الأصول السياسية
والعقيدة الغائبة (2)
بقلم د. حاكم المطيري
ثبت كما سبق ذكره من نصوص عن أئمة
أهل السنة بأن قضية الخلافة والإمامة مع كونها قضية سياسية هي أيضا من أصول الدين
والاعتقاد عندهم، بل هي من أركان الدين الذي لا يقوم دين الإسلام إلا بها كما نص
عليه ابن حزم والقرطبي وشيخ الإسلام ابن تيمية، وأن من لم يؤمن بها فليس من أهل السنة والجماعة، وقد خالف أهل السنة في شأن الخلافة وفي
بعض فروعها طوائف وفرق أخرى ومن ذلك:
1 ـ القول بالخلافة ـ كنظام
سياسي وكرئاسة عامة على الأمة بانتخاب الأمة بالشورى والرضا والاختيار نيابة عن
النبي صلى الله عليه وسلم ـ هو قول أهل السنة قاطبة ووافقهم عليه المعتزلة
والخوارج والمرجئة والشيعة الزيدية ولم يخالف إلا الشيعة الإمامية الذين قالوا
بالنص والعصمة ونفوا أن تكون الإمامة بالشورى والاجتهاد، قال عبد القاهر البغدادي
في أصول الدين (ص279) (واختلفوا في طريق ثبوت الإمامة من نص أو اختيار: فقال
الجمهور الأعظم من أصحابنا ـ يعني أهل السنة ـ ومن المعتزلة والخوارج أن طريق
ثبوتها الاختيار من الأمة باجتهاد أهل الاجتهاد منهم واختيارهم من يصلح لها، وزعمت
الإمامية أن طريقها النص من الله على لسان رسوله ثم نص الإمام على الإمام بعده).
2 ـ وقال أئمة أهل السنة
والجماعة بأنه لا تنعقد الإمامة إلا بالبيعة من كافة الأمة كما هي بيعة عمر وعثمان
بن عفان، أو من جمهورهم كما هي بيعة أبي بكر وعلي، وخالف بعض المتكلمين
المتأخرين فقالوا تنعقد ببيعة الواحد والاثنين والعدد القليل، ورد شيخ الإسلام ابن
تيمية عليهم قولهم ونقل عن أئمة أهل السنة أنها لا تنعقد إلا ببيعة الجمهور الذين
تتحقق بهم الشوكة والقدرة والطاعة، قال ابن تيمية ـ في منهاج السنة(1/530-531)
ـ(بعض أهل الكلام يقولون: إن الإمامة تنعقد ببيعة أربعة، كما قال بعضهم: تنعقد
ببيعة اثنين، وقال بعضهم: تنعقد ببيعة واحد، فليست هذه
أقوال أئمة السنة، بل الإمامة عندهم تثبت بموافقة أهل الشوكة عليها، ولا
يصير الرجل إماما حتى يوافقه أهل الشوكة عليها الذين يحصل بطاعتهم له مقصود
الإمامة.. ولو قُدِّر أن عمر وطائفة معه بايعوه، وامتنع سائر الصحابة عن البيعة،
لم يصر إماماً بذلك، وإنما صار ـ أبو بكر ـ إماماً
بمبايعة جمهور الصحابة، والذين هم أهل القدرة والشوكة، ولهذا لم يضر تخلف
سعد بن عبادة، لأن ذلك لا يقدح في مقصود الولاية، فإن المقصود حصول القدرة
والسلطان اللذين بهما تحصل مصالح الإمامة، وذلك قد حصل
بموافقة الجمهور على ذلك، فمن قال إنه يصير إمامًا بموافقة واحد أو اثنين
أو أربعة، وليسوا هم ذوي القدرة والشوكة، فقد غلط؛ كما أن من ظن أن تخلف الواحد أو
الاثنين والعشرة يضر، فقد غلط) ثم نص على بيعة عمر وعثمان وعلي وأنها كلها تمت
بمبايعة الجميع أو الجمهور وهم الأكثرية.
فهذا مذهب أئمة أهل السنة والجماعة
فهم يرون الإمامة والسلطة تقوم على أساس عقد اتفاق بين الأمة والإمام بالبيعة بعد
الشورى والرضا، كوكيل عن الأمة، وأنه لا بد أن تكون بموافقة الجميع ورضاهم، أو
بموافقة الجمهور والأكثرية، وهو معنى قوله تعالى {وأمرهم
شورى بينهم} وقول عمر (الإمارة شورى بين المسلمين)، وقد تحققت بيعة الإجماع لعمر
وعثمان حيث لم يخالف فيهما أحد، وتحققت بيعة الجمهور والأكثرية لأبي بكر وعلي رضي
الله عنهم جميعا.
3 ـ وقال أهل السنة والجماعة
بأن الإمامة والخلافة والإمارة لا يدخلها التوارث وليست الإمامة والسلطة من باب
الحقوق الخاصة التي يصلح توريثها، بل نقل ابن حزم إجماع الأمة على ذلك فقال
الفصل (4/130): (ولا خلاف بين أحد من أهل الإسلام في أنه لا يجوز التوارث فيها).
4 ـ وقال أهل السنة والجماعة
قاطبة وهو إجماع عند الفقهاء بأنه لا يجوز تعدد الأئمة، ولا يكون للأمة إلا إمام
واحد واجب الطاعة ـ كما سبق ذكره ـ قال ابن عبد البر في الاستذكار (3/190)
(الخليفة لا يحل إلا أن يكون واحدا في المسلمين كلهم)، وقال ابن حزم في المحلى
(9/360) (ولا يحل أن يكون في الدنيا إلا أمام واحد، والأمر للأول البيعة).
