رسالة إلى فضيلة الشيخ محمد الددو
بقلم أ.د. حاكم المطيري
٢٩ / ٣/ ١٤٤٧هـ
٢١ / ٩ / ٢٠٢٥م
إلى فضيلة الشيخ محمد الددو
وفقه الله لما يحبه ويرضاه
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فإن فيما ذكرتموه في هذا اللقاء عن وفاة النبي ﷺ وعدم بيانه للأمة طبيعة الحكم بعده وما ذكرتموه عن الخلافة الراشدة ملحوظات
عسى أن تراجع فيها كتب أهل العلم في هذه القضية من قضايا الإسلام الخطيرة ككتاب مفتي
مصر الشيخ محمد بخيت المطيعي (حقيقة الإسلام وأصول الحكم)، والشيخ محمد الخضر حسين
في كتابه (نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم)، والشيخ الطاهر بن عاشور في (نقد علمي لكتاب
الاسلام واصول الحكم) والشيخ محمد رشيد رضا في كتابه (الخلافة) والأستاذ عبدالرزاق
السنهوري في كتابه (الخلافة)، وقرار هيئة كبار علماء الأزهر الذين ناقشوا علي عبدالرازق
في شبهاته هذه في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).
وهذه بعض الملحوظات فعسى أن تعيد النظر فيما ورد في هذا اللقاء:
أولا: وصف وفاة النبي ﷺ بالنكبة فجأة في سياق ست نكبات أخرى أصابت الأمة! قول باطل ولوازمه أشد
بطلانا منه! فقد توفي النبي ﷺ بعد
أن استوفى أجله، وأخبر أمته بدنو أجله، وقال لهم في حجة الوداع (لعلي لا ألقاكم بعد
عامي هذا ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم)، وخطبهم في مرض وفاته الذي استمر أياما وأخبرهم
أن الله خير رجلا بين الدنيا وما عنده فاختار ما عند الله! فبكى أبو بكر وعلم أن النبي
ﷺ اختار الرفيق الأعلى! ولم تُصَب الأمة ولن تصاب بمثل مصيبتها بوفاته ﷺ، إلا أنها ليست نكبة بل هي سنة الله في رسله ﴿وما محمد إلا رسول قد خلت
من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم﴾ .
وقد هون النبي ﷺ ذلك
على أصحابه فقال لهم يبشرهم: (أنا فرطكم على الحوض)!
وقد نفى علي رضي الله عنه دعوى الفجأة بموته ﷺ فقال حين سئل هل وصى النبي ﷺ له: (لا والله لئن كنت أول من صدق به لا أكون أول من كذب عليه، لو كان
عندي من النبي ﷺ عهد في ذلك ما تركت القتال على ذلك، وإن النبي ﷺ لم يمت فجأة بل مكث في مرضه أياما وليالي يأتيه المؤذن فيؤذنه بالصلاة
فيأمر أبا بكر فيصلي بالناس وهو يرى مكاني).
ثانيا: القول بأن النبي ﷺ توفي ولم يبين للأمة أحكام الإمامة والخلافة من بعده يتعارض مع نصوص القرآن
القطعية والسنة المتواترة وإجماع الصحابة القطعي وكل ما تقرر في كتب الفقه والأحكام
السلطانية في باب الإمامة وشروطها ووظيفتها وأهل الحل والعقد ومسئولياتهم كقوله تعالى:
﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾، وقوله: ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم
في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم﴾ وهو ما تحقق
لهم بعد وفاة النبي ﷺ من الاستخلاف والظهور على الأمم بالإسلام وأحكامه.
ولا يتصور أن يبين النبي ﷺ أحكام كل شيء مما تحتاجه الأمة لنجاتها وصلاحها وفلاحها في الدنيا والآخرة
ويفصله ثم يأتي لأعظم ذلك وهو السلطة والإمامة التي بها قيام الأمة ووجودها وظهور دينها
ثم لا يبينه النبي ﷺ لها!
وقد أقام النبي ﷺ وأصحابه
الدولة فعلا في المدينة وقامت على أصول الخطاب القرآني والنظام السياسي الإسلامي الذي
تجلت في بنود بيعة العقبة الثانية ثم في بنود صحيفة المدينة ثم فيما شرعه النبي ﷺ مدة عشر سنوات من أحكام في باب الولاية والإمارة والقضاء، وعرف الصحابة
نظام الدولة في الإسلام، وكيف تدار شئونها سياسيا وقضائيا وإداريا واقتصاديا وتشريعيا
وعسكريا بالشورى والعدل والرحمة بتعليم النبي ﷺ لهم، فتخرجوا في مدرسته وعلى يديه، وهم أعلم الناس بسنته وهديه في سياسة
الدولة والأمة، وأخبرهم النبي ﷺ أن بعده
خلافة راشدة وخلفاء راشدين وأوجب على الأمة لزوم هديهم وسنتهم في باب الإمارة، فقال
كما في الصحيحين: (يكون خلفاء فيكثرون فأوفوا بيعة الأول فالأول)، وقال كما في السنن
بإسناد صحيح: (تركتكم على البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ)، وقال لحذيفة كما في الصحيحين: (تلزم جماعة
المسلمين وإمامهم).
فالخلافة ليست بديلا عن النبوة اخترعه المسلمون باجتهادهم بل هي امتداد
للدولة النبوية نفسها بعد وفاة النبي ﷺ كما شرعه الله لهم وبينه النبي ﷺ أوضح بيان.
ثالثا: دعوى أن عدم تحديد النبي ﷺ الخليفة من بعده نكبة يتعارض مع صريح القرآن الذي جعل الأمر شورى بينهم ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ فتركهم النبي ﷺ ليختاروا لأنفسهم كما شرع الله لهم، وإنما نبههم النبي ﷺ لمكانة أبي بكر بأن جعله إمامهم أثناء مرضه وقال (يأبى الله والمؤمنون
إلا أبا بكر) فإن كان هذا نصا فقد حدد النبي ﷺ الخليفة من بعده وإن كان ترشيحا فقد هيأهم لمن يخلفه فيهم.
رابعا: أن استخلاف أبي بكر وقتاله لمانعي الزكاة والمرتدين وإجماع الصحابة
عليه أوضح دليل على أنهم على هدى من ربهم وسنة نبيهم وقد اعتذر أبو بكر لفاطمة في أرض
فدك فقال: (والله لا أغير شيئا فعله رسول الله أخشى إن غيرته أن أزيغ) فكيف بما هو
أعظم كالخلافة!