الخلافة
والنبأ العظيم
أ.د. حاكم المطيري
الأمين العام لمؤتمر الأمة
٢ /٤ / ١٤٤٧هـ
٢٤ / ٩/ ٢٠٢٥م
هل النبي ﷺ أقام دولة للإسلام في المدينة امتدت على جزيرة العرب كلها وفق أحكام الإسلام
كما أوحى الله إليه في القرآن والنبأ العظيم أم لا؟
وهل كان لهذه الدولة نظام سياسي عام وأساس تشريعي تام أم كان اجتهادا بشريا
لا يجب الأخذ به؟
وهل هذه الدولة التي أقامها النبي ﷺ هي ذاتها الدولة التي تولى أمرها بعده أبو بكر الصديق ثم عمر الفاروق
وفق ما شرعه لهم الله في النبأ العظيم وسنه لهم رسوله الكريم أم هي دولة أخرى أسسوها
على غير نظام سياسي عام للإسلام بل باجتهاد بشري محض كما يؤسس الملوك دولهم؟
وهل الخلفاء بعدهم ملزمون شرعا بهذا النظام السياسي العام وبهذه الأحكام
أم لا؟
هذه باختصار قضية علي عبدالرازق التي أثارها في كتابه (الإسلام وأصول الحكم)،
حيث ادّعى ما ادّعاه المستشرقون المسيحيون قبله بأنه لا يوجد في الإسلام نظام عام للحكم
ولا أحكام سياسية فيه للدولة؛ تمهيدا منهم لما نفذه بعد ذلك الاستعمار الغربي والحملة
الصليبية المعاصرة التي احتلت العالم الإسلامي، وأسقطت الخلافة، وأقامت على أنقاضها
دويلاتها الوظيفية كبديل للمسلمين عن الخلافة ونظامها وأحكامها!
وقد تصدى علماء الأمة آنذاك لهذه الشبهة، ونقضوها، وردوا على علي عبدالرازق
قوله هذا، وعدّوه كفرا، وأدركوا خطورته على الإسلام نفسه حيث ادّعى بأن النبي ﷺ لم يقم دولة ولا شرع للمسلمين أحكاما سياسية ولا نظاما سياسيا عاما، ولا
الخلافة بعده من الدين أصلا بل هي اجتهاد بشري من الصحابة بحسب ما عرفوه في عصرهم من
الممالك والدول التي حولهم، وليست الخلافة امتدادا للدولة النبوية، ولا يجب على الأمة
إقامتها أو المحافظة عليها؛ وهو تماما ما تريده بريطانيا التي كانت تحتل مصر آنذاك،
وتهيئ الفضاء الفكري لهذا الحدث الجلل، فتُرجم كتابه إلى اللغة التركية، ووزع على نطاق
واسع للإعلان بعدها عن إلغاء الخلافة فعليا سنة ١٩٢٤م!
وقد رد علماء الأمة آنذاك على
هذه الشبهة، كلٌ من حيث يرى الثغرة الأشد خطرا فيها على الإسلام نفسه، وعلى الأمة ووجودها
السياسي!
فرد عليه مفتي مصر محمد بخيت المطيعي
ردا فقهيا، ومحمد الخضر حسين ردا عقليا جدليا، والطاهر بن عاشور ردا أصوليا، ورشيد
رضا ردا سياسيا شرعيا، وعبدالرزاق السنهوري في رسالته الدكتوراه (نظام الخلافة) ردا
دستوريا، وكان من أنفذهم بصرا شيخ الإسلام مصطفى صبري في كتابه الذي رد عليه ردا عقديا
وعدّ كتابه مانفستو الأتاتوركية اللادينية!
فالخلاف بين الأمة وعلي عبد الرازق لم يكن خلافا لفظيا، ولا خلافا حول
الآليات والوسائل في النظم السياسية وتطورها بتطور الزمان والمكان، بل الخلاف حصرا
هو حول شرعية (الخلافة ونظامها وأحكامها) وهل هي من الإسلام أم لا؟ وهل هي نظام سياسي
له أحكام تشريعية قرآنية ونبوية يجب على الأمة كلها إقامتها ولزومها أم لا؟
فكل من يتحدث اليوم عن أزمة دستورية في الإسلام، وعدم وجود نظام سياسي
فيه؛ ليضفي الشرعية على الواقع أو ليروج للديمقراطية الغربية؛ إنما يتحدث عن أزمته
هو وأزمة حزبه وجماعته وطائفته، أما الأمة فلا تعرف للإسلام إلا نظاما سياسيا واحدا،
وهو ما أقامه النبي ﷺ في المدينة النبوية في حياته والخلافة الراشدة بعده التي شرع للأمة أحكامها،
وبيّن سننها وبشرهم القرآن بها ﴿ليستخلفنهم في الأرض .. وليمكنن لهم دينهم﴾ والتزم
بها بعده الخلفاء الراشدون، وأجمع عليها الصحابة حتى بايعوا عثمان -كما في صحيح البخاري-:
(على الكتاب والسنة وسنة الخليفتين من بعده) ثم حافظ المسلمون على نظام الخلافة العامة
طوال عصورهم حتى احتلت الحملة الصليبية المعاصرة العالم الإسلامي كله ١٩١٨م، وأسقطت
الخلافة سنة ١٩٢٤م، وفرضت واقعا جديدا ودويلات وظيفية خاضعة لها، ونظاما دوليا صليبيا
يتحكم بها، وجاء الإسلاميون الحداثيون يبحثون عن نظام إسلامي بديل يعترف به العالم
الغربي ونظامه الدولي، لا يرتبط بالخلافة وأحكامها الإسلامية -كما عرفها المسلمون واقعا
سياسيا منذ خلافة أبي بكر الصديق حتى خلافة السلطان عبدالحميد وأطروها فقها نظريا في
كتب الإمامة والأحكام السلطانية- فابتدعوا شيئا اسمه (الدولة الإسلامية) و(النظام الإسلامي)
مبتوت الصلة بالإسلام وتاريخه السياسي والفقه الإسلامي، فهم لا يعترفون بأن النبي ﷺ أقام دولة لها نظام سياسي وتشريعي يجب الالتزام به (من أحدث في أمرنا
ما ليس منه فهو رد)! ولا يعدّون الخلافة الراشدة دولة لها نظام سياسي وأحكام تشريعية
تنظم شئون الدولة والأمة يجب على الأمة كلها لزومها! فاضطرهم ذلك إلى إعادة إنتاج شبهة
علي عبد الرازق ذاتها -التي سماها رشيد رضا الشبهة الشيطانية- فادّعوا وجود أزمة دستورية
كبرى في الإسلام تتمثل في عدم وجود أحكام للدولة، وكأنما عاشت الأمة في فراغ وفوضى
١٣ قرنا حتى جاء الحداثيون بمفهوم (الدولة الإسلامية) بلا خلافة! ثم بمفهوم (دولة المواطنة)
بلا سيادة!
﴿ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى
حتى تتبع ملتهم﴾!