الواقعيون..
ووحي الشيطان
(٩ - ١٠)
"سيد
… بين محاكمة العسكر ومحاكمة الإخوان"
بقلم أ.د. حاكم
المطيري
٥/ ٨/ ١٤٤٢هـ
١٩/ ٣/ ٢٠٢١م
بين يدي الموضوع:
ليس الهدف من هذه الدراسة اتهام أحد ممن ترد
شهادتهم فيها وإدانته، أو تزكيته وتبرئته، فقد أفضى الجميع إلى ما قدموا، وهم الآن
بين يدي ملك حق لا يظلم عنده أحد، وكل نفس بما كسبت رهينة، وتلك أمة قد خلت لها ما
كسبت، وقد كانوا ضحايا واقع أكبر منهم، في ظل انهيار الأمة وسقوطها، أمام الحملة
الصليبية وجيوشها، وقد حاولوا الإصلاح بحسب المتاح لهم، وبحسب تصورهم لأزمة الأمة
وشعوبها، والمخرج منها، دون إدراك عميق لطبيعة الدول الوظيفية التي وجدوا أنفسهم
فيها، وأسرى لها، وسجناء بين جدرانها!
فالمراد
هو كشف حقيقة الدولة العربية الوظيفية التي أسستها الحملة الصليبية على أنقاض
الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، وكيف أدارت شئونها وما تزال تديرها،
عبر إعادة بناء منظومة القوى السياسية والاجتماعية والدينية على نحو يخدم وجود هذه
الدول الوظيفية، واستمرار نفوذ الحملة الصليبية نفسها التي أسستها، مهما رفضت هذه
القوى شكل السلطة فيها، أو عارضت سياستها، بحيث أصبحت هذه القوى التي ولدت من
رحمها جزءا من هذه الدول الوظيفية تحمي وجودها وتدافع عن تجزئتها!
ثم كيف أعادت "الحكومة العالمية"
في الحرب العالمية الثانية هندسة هذه الدول والجماعات تحت نفوذها لتواكب هذه القوى
المحلية النظام العالمي الجديد، وليصبح التنافس بينها هو في الانحياز لإحدى جناحي
هذا النظام الدولي، الرأسمالي الغربي، والشيوعي الشرقي، تحت قيادة "الحكومة
العالمية" التي أدارت العالم بقطبيه بعبقرية فذة ووحشية قذرة!
وكيف يتحول الثوار من أجل التحرير في هذه
الدول الوظيفية من حيث يشعرون أو لا يشعرون إلى بيادق على رقعة الشطرنج التي
يديرها المحتل الدولي، لتصبح أقصى أمانيهم أن يعيدوا إنتاج السلطة في دول وظيفية
فاقدة أصلا للسيادة، ويعيدوا ترميم بنائها من جديد كلما انهارت، مع كل ما يقدمونه
من تضحيات، وما يقع بينهم من تصفيات للوصول إلى السلطة أو المشاركة فيها، دون
إدراك لطبيعة هذه الدول التي لم يكن للأمة وشعوبها يد في إيجادها أصلا فضلا عن
إدارتها!
وفي دراسة لواقع مصر -التي عقد تشرشل فيها
مؤتمره بالقاهرة سنة ١٩٢١ لتأسيس النظام العربي الوظيفي، وجعلها مركزا لإدارة
المنطقة العربية كلها- ومعرفة كيف أدارت بريطانيا ثم أمريكا شئونها؛ يمكن فهم
المشهد في كل بلد عربي، فتكاد هذه الظاهرة تتكرر، والمشهد يعاد عرضه في كل بلد
وبالقوى السياسية والجماعات الإسلامية نفسها التي وجدت وولدت مع ولادة هذه الدول
العربية الوظيفية!
وما
تزال الحملة الصليبية تعمّدها بالمال والدم لتشارك في السلطة في هذه الدول وإدارة
شئونها تحت نفوذ النظام الدولي، بالتناوب بينها، عن طريق الانقلابات العسكرية
تارة، وصناديق الانتخابات تارة، وإعادة احتلالها تارة أخرى لتغيير السلطة فيها إذا
اقتضى الأمر؛ كما جرى في ثورات الربيع العربي، وما حدث في مصر حيث سقط مبارك، وجيء
بمرسي، ثم بعدلي، ثم بالسيسي، في مشهد مسرحي هزلي تديره السفيرة الأمريكية في
القاهرة!
ليظل ١٠٠ مليون مصري، و ٤٠٠ مليون عربي أسرى
لواقع سياسي لم يختاروه لأنفسهم، بل فُرض عليهم، وما يزالون يدفعون ثمن خيانة بعض
قادتهم بانحيازهم للحملة الصليبية البريطانية الفرنسية في الحرب العالمية الأولى،
ثم انحيازهم بعد الحرب العالمية الثانية للمعسكر السوفيتي الروسي الشيوعي، أو
المعسكر الأوربي الأمريكي الرأسمالي، حين غاب مشروع الأمة الواحدة، والخلافة
الراشدة، الذي ينحاز بالأمة إلى دينها ورسالتها، ويستعيد وحدتها وسيادتها؛ وهو ما
بشر به سيد قطب ودعا إليه، حتى عدّها الواقعيون مثالية مفرطة، حين كانوا هم أسرى
عجزهم وخورهم وضعف هممهم!
إن الهدف من هذه الدراسة هو ترشيد ثورة الشعوب
العربية وهي تشهد انهيار النظام العربي الرسمي ورديفه الشعبي بأحزابه العلمانية
وجماعاته الإسلامية؛ حتى لا يتكرر سيناريو إعادة إنتاجه مرة أخرى كما حدث بعد
الحرب العالمية الثانية، وبعد اتفاقية كامب ديفيد، باسم الثورة والشعب تارة، وباسم
الديمقراطية والحرية تارة أخرى!
سيد قطب والضباط الأحرار:
لقد كانت علاقة "الضباط الأحرار"
بسيد قطب قبل الثورة كعلاقة "الإخوان المسلمون" به، فقد كان مفكرا
إسلاميا، وكاتبا ثوريا، وجد الجميع بغيتهم في كتبه خاصة كتابه "العدالة
الاجتماعية" لمواجهة فساد الملك والأحزاب السياسية التي صنعتها بريطانيا
ورعتها مدة سبعين سنة من جهة، والتصدي لخطر الشيوعية القادم من جهة أخرى؛ وهو ما
يخدم إستراتيجيا الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، التي باتت تقود
"الحكومة العالمية" منذ سنة ١٩٤٢م!
وكما
ذكر الخالدي في كتابه عنه "سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد" ص ٣٠١ وهو
يتحدث عن علاقة سيد بالضباط الأحرار:
(قال
الأستاذ أحمد عبد الغفور عطار في "كلمة الحق" ص ٣٧: بلغ من احترام
الثورة لسيد قطب، وعرفانها بجميله وفضله، أن كل أعضاء مجلس "قيادة
الثورة" كانوا ملتفين حوله، ويرجعون إليه في كثير من الأمور، حتى إنه كان
هو المدني الوحيد الذي يحضر جلسات المجلس أحيانا، وكانوا يترددون على منزله في
حلوان.
ويروي أحمد عطار بعض الوظائف التي أسندها
مجلس قيادة الثورة لسيد قطب، فيقول ص ٣٩: قرر مجلس قيادة الثورة -ونشرت القرار
مجله آخر ساعة- أن يسند إلى سيد قطب منصب وزير المعارف كما أذكر، ولكن سيد قطب
أعتذر!
ورجوه أن يتولى منصب المدير العام للإذاعة،
فاعتذر! وأخيرا وافق على أن يكون السكرتير العام لهيئة التحرير، ولبث فيه شهورا...
وبدأ الخلاف بين سيد قطب وبين عبد الناصر
وزملائه، فاضطر سيد إلى الاستقالة من "هيئة التحرير".
