الجماعات السياسية .. شهادة للتاريخ
حياك الله أخي علي -قائد حركة أحرار الشام الإسلامية سابقًا-
وبارك الله جهدكم وجهادكم واجتهادكم:
ما ذكرته عن الجماعات ودورها قديما والفراغ الذي حدث بعد سقوط الخلافة
صحيح إلا إن واقعها السياسي اليوم –لا الدعوي- ومنذ عقود اختلف وذلك من خلال:
أولا: تحول وجود الجماعات من استجابة لحاجة المجتمع الإسلامي لملء الفراغ
السياسي الذي حدث إلى عائق ومشكلة في حد ذاتها؛ زادت من تشرذم المجتمع الإسلامي وتناحره،
ووصل في بعض الساحات إلى الاقتتال فيما بينها، تماما كما المذاهب الفقهية التي ظهرت
في أواخر القرن الهجري الثاني والثالث استجابة لتطور الدولة والحضارة الإسلامية واتساعها،
وحاجتها إلى ضبط الأحكام الفقهية، وحصرها في المدارس الفقهية المشهورة، وحاجة الدولة
للقضاء الموحد في أحكامه، ثم تحولت بعد ذلك إلى مشكلة كبرى بسبب التمذهب لها والعصبية
حتى كفّر بعضها بعضا، وصار همها جبي الأموال وحصر الأوقاف على مدارسها، وحصر القضاء
في فقهائها وذلك باستمالة الخلفاء والأمراء والوزراء!
وكظهور الطرق الصوفية التي ظهرت كردة فعل واستجابة لحاجة المجتمع إلى بعث
القيم الروحية، وكبح جماح الحياة المادية بعد عصر الفتوحات ثم تحولت إلى عائق أمام
تطور المجتمع الإسلامي نفسه وتعطيل قواه العقلية والعملية!
ولا يخفى أن الواجب شرعا هو فقط لزوم جماعة المسلمين وهم الأمة بعمومها
كما قال النبي ﷺ لحذيفة: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم) قال حذيفة: (فإن لم يكن لهم جماعة
ولا إمام؟) قال: (فاعتزل تلك الفرق كلها)!
وأقصى ما قد يقال عن حكم وجود هذه الجماعات الجواز أو الاستحباب، فإذا
كان وجودها يعود على المجتمع بالافتراق بدل الاجتماع، وبالتدابر والتناحر بدل التآخي
والتناصر -بل والتحالف مع الأنظمة الدكتاتورية العسكرية والملكية على حساب تحرر شعوبها
والتحالف مع العدو الخارجي- فإنه يجب على القائمين عليها حينئذ حلها؛ لأن هذه الحال
نقيض القصد من تأسيسها.
وليس كذلك حال الجماعة التي تقوم لمهمة محددة مؤقتة ينتهي وجودها بانتهاء
وظيفتها وتحقق فروض الكفاية التي قامت من أجلها؛ كجماعة تقوم لتحرير أرضها، أو جماعة
تقوم لتغيير نظام جائر، أو جماعة تقوم لتعليم العلوم الشرعية ونحوها، أو لإغاثة المنكوبين،
ونحو ذلك من العمل الجماعي المحدود، بحيث لا تتحول الجماعة ووجودها من وسيلة إلى غاية
في حد ذاتها، فيربط الولاء والبراء بها واعتقاد النجاة بلزومها؛ فإنها حينئذ تصبح بديلا
عن جماعة المسلمين الحقيقية، وهي الأمة بكل شعوبها الذي حصر القرآن الولاء بها، وقال
النبي ﷺ فيها: (من خرج على أمتي .. فليس مني).
ثانيا: لم تعد هذه الجماعات منذ نصف قرن أو يزيد خارج نفوذ دولها والأنظمة
الحاكمة فيها فضلا عن نفوذ المحتل الغربي للعالم العربي والإسلامي ليعول عليها في تغيير
واقع الأمة! فقد جرى فعلا دمجها في كل نظام سياسي كجزء منه سواء بدخولها في الحكومات
أو البرلمانات، حتى غدت عائقا حقيقيا أمام التغيير في كل بلدانها التي تخضع للنفوذ
الأمريكي الأوربي، وإنما يفتح لها الطريق كمعارضة للتنفيس عن الشارع، وإعادة احتوائه
عند حدوث فراغ سياسي في دولها، وقد تكرر ذلك في كل بلد شاركت فيه هذه الجماعات في الشأن
السياسي، وتجاوز الأمر إلى استخدامها من قبل المحتل الأمريكي الغربي كحصان طروادة؛
كما جرى في احتلال أفغانستان والعراق، ولهذا لم تجد طالبان بعد التحرير بُدًا من منع
كل الجماعات من ممارسة نشاطها السياسي؛ لتورطها مع الاحتلال، أو تورطها بعلاقات مع
وكلائه من الدول والحكومات الوظيفية!
ولعل تجربة الثورة السورية والائتلاف السوري، وشبكة العلاقات الخارجية
التي ظلت تتحكم في الثورة أربع عشرة سنة حتى كادت تقضي عليها؛ أوضح دليل على واقع هذه
الجماعات!
ثالثا: لم يخترع الغرب مصطلح
"الإسلام السياسي" لمكافحة هذه الجماعات كما يشاع اليوم! بل على العكس من
ذلك، فقد اخترع الغرب هذا الاصطلاح منذ ثمانينات القرن الميلادي الماضي لتسويق مشاركتها
في السلطة بعد نبذها للجهاد، وانحياز تلك الجماعات إلى الغرب في مكافحة الحركات الجهادية؛
فصار رفع شعار "الإسلام السياسي" جواز العبور الغربي لها في المشاركة في
السلطة في بلدانها، والاعتراف بها بشرط نبذ العمل المسلح، وتحت هذا الشعار تولّت السلطة،
أو شاركت في الحكومات أو البرلمانات وفتح لها فضاء العمل السياسي والاقتصادي والإعلامي
كجزء من النظام العربي الوظيفي منذ سنة ١٩٧٥م، وإنما وجد الغرب بعد الربيع العربي وثورات
شعوبه ثم الثورات المضادة أن "النظام العربي الوظيفي" و "الإسلام السياسي"
كلاهما فشلا في ضبط المنطقة، وأنهما لا يمثلان الشعوب ولا الثورات فعلا؛ فتم الاستغناء
عنه وعن خدماته، وبدأ المحتل الدولي يتفاهم مع الجماعات المسلحة بشكل مباشر؛ كما جرى
في أفغانستان وسوريا، ولم يعد الغرب يهمه من يصل إلى السلطة بقدر ما يهمه عدم خروج
المنطقة عن نفوذه وسيطرته؛ وهو التحدي القادم أمام الحركات الجهادية في المنطقة!
الأمين العام لمؤتمر الأمة
أ.د. حاكم المطيري
١ / ٣/ ١٤٤٧ هـ
٢٤ / ٨/ ٢٠٢٥م