وحدة الأمة
والفتنة المذهبية
بقلم أ.د. حاكم المطيري
23/ 6/ 1446هـ
24/ 12/ 2024م
أخي
العزيز مهنا الحبيل
حفظك
الله ورعاك
وسدد
خطاك:
قرأتُ ما نشرته في حسابك اليوم عن علماء
المملكة العربية السعودية وقولك عن الحالة الدينية فيها: "بعد صعود حركة الغلو
ضد العالم السُني صُرّح بتكفير الإمام ابو حنيفة بقوة وبشر به.
وكانت هناك تحفظات من السلفية المعتدلة
وحتى الشيخ بن باز رحمه الله كانت شخصيته وفكره في رئاسته للجامعة الإسلامية مختلفة
عن مواقفه من العالم السني بعد رئاسة الإفتاء".
ولا أظن بأن أزمة
الأمة وشعوبها وشبابها اليوم تكمن في الغلو وهذه الظواهر الدينية السلبية الثانوية
المحدودة الأثر جدا سياسيا واجتماعيا وفكريا!
ولا
أظن في هذه الفترة الحرجة من تاريخ الأمة -وهي أحوج ما تكون للوحدة ورص الصف- بأن
هناك مصلحة من إثارة هذا التنابز والتنابذ المذهبي الذي لا أثر له على أرض الواقع
السياسي في العالم الإسلامي الذي غدا فيه الدين نفسه بكل مذاهبه على هامش أحداثه!
وقد قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب
للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون﴾.
وأقولها
للإنصاف ومن خلال دراستي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض ثم في
جامعة أم القرى بمكة المكرمة ومعرفتي بالجامعات السعودية والمساجد والمدارس
الدينية فيها وأساتذتها ومجالس علمائها الذين حضرت دروسهم في القصيم والرياض ومكة والمدينة
ومنهم الشيخ ابن باز وابن عثيمين وابن قعود وغيرهم، ولم أر أو أسمع شيئا مما ذكرت من تكفير
الأئمة في الأوساط العلمية، بل هناك رفض تام، وإجماع عام بين العلماء والدعاة على نبذ
هذا الغلو والتحذير منه، ولم أشاهد هذا الانغلاق في الحالة الدينية في
السعودية كظاهرة عامة فضلا عن هذه الحرب المزعومة على المكون السني والقطيعة
الموهومة مع العالم الإسلامي، في الوقت الذي كانت المملكة وعلماؤها وراء تأسيس
ورعاية أبرز المنظمات العالمية الإسلامية كمنظمة المؤتمر والتعاون الإسلامي ورابطة
العالم الإسلامي ومجمع الفقه الإسلامي، وكانوا أكثر العلماء اهتماما بالعالم
الإسلامي ونصرة لشعوبه وقضاياها حيث وقفوا مع شعب فلسطين ضد المحتل الصهيوني ومع
ثورة شعب الجزائر ضد فرنسا ومع أفغانستان ضد روسيا.. إلخ.
وكل
جامعاتها ومعاهدها الدينية تدرس المذاهب السنية المشهورة، وتدرس كتب المذاهب
الأربعة والفقه المقارن للمذاهب الإسلامية كلها الثمانية بما فيها مذهب الإباضية
والزيدية والجعفرية!
وتجل
أئمة هذه المذاهب الفقهية خصوصا الأئمة الأربعة بل إن أشهر كتاب عقيدة يدرس في
مدارسها ومساجدها ويشرح هو (العقيدة الطحاوية) على مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأشهر
شرح يدرس له (شرح ابن أبي العز الحنفي)!
وأشهر
كتب أحاديث الأحكام التي تدرس فيها كتاب (سبل السلام) للصنعاني و(نيل الأوطار)
للشوكاني، وكلاهما زيدي المذهب في الأصل، وفي كتابيهما يذكران في كل مسألة المذاهب
الإسلامية المشهورة وأدلة كل مذهب!