أما عادل حمودة فيروي في كتابه "سيد قطب
من القرية إلى المشنقة" ص ١١١ عن بعض ما أسند مجلس الثورة إلى سيد من أعمال
فقال: والذين عاصروا تفاصيل الأيام الأولى للثورة، يؤكدون أن سيد قطب كان له
مكتب في مبنى مجلس قيادة الثورة، وأنه كان يقيم هناك إقامة شبة دائمة، حيث أوكلت
إليه هو، ومحمد سعيد العريان، مهمه تغيير مناهج التعليم.
وفي ذلك الوقت عرف كمال الدين حسين عن قرب، الذي
رشحه لتولي منصب وزير التربية والتعليم، الذي تولاه هو بنفسه) انتهى.
وكما وظفت أمريكا "الإخوان
المسلمون" في خدمة الانقلاب العسكري الذي قام به تنظيمها السري في الجيش الذي
عرف بعد ذلك باسم "الضباط الأحرار" بترتيب استخباراتي أمريكي كان يشرف
عليه آنذاك السفير الأمريكي جيفرسون كافري، جرى كذلك توظيف "قلم الثورة"
الشعبية آنذاك وصوتها الأبرز: سيد قطب رحمه الله للوقوف مع الانقلاب، فاشترك في الأشهر
الأولى من الثورة مع "الضباط الأحرار" بتوجيه الرأي العام المصري للوقوف
مع هذا الانقلاب الذي ادعى أصحابه أنهم يمثلون الثورة الشعبية وإرادة الأمة لا
إرادة "الحكومة العالمية" التي كانت تدير المشهد من وراء الكواليس!
ولم يكن سيد قطب قبل ذلك يرى جماعة
"الإخوان المسلمون" في المشهد الثوري الجماهيري الذي كان يؤمن هو بأنه سبيل
التغيير الوحيد في مصر والعالم العربي والإسلامي، كما سبق نقله عنه في هذه
الدراسة، حتى حدثت ثورة "الضباط الأحرار" في ٢٣/ ٧/ ١٩٥٢م، إذ كانت
الجماعة قبل ذلك مجرد جماعة دعوية إصلاحية سلمية، ثم دخلت في العملية السياسية،
وخاضت الانتخابات البرلمانية شأنها شأن باقي القوى السياسية، وهو ما كان قد عزف
عنه سيد وكفر به منذ ١٩٤٢م، وكانت علاقته معها منذ ١٩٤٨م كعلاقته مع كل دعاة
الإصلاح والفكر الإسلامي، إلا أنه بعد الثورة ووقوف جماعة الإخوان معها، بل وادعاء
بعض قادتها أن الجماعة هي التي كانت وراء الثورة؛ تغيرت نظرته عنها، ورأى أنها قد تكون
فعلا حركة ثورية يراهن عليها في مشروعه الإسلامي الثوري!
وقد كان "الضباط الأحرار" يعدّون
سيدا مفكر الثورة، ويحتفون به، واختير مستشارا في "هيئة التحرير" التي
أسست في يناير سنة ١٩٥٣م، وكان سكرتيرها ورئيسها جمال عبدالناصر، وكان سيد نائبا
له ومستشارا فيها، وقد أراد جمال أن تكون "هيئة التحرير" بديلا عن
الأحزاب السياسية، وقد بقي سيد مستشارا فيها نحو شهر، يعمل ١٢ ساعة لمتابعة شئون
الثورة فكريا وتوجيه الرأي العام المصري، ثم استقال منها في فبراير سنة ١٩٥٣م، بعد
أن رأى الانحراف في توجه قيادة الثورة، كما ورد في اعترافاته في التحقيقات
المنشورة على لسانه في كتاب "لماذا أعدموني" ص ١١، وكان جمال قد فاوض
الإخوان لينضموا إلى الهيئة ويحلوا الجماعة، فرفضوا، وقد سعت أمريكا إلى تعزيز شقة
الخلاف بين الطرفين، حتى وقع الاصطدام بينهما، وحاول سيد الإصلاح بين الطرفين فلم
يفلح، وكان يرصد -كما في كتاب "لماذا أعدموني" ص١٣- تنامي الدور
الأمريكي لإشعال الصراع بين الضباط الأحرار والإخوان! ولم يكن سيد إلى تلك اللحظة
عضوا في جماعة الإخوان، كما يؤكد الخالدي في كتابه عنه ص٣٠٧ ولم يعمل معهم إلا في
سنة ١٩٥٣م مشرفا على نشاطهم الإعلامي في ظل الثورة وحاجتها لتوجيه الرأي العام!
فقد كانت ثورة ١٩٥٢ حلقة الوصل الوحيدة بين
سيد والضباط من جهة، وبين سيد والإخوان من جهة أخرى، وسيتخلى عنه الطرفان، ويتخلى
هو عنهما بعد الاصطدام بينهما، والزج به في السجن، ليمضي في طريقه مع الفتية الذين
خاطبهم وحدهم وأهدى إليهم كتابه "العدالة الاجتماعية" وقد لمحهم من بعيد
حتى وجدهم في السجن بعد ست سنين!
وقد أكد ذلك أخوه الشيخ محمد قطب كما ذكره
عنه الخالدي -في كتابه ص ٣١٦- حيث يقول: (فعندما قابلت الأستاذ محمد قطب، وسألته
عن هذا الإهداء، نفى أن يكون قصد شباب الإخوان، وإنما أهداه إلى شباب، يلمحهم
بخياله قادمين، وهو لم يرهم في عالم الواقع!
ثم إن صيغة الإهداء تدل على ذلك، فهو يتخيل
فتية قادمين، يدعون إلى هذا الدين، وهو يستشرف قدومهم، ويتوقع هذا -بفراسته وفطنته-
وهو يرى أن الأحوال والأحداث والأمور؛ تتطلب قدومهم، وتقدم إرهاصات لوجودهم، وأن
روح الإسلام القوية العظيمة الحية، ستبعثهم وتوجدهم؛ لأن كل ما حولهم يوجب وجودهم!
وما لنا نذهب بعيدا في التفسير؟ وعندنا تصريح
من سيد قطب نفسه!
قال سيد في تقريره: في الوقت ذاته صدر لي
كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، سنة 1949م، مصدر بإهداء هذه الجملة،
ففهم الإخوان في مصر، أني أعنيهم بهذا الإهداء، ولم يكن الأمر كذلك!! ولكنهم من
جانبهم تبنوا الكتاب، واعتبروا صاحبه صديقا...).
وستثبت الأحداث لاحقا بأن علاقة سيد مع
الإخوان لم تتجاوز تلك الفترة لظروف خاصة بالثورة، وسيبدأ التمايز بين خطه الثوري
وخطها الإصلاحي منذ دخوله السجن!
توظيف أمريكا فكر سيد قطب:
لقد وقف سيد قطب في بداية الثورة -حين كان
صوتها الفكري والإعلامي الأبرز- مع حظر اتحاد العمال، كما يريد قادة الانقلاب
العسكري، بدعوى حماية الثورة، وكما تريد أمريكا من وراء الكواليس لمواجهة
الشيوعية!
وقد ذكر ذلك عضو قيادة الثورة خالد محيي
الدين -في مذكراته ص ٢٠٤- حيث يقول عن سبب تركه لمجلس قيادة الثورة:
(والحقيقة أن التمايز كان يتخذ مسارات عديدة،
فإذ كانت الحركة النقابية تستعد لعقد مؤتمر لإعلان اتحادها العام، صدر قرار بعدم
عقد المؤتمر، ومن ثم منع قيام اتحاد عام للعمال، وأذكر أن صاحب الاقتراح بمنع
قيام اتحاد عام للعمال كان الأخ سيد قطب أحد قادة الإخوان، وكان يعمل في ذلك
الوقت مستشارا لعبد المنعم أمين، الذي كان يشرف على وزارة الشئون الاجتماعية، وهي
الوزارة التي كانت تتبعها في ذلك الحين مصلحة العمل، وكانت حجة سيد قطب أن مثل
هذا الاتحاد سيكون مناوئا للثورة، وأن الشيوعيين سوف يسيطرون عليه، وكذلك أسهم
سيد قطب في إعداد مشروع قانون جديد لعقد العمل الفردي، وقد تحمس عبد المنعم أمين
لهذا المشروع حماسا شديدا رغم أنه كان مجحفا إجحافا شديدا بحقوق العمال، فهو يحرم
الإضراب ويسمح بالفصل التعسفي، وعندما نقل إليّ أحد الضباط نص هذا المشروع ذهبت إلى
عبد المنعم أمين في وزارة الشئون، وتناقشنا طويلا في الموضوع وأصر كل منا على
رأيه، وكان عبد المنعم أمين يقرر صراحة أننا بحاجة إلى دكتاتورية صناعية طالما
أننا قررنا إقامة دكتاتورية عسكرية!
