وداعا أخا الأبرار وشيخ
الأحرار!
بقلم أ.د. حاكم المطيري
15/ 9/ 1442هـ
27/ 4/ 2021مـ
غادرنا عجلا إلى الرفيق الأعلى -قبل أن نودعه ويودعنا- أخونا وصديقنا
الشيخ الفاضل والسيد الكامل المفكر الإسلامي السوداني محمد بن عبدالله الغبشاوي فرحمه
الله رحمة واسعة وعظم أجر ذويه وأحسن عزاء محبيه فيه..
فلقد كان من أفذاذ الرجال خلقا، وأدبا، ووعيا، وفكرا، وعلما، ودينا، وعبادة،
وغيرة على دينه، وحمية لأمته، وكنت عرفته حين زرت السودان سنة ٢٠٠٦ واستضافني في برنامجه
الفكري في قناة النيل الأزرق..
ثم قدر الله له أن يأتي إلى العلاج في إسطنبول في مطلع سنة ٢٠٢٠م، وبرفقته
الشيخ خالد زين، وكنا نزوره في الفندق حيث يقيم للعلاج الطبيعي، ويزورنا في منظمة الأمة،
وكان يفرح فرحا عظيما بتلك اللقاءات، ثم انتقل إلى أنقرة لاستكمال العلاج واستمرت زياراتنا
له للاطمئنان على صحته وبرفقته -بعد الشيخ خالد– د. حسن سعد الدين، وكنا نستأجر غرفنا
بجوار غرفته؛ لنسعد بالجلوس معه أطول مدة، وكانت اللقاءات تستمر أحيانا ثلاث أو أربع
ساعات، لا يُمل فيها حديثه، ولا يضيق صدر جليسه، وكان همه أمته وتحررها، ونهضتها، واستعادتها
هويتها..
وقد تمنيت عليه أن يجمع ما كتبه من مقالات وخواطر ليُنتفع بها، فوعد خيرا..
وقد كانت آخر زيارة لنا في ٢٠/ ٣/ ٢٠٢١م -وكان قد تعذر علينا المبيت بالفندق
والسهر معه كما كان يرغب وكما هي عادتنا كل مرة- فلما استأذنته بالمغادرة بعد أن جلسنا
نحو ثلاث ساعات، حزن حزنا شديدا وتأثر، فقلت له: نعدك بزيارة قريبة جدا والسهر معك،
ثم بعد أربعة أيام يسر الله لنا العودة إلى أنقرة من أجله، وقصدنا الفندق واستأجرنا
غرفنا عنده وطرقت عليه الباب، فلم يصدق حين رآني أدخل عليه غرفته ففرح فرحا عظيما كاد
يطير الفندق كله معه لشدة ابتهاجه، فقلت: ها قد وفينا بوعدنا وأتينا للجلسة واللقاء
كما وعدناك، فكانت من أطول السهرات وتعشينا سويا، ثم أفطرنا الصباح معا، فلما ودعناه
واستأذناه للمغادرة كاد يبكي وأخذ يحتضن كل واحد منا وعيناه تذرفان على غير عادته،
ولم أكن أظن أنه سيكون اللقاء الأخير، وكنا قد عزمنا على زيارته قبل العشر الأواخر
من رمضان، ورتبنا الأمور وأردنا أن تكون مفاجأة له، فإذا اتصال يفجعنا بوفاته، وليتني
لم أسمعه!
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر
فزعت منه بآمالي إلى الكذب!
وكان رحمه الله قد اقترح علي جمع مقالات "الواقعيون ووحي الشيطان"
في كتاب وكان مؤمنا منذ كان بمشروع الأمة الواحدة والخلافة الراشدة، ويرى المشروع الوطني
والقومي مهددا وعقبة أمام تحرر شعوب الأمة من المحتل الغربي الذي أحكم قبضته عليها
بالدول الوطنية!
وهذه آخرها كان قد أرسلها لي قبل أسبوع من وفاته بتاريخ ١٩/ ٤/ ٢٠٢١ على
الواتس أب يقول فيها:
حياكم الله أيها الأستاذ المكرم
هذا طرف من مراسلة بيني وبين إحدى الأخوات:
وهذا نصها:
(يجب أولا أن نبين الحقائق الغائبة عن قطاعنا كله، وليس هذه الفئة أم تلك
من الشباب والشابات ومنها:
إن الاستعمار وإمبرياليته الفكرية ليست واقعة تاريخية مضت وإنما واقع متضخم
وصل مرحلة الميقا إمبريالية بتعبير المفكر المغربي المهدى المنجرة.
إن تلك الإمبريالية ما شغلت بقطاع أكثر من قطاع الإسلام ولا بإنسان مثل
إنسانه ولا بعقل ووجدان مثل عقل ووجدان ذلك الإنسان
من ثم فكثير مما نتصور أنه أفكارنا وقناعاتنا ليست بأفكارنا ولا قناعاتنا
!!
الأمر المغيب الخطير أن الاستعمار لبلاد الإسلام عامة وللسودان خاصة كان
مشروعا عقديا فكريا بالأساس وأنه استهدف إعادة صياغة العقل والفكر والوجدان وأنه إن
أحرز ذلك فإن مقولاته وتصوراته وأفكاره سيحملها هؤلاء وسيكونون أكثر تعصبا واستمساكا
بها.
بذلك تم عمليا استبدال المرجعية العليا عندنا: كتابا وسنة بالمرجعية الغربية
حتى لقد غابت عنا مصالحنا وأسباب عذاباتنا كلها بسبب ذلك التسليم وليس أدل على ذلك
من تسليمنا لمنهاج اقتصادهم واعتباره مقدسا لا يجوز الاجتراء عليه وإن أجاعنا وإن أفقرنا
وأن أهلك زرعنا وضرعنا!
هذا الذي تم وما زال فاعلا فينا نسميه: التجريف الثقافي وبجرائه أطلت أسئلة
ما كان لها أن تطل وتصورنا إسلاما مخياليا مستبطنا للنموذج الحضاري الغربي!
لقد أحيط بنا إحاطة تامة أختاه وهذه الخيرات وتلك السؤالات بنات تلك الإحاطة
ليس غير!
إن لم ندرك ذلك ونعرف به على أوسع نطاق فلا فلاح لنا في هذه الدنيا ولفلاح
الآخرة هو الأبعد
هذه هي المسألة عندي إسلام لله أو إسلام للغرب ولا شيء سوى ذلك يا من كان
إسكافيا!!!)
فأجبته بعد قراءة الخاطرة:
(حياك الله ولا فض فوك شيخنا
وهذه الإجابة تستحق أن تنشر كمقال بل ضروري نشرها فليتك تفعل)!
فوعد ولم يفعل، فقد كان الرحيل أعجل!
اللهم فارحمه رحمة واسعة يغبطه عليها الشهداء والصالحون، واجعله في الفردوس
الأعلى من الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا آمين آمين..