والحالة
الدينية فيها سواء الرسمية والشعبية أكثر تسامحا وانفتاحا واجتهادا وقبولا للآخر
واحتراما لخصوصيته الدينية والمذهبية من بلدان إسلامية كثيرة يبدو التعصب المذهبي
ظاهرة بارزة حتى في العامة فضلا عن العلماء!
وقد
كان الشيخ ابن باز -رحمه الله- بعد رئاسة الافتاء في المملكة العربية السعودية
أكثر شهرة عالمية وانفتاحا وتسامحا واتصالا بعلماء العالم الإسلامي كله، فكانت
وفود العلماء تأتيه على اختلاف مدارسهم المذهبية والعقائدية ويسمع منهم ويحاورهم
حتى قال عنه الشيخ محمد الغزالي حين زاره بعد أن نشر الغزالي كتابه عن السنة -الذي
أثار ضجة آنذاك- وظن أن الشيخ ابن باز سيعاتبه عليه فرأى من حلم الشيخ ابن باز
ورحابة صدره وسعة علمه ما جعله يردد حين خرج من مجلسه ﴿حاشا لله ما هذا بشرا إن
هذا إلا ملك كريم﴾.
أخي مهنا:
لقد
كان حري بمن يتبنى خطابا إنسانيا تسامحيا مع شركاء الوطن بل المشترك الإنساني كله
من كل الديانات والملل والنحل من أقصى اليسار الاشتراكي إلى أقصى اليمين الليبرالي
أن يكون أكثر تسامحا وتصالحا وموضوعية وحيادية في نقد المدرسة السلفية -أكبر
المدارس العلمية والدعوية اليوم- التي كان المفكر الإسلامي مالك بن نبي والمفكر سيد
قطب والأديب محمود شاكر وقبلهم الإمام حسن البنا والشيخ محمد عبده وجمال الدين
الأفغاني وعبد الرحمن الكواكبي يعدونها رائدة مدارس التجديد والإحياء الديني في
هذه العصور الأخيرة!
ولا
تتحمل مدرسة علمية -واسعة الرؤى ومتعددة القراءات كثيرة الأئمة ممتدة عبر الزمان والمكان
امتداد الإسلام نفسه- مسئولية توظيف الدول لبعض شيوخها، كما توظف غيرهم من شيوخ
المذاهب والكتاب والمثقفين والسياسيين على اختلاف مدارسهم الفكرية.
ولا
يمكن تحميلها أيضا مسئولية خطاب شاذ غال يروجه من لا يُعد من علمائها ودعاتها، ولا
مما تقرره كتبها المشهورة المعتمدة عندها تدريسا وشرحا وفتوى -كالطعن في الأئمة-
إذ لا يخلو مذهب في كل عصر ولا مدرسة في كل مصر من أدعياء لا قيمة علمية لهم ولا
لأقوالهم، ولا ينبغي الانشغال بهم.
وحين يصل الحال أن يروج وزير أوقاف مصر
وغيره من دعاة الفتنة المذهبية الأكاذيب عن الشيخ ابن عثيمين –ويدعي أنه يكفر
علماء الأزهر- وعن علماء السعودية -التي استقبلت وما تزال آلاف الشيوخ والأساتذة من
الأزهر كأئمة مساجد ومدرسين وأساتذة جامعيين- وحين ترى من يقف خلف إثارة هذه الفتنة
بين مكونات الأمة الدينية في وسائل التواصل وتقرأ تقرير (مؤسسة راند) عن تأسيس الشبكات
والتحالفات مع أمريكا في العالم العربي والإسلامي لمواجهة حركات التحرير من المحتل
الغربي؛ تعلم يقينا أن هناك مشروعا أمريكيا قادما لإحراق المنطقة كلها بالحروب المذهبية
والطائفية تحت شعار الحرية والديمقراطية والتعددية وحماية حقوق الأقلية!
وسيحبط الله كيدهم: ﴿كلما أوقدوا نارا
للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادا والله لا يحب المفسدين﴾.
وفقنا
الله وإياكم لما يحبه ويرضاه..