واتفقنا على الاحتكام إلى مجلس القيادة، وفي
المجلس وقف الجميع ضدي، وفي البداية حاول يوسف صديق مساندتي، لكنه عندما وجد
الهجوم ضدي عنيفا سكت ولم يشارك، وكان الزملاء متحمسين للغاية: كيف نعطي العمال حق
الإضراب، ولمصلحة من هذه الفوضى؟ وإذا سمحنا بالإضراب فسوف يفلت البلد من أيدينا،
ونحن نريد تشجيعا للاستثمارات وهذا سوف يعرقل الاستثمار، وهكذا، بل وصل الأمر إلى
أن بعض الزملاء اعتبر أن مجرد إثارة هذا الموضوع تمثل محاولة لإحراج المجلس!
وفيما بعد تسبب هذا الموضوع في أزمة أخرى
بيني وبين الزملاء، ففي مارس ١٩٥٣م عرض مشروع قانون عقد العمل الفردي في المؤتمر
المشترك، (وهو اجتماع يضم أعضاء مجلس القيادة، ومجلس الوزراء)، وطرح للبحث من جديد
موضوع الفصل التعسفي الذي اشتهر بموضوع المادة ٣٩ من قانون عقد العمل الفردي،
وتكتل الجميع ضدي، وكان عبدالناصر غائبا، وتقدمت باقتراح بسيط للغاية وهو حق
العامل في اللجوء إلى المحكمة إذا فصل تعسفيا، فإذا قررت المحكمة حقه في العودة
للعمل تحتمت عودته، لكن الجميع رفضوا ذلك أيضا بحجة أنه سوف يخيف رأس المال.
إزاء ذلك قررت أن أقدم استقالتي..) انتهى.
لقد كان "رأس المال" الأمريكي هو
سيد الموقف، وكان العمال هم الضحية، واستطاعت أمريكا أن تخترق الثورة فكريا كما اخترقتها
تنظيميا، فقد كانت مصر تمثل سوقا كبيرا وثروة لا تقدر بثمن وكانت بالنسبة
للرأسمالية الأمريكية هدفا إستراتيجيا لا يمكن التفريط به!
لقد أوكل مجلس قيادة الثورة وجمال عبدالناصر
للشهيد سيد قطب مهمة توجيه منابر الإعلام، والإشراف على "هيئة التحرير"،
لمواجهة الفكر الشيوعي الذي كان يمثل لأمريكا الخطر المهدد لنفوذها على مصر
والعالم العربي والشرق الأوسط كله، فقد كانت قواعد النظام الدولي الجديد تسمح
بالتنافس بين جناحي الحملة الصليبية بشقيها: المعسكر الغربي الرأسمالي، والمعسكر
الروسي الشيوعي؛ وفق قواعد الحرب الباردة، دون حرب بينهما، وستظل قيادة
"الحكومة العالمية" للولايات المتحدة حيث "الأمم المتحدة"
و"مجلس الأمن" في نيويورك! وسيحافظ الجميع على مقاعدهم في هذه الحكومة
حتى في أوج الصراع بين معسكري الحملة الصليبية العالمية، وستظل روسيا والصين
الشيوعيتان عضوين في مجلس الأمن مع الدول الثلاث الرأسمالية الغربية في مجلس الأمن
لإدارة شئون العالم!
ولم يكن لأحد من المفكرين والكتاب في مصر
آنذاك ما لسيد من المكانة كأديب كاتب ومفكر مجاهد، يستطيع أن يبشر بالثورة
ومشروعها السياسي الذي كانت "العدالة الاجتماعية" حجر أساسه، وكان سيد
من أشهر من كتب في هذا الموضوع من منظور إسلامي في كتابه "العدالة
الاجتماعية" الذي طبعه سنة ١٩٤٩م، وقرر فيه من المفاهيم السياسية الاجتماعية
ما يقطع الطريق على الفكر الشيوعي الذي يجد رواجا آنذاك في مصر، والعالم العربي،
ويمثل خطرا على الغرب الرأسمالي، وكان ترويج كتاب سيد قطب هذا عن "العدالة
الاجتماعية" سيخدم هدف أمريكا للتصدي للشيوعية، وهدف "الضباط
الأحرار" في البقاء في السلطة، ووأد الحرية السياسية بذريعة حماية
"العدالة الاجتماعية"، وهدف "الإخوان المسلمون" في الإعلان عن
مشروع اقتصادي سياسي اجتماعي -يرشحهم للمشاركة في الحكم- طالما نعى عليهم خصومهم
غيابه وعدم وضوحه كما سبق ذكره!
وستجد أمريكا ودولها الوظيفية لاحقا فيما كتب
سيد عن الجهاد وقودا لتأجيج العاطفة الإسلامية في مواجهة روسيا، وستطبع كتبه في
مصر والسعودية والمغرب وباكستان وكل بلد إسلامي يخضع للنفوذ الغربي لتوظيفها في
الصراع مع الشيوعية والاتحاد السوفيتي حتى وإن كان مصير كاتبها إلى السجن
والإعدام! فقد كان الهدف هو فقط توظيف هذا الفكر الثوري لا تحكيمه في واقع الحياة
كما أراده سيد!
وقد نشر سيد بيانا بعنوان "تحت راية
الإسلام" في سنة ١٩٥٣م بعد نجاح الثورة، وقيام الجمهورية في مصر، وإنهاء الملكية،
يؤكد أن كتابته في مجلة "الدعوة" التابعة للإخوان آنذاك، ككتابته في
الاشتراكية" التابعة لليسار، وذلك بحكم النفوذ الذي كان سيد يتمتع به بعد
نجاح الثورة، كموجه ومشرف فكري لها، حيث يقول: (وبعد، فلقد كان الكثيرون يراجعوني
-في إبان حملة الهجوم التطهيرية التي قامت بها الصحافة في العام الماضي- حين يرونني
أكتب في "الدعوة" مجلة الاخوان المسلمين، وفي
"الاشتراكية"، جريدة الاشتراكيين، وفي "اللواء الجديد"، جريدة
الوطنيين! وكنت أقول للجميع: إني إنما أخوض المعركة على صفحات هذه الصحف جميعها،
تحت راية واحدة، راية الإسلام، إن الإسلام يكافح في ميدان "العدالة
الاجتماعية" الذي يكافح فيه الاشتراكيون، وفي ميدان "العدالة
الوطنية" والسياسية الذي يكافح فيه الوطنيون، وفي ميدان "العدالة
الإنسانية" الذي يكافح فيه الإخوان المسلمون.
وهذه الصحف بالنسبة لي ليست إلا مجالا للكفاح، ولو وجدت غيرها يكافح لساهمت فيه قدر ما
أستطيع.
وتحت
هذه الراية الكبرى، كنت أؤدي دوري المتواضع، أؤديه بشعور واحد، تظلني راية واحدة:
راية الكفاح للعدالة، تتعدد ميادينها، وتتعدد مجالاتها، ويظلها في نفسي ظل واحد..).
وهذا اعتراف صريح من سيد بالدور الذي كان
يقوم به، وأنه كان يشارك في كل المنابر الإعلامية على اختلاف توجهاتها السياسية
بصفته موجها فكريا للثورة التي تؤمن بالإسلام وعدالته الاجتماعية، وبالإنسانية
وقيمها الحضارية، ولا يعني بحال أنه كان عضوا في تلك الأحزاب والجماعات.
وكتب آنذاك مقالا ثوريا تحريضيا ضد أعداء
الثورة بعنوان "نحن الشعب نريد" في عدد ١٠٠٥ بتاريخ ٦/ ١٠/ ١٩٥٢م، وذلك
بعد حدوث الانقلاب بثلاثة أشهر، مجّد فيه الثورة، ودعاها إلى مواجهة أعدائها بحزم،
فقال: (نحن الشعب ندرك اليوم أن فجرًا جديدًا قد طلع، وأن عهدًا جديدًا يظلل هذا
الوادي، وندرك أن وثبة الجيش المباركة هي التي أطلعت ذلك الفجر، وبدأت هذا
العهد، وأن هذه الوثبة المباركة ليست لحساب فرد أو هيئة أو حزب، وإنما هي لحسابنا
نحن الشعب!
ونحن الشعب نريد أن ننبذ محترفي الحكم وتجار
السياسة الذين وقفوا في صفوف الإقطاع ولم يقفوا في صفوفنا، وأن نحمي ظهور حماة
الوادي من دسائس الإقطاعيين وحلفائهم من محترفي الحكم وتجار السياسة!
نحن الشعب ندرك أن الرأسمالية قد فتلت لنا
حبال المشانق في صورة قوانين ولوائح!
وسلطت علينا البوليس السياسي يطاردنا في
المعامل والمصانع..
وحرمت علينا تكوين النقابات وتكوين الاتحادات
النقابية إلا بإذنها ورضاها، وإلا بجواسيسها وأذنابها..
ونعرف أن مستغلي النفوذ من الوزراء
والمستوزرين قد باعوا أنفسهم لهذه الرأسمالية، مقابل صفقات رابحة، وعضويات في مجالس
الشركات، وأذون استيراد وتصدير..
وأن الوثبة الجديدة وحدها هي التي مزقت
البوليس السياسي، وقلمت أظافر الرأسمالية، وأطلقت للنقابات العمالية حرياتها، ومهدت لقيام اتحاد النقابات على أسس سليمة،
واعترفت بشرعية هذا الاتحاد..
ونحن الشعب نريد أن نتخلص نهائيًا من المستغلين
الذين باعوا أنفسهم للرأسمالية..
وأن نتكتل وراء الوثبة الجديدة التي خلصتنا
من براثنها المخيفة..
نحن الشعب ندرك أن تجار السياسة استغلوا
حماستنا الوطنية، وتطلعنا إلى الحرية والاستقلال، وحرصنا على أن نكون أمة لائقة بماضيها
التاريخي، ليتجروا بها كلها في الأسواق الدولية والأسواق الداخلية..
وأنهم لذلك أثروا على حسابنا ثراء فاحشًا،
ولو أنهم استغلوا تجارًا في أية سلعة ما اثروا مثل هذا الثراء الفاحش..
وأنهم على استعداد أن يستغلوا حماستنا
الوطنية من جديد، ليزيدوا بها ثراء على ثراء، وترفا على ترف، وقصورًا
على قصور..
ونعرف أن الوثبة الجديدة وحدها هي الوثبة
النظيفة؛ لأن رجالها لا يزالون يعيشون عيشة الشظف: يسهرون والناس نيام، ويعيشون على أخشن
الطعام، ولا يعرفون مصايف مصر فضلًا إلى مصايف العالم ومغانيه!
ونحن الشعب نريد أن نقول للممثلين على مسرح
الوطنية: أسدلوا الستار فقد سئمنا الرواية! أسدلوا الستار واذهبوا فإن فجرا جديدًا
قد طلع، وإن عهدًا جديدًا يظل هذا الوادي).
ولم يتوقع سيد حين كتب هذا المقال بأن
الانقلاب العسكري نفسه كان أداة الرأسمالية العالمية لقطع الطريق على الثورة الشعبية
التي كادت تتفجر ضد المحتل البريطاني، وبادرت أمريكا للقضاء عليها بالانقلاب باسم
الثورة!
سيد قطب والتبشير بمشروع الثورة خارج مصر:
ولم يقتصر دور سيد على الداخل المصري، بل
أوكل إليه مهمات خارجية، باسم "الإخوان المسلمون"، الذين كانوا إلى تلك الفترة
جزءا من الثورة والسلطة، بل هم قاعدتها الشعبية وتنظيمها الوحيد المسموح له
بالعمل، فذهب إلى الشام ولبنان وفلسطين، في مارس ١٩٥٣م، وكتب مقالا -كما في دراسات
إسلامية ص ١٤٧- بعنوان "يا شباب" يدعو شباب الإخوان خاصة -بعد أن رأى
عجز شيوخهم عن مواكبة الثورة ومشروعها- إلى خوض معركة التحرير مع الاستعمار الغربي،
جاء فيه:
(ها أنذا اللحظة عائد من سورية ولبنان أحمل
إليكم تحيات إخوانكم هناك، وأحمل معها تبعات جساما يلقيها الناس كلهم على عاتقكم
هناك..
الناس الذين جربوا كل حزب، وجربوا كل سياسة،
وجربوا كل وسيلة، ثم انتهوا إلى أن طريقكم أنتم هو الطريق..
وانتهوا إلى تحميلكم أعباء المستقبل: مستقبل
هذه الأوطان المكافحة في سبيل الحرية، وفي سبيل حياة أفضل، حياة لائقة بالأمة التي
قال الله فيها: {كنتم خير أمة أخرجت للناس}..
يا شباب الاخوان: إن الناس في كل مكان،
يسألون عنكم، وعن سياستكم، وعن جهودكم، وعن اتجاهاتكم..
فاعلموا إذن أن العيون كلها مفتوحة عليكم،
وأن الأنظار كلها متوجهة إليكم، وأن كل صغيرة وكبيرة عليكم محصاة، وأنكم
لا تعيشون لأنفسكم، ولا لوطنكم، الصغير -مصر- إنما تعيشون لهذا العالم المترامي
الأطراف: العالم الإسلامي.
يا شباب الاخوان: إنكم أنتم رجال المستقبل.
وإن المستقبل لكم أنتم في المعركة القادمة
الفاصلة، معركة التحرير الكبرى التي لا بد أن يخوضها الوطن الإسلامي، والتي يخوض أطرافا منها اليوم في تونس وفي
مراكش وفي غيرها من بقاع الأرض، المعركة مع الاستعمار في كل صوره وأشكاله، سواء
جاء في صورة مدافع ودبابات، أم في صورة معاهدات واتفاقات، أم في صورة جمعيات
وجماعات، تسخر لها أجهزة الدول وصحافتها وإذاعتها كما ترون في هذه الأيام!
إن
تونس ومراكش لتشتبكان في هذه الأيام في طرف من المعركة الفاصلة الحاسمة القادمة
التي لا شك فيها.
وأنتم تعرفون أن فرنسا لا تخوض هذه المعركة وحدها،
ولكن تخوضها وخلف ظهرها الاستعمار الغربي كله، بما فيه ذلك الاستعمار الجديد الذي
لا يبدو للشعوب بوجهه السافر؛ إنما يتدسس إليهم في صورة جمعيات وجماعات
تنفق بلا حساب، وتعلن عن نفسها بلا حساب، ولا تتقي أن يسأل الناس من أين لها هذا
المال؟!
يا شباب الإخوان: إن واجبكم في المعركة
القائمة لا يقف عند حد الهتاف لتونس ومراكش، ولا عند حد لعن فرنسا وتمزيق إهاب
السمعة الكاذبة التي ظل عبيد فرنسا يصوغونها لها في مصر ولبنان وفي كل مكان.
لا لا، إن واجبكم ليتعدى هذا الإطار
الضيق، يتعداه إلى تمزيق إهاب الاستعمار كله، وإهاب الجمعيات والجماعات التي تعمل
لحساب الاستعمار الجديد، وتنفق لا بلا حساب فقط، ولكن بلا خجل ولا حياء!
إن الصحف لتشترى بالجملة في كل مكان؛ فواجبكم
أنتم -وأنتم في كل مدينة ألوف، وفي كل قرية مئات- أن تكونوا ألسنة الدعوة ضد
الاستعمار كله، وضد عملاء الاستعمار.
واجبكم أن تعوضوا عمل الصحف التي تشتري
بالجملة في هذه الأيام!
واجبكم في الجامعة في وسط الشباب المثقف،
وواجبكم في المجالس العامة، وواجبكم في الطرقات، وواجبكم في القرى والكفور.
وأنتم يا شباب الاخوان أنتم وحدكم، الذين
تملكون أن تكونوا منشورات حية تذهب إلى كل مكان، وتدخل إلى كل بيت، وتسعى إلى كل
مدرسة، وتنشر الوعي الشعبي، وتفضح المؤامرات الاستعمارية، وتكشف عن المؤامرة
البشعة على تونس ومراكش، وسائر الشعوب المبتلاة بالاستعمار وبعملاء الاستعمار.
يا شباب الإخوان من تصل إليهم هذه الكلمات في
مجلة الدعوة: إن في عنق كل واحد منكم أن يقرأ هذه الكلمات لعشرة من الناس على
الأقل، عشرة من الناس في أي مكان، فنحن في موقف فاصل مع عملاء الاستعمار، لا في
مصر وحدها ولكن في العالم كله!
ولا بد أن نقضي على الاستعمار، وأن نفضح
عملاء الاستعمار.
يا شباب الإخوان: هذه دعوة عاجلة ألقيها
إليكم على أثر عودتي: أحملها إليكم مع تحيات إخوانكم في كل مكان..
حتى التقي بكم في اجتماعاتكم..
وحتى نتدبر معا كيف نكافح، لا لمصر وحدها،
ولا لتونس ومراكش وحدهما، ولكن لكل شبر في هذه الأرض تدنسه أقدام الاستعمار، ويعمل
فيه عملاء الاستعمار!
والسلام عليكم ورحمة الله) انتهى كلام سيد
ولم تنته قصته وقضيته!
وهو أسلوب جديد غير معهود، يخاطب به سيد شباب
الإخوان من منبرهم الإعلامي الذي تولى الإشراف عليه بعد الثورة مباشرة يدعوهم
ليكونوا صوت الثورة وإعلامها، وكأنما الثورة والإخوان شيء واحد! وكأنما هم وحدهم
جنودها وصوتها وضميرها الحي!
لقد كان مجلس "قيادة الثورة" يحتاج
آنذاك -وهو يواجه تداعيات إلغاء النظام الملكي وكل ما كان يرتبط به من مؤسسات وأحزاب
وصحف- إلى وقوف الشعب معه، وإلى من يبعث هذه الروح الثورية في الشباب خاصة ليقفوا
معه، ويكونوا صوتا له في مواجهة الماكينة الإعلامية لخصومه، وذلك في الوقت الذي
بدأت تدب الخلافات بين قادة الضباط الأحرار، وقادة الجماعة، فكان الشباب الثائر
خاصة هم الحصان الذي يراهن عليه سيد قطب لمواجهة الاستعمار بعيدا عن الشقاق الذي
بدأ بين الضباط والجماعة!
وقد كشف محمود الصباغ في "التصويب
الأمين" -كما سبق ذكره- حقيقة الصراع بين الشباب وعامة الإخوان الذين وقفوا مع
الثورة، وشيوخها بقيادة الهضيبي الذين تأخروا في الإعلان عن دعمهم لها!
دعوة سيد لمواجهة الحكومة العالمية:
وقد دعا سيد في مقاله "كلمة الإسلام في
الحرب" -المنشور في دراسات إسلامية ص ٢٢٠- إلى مواجهة "الحكومة العالمية"
وهو يتحدث عن وجوب قتال بريطانيا وأمريكا وروسيا وفرنسا وإسرائيل وذلك بعد ثورة
١٩٥٢م، حيث يقول:
(ولقد
اشتركت انجلترا وأمريكا ومعها روسيا، في إخراجنا من ديارنا بفلسطين، وكل دار
للمسلمين دارنا، ولقد اشتركت فرنسا في إيذائنا، ومقاتلتنا في الشمال الإفريقي
كله وما تزال.
ولقد قاتلونا جميعا في الدين وما يزالون.
ومن ثم فكل معاهدة وكل تعاون مع واحدة أو
أكثر من هذه الدول الأربع يحرمها الإسلام تحريما قاطعا، وتعد الدولة التي تعقدها
خارجة على نص إسلامي صريح فلا طاعة لهذه الدولة على رعاياها في المنكر، بل على
الأمة أن ترد الدولة عن المنكر بكل وسيلة وبكل طريق، وإن هذا الإسلام ليحتم علينا
أن ندفع عن البشرية الظلم، وأن نبدأ بأنفسنا في دفع الظلم عنا، وليس ظلم على وجه
الارض أشنع من الاستعمار، وهو يتمثل بالقياس إلى الوطن الإسلامي اليوم في ثلاث دول
باغية ظالمة عادية: إنجلترا وفرنسا وإسرائيل.
ومن ثم فالإسلام يدعونا لأن نجاهد هذه الدول،
في كل ميدان، وأن نمتشق الحسام في وجهها في أول فرصة تسنح، وأن نعد
أنفسنا في حالة حرب معها حتى تكف عن هذا العدوان {وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم}.
وما ينطبق على الدول والحكومات في هذا
المجال، ينطبق على الجماعات والأفراد، فكل شركة وكل مؤسسة مالية أو تجارية،
وكل فرد، يتعاون مع هذه الدول أي نوع من التعاون.. هو خارج على الإسلام، مخالف
عن أمر الله، خارج على الأمة الإسلامية، مؤذ للمسلمين في كل مكان.
وهؤلاء المقاتلون الذين يوردون الأطعمة أو
يؤدون المهمات لجيوش هذه الدول في أي مكان، وهؤلاء العمال الذين يعملون لهم في المعسكرات،
أو يقومون هم بالشحن في الموانئ وسواها، وهؤلاء الشيوخ المحترفون الذين
يستخدمون ظاهر النصوص الدينية لإنقاذ المؤسسات الاستعمارية من ورطتها وتقديم العون
لها؛ إنما يخونون المسلمين. ويختانون أنفسهم ويعصون الله ورسوله كلما امتدت
أيديهم بلقمة أو خدمة أو معونة أو فتوى!
إن الإسلام يحتم على كل فرد، وكل هيئة، وكل
حكومة وكل دولة -في كل بلد إسلامي- أن يجاهد هذه القوى الباغية، وأن يكافحها، وأن
يوجه إليها الطعنة التي يستطيعها بالطريق الذي يستطيعه، فنحن في حالة حرب دائمة
معها حتى تكف عن العدوان علينا، وتكف عن البغي في الأرض كافة).
الثورة نقطة التقاء سيد والإخوان:
لقد كانت ثورة ١٩٥٢م هي السبب المباشر الذي
غيّر وجهة نظر سيد في "الإخوان المسلمون" فقد كانوا جزءا منها، ووقفوا
معها، كما وقف سيد، وأوكل إليه الإشراف على منابر الإعلام الشعبية بعد الثورة
ومنها منابر الإخوان، وكانت مدة عمله مع الجماعة هي مدة عمله مع مجلس قيادة
الثورة، لم تزد عليها ولم تنقص عنها، وهي أقل من سنتين ما بين حدوث ثورة يوليو
١٩٥٢ إلى سجنه الثاني في أكتوبر ١٩٥٤م، وقد كان سيد يعد نفسه في هذه المدة قريبا
من الإخوان وصديقا لهم، لا عضوا في الجماعة، وهي مدة قصيرة تؤكد حقيقة الخلاف
الواسع بين فكر سيد ورؤيته الثورية، وفكرة الإخوان الإصلاحية، التي كشفتها بعد ذلك
فترة السجن، كما يقول الخالدي في كتابه "سيد قطب" -ص ٣٣٤-: (عمل سيد مع
الإخوان أكثر من سنة ونصف، ما بين مارس - آذار - ۱۹٥٣م، ونوفمبر - تشرين ثاني - ۱٩٥٤م،
وكان عمله مع الإخوان مما يتفق مع ثقافته، ولذلك أسندت له قيادة الإخوان
أعمالا ثقافية، ضمن قسم نشر الدعوة، قال سيد -في التحقيق معه بالسجن عن علاقته
بالجماعة، كما ورد في رسالة "لماذا أعدموني"-: ومع ترحيبهم -يعني
الإخوان- على وجه الإجمال بانضمامي إلى جماعتهم، إلا أن مجال العمل بالنسبة لي
في نظرهم كان في الأمور الثقافية لقسم نشر الدعوة، ودرس الثلاثاء، والجريدة
التي عملت رئيسا لتحريرها، وكتابة بعض الرسائل الشهرية للثقافة الإسلامية، أما
الأعمال الحركية كلها فقد ظللت بعيدا عنها).
فلم يتجاوز دوره مع الجماعة الإشراف الإعلامي
الذي قام به بعد الثورة من أجل الثورة لا من أجل الجماعة، التي ظل بعيدا عن
تنظيمها الحركي!
وتحدث عن ذلك الخالدي أيضا -في ص ٣٣٧ تحت
عنوان (قصر مدته التنظيمية مع الإخوان)- فقال: (معلوم أن مدة سيد التنظيمية مع
الإخوان قصيرة، وهي المدة ما بين انضمامه إلى الجماعة إلى وقوع المحنة الشديدة
عليها، وهي الفترة من مارس - آذار – ۱۹٥٣م إلى نوفمبر - تشرين ثاني - ۱۹٥٤م!
وبعضهم يعتبر قصر هذه المدة مأخذا يؤخذ على
وضع سيد التنظيمي، ووثيقة اتهام ضده، فيجعل هذه المدة التنظيمية القصيرة مانعا
يمنع سيد من الريادة الفكرية والدعوية والحركية للإخوان.
وصارت ترتفع بعض الأصوات من بعض الإخوان،
تشير إلى هذا، وكأنها ترفض الريادة والقيادة الحركية لسيد، لأنه لم يعش في التنظيم
مدة طويلة، ولم يمض سنوات كثيرة مع الجماعة، ولم يتشرب منهاج وخطة وتصور
الجماعة!
ويعتبرون سيد -لهذه المدة القصيرة- غير مؤهل
ليقود التنظيم الإخواني السري في الستينيات، وغير مؤهل ليقدم أفكاره الدعوية
والحركية للإخوان، وبخاصة في "الظلال"، و "المعالم"، ويعتبرون
سيد -نتيجة لهذه المدة القصيرة- قد خالف فهم الجماعة في العمل والدعوة،
أكثر من مرة، في أكثر من موضع في الظلال والمعالم!!
وكأنهم يدعون -بطريق غير مباشر- إلى طرح أفكار سيد
الدعوية والحركية، وإلى تجاوز مرحلته في فهم الدعوة، وتقديم فقهها، وبيان معالم
طريقها!
ممن كان يلمح إلى هذا -ولا يفصح به- الأخ
الأستاذ مصطفى مشهور-نائب المرشد العام محمد حامد أبو النصر- بأكثر من مكان، عندما
كانت المجلات الإسلامية -وبخاصة المجتمع- تجري لقاءات معه، وتسأله عن الدعوة
والحركة..) انتهى.
وما ذكره الخالدي عن هؤلاء القادة ووجهة
نظرهم في سيد، وأنه لا يعد من قياداتهم التنظيمية ولا الفكرية هي حقيقة تاريخية؛
تؤكدها الوقائع والأحداث نفسها من جهة، والكتابات والأفكار لكلا الفريقين من جهة
أخرى، فقد كانت ثورة يوليو ١٩٥٢م هي التي جمعت سيد بالإخوان، حين كان الضباط
الأحرار والإخوان المسلمون في جبهة واحدة مع الثورة، حتى اصطدم الفريقان فيما
بينهما، ودخل بعدها سيد السجن، وانتهت علاقته بكلا الطرفين: بالضباط؛ لتخليهم عن أهداف
الثورة. وبالجماعة؛ لأنها حلت ولم يعد لها وجود فعلي بعد إغلاق مركزها، وسجن
قادتها، وحظر نشاطها. وسيمضي سيد في السجن وحده في خطه الثوري ثم فكره الجهادي
الذي تبلور في كتابه "معالم على الطريق"، الذي رفضه المرشد الهضيبي ورد
عليه في كتابه "دعاة لا قضاة"!
الحكومة العالمية وتوظيف الإخوان والجماعات
الإسلامية:
لقد كانت جماعة الإخوان منذ تأسيسها جزءا من
الدولة المصرية، هذه الدولة التي كانت تخضع للمحتل البريطاني، ثم المحتل الأمريكي،
ويخضع له بخضوعها كل مؤسساتها الرسمية والشعبية المسموح لها بالعمل!
وقد تعاونت الجماعة كما الدولة المصرية مع
"الحكومة العالمية" منذ تأسيس هذه الحكومة سنة ١٩٤٢م، وأثبتت الوثائق بأن
الاتصال بين الجماعة وبريطانيا والتعاون بينهما جرى بشكل مباشر منذ ١٩٤٢م، وكل ما
كانت تقوم به الجماعة من أنشطة كان يجري تحت إشراف الدولة والسلطة المصرية، سواء
الأنشطة الدعوية أو العسكرية، بما في ذلك فرق الجوالة من شباب الإخوان في الكشافة،
كما يقول محمود عساف -في مذكراته ص٧٣-: (ذلك أن فرق جوالة الإخوان كانت مسجلة بجمعية
الكشافة الأهلية المصرية التي كانت تحت رعاية الملك، وكان يرأسها الأستاذ محمد
حسنين زهير وكان كل عضو في الجوالة يحمل بطاقة عليها خاتم الجمعية المعترف بها
من الدولة توضح بياناته الشخصية ورتبته الكشفية ونداء من وزير الداخلية يرجو
تسهيل مهمة الكشاف، ومعنى الجوال أنه الشخص الذي يضع نفسه في خدمة المجتمع).
وقال -في ص ٦٢-: (وكنت أعمل على تكوين فرق
الجوالة بمدن الشرقية وقراها، وأرتب المؤتمرات الكشفية، وأقيم معسكراتها حتى وصل
عدد جوالة الشرقية إلى حوالي خمسة آلاف، شاركوا في الاستعراض الكشفي الذي
استعرضه الملك عبدالعزيز آل سعود حين أقام ضيفا على مصر في قصر الزعفران، وكان
الامام الشهيد يقف إلى جواره أثناء الاستعراض الذي اشترك فيه حوالي ١٥ ألف
جوال وكنت حاضرا هناك).
لقد كانت الجماعة منذ تأسيسها سنة ١٩٢٨م جزءا
من الدولة الوظيفية، ونظامها السياسي منذ الإعلان البريطاني عن الملكية في مصر سنة
١٩٢١م؛ لحاجة تلك الدولة إلى ملء الفراغ السياسي والديني الذي أحدثه إلغاء الخلافة
الإسلامية سنة ١٩٢٤م، بما يضفي عليها شرعية سياسية مفقودة، وكان وجود حركة إسلامية
تعزز شرعيتها أمرا في غاية الأهمية لبريطانيا؛ بشرط أن تخضع تلك الحركة إلى الشروط
البريطانية التي سبق أن جربتها بريطانيا في الهند بصناعة الحركة القاديانية
ورعايتها؛ لمواجهة الحركات الجهادية بخطاب ديني عصري يرفض العنف وجهاد المحتل،
ويدعو إلى الالتزام بالسلمية، وتعزيز العلاقة مع الحضارة الغربية!
وقد
جرى في هذا السياق الاتصال بين الجماعة وبين سكرتير السفير الأمريكي مرارا، واتفق
الطرفان على مواجهة الشيوعية وتحقيق الإصلاح الزراعي والاقتصادي؛ لمنع تمدد
الشيوعيين في المجتمع، وقطع الطريق على الثورات الشعبية؛ وهي الأهداف ذاتها التي
جرى الاتفاق عليها لاحقا بين "الضباط الأحرار" والسفير الأمريكي كما سبق
ذكره في الجزء الماضي من هذه الدراسة!