فإن تعددوا فالبيعة للأول منهما، وإمامة الثاني باطلة،
فإن لم تجتمع الأمة على واحد فهو زمن فتنة وفرقة لا تبذل فيه البيعة لأحد، ولا تجب
على الأمة طاعة أي منهما، كما ثبت عن ابن عمر (والله لا أبذل بيعتي في فرقة، ولا
أمنعها من جماعة) مع أنه كان في المدينة وكانت تحت ولاية ابن الزبير فأبى أن
يبايعه حتى تجتمع الأمة على إمام واحد، وخالف الكرامية فقالوا بأنه يجوز ذلك لأن
علي بن أبي طالب كان واجب الطاعة في العراق، ومعاوية واجب الطاعة في الشام، ورد
عليهم أهل السنة وأبطلوا حججهم، لمعارضتها لنصوص الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة،
قال عبد القاهر البغدادي في أصول الدين (ص 274) عن أهل السنة والجماعة أنهم لا
يجوزون أن يكون للأمة إمامان في وقت واحد واجبي الطاعة، ثم رد على من جوزها من
الكرامية فقال (فيا عجبا من طاعة واجبة على خلاف السنة! ولو جاز إمامان وأكثر لجاز
أن ينفرد كل ذي صلاح بالإمامة فيكون كل واحد منهم بولاية محلته وعشيرته وهذا يؤدي
إلى سقوط فرض الإمامة من أصلها) أي يبطل أصل الخلافة ووحدة السلطة والدولة، ويبطل
أصل الجماعة ووحدة الأمة، وهذا مضاد لقوله تعالى{ولا تنازعوا} وقوله {واعتصموا
بحبل الله جميعا ولا تفرقوا} وجاء في الأحاديث الصحيحة المتواترة الأمر بلزوم
الجماعة، وفسر الصحابة قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا} بأن المراد بحبل
الله هو الجماعة، وقال بعضهم هو القرآن، وكلا القولين صحيح فإن القرآن حبل الله،
وقد أمر بالجماعة وحرم الفرقة والاختلاف والتنازع قال ابن عبد البر في التمهيد
(21/272) في شرح حديث (إن الله يرضى لكم ثلاثا.. وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا
تفرقوا) (وفيه الحض على الاعتصام والتمسك بحبل الله في حال اجتماع وائتلاف، وحبل
الله في هذا الموضع فيه قولان: أحدهما كتاب الله، والآخر الجماعة، ولا جماعة إلا
بإمام، وهو عندي معنى متداخل متقارب، لأن كتاب الله يأمر بالألفة وينهى عن الفرقة،
قال الله عز وجل {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} الآية
وقال {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا}.. والظاهر في
حديث سهيل وقوله (وأن تعتصموا بحبل الله جميعا) أنه أراد الجماعة، وهو أشبه بسياق
الحديث) وكذا قال ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية.
وقال ابن عبد البر في التمهيد (21/278): (وأما قوله
صلى الله عليه وسلم "ولزوم جماعة المسلمين فإن دعوتهم تحيط من ورائهم"
أو "هي من ورائهم محيطة" فمعناه عند أهل العلم أن أهل الجماعة في مصر من
أمصار المسلمين إذا مات إمامهم، ولم يكن لهم إمام فأقام أهل ذلك المصر ،الذي هو
حضرة الإمام وموضعه، إماما لأنفسهم اجتمعوا عليه ورضوه، فإن كل من خلفهم وأمامهم
من المسلمين في الآفاق يلزمهم الدخول في طاعة ذلك الإمام، إذا لم يكن معلنا بالفسق
والفساد معروفا بذلك، لأنها دعوة محيطة بهم يجب إجابتها ولا يسع أحدا التخلف عنها
لما في إقامة إمامين من اختلاف الكلمة وفساد ذات البين).
وقد خالف أصل الوحدة والجماعة أهل الأهواء والبدع
الذين فارقوا جماعة المسلمين، وهجروا الجمع والجماعات في المساجد، وتركوا الجهاد
في سبيل الله، واشتغلوا في إكفار المسلمين، وتضليلهم واستباحة قتالهم، كما جاء
وصفهم في الصحيح: (يدعون أهل الأوثان ويقتلون أهل الإسلام).
وجاء في الحديث المرفوع: (وأنا آمركم بخمس أمرني الله
بهن الجماعة، والسمع، والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فمن فارق الجماعة
قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه، إلا أن يرجع، ومن دعا بدعوى الجاهلية فإنه
من حثاء جهنم" قال رجل وإن صام وصلى قال "وإن صام وصلى أدعو بدعوى الله
الذي سماكم المؤمنين عباد الله").
وقد صارت هذه الأوامر الإلهية والوصايا النبوية من
أصول أهل السنة والجماعة التي تميزوا بها عن كل الطوائف الأخرى، وكان لها الأثر في
حفظ وحدة الأمة من جهة، وبقاء الخلافة مدة ثلاثة عشر قرنا قائمة على الجهاد لم
يتعطل إلا في هذا العصر من جهة أخرى، وكما قال الأوزاعي (كان يقال خمس كان عليها
أصحاب محمد والتابعون لهم بإحسان: لزوم الجماعة، وإتباع السنة، وعمارة المساجد،
وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله).
فمن أجاز افتراق الأمة إلى دويلات
طوائف كما هو الحال اليوم، وأضفى على افتراقها وعلى دويلاتها الشرعية الدينية، أو
تصور أن كل شعب في دولة هو جماعة للمسلمين، فقد خالف إجماع أهل السنة القطعي الذين لا يقرون الافتراق ولا يعترفون إلا بالخلافة الواحدة والأمة
الواحدة إذ هذا من التوحيد كما قال تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا}.
5 ـ وأجمع أهل السنة والجماعة
والمسلمون كافة على أنه يشترط في الإمام شروط يجب توفرها فيه ليصلح لها، وذلك أن
يكون مسلما عدلا كفؤا قادرا على القيام بأعبائها، وأجمعوا على أن الكافر والظالم
والفاسق لا يكون إماما لقوله تعالى: {إني جاعلك للناس إماما. قال ومن
ذريتي. قال لا ينال عهدي الظالمين}.
قال القرطبي في تفسير هذه الآية (استدل جماعة من
العلماء بهذه الآية على أن الإمام يجب أن يكون من أهل العدل والإحسان والفضل مع
القوة على القيام بذلك، وهو الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم ألا ينازعوا الأمر
أهله على ما تقدم من القول فيه، فأما أهل الفسوق والجور والظلم فليسوا له بأهل
لقوله تعالى {لا ينال عهدي الظالمين}، ولهذا خرج ابن الزبير والحسن بن علي رضي
الله عنهم، وخرج خيار أهل العراق وعلماؤهم على الحجاج، وأخرج أهل المدينة بني أمية
وقاموا عليهم، فكانت الحرة التي أوقعها بهم مسلم بن عقبة.
قال ابن خويز منداد: وكل من كان ظالما لم يكن نبيا،
ولا خليفة، ولا حاكما، ولا مفتيا، ولا إمام صلاة، ولا يقبل عنه ما يرويه عن صاحب
الشريعة، ولا تقبل شهادته في الأحكام، غير أنه لا يعزل بفسقه حتى يعزله أهل الحل
والعقد، وما تقدم من أحكامه موافقا للصواب ماض غير منقوض، وقد نص مالك على هذا).
وقال ابن كثير في تفسيره للآية: (قال سفيان بن عيينة
لا يكون الظالم إماما).[1]
كما ذكر عبد القاهر في أصول الدين (ص 277) الشروط
الواجبة للإمامة عند أهل السنة (وهي الأول العلم... والثاني العدالة والورع وأقل
ما يجب له أن يكون ممن تجوز قبول شهادته، والثالث الاهتداء إلى وجوه السياسة وحسن
التدبير... إلخ ).
كما أجمعوا على أنه إن كفر خرج من حكم الإمامة ووجب
قتاله وجهاده لقوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} وجاء في
حديث البيعة المتواتر: (إلا أن تروا كفرا بواحا) وللحديث الصحيح: (أفلا ننابذهم
السيف؟ قال لا ما صلوا).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة (4/85):
(الدليل الرابع ـ على كفر من ترك الصلاة ـ إن هذا كله محمول على من يؤخرها عن
وقتها وينوي قضاءها، أو يحدث به نفسه كالأمراء الذين كانوا يؤخرون الصلاة حتى يخرج
الوقت، وكما فسره ابن مسعود و بين إن تأخيرها عن وقتها من الكبائر، وإن تركها
بالكلية كفر، وكذلك أمر النبي صلى الله عليه و سلم بالكف
عن قتال هؤلاء الأئمة ما صلوا، فعلم إنهم لو تركوا الصلاة لقوتلوا، والإمام لا
يجوز قتاله حتى يكفر، وإلا فبمجرد الفسق لا يجوز قتاله، ولو جاز قتاله بذلك لقوتل
على تفويتها، كما يقاتل على تركها، وهذا دليل مستقل في المسألة).
وقال ابن حزم في الشروط التي لا تصح الإمامة إلا بها
في الفصل:
(شروط الإمامة التي لا تجوز الإمامة لغير من هن فيه:
أولا ـ أن يكون مسلما لأن الله تعالى يقول (ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا)، والخلافة أعظم السبيل.
ثانيا ـ وأن يكون متقدما لأمره، عالما بما يلزمه من
فرائض الدين، متقيا لله تعالى بالجملة، غير معلن بالفساد في الأرض لقول الله
تعالى{وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان}، لأن من قدم من
لا يتقي الله عز وجل، معلنا بالفساد في الأرض، غير مأمون، أو من لا ينفذ أمرا، أو
من لا يدري شيئا من دينه، فقد أعان على الإثم والعدوان ولم يعن على البر والتقوى،
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد)، وقال
عليه السلام يا أبا ذر (إنك ضعيف لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم)، وقال
تعالى{فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه
بالعدل}، فصح أن السفيه والضعيف، ومن لا يقدر على شيء،
فلا بد له من ولي، ومن لا بد له من ولي فلا يجوز أن يكون وليا للمسلمين، فصح أن
ولاية من لم يستكمل هذه الشروط باطل لا يجوز ولا ينعقد أصلا).[2]
وقال القاضي عياض: (أجمع العلماء على أن الإمامة لا
تنعقد لكافر وكذا لو ترك إقامة الصلوات والدعاء إليها.. فلو طرأ عليه كفر أو تغيير
للشرع أو بدعة ـ أي مكفرة ـ خرج عن حكم الولاية، وسقطت طاعته، ووجب على المسلمين
القيام عليه وخلعه ونصب إمام عادل إن أمكنهم ذلك، فإن لم يقع ذلك إلا لطائفة وجب
عليهم القيام بخلع الكافر، ولا يجب في المبتدع إلا إذا ظنوا القدرة عليه فإن
تحققوا العجز لم يجب القيام وليهاجر المسلم عن أرضه إلى غيرها).[3]
وقال ابن حجر: (ينعزل بالكفر إجماعا، فيجب على كل مسلم
القيام في ذلك).[4]
وقال ابن بطال(إذا وقع من السلطان الكفر الصريح فلا
تجوز طاعته في ذلك، بل تجب مجاهدته لمن قدر عليها).[5]
6 ـ وقال أهل السنة والجماعة
قاطبة بوجوب اتباع سنن الخلفاء الراشدين في باب الإمامة وسياسة الأمة،
لقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي وإياكم
ومحدثات الأمور) وقوله (اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر) وقال (خلافة النبوة
ثلاثون سنة) وكلها توجب الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم في سنن الإمامة وسياسة
الأمة، ونبذ كل سنة تخالف سنتهم في هذا الباب، ومن ذلك سنن الملك العضوض، والملك
الجبري، لحديث (وإياكم ومحدثات الأمور) وبينها حديث (ثم يكون ملكا عضوضا ثم ملكا
جبريا ثم تعود خلافة على منهاج النبوة).
وقد وافق أهل السنة والجماعة على وجوب الاقتداء
بالشيخين أبي بكر وعمر عامة الطوائف، كالمرجئة والمعتزلة والخوارج والشيعة
الزيدية، إلا الشيعة الإمامية الذين قالوا بالنص، وأما سنن عثمان وعلي فاختلفت
فيها الفرق، فالشيعة طعنت بعثمان، والخوارج طعنت بعلي، والمعتزلة فسقوا أهل الجمل
وصفين، وهدى الله أهل السنة والجماعة لما اختلفوا فيه من الحق، وأجمعوا على أنهم
جميعا خلفاء راشدون مهديون اختارتهم الأمة بالشورى والرضا، وليسوا معصومين، ولهذا
كان لزم سنة الخلفاء الراشدين في باب سياسة الأمة وشئون
الدولة من أصول أهل السنة، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى
(3/157) (ثم من طريقة أهل السنة والجماعة: اتباع آثار رسول الله باطنا وظاهرا،
واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله حيث
قال: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا
عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة
ضلالة").
وقال في الفتاوى (4/108): (فسنة خلفائه الراشدين: هي
مما أمر الله به ورسوله).
وقال أيضا في الفتاوى(31/37): (ففي هذا الحديث، أمر المسلمين
باتباع سنته، وسنة الخلفاء الراشدين، وبين أن المحدثات التي هي البدع التي نهى
عنها، ما خالف ذلك).
وقال أيضا (24/209): (فمن تمسك بسنة الخلفاء الراشدين
فقد أطاع الله ورسوله).
وقال شيخ الإسلام في الفتاوى أيضا (35/22) في بيان
وجوب الاقتداء بالشيخين ولزوم سنن الخلفاء الراشدين كما في حديث: (عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين) وحديث: (اقتدوا بالذين من بعدي من بعدي أبي بكر وعمر)
(فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء، وأمر بالاستمساك بها، وتحذير من المحدثات
المخالفة لها، وهذا الأمر منه، والنهي: دليل بَيِّن في الوجوب، ثم اختص من ذلك
قوله: "اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر، وعمر" فهذان أمر بالاقتداء بهما،
والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم، وفي هذا تخصيص للشيخين من وجهين:
أحدها: أن (السنة) ما سنوه للناس، وأما (القدوة) فيدخل
فيها الاقتداء بهما فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة.
الثاني: أن السنة أضافها إلى الخلفاء؛ لا إلى كل منهم،
فقد يقال: إن ذلك فيما اتفقوا عليه؛ دون ما انفرد به بعضهم، وأما القدوة فعيَّن
القدوة بهذا، وبهذا، وفي هذا الوجه نظر، ويستفاد من هذا، أن ما فعله عثمان وعلي من
الاجتهاد الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص، وموافقة جمهور
الأمة على رجحانه وكان سببه افتراق الأمة: لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه؛ إذ ليس ذلك
من سنة الخلفاء؛ وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من
التأويل في الدماء، والأموال، وعثمان رضي الله عنه غلب الرغبة، وتأول في الأموال،
وعلي غلب الرهبة، وتأول في الدماء، و أبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال، والرياسة،
وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلي كمل زهده في المال...).
وقال أيضا في الفتاوى 32/347 إن (الخلفاء الراشدين إذا
خالفهم غيرهم كان قولهم هو الراجح؛ لأن النبي (قال: "عليكم بسنتي، وسنة
الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي؛ تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم
ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة").
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى (28/493) عن
تقرر ذلك في أصول أحمد بن حنبل الفقهية (وقد تنازع العلماء من أصحاب الإمام أحمد
وغيرهم في إجماع الخلفاء، وفي إجماع العترة هل هو حجة يجب اتباعها؟ والصحيح أن
كلاهما حجة، فإن النبي قال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من
بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ" وهذا حديث صحيح في السنن، وقال
"إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي
الحوض" رواه الترمذي وحسنه، وفيه نظر، وكذلك إجماع أهل المدينة النبوية في
زمن الخلفاء الراشدين هو بهذه المنزلة).
وقال أيضا في الفتاوى (12/235): (فالواجب على المسلم
أن يلزم سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين، والسابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، وما تنازعت فيه الأمة وتفرقت فيه، إن أمكنه أن
يفصل النِّزاع بالعلم والعدل وإلا استمسك بالجمل الثابتة بالنص والإجماع، وأعرض عن
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا، فإن مواضع التفرق والاختلاف عامتها تصدر عن اتباع
الظن وما تهوى الأنفس {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ الْهُدَى}).
7 ـ ولا يرى أهل السنة
والجماعة شرعية أي ولاية ولا أي نظام حكم إلا الخلافة على أصولها التي أجمع عليها
الصحابة لما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن الأمر المشروع في الإسلام
بعد النبوة هو الخلافة كما في الصحيح(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء
كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر؛ قالوا فما تأمرنا ؟
قال : فوا ببيعة الأول فالأول؛ ثم أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)
وقال (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما) وقال (لا يزال هذا الدين عزيزا
منيعا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش) وقال (تكون النبوة ثم خلافة نبوة ثم خلافة
رحمة..) وأمر عند حدوث الفتن والافتراق (إن كان لله في الأرض خليفة فالزمه) وقال (الزم
جماعة المسلمين وإمامهم) فإن لم يكن لهم جماعة واحدة ولا إمامة واحدة (فاعتزل تلك
الفرق كلها).
فالخلافة هي النظام السياسي الوحيد
المشروع عند أهل السنة والجماعة وعليه أجمعوا كما أجمع عليها الصحابة والخلفاء
الراشدون، وهو النظام السياسي والولاية الشرعية التي تعبر عن وحدة الأمة ووحدة
الدار ووحدة الدولة ووحدة المرجعية وحاكمية الشريعة، وهي التي تقيم الجهاد وتحمي
البيضة، إذ من أصولهم أن الجهاد ماض مع كل إمام، وكل نظام غير ذلك فلا شرعية له
عندهم سواء كان ملكيا أو جمهوريا أو عسكريا، بل هذه المحدثات التي حذر منها
الشارع، وأبطلها كلها، وأمر باعتزالها، وعدم السمع والطاعة لها، إلا ما كان من طاعة قهرية فسيأتي تفصيل القول فيها.
ولم يختلف أهل السنة قاطبة في عدم شرعية ما سوى
الخلافة كالملك المحض ونحوه، وإنما وقع الخلاف بين أهل السنة والجماعة في الخلافة
إذا شابها وخالطها ملك وسلطان، كما في خلافة بني أمية وبني العباس وبني عثمان، حيث
إن الشارع سماهم خلفاء، وأمر بالسمع والطاعة والوفاء لهم بالبيعة إذا كانوا عدولا،
واجتمعت عليهم الأمة، واستقر لهم الأمر، ورضيت بهم الأمة ابتداء أو انتهاء، كما في
الحديث الصحيح (يكون خلفاء فيكثرون فأوفوا بيعة الأول فالأول) وقوله في الحديث
الصحيح (لا يزال هذا الأمر عزيزا منيعا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش) وقوله في
الصحيحين (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)، فدخل في عموم ذلك
خلفاء بني أمية وبني العباس، وجاء الحديث الصحيح بفضل بني عثمان (لتفتحن القسطنطينية
فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش)، وسئل صلى الله عليه وسلم كما في
الحديث الصحيح أي المدينتين تفتح أولا القسطنطينية أم روما؟ فقال (مدينة هرقل
أولا) وإنما كان فتحها على يد السلطان العثماني محمد الفاتح في آخر خلافة بني
العباس في مصر وبداية خلافة بني عثمان وفتوحاتهم في أوربا.
وعامة خلفاء المسلمين بعد الخلافة الراشدة كانوا عدولا
صلحاء فقهاء علماء، وعامتهم بويع لهم بالخلافة دون قتال ولا دماء، بعد استقرار
الأمر في الخلافة الأموية ثم استقراره في الخلافة العباسية ثم استقراره في الخلافة
العثمانية، وعامتهم بايعهم أهل الحل والعقد بعد توفر الشروط فيهم كالعلم والعدالة
والكفاءة، وكان منهم من اجتهد في التشبه بالخلفاء الراشدين، واشتهروا بالعدل
والعلم والصلاح والفضل ـ كما فصلته في الحرية أو الطوفان ـ وكانت خلافتهم من حيث
العموم خلافة رحمة، وإن تخللها بعض أهل الجور والظلم، إذ ظهر في خلافتهم دين
الإسلام على الأديان، وساد المسلمون العالم، وكانوا رحمة للعالمين، حتى إذا سقطت
الخلافة عم الكفر الأرض، وظهرت كلمة الذين كفروا وصارت العليا، وكلمة الذين آمنوا
السفلى، وكان ضحايا هذا الطغيان في أوربا وحدها قتل مائة مليون إنسان جراء الحرب
العالمية الأولى والثانية، ومازالت الملايين تسفك دماؤها، وتنتهك أعراضها، لما
غابت الخلافة الإسلامية عن الأرض، فكانت حقا خلافة رحمة بالأمة وبالعالم كله، ثم
ظهر الملك العضوض والملك الجبري في هذا العصر على نحو لم تعرفه الأمة من قبل
وكانوا (دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها)، وستعود كما أخبر صلى الله
عليه وسلم من جديد (خلافة على نهج النبوة) وبعدها تفتح روما كما فتحت القسطنطينية،
إذ الفتوح لا تكون إلا في ظل الخلافة، ولم تفتح أرض منذ وفاة النبي صلى الله عليه
وسلم إلا تحت ظل الخلافة، ولم تتعطل الفتوح إلا بعد سقوطها، فصار المسلمون يغزون
في أرضهم، وتتداعى عليهم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها، وهم غثاء كغثاء
السيل!
وقد حاول شيخ الإسلام ابن تيمية بيان بطلان الملك
المحض وحل إشكال شوب الخلافة بالملك وأحكام ذلك فقال في الفتاوى (35/22):
(في الحديث الذي رواه مسلم -كذا قال وليس في مسلم-
(ستكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك وجبرية، ثم يكون ملك
عضوض) وقال في الحديث المشهور في السنن وهو صحيح (إنه من يعش منكم فسيرى اختلافا
كثيرا فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم
ومحدثات الأمور) ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين "خلفاء" وإن كانوا
ملوكا ولم يكونوا خلفاء الأنبياء ـ أي خلافة ملك لا خلافة نبوة راشدة ـ بدليل ما
رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال (كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وإنه لا
نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر؛ قالوا فما تأمرنا ؟ قال : فوا ببيعة الأول فالأول؛
ثم أعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما استرعاهم)، فقوله (فتكثر) دليل على من سوى
الراشدين فإنهم لم يكونوا كثيرا، وأيضا قوله (فوا ببيعة الأول فالأول) دل على أنهم
يختلفون؛ والراشدون لم يختلفوا، وقوله (فأعطوهم حقهم؛ فإن الله سائلهم عما
استرعاهم) دليل على مذهب أهل السنة في إعطاء الأمراء حقهم من المال والمغنم...
والغرض هنا بيان جماع الحسنات والسيئات الواقعة بعد
خلافة النبوة في الإمارة وفي تركها فإنه مقام خطر، وذلك أن خبره بانقضاء خلافة
النبوة فيه الذم للملك والعيب له، لا سيما وفى حديث أبى بكرة أنه استاء للرؤيا
وقال (خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك من يشاء)، ثم النصوص الموجبة لنصب الأئمة
والأمراء وما في الأعمال الصالحة التي يتولونها من الثواب حمد لذلك وترغيب فيه،
فيجب تخليص محمود ذلك من مذمومه، وفى حكم اجتماع الأمرين، وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال (إن الله خيرني بين أن أكون عبدا رسولا وبين أن أكون نبيا
ملكا فاخترت أن أكون عبدا رسولا)، فإذا كان الأصل في ذلك شوب الولاية من الإمارة
والقضاء بالملك هل هو جائز في الأصل والخلافة مستحبة؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من
نقص علم أو نقص قدرة بدونه؟
فنحتج بأنه ـ أي الملك ـ ليس
بجائز في الأصل، بل الواجب خلافة النبوة، لقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي
وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات
الأمور فكل بدعة ضلالة) بعد قوله (من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا) فهذا أمر
وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء وأمر بالاستمساك بها وتحذير من المحدثات المخالفة
لها، وهذا الأمر منه والنهي دليل بين في الوجوب... وأيضا فكون النبي صلى
الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين
الواجب، وقد يحتج من يجوز الملك بالنصوص التي منها قوله لمعاوية (إن ملكت فأحسن)
ونحو ذلك وفيه نظر! ويحتج بأن عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة
الملك لما ذكر له المصلحة فيه، فإن عمر قال لا آمرك ولا أنهاك، ويقال في هذا إن
عمر لم ينهه لا أنه أذن له في ذلك، لأن معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك ولم يثق عمر
بالحاجة فصار محل اجتهاد في الجملة!
فهذان القولان متوسطان أن يقال الخلافة واجبة، وإنما
يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو أن يقال يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل
المقصود بالولاية ولا يعسره، إذ ما يبعد المقصود بدونه لا بد من إجازته...
وهنا طرفان:
أحدهما: من يوجب ذلك ـ أي خلافة النبوة ـ في كل حال
وزمان وعلى كل أحد ويذم من خرج عن ذلك مطلقا أو لحاجة، كما هو حال أهل البدع من
الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة.
والثاني: من يبيح الملك مطلقا من غير تقيد بسنة
الخلفاء كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد ـ كذا في الأصل والظاهر أفراخ ـ
المرجئة وهذا تفصيل جيد وسيأتي تمامه).
فهنا يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية ما يلي:
أولا: بأن الشارع أخبر كما جاء في الأحاديث بأن بعد
النبوة ستكون خلافة النبوة وهي الخلافة الراشدة، ثم خلافة ملك ورحمة، وهم الخلفاء
المسلمون الذين جاءوا بعد الخلفاء الراشدين، وهم كثير ويتفاوتون في قربهم وبعدهم
عن السنة، إلا أنهم يشملهم اسم الخلافة، ثم بعد الخلافة ـ وهو الذي لم يحصل إلا في
العصر الحالي حيث غابت الخلافة عن الأرض كلية ولا يوجد حتى من يدعيها ـ يكون ملك
عضوض، ثم ملك جبري!
ثانيا: بأن الخلافة على نهج النبوة هي الواجبة بنص
الشارع، وما سواها فهو محدثات يجب ردها وإبطالها والتحذير منها، ورد على من حاولها
الاحتجاج بما ورد في شأن معاوية بأنه فيه نظر.
ثالثا: إذا شاب الخلافة وخالطها شيء من سنن الملوك
وهيئاتهم وأفعالهم في ظل الإمامة والخلافة الشرعية، فهل ذلك مشروع أم ممنوع، ورجح
شيخ الإسلام بأنه ممنوع غير مشروع في الأصل، إلا أنه في حال عدم القدرة أو عدم
العلم، فيقال بأن سنن الخلافة الراشدة واجبة ولا يجوز الخروج عنها إلا بقدر
الحاجة، أو يقال يجوز من الملك ما يحقق مقصود الولاية وما لا تتم الواجبات الشرعية
إلا به لا مطلقا.
رابعا: ثم يذكر شيخ الإسلام هنا طائفتين من أهل
الأهواء والبدع:
فطائفة ترى الخروج عن سنن الخلفاء الراشدين ممنوعا
مطلقا لا يسوغ بأي حال من الأحوال وفي أي ظرف من الظروف وتذم من خرج عنها مطلقا
ولو لحاجة أو ضرورة، كحال الخوارج والمعتزلة والصوفية من أهل السنة الذين يذمون كل
من خرج عن سنن الخلفاء الراشدين وإن كان من الخلفاء المسلمين الصالحين الذين شابوا
الخلافة بشيء من الملك كمعاوية رضي الله عنه مع ما تحقق على أيديهم من الفتوحات
وظهور الإسلام في الأرض.
وطائفة على النقيض وهي التي تسوغ
الخروج عن سنن الخلافة وتجوز الملك مطلقا وهذه الطائفة هم الإباحيون والظلمة
والمرجئة المحضة الذين لا يرون أنه يضر مع الإيمان ذنب
فيسوغون للملوك فعل كل شيء!
وهذا كله في الخلافة التي يشوبها ويخالطها بعض الملك
أما الملك العضوض والملك الجبري حيث لا خلافة راشدة ولا خلافة رحمة فهذا الموضوع
خارج دائرة المناقشة.
ثم قال شيخ الإسلام (وتحقيق الأمر أن يقال انتقال
الأمر عن خلافة النبوة إلى الملك ـ أي إلى خلافة الملك والرحمة كخلافة معاوية ـ
إما أن يكون لعجز العباد عن خلافة النبوة، أو لاجتهاد سائغ، أو مع القدرة على ذلك
علما وعملا، فإن كان مع العجز علما أو عملا كان ذو الملك معذورا في ذلك، وإن كانت
خلافة النبوة واجبة مع القدرة، كما تسقط سائر الواجبات مع العجز، كحال النجاشي لما
أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه، بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه، لكن
الملك كان جائزا لبعض الأنبياء كداود وسليمان ويوسف.
وإن كان مع القدرة علما وعملا وقُدّر أن خلافة النبوة
مستحبة ليست واجبة، وأن اختيار الملك جائز فى شريعتنا كجوازه فى غير شريعتنا، فهذا
التقدير إذا فرض أنه حق فلا إثم على الملك العادل أيضا.
وهذا الوجه قد ذكره القاضي أبو يعلى في المعتمد لما
تكلم في تثبيت خلافة معاوية وبنى ذلك على ظهور إسلامه وعدالته وحسن سيرته وأنه
ثبتت إمامته بعد موت علي لما عقدها الحسن له وسمى ذلك عام الجماعة، وذكر حديث عبد
الله بن مسعود (تدور رحى الإسلام على رأس خمس وثلاثين) قال: قال أحمد في رواية ابن
الحكم يروى عن الزهري أن معاوية كان أمره خمس سنين لا ينكر عليه شيء، فكان هذا على
حديث النبي (خمس وثلاثين سنة) قال ابن الحكم قلت لأحمد من قال حديث بن مسعود (تدور
رحى الإسلام لخمس وثلاثين) أنها من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم، قال لقد أخبر
هذا، وما عليه أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما يصف ما يكون بعده من السنين.
قال وظاهر هذا من كلام أحمد أنه أخذ بظاهر الحديث وأن
خلافة معاوية كانت من جملة الخمس والثلاثين، وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة
فقال كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا، قال القاضي وظاهر هذا أن ما كان
بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة.
قلت نصوص أحمد على أن الخلافة ـ أي الراشدة ـ تمت بعلي
كثيرة جدا.
ثم عارض القاضي ذلك بقوله (الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير
ملكا).
قال السائل فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة كان
آخرها آخر أيام علي، وأن بعد ذلك يكون ملكا، دل على أن ذلك ليس بخلافة؟
فأجاب القاضي أبو يعلى بأنه يحتمل أن يكون المراد به
الخلافة التي لا يشوبها ملك بعده ثلاثون سنة، وهكذا كانت خلافة الخلفاء الأربعة،
ومعاوية قد شابها الملك، وليس هذا قادحا في خلافته، كما أن ملك سليمان لم يقدح في
نبوته وإن كان غيره من الأنبياء فقيرا.
قلت ـ أي ابن تيمية ـ فهذا يقتضي أن شوب الخلافة
بالملك جائز في شريعتنا وأن ذلك لا ينافي العدالة، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل،
وكل من انتصر لمعاوية وجعله مجتهدا في أموره ولم ينسبه إلى معصية فعليه أن يقول
بأحد القولين إما جواز شوبها بالملك أو عدم اللوم على ذلك....
وأما إذا كانت خلافة النبوة واجبة وهي مقدورة وقد تركت
فترك الواجب سبب للذم والعقاب ثم هل تركها كبيرة أو صغيرة؟ إن كان صغيرة لم يقدح
في العدالة، وإن كان كبيرة ففيه القولان، لكن يقال هنا إذا كان القائم بالملك
والإمارة يفعل من الحسنات المأمور بها ويترك من السيئات المنهي عنها ما يزيد به
ثوابه على عقوبة ما يتركه من واجب أو يفعله من محظور فهذا قد ترجحت حسناته على
سيئاته..) انتهى كلام ابن تيمية.
وهنا يقرر شيخ الإسلام ما يلي بأن الخروج عن سنن
الخلافة الراشدة إلى خلافة الملك له ثلاث صور:
1 ـ أن يكون ذلك لعدم العلم أو لعدم القدرة العملية
فهنا يسقط الواجب وهو لزوم سنن الخلافة الراشدة للعجز كما تسقط سائر الواجبات عند
عدم القدرة، وقاس ذلك على حال النجاشي حين أسلم سرا ولم يستطع تغيير شيء، وقاسه
أيضا على حال النبي يوسف، إلا أن شيخ الإسلام استشكل ذلك لكون يوسف على شريعة أخرى
كان الملك فيها جائزا بخلاف شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاءت شريعته
بالخلافة وأبطلت الملك.
وفيما ذكره شيخ الإسلام هنا نظر وأي نظر إذ النجاشي لم
يخاطب بأحكام الشريعة آنذاك، حتى يوصف بالعجز وعدم القدرة، وإنما آمن بما أخبره به
جعفر بن أبي طالب إيمانا إجماليا، وأسلم ولم يظهر شيئا من ذلك، إذ لم يجب عليه ذلك
حتى يوصف بالعجز.
2 ـ والصورة الثانية أن يكون الخروج عن سنن الخلافة
الراشدة مع العلم والقدرة لا عن جهل وعجز، فإن قيل بأن لزوم سنن الخلافة الراشدة
مستحب لا واجب، وفرض أن اختيار الملك جائز في شريعتنا كجوازه في غير شريعتنا، فهنا
لا إثم على الملك العادل، وهذا كله افتراض جدلي أراد منه شيخ الإسلام الاعتذار
لمعاوية لما شاب خلافته بالملك.
ثم ذكر شيخ الإسلام أجوبة القاضي أبي يعلى الحنبلي
ورده على من طعن في معاوية بأنه ليس خليفة وإنما هو ملك لحديث (الخلافة ثلاثون سنة
ثم تكون ملكا)، فقال بأن المراد هنا خلافة النبوة ثلاثون سنة، أما بعد ذلك فهي
خلافة ملك، وقاسها القاضي على خلافة النبي سليمان، وقد استشكل شيخ الإسلام ذلك إذ
هذا يقتضي جواز شوب الخلافة بالملك في شريعتنا، مع أن الظاهر المنع كما نص عليه
شيخ الإسلام في أول البحث!
3 ـ والصورة الثالثة أن يكون الخروج عن سنن الخلافة
الراشدة مع العلم والقدرة مع القول بوجوب لزوم سنن الخلافة الراشدة، فالخروج عنها
يقتضي اللوم والذم، وهل هو كبيرة أم صغيرة... إلخ
ويلاحظ هنا بأن شيخ الإسلام وقبله القاضي أبو يعلى
كانوا بصدد الرد على المخالف دفاعا عن معاوية، وإلا لو حققا القول في حديث (خلافة
النبوة ثلاثون سنة) لعلما بأن قوله في آخر الحديث (ثم يصير ملكا) إنما هي زيادة من
كلام الراوي ولا يصح رفعها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ترد في أكثر روايات
هذا الحديث، وأما قوله في الحديث الصحيح في الرؤيا (خلافة نبوة ثم يؤتي الله الملك
من يشاء) فالمراد بالملك الخلافة، إذ الخلافة هي ملك وسلطان أيضا، كما قال مجاهد في تفسير قوله تعالى {والله يؤتي ملكه من يشاء} قال
(الملك السلطان)! وقال ابن جرير الطبري في تفسيره 15/159 (الملك سلطان، والطاعة
ملك)، فالخلافة رئاسة عامة وسلطة وطاعة فيطلق عليها في اللغة ملك.
وحديث الرؤيا ذكر فيه أبو بكر وعمر وعثمان فقط، ولم
يذكر علي، فدل على أن المراد (ثم يؤتي الله الملك من يشاء) أي الخلافة، إذ الخلافة
ملك وسلطة وعلي رضي الله عنه خليفة وليس بملك بلا خلاف، والصحيح أن الشارع تواتر
عنه بأنه سيسوس أمته بعده الخلفاء الراشدون، ثم يكون بعدهم خلفاء فيكثرون، وأمر
بلزوم هدي الخلفاء الراشدين ونبذ المحدثات بعدهم، كما أمر بالوفاء بالبيعة للخلفاء
المسلمين العدول، وأما الملك العضوض والملك الجبري، فلم يأمر الشارع بالبيعة لهم
ولا الوفاء لهم، بل ذكرهم للتحذير منهم ومن طاعتهم، إذ هم دعاة على أبواب جهنم من
أطاعهم قذفوه فيها!
والمقصود أن الإسلام أبطل الملك كله كما في الحديث
الصحيح (أغيظ رجل على الله رجل تسمى بملك الملوك لا ملك إلا الله) وجاء أيضا
(ينادي الله يوم القيامة أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين
المتكبرون؟)!
وإنما جاء الإسلام بنظام سياسي فريد غير مسبوق يعبر عن
طبيعة أصول الإسلام العقائدية والفقهية وهو الخلافة حيث المسلمون أخوة متساوون، لا
أحد يملك أحدا، وحيث الأرض لله ولرسوله وللمؤمنين وليست ملك أحد، وحيث الولاية
للمؤمنين جميعا {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف} {إنما
وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، وحيث الأمر شورى بينهم لا يستبد به أحد على أحد،
والله وحده لا شريك له هو الملك والرب {رب الناس. ملك الناس}!
فهذه هدايات الكتاب والسنة وما أجمع عليه سلف الأمة في
باب الأصول السياسية العقائدية وللحديث بقية!
[1] تفسير ابن كثير 1/227.
[2] الفصل في الملل والنحل 4/130.
[3] شرح مسلم للنووي 12/229.
[4] فتح الباري 3/123.
[5] المصدر السابق.