنة بعد ذلك النصر في صراع فكري داخلي فيما بينهم، المتكلمون
من جهة وأهل الحديث من جهة، بعد أن كادت تخلو الساحة كلها إلا منهم، حيث بدأ
الاعتزال يزول شيئا فشيئا وكذا فكر الخوارج، فصار لمصطلح
(أهل السنة والجماعة) ثلاثة إطلاقات:
الأول: استخدام عامي يطلقه
عامة المسلمين وهو عندهم في مقابل التشيع فالسني هو من ليس بشيعي.
الثاني : استخدام علمي
وسياسي عام يطلق على كل من يثبت الخلافة وأنها بالشورى لا بالنص، ويثبت خلافة
الخلفاء الراشدين، ويترضى عن سلف الأمة أجمعين، ويقول بالكتاب والسنة وإجماع
الصحابة، ولا يرى كفر أهل القبلة، ولا يرى السيف على الأمة، فيشمل اسم أهل السنة
والجماعة المذاهب الفقهية السنية المشهورة وأهل الحديث والصوفية من أهل السلوك
والمتكلمين من أهل السنة بخلاف من لا يرى شرعية الخلافة كالشيعة الذين يقولون
بالإمامة والنص، وكالخوارج وغيرهم من الفرق الذين طعنوا في خلافة عثمان وعلي،
وكفروا الأمة ورأوا الخروج عليها بالسيف، وهذا الإطلاق هو الأشهر والأشد أثرا في
تاريخ الأمة كله، وهو قول جماهير الأمة، ولهذا يطلق كثير من المصنفين من الشيعة
والمعتزلة لفظ مذهب العامة على أهل السنة الذين يمثلون عامة الأمة، وصاروا يطلقون
على مذاهبهم وطوائفهم مذهب الخاصة، ولهذا كان مذهب أهل السنة مذهبا شعبيا جماهيرا
واقعيا كان له أكبر الأثر في تاريخ الأمة السياسي من خلال وقوفه مع الدولة
والخلافة ووحدة الأمة وإقامة الجهاد وهو ما حافظ على الإسلام الدين والإسلام الأمة
والإسلام الدولة والإسلام الحضارة أمام كل التحديات التاريخية الخطيرة التي واجهها
العالم الإسلامي مدة ثلاثة عشر قرنا.
الثالث: وهو استخدام خاص لا
أثر له خارج الوسط العلمي وهو ادعاء كل من أهل الحديث والأشعرية والحنابلة
والشافعية أنهم أهل السنة وحدهم ونفيهم هذا الاسم عمن خالفهم.
وقد نبه شيخ الإسلام ابن تيمية على
هذه الإطلاقات فقال في منهاج السنة النبوية(2/132) (فلفظ أهل السنة يراد به من
أثبت خلافة الخلفاء الثلاثة، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلا الرافضة، وقد يراد به
أهل الحديث والسنة المحضة فلا يدخل فيه إلا من يثبت الصفات لله تعالى، ويقول إن
القرآن غير مخلوق، وإن الله يرى في الآخرة، ويثبت القدر، وغير ذلك من الأصول
المعروفة عند أهل الحديث والسنة، والاصطلاح العام هو اصطلاح العامة: كل من ليس
برافضي، قالوا: هو من أهل السنة).
وفاته الإطلاق بالمعنى الثاني وكأنه
جعل الأول والثاني إطلاقا واحدا، وإلا فقد أطلق ابن تيمية اسم أهل السنة بمفهومه
الشمولي العام كما في منهاج السنة النبوية (5/283) حيث يقول (وهذا الفرق بين
المحبة والمشيئة هو مذهب السلف وأهل الحديث والفقهاء وأكثر متكلمي أهل السنة
كالحنفية والكرامية والمتقدمين من الحنبلية والمالكية والشافعية).
وقال في الجواب الصحيح (6/7) (مذهب
سلف المسلمين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأئمة المسلمين المشهورين وغيرهم من
أهل السنة والحديث من الفقهاء والصوفية والنظار هو إثبات معاد الأرواح والأبدان
جميعا).
وقال في الرد على المنطقيين (1/420)
(بل القائلون بالتحسين والتقبيح من أهل السنة والجماعة من السلف والخلف كمن يقول
به من الطوائف الأربعة وغيرهم يثبتون القدر والصفات ونحوهما مما يخالف فيه
المعتزلة أهل السنة، ويقولون مع هذا بإثبات الحسن والقبح العقليين، وهذا قول
الحنفية ونقلوه أيضا عن أبي حنيفة نفسه، وهو قول كثير من المالكية والشافعية
والحنبلية).
وقال في العقيدة الأصفهانية (1/103)
(إثبات كونه سميعا بصيرا وأنه ليس هو مجرد العلم بالمسموعات والمرئيات هو قول أهل
الإثبات قاطبة من أهل السنة والجماعة من السلف، والأئمة، وأهل الحديث، والفقه،
والتصوف، والمتكلمين من الصفاتية كأبي محمد بن كلاب وأبي العباس القلانسي وأبي
الحسن الأشعري وأصحابه).
وكل هذه النصوص تؤكد أن اسم أهل السنة
والجماعة عنده يطلق على معنى أوسع من المعنى الثالث الذي يقصره على أهل الحديث
والأثر فقط، وأضيق من المعنى الأول الذي يستخدمه العامة في إطلاقه على كل من لم
يكن شيعيا، بل هو يشمل أتباع المذاهب الفقهية المشهورة كالحنفية والمالكية
والشافعية والحنبلية والظاهرية، وكذا أهل السلوك والعبادة والزهد من الصوفية،
وكذلك المتكلمين من أهل السنة كالكرامية والأشعرية والماتريدية، وهو المفهوم الذي
عليه أكثر علماء الأمة فيدخل فيه أهل الحديث وأهل الفقه وأهل السلوك وأهل الكلام
ممن كانوا على الأصول العامة للسنة وإن خالفوا في بعض الجزئيات.
ومن الأسباب التي
جعلت مذهب أهل السنة والجماعة مذهبا شعبيا جماهيريا عاما سوى ما سبق ذكره:
1 ـ أنه كما لا
يحتاج الدخول في الإسلام إلا إلى الإقرار بالشهادتين فكذلك اسم أهل السنة والجماعة
لا يحتاج الدخول فيه إلا إلى الإقرار الإجمالي بالكتاب والسنة وما كان عليه سلف
الأمة، فكل مسلم على الإسلام العام والإيمان الإجمالي هو من أهل السنة والجماعة.
2 ـ أنه يتوافق مع
ظاهر القرآن والسنة ولهذا يلجأ المخالفون إلى التأويل وبناء عقائدهم على الأدلة
العقلية التي لا يحسنها العامة بينما عقيدة أهل السنة والجماعة تقوم على الأدلة
النقلية من نصوص الكتاب والسنة فكل من قرأ القرآن وآمن بما فيه إجمالا فهو من أهل
السنة.
3 ـ الواقعية
والوسطية وكونه الأقرب إلى الطبيعة الإنسانية في عامة أصوله العقائدية والسياسية ـ
كما سيأتي بيانه ـ ولهذا كلما كانت الفرق الأخرى أقرب إلى أهل السنة والجماعة كانت
أكثر شعبية وقبولا في الأمة من غيرها وقد اضطرت الفرق الأخرى إلى التخلي عن تطرفها
وغلوها تحت ضغط الواقع كما سيأتي.
وقد تمثل الغلو والتطرف
والتفريط في البدع الخمس المشهورة وهي:
1 ـ الطعن في الصحابة أو بعضهم أو عدم
إثبات إمامة أحد من الخلفاء الراشدين وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو نفي أن تكون
الخلافة بالشورى والاختيار أو ادعاء العصمة ووجوب الطاعة والاتباع لغير النبي صلى
الله عليه وسلم.
2 ـ الحكم بالكفر على الأمة أو على من
فعل كبيرة واستحلال قتال المسلمين ومفارقة جماعتهم بالأهواء والآراء والخروج على
الأمة بالسيف.
3 ـ نفي القدر وأن أفعال العباد غير
معلومة لله قبل وقوعها أو أنها غير مخلوقة وأن الإنسان يفعل منها ما يشاء ويوجد
منها ما يريد استقلالا وليس لله فيها قدرة ولا إرادة، أو القول بالجبر وهو نفي
قدرة الإنسان ومشيئته وأنه كالريشة في مهب الريح ونفي المسئولية الإنسانية عن
أفعاله.
4 ـ نفي الصفات الواردة في الكتاب
والسنة عن الله أو الغلو في الإثبات وتشبيه الله بشيء من صفات المخلوقين أو القول
بخلق القرآن ونفي أن يكون القرآن كلام الله غير مخلوق.
5 ـ إخراج الأعمال الصالحة من اسم
الإيمان وتعريفه بالإقرار والتصديق فقط، وأنه لا يضر مع الإيمان ذنب، أو نفي
تفاوته وزيادته ونقصانه، أو القول بأنه شيء واحد إذا ذهب منه جزء ذهب كله.
فهذه القضايا الخمس ـ (الرفض)
و(الخروج) و(نفي القدر أو إثبات الجبر) و(نفي الصفات أو التشبيه) و(الإرجاء المحض)
ـ هي التي فارق من فارق فيها ما كان عليه سلف الأمة فمن لم يكن من أهل هذه الأهواء
فهو من أهل السنة والجماعة، ولهذا كان عامة المسلمين وأتباع الأئمة الأربعة من أهل
السنة والجماعة لعدم قولهم بهذه البدع، فصارت السنة مذهب العامة إذ لا يحتاج
المسلم إلا إلى خلو الذهن من تلك الأهواء بينما لا يكون من أهلها إلا بالقول بها
ومعرفة أصولها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى
12/485 (فالمبتدع هو من خالف أصلا من أصول أهل السنة رحمهم الله).
وقال في الفتاوى 35/414 (البدعة: التي
يعد بها الرجل من أهل الأهواء ما أشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتها للكتاب
والسنة؛ كبدعة الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة).
وقال في الفتاوى 24/172 (ومن خالف
الكتاب المستبين، والسنة المستفيضة أو ما أجمع عليه سلف الأمة خلافًا لا يعذر فيه
فهذا يعامل بما يعامل به أهل البدع).
تفاوت البدع في درجات
الابتداع وشدة الانحراف:
ثم ليست هذه الأهواء
والبدع على درجة واحدة من الانحراف بل بعضها أهون من بعض، ولهذا ربما قال ببعض
فروعها من هو من أئمة أهل السنة والجماعة ولا تخرجه من دائرتهم العامة، كمن توقف
في خلافة علي ورأى زمنه زمن فتنة، أو رأى عليا أفضل من عثمان، أو قال بإرجاء
الفقهاء وأخرج الأعمال من اسم الإيمان إلا أنه يوجبها ويرتب عليها أحكامها... إلخ.
كما إن اسم الإسلام
والإيمان يشمل جميع هذه الفرق فهم جميعا من أهل القبلة.
قال ابن حزم في الفصل في الملل والنحل
(2/88) (فرق المقرين بملة الإسلام خمسة وهم أهل السنة والمعتزلة والمرجئة والشيعة
والخوارج، ثم افترقت كل فرقة من هذه على فرق، وأكثر افتراق أهل السنة في الفتيا
ونبذ يسيرة من الاعتقادات، ثم سائر الفرق الأربعة التي ذكرنا ففيها ما يخالف أهل
السنة الخلاف البعيد، وفيهم ما يخالفهم الخلاف القريب، فأقرب فرق المرجئة إلى أهل
السنة من ذهب مذهب أبي حنيفة الفقيه إلى أن الإيمان هو التصديق باللسان والقلب
معا، وأن الأعمال إنما هي شرائع الإيمان وفرائضه فقط، وأقرب فرق المعتزلة إلى أهل
السنة أصحاب الحسين بن محمد النجار، وأبعدهم أصحاب أبي الهذيل، وأقرب مذاهب الشيعة
إلى أهل السنة المنتمون إلى أصحاب الحسن بن صالح بن حي الهمداني الفقيه القائلون
بأن الإمامة في ولد علي رضي الله عنه، والثابت عن الحسن بن صالح رحمه الله هو
قولنا أن الإمامة في جميع قريش وتولي جميع الصحابة رضي الله عنهم، إلا أنه كان
يفضل عليا على جميعهم، وأبعدهم الإمامية، وأقرب فرق الخوارج إلى أهل السنة أصحاب
عبد الله بن يزيد الأباضي الفزازي الكوفي وأبعدهم الأزارقة).
وقال ابن تيمية في النبوات (1/423)
(فالبدع نوعان: نوع كان قصد أهلها متابعة النصّ والرَّسول، لكن غلطوا في فهم
النصوص، وكذَّبوا بما يخالف ظنَّهم من الحديث ومعاني الآيات؛ كالخوارج، وكذلك
الشيعة المسلمون، بخلاف من كان منافقًا زنديقًا يظهر التشيع، وهو في الباطن لا
يعتقد الإسلام، وكذلك المرجئة قصدوا اتباع الأمر والنهي، وتصديق الوعيد مع الوعد،
ولهذا قال عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط، وغيرهما:إن الثنتين وسبعين فرقة
أصولها أربعة: الشيعة، والخوارج، والمرجئة، والقدريَّة . وأمَّا الجهمية النافية
للصفات، فلم يكن أصل دينهم اتباع الكتاب والرسول؛ فإنه ليس في الكتاب والسنة نصٌ
واحد يدل على قولهم، بل نصوص الكتاب والسنة متظاهرة بخلاف قولهم).
ثم لم يأت القرن الرابع حتى استقر
شعار أهل السنة والجماعة وصار ينتظم أهل الحديث والأثر وأهل الفقه والرأي وأهل
السلوك والتصوف السني والمتكلمين على أصول أهل السنة، كما قال عبد القاهر البغدادي
(ت424) في الفرق بين الفرق (1/7 ) في إطلاق اسم أهل السنة على أهل الحديث وأهل
الفقه والرأي (ونحوها من الأبواب التي اتفق عليها أهل السنة والجماعة من فريقي
الرأي والحديث على أصل واحد خالفهم فيها أهل الأهواء).
وقال أيضا في (1/19) (فأما الفرقة
الثالثة والسبعون فهي أهل السنة والجماعة من فريقي الرأي والحديث، وفقهاء هذين
الفريقين، وقراؤهم، ومحدثوهم، ومتكلمو أهل الحديث منهم، كلهم متفقون على مقالة
واحدة في توحيد الصانع وصفاته وعدله وحكمته، وفي أسمائه وصفاته، وفى أبواب النبوة
والإمامة، وفى أحكام العقبى، وفى سائر أصول الدين، وإنما يختلفون في الحلال
والحرام من فروع الأحكام، وليس بينهم فيما اختلفوا فيه منها تضليل ولا تفسيق، وهم
الفرقة الناجية، ويجمعها الإقرار بتوحيد الصانع وقدمه، وقدم صفاته الأزلية، وإجازة
رؤيته من غير تشبيه ولا تعطيل، مع الإقرار بكتب الله ورسله، وبتأييد شريعة الإسلام
وإباحة ما أباحه القرآن وتحريم ما حرمه القرآن، مع قيود ما صح من سنة رسول الله،
واعتقاد الحشر والنشر، وسؤال الملكين في القبر، والإقرار بالحوض والميزان، فمن قال
بهذه الجهة التي ذكرناها ولم يخلط إيمانه بها بشيء من بدع الخوارج والروافض
والقدرية وسائر أهل الأهواء، فهو من جملة الفرقة الناجية إن ختم الله له بها، وقد
دخل في هذه الجملة جمهور الأمة وسوادها الأعظم من أصحاب مالك والشافعي وأبى حنيفة
والأوزاعي والثوري وأهل الظاهر).
كما قال ابن حزم في الإحكام 4/579 وهو
يرد على التقليد (قلنا أهل السنة فرق فالحنفية جماعة، والمالكية جماعة، والشافعية
جماعة، والحنبلية جماعة، وأصحاب الحديث الذين لا يتعدونه جماعة).
وقال أيضا في 6/ 272 (سفيان الثوري
والأوزاعي ومالك وأبي حنيفة وأبي يوسف والشافعي وابن القاسم وداود ومحمد بن الحسن
وأحمد بن حنبل وأبي ثور وهؤلاء الفقهاء رحمهم الله هم الذين قلدتهم الطوائف بعدهم
ما نعلم الآن على ظهر الأرض أحدا يقلد غيرهم... فإن كان مالكيا أو شافعيا أو حنفيا
أو سفيانيا أو أوزاعيا قيل له فقلد أحمد بن حنبل فإنه أتى بعد هؤلاء ورأى علمهم
وعلم غيرهم وتعقب على جميعهم، ولا خلاف بين أحد من علماء أهل السنة أصحاب الحديث
منهم وأصحاب الرأي في سعة علمه..).
ثم في أواخر القرن السادس بعد شيوع
التقليد المذهبي واندثار كثير من المذاهب الفقهية السنية ـ كمذهب الثوري والأوزاعي
والليث وأبي ثور وابن جرير وداود الظاهري ـ صار اسم أهل السنة والجماعة ينتظم على
وجه الخصوص أتباع المذاهب الفقهية الأربعة المتبوعة المشهورة وهي مذهب أبي حنيفة
بالعراق وما خلفه من المشرق الإسلامي، ومالك بالحجاز والمغرب الإسلامي إلى
الأندلس، والشافعي بمصر والشام، وأحمد ببغداد ثم بالشام ثم نجد، ولم يبق أحد لا من
أهل الحديث ولا من أهل السلوك ولا من أهل الكلام لا يقلد أحد أئمة هذه المذاهب، بل
حتى المعتزلة صاروا منذ القرن الثالث لا يخرجون في مذاهبهم الفقهية عن مذهب أبي
حنيفة أو الشافعي كالقاضي عبد الجبار والزمخشري!
ثم لم تنته عند ذلك
الإشكالية إذ ما زال الغلو والتطرف والانحراف يفعل فعله في بعض أتباع الطوائف
السنية حتى تجاوزوا أصول أهل السنة العقائدية الدينية، كما تجاوزوا أصولهم العملية
السياسية، وهي الأصول التي قررها الخطاب القرآني، وطمس معالمها في العصور المتأخرة
الخطاب السلطاني، الذي فتح الطريق للخطاب العلماني، حتى صار الخيار أمام أهل السنة
وعموم الأمة في العصر الحديث إما العلمانية الديمقراطية أو الجبرية والطاغوتية
وللحديث بقية!