وقد ذكر تفاصيل ذلك اللقاء سنة ١٩٤٦م وما جرى
فيه من اتفاق سكرتير الإمام البنا: محمود عساف في مذكراته "مع الإمام الشهيد
حسن البنا" -ص ١٣- حيث يقول عن اللقاء بين الإمام البنا وفيليب إيرلاند،
السكرتير الأول للسفارة الأمريكية، الذي (أرسل مبعوثا من قبله للأستاذ الإمام كي
يحدد له موعدا لمقابلته بدار الإخوان، ووافق الأستاذ على المقابلة، ولكنه فضل أن
تكون في بيت إيرلاند حيث أن المركز العام مراقب من القلم السياسي [المباحث]، وسوف
يؤولون تلك المقابلة ويفسرونها تفسيرا مغلوطا ليس في صالح الإخوان.
اصطحبني الأستاذ معه، كما اصطحب الأخ محمد
الحلوجي الذي كان مترجما فوريا ممتازا، وذهبنا الى دار أيرلاند في شقة عليا بعمارة
بالزمالك.
وبعد التحيات دخل أيرلاند في الموضوع فقال
بلغة عربية سليمة، جعلت الأخ الحلوجي يجلس مستمعا فقط: إن موقفكم من الشيوعية
معروف لنا، ولقد عبرتم كثيرا عن أن الشيوعية إلحاد يجب محاربته، واطلعت على
مقال في جريدتكم اليومية يهاجم الشيوعية باعتبارها مذهبا هداما يحرض على الثورة
المسلحة، وتلك هي سبيل الشيوعيين في كل مكان وطريقهم معروف، وهو نشر الإباحية
التي تستهوي كثيرا من الشباب، ولقد قلتم في تصريحاتكم العلنية أن الحل لتلافي أخطار
الفكر الشيوعي المنحرف هو الإصلاح الاقتصادي، وتحديد الملكية الزراعية، وزيادة
الإنتاج القومي، والعودة إلى تعاليم الإسلام، وأن الأساليب البوليسية لن
تجدي في محاربة الشيوعية، بل ستزيد الشيوعيين إصرارا وتجعل الناس يتعاطفون معهم
باعتبارهم معتدى عليهم.
قال الإمام: إن الشيوعية التي بدأت تنتشر في
بلادنا العربية، تعتبر خطرا كبيرا على شعوب المنطقة شأنها في ذلك شان الصهيونية، بل
هي أخطر في المدى القريب، ولدينا معلومات كثيرة عن التنظيمات الشيوعية في مصر.
قال إيرلاند: لقد طلبت مقابلتكم حيث خطرت لي فكرة، لماذا
لا يتم التعاون بيننا وبينكم في محاربة هذا العدو المشترك وهو الشيوعية؟
أنتم برجالكم ومعلوماتكم، ونحن بمعلوماتنا
وأموالنا؟
قال الإمام: فكرة التعاون فكرة جيدة، غير
أن الأموال لا محل لها لأننا ندافع عن عقيدتنا، ولا نتقاضى أجرا عن ذلك، غير
أن هناك نقطة هامة، وهي أنه إذا كانت مصلحتنا مشتركة في محاربة الشيوعية، فإن
أهدافنا مختلفة أنتم تحاربونها لأسباب مذهبية وسياسية، ونحن نحاربها لما فيها من
إلحاد، ولكن لا مانع لدينا من مساعدتكم بأن نمدكم بالمعلومات المتوافرة عنها،
وحبذا لو فكرتم في إنشاء مكتب لمحاربة الشيوعية، فحينئذ نستطيع أن نعيركم بعض
المتخصصين في هذا الأمر، على أن يكون ذلك بعيدا عنا بصفة رسمية، ولكم أن تعاملوا
هؤلاء الرجال بما ترونه ملائما دون تدخل من جانبنا غير التصريح لهم بالعمل معكم،
ولك أن تتصل بمحمود عساف فهو المختص بهذا الأمر إذا وافقتم على هذه الفكرة.
ويجرني هذا الموضوع إلى موضوع أخر، وهم أنكم
تؤيدون الصهيونية، وهذا أمر يوجد جفوة بيننا وبينكم، وأنكم تظنون أن منحكم المال
لبعض الأحزاب المصرية سيعينكم على تحقيق مآربكم. لهذا سأكون صريحا معك، نحن لا
تهمنا أموالكم ولا نتقاضى أجرا من أحد عندما نعمل لصالح دعوتنا.
وانفض الاجتماع، ولم يتصل بي أيرلاند او غيره
بعد ذلك من طرف السفارة الأمريكية.
ملحوظة: وردت هذه الواقعة في كتاب الأستاذ
محسن محمد "من قتل حسن البنا" نقلا عن الخطابات المتبادلة بين السفارة
والخارجية الأمريكية، والتي أفرج عنها بعد مرور المدة المقررة، ولكن بطريقة مغلوطة
باعتبار أن الإمام البنا هو الذي سعى إلى تلك المقابلة وهذا غير صحيح).
انتهى كلام محمود عساف وهو يؤكد بأن العلاقة
بين السفير الأمريكي جيفرسون كافري و"الضباط الأحرار" -التابعين في
الأصل لجماعة الإخوان قبل افتراق الطرفين لاحقا- هي امتداد للتفاهم المشترك بين
الإمام نفسه وسكرتير السفير الأمريكي، والاتفاق بين الطرفين على مواجهة الشيوعية وتحقيق
الإصلاح السياسي والاقتصادي في مصر والعالم العربي، من أجل قطع الطريق على الحركات
الشيوعية والثورات الشعبية المسلحة وهو كل ما كان يخشاه المحتل البريطاني
والأمريكي!
وهو ما يتعارض تماما مع فكر سيد قطب الداعي
لمواجهة الاستعمار الأمريكي الروسي البريطاني الفرنسي، وكان يدعو لمقاومة النظام
الدولي الجديد بشقيه الرأسمالي والشيوعي بقيادة "الحكومة العالمية"!
وقد توج هذا التوجه لدى "الضباط
الأحرار" و"الإخوان المسلمون" نحو تعزيز العلاقة مع أمريكا
بالزيارة المشهورة التي قام بها وفد إسلامي من دول عدة ومنها مصر -وفيهم صهر البنا:
سعيد رمضان ممثلا للجماعة- إلى واشنطن واللقاء بالرئيس آيزنهاور في سبتمبر ١٩٥٣م،
الذي قام لاحقا في سنة ١٩٥٧م بإعلان "مبدأ آيزنهاور" لمواجهة الشيوعية،
وتوظيف الإسلام في هذا الصراع!
وقد كان ذلك اللقاء مع آيزنهاور بعد سنة
واحدة فقط من ثورة "الضباط الأحرار" وفي الوقت الذي لا زالت الجماعة
وقيادة مجلس الثورة شركاء في قيادة مصر!
وقد جرى استضافة الوفد الإسلامي في مؤتمر
لجامعة بريستون بتمويل من شركة أرامكو السعودية والاستخبارات الأمريكية، وكان هدفه
معرفة كيف يكون للإسلام دور في مكافحة الشيوعية، وتوّج هذا المؤتمر بزيارة للبيت
الأبيض واللقاء بالرئيس آيزنهاور وأخذ صورة جماعية معه! في الوقت نفسه الذي كان
"الضباط الأحرار" وقيادة مجلس الثورة يتفاوضون مع واشنطن لتجهيز الجيش
المصري كقوة حليفة لواشنطن!
الرأسمالية العالمية واحتواء الاقتصاد
الإسلامي:
هذه العلاقة التي تأسست بشكل صريح منذ سنة
١٩٤٦م بين الجماعة وأمريكا، وما تزال حتى اليوم راسخة كما هي، بل ما تزال تزداد
قوة ومتانة، فهي علاقة إستراتيجية عميقة فتحت للجماعة وللحركات الإسلامية المتأثرة
بها أبواب أمريكا وأوربا والمعسكر الغربي كله على مصراعيه لإقامة مراكزها وأنشطتها
وشركاتها، وأصبحت شريكا في السلطة والثروة في كل بلد يخضع لنفوذ الحملة الصليبية
من إسلام أباد شرقا إلى الدار البيضاء غربا!
وسيكون للاقتصاد الإسلامي دوره في تعزيز
العلاقة بين الطرفين، إذ سينجح النظام الرأسمالي الأمريكي والأوربي في دمج رأس
المال الإسلامي الذي يشكل ثروة هائلة غير مندمجة في بنوكه الربوية ونظامه
الاقتصادي الغربي، فرعى الغرب فكرة البنوك الإسلامية، التي سرعان ما شجعت الشعوب
الإسلامية على إيداع أموالها فيها؛ لتكون هذه البنوك حلقة الوصل بين رأس المال
الإسلامي، والنظام الاقتصادي الرأسمالي الربوي في أخطر اختراق اقتصادي حدث في
تاريخ العالم الإسلامي! حيث باتت ثروة الأمة وشعوبها كلها تدور في فلك النظام
الغربي وتعزز نفوذه وهيمنته عليها!
وكما قال روبرت دريفوس -في "لعبة
الشيطان" ص ١٩١- عن الدور الغربي في رعاية الاقتصاد الإسلامي لتوظيفه في خدمة
الرأسمالية العالمية: (وحصلت تلك البنوك، بشكل مباشر أو غير مباشر، على دعم من
البنوك والحكومات الغربية، كان نمو الإسلام الاقتصادي في البداية يتوافق مع تصور
واشنطن للشرق الأوسط في ظل الحرب الباردة، فقد كان تزاوجا بين المنظرين
الاقتصاديين المتشددين من اليمين الإسلامي في العالم العربي، وتقنية وخبرة العديد
من البنوك الغربية الكبرى والمؤسسات المالية العالمية والجامعات، بدأ الإسلام
الاقتصادي ببطء في الخمسينيات عندما طور خبراء اقتصاديون من الإخوان المسلمين
واثنان من رجال الدين العراقيين النماذج الأولى للاقتصاد الإسلامي، وزادت قوة الاقتصاد
الإسلامي في الستينات عندما أسس ممول الإخوان المسلمين السعوديةُ أول بنك إسلامي،
وانطلق الإسلام الاقتصادي فعليا في السبعينات بدعم كامل من السعودية والكويت
والدويلات الخليجية خاصة بعد الارتفاع الصاروخي لأسعار النفط في ۱۹۷۳ و ۱۹۷۹م!
ثم استجمع الأمير محمد بن فيصل، أخو وزير
الخارجية السعودي، الأمر وأنشأ أول سلسلة من البنوك الإسلامية بمليارات الدولارات،
خلال تلك السنوات زاد مستوى تنظيم شبكة البنوك الإسلامية بالموظفين والمهارات
وسيطر عليها الناشطون الأثرياء من الإخوان المسلمين في الغالب، الذين استغلوها لتمويل التحول في
الجناح اليميني السياسي في مصر والسودان والكويت وباكستان وتركيا والأردن.
وعمل الإسلام الاقتصادي على محورين في
السبعينات:
١- أولا المملكة العربية السعودية
نفسها، فهي والدول النفطية التي هبطت عليها فوائض دولارية ضخمة، مقارنة بالدول الإسلامية
الفقيرة مثل مصر وتركيا وباكستان وأفغانستان..
٢- وثانيا تكونت شبكة البنوك الإسلامية
في كل من القاهرة وكراتشي والخرطوم واسطنبول حيث أصبحت لاعبا ماليا مهما فضلا عن
التمويل الهادي لنمو اليمين الإسلامي) انتهى!
وقد كان تأسيس بنك الملك فيصل الإسلامي وبيت التمويل
الكويتي بإشراف أمريكي للسيطرة على رؤوس الأموال في العالم العربي والإسلامي التي كانت
تمتنع من التعامل مع البنوك الربوية من جهة، ولتمويل الجماعات الإسلامية الخاضعة للأنظمة
الوظيفية من جهة أخرى!
وقد كانت جماعة "غولن" التركية أوضح
مثال على الرعاية الأمريكية للحالة الإسلامية وتمويلها وفتح الطريق أمامها على مصراعيه
بفتح البنوك لها والقنوات الفضائية والشركات المالية والجامعات والكليات لصناعة إسلام
أمريكي؛ يكون نموذجا لتعميمه في العالم الإسلامي، وهو ما دعا جامعة الدول العربية بالاحتفاء
بتجربة غولن وتخصيص عدد في نشرتها سنة ٢٠٠٩م عن هذه التجربة لتسويقها في العالم العربي!
تماهي جماعات الإسلام السياسي الوظيفي مع
النظام العالمي:
لقد تم ربط العالم العربي والإسلامي بدوله
وجماعاته واقتصاده بالنظام الرأسمالي الربوي، وتوجت هذه العلاقة بين أمريكا
والحركات الإسلامية في ظل الدول العربية الوظيفية بالتعاون بين الطرفين في احتلال
العراق سنة ٢٠٠٣م، والتطبيع مع إسرائيل في المغرب ٢٠٢٠م!
وظلت تلك العلاقة تتوطد ولم يؤثر عليها حتى
انقلاب السيسي على مرسي سنة ٢٠١٣م الذي جرى بترتيب أمريكي سعودي!
ولم تشارك الجماعة بأي عمل عسكري يخالف خطها
السلمي الذي تعهدت بالالتزام به منذ تأسيسها، إلا بالضوء الأخضر الأمريكي للضباط
الأحرار بالمناوشات العسكرية مع بريطانيا في قناة السويس، للضغط عليها لتخرج من
مصر!
وإلا حين سمحت بريطانيا نفسها للجيش المصري
بالمشاركة في حرب فلسطين سنة ١٩٤٨م ومشاركة جماعة الإخوان بهذا القتال تحت إشراف
الجيش المصري لإشغال الجميع في معركة فلسطين مع اليهود عن معركة تحرير مصر من
المحتل البريطاني!
كما لاحظ ذلك الرئيس محمد نجيب في مذكراته -ص
٣٣٨- حيث يقول: (وفي ذلك الوقت كنت أرى أن إسرائيل ليست هي عدونا الأول، وإنما
إنجلترا التي تحتل قناة السويس، وتضع على أرضنا أكثر من ٨٠ ألف جندي من جنودها!
وكثيرا ما تعجبت لموقف الجيش المصري الذي
يعبر [يتجاوز] عدوه الحقيقي ليحارب عدوا آخر! يترك الإنجليز ويحارب اليهود!
ولكن
لا شك أن هذا الموقف كان لصالح الإنجليز الذين سمحوا لنا أن نسرق أسلحة من مخازنهم
لنحارب بها في فلسطين!
كانوا يعرفون بمثل هذه التصرفات إنهم
يبعدوننا عن الهدف الذي كان علينا أن نلتفت إليه وكثيرا ما تساءلت: هل يرضى الإنجليز
أن ندخل معركة لا يرضون عنها؟
وكانت الإجابة بالطبع: لا!
لذلك كنت أعتبر الإنجليز بعد الثورة هم هدفنا
الأول، وتحرير بلادنا منهم هي مشكلتنا الأولى)!
الإخوان والانقلابات العسكرية في المنطقة
العربية:
لقد استطاعت الاستخبارات الأمريكية إعادة
بناء النظام المصري البريطاني المهترئ، وإعادة هندسة القوى الجديدة في مصر المرشحة
للحكم بعد إنهاء الملكية المصرية المرتبطة ببريطانيا والأحزاب السياسية المتصلة
بها، وذلك عبر تشكيل التحالف بين الجيش وجماعة الإخوان؛ كما يقول رجل الاستخبارات
الأمريكية "مايلز كوبلاند" في كتاب "لعبة الأمم"، عن دوره في
تلك الهندسة، قبل ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢م، حيث يقول: (لقد جمعت معلومات عن الإخوان
وأدركت أن السيطرة على الحكم لن تتم إلا باتحاد الجيش مع الإخوان.. سعيت
لمعرفة المستويات العليا والمتوسطة والضباط الكبار الأعضاء أو المنتسبين للإخوان).
وسيتكرر هذا المشهد في كل الدول العربية التي
ستخضع لاحقا للنفوذ الأمريكي عبر الانقلابات العسكرية!
لقد اتخذ ضباط المخابرات الأمريكية آنذاك من
"لورنس العرب" نموذجا يحتذون به في صناعة أحداث كبرى في الشرق الإسلامي،
تحقق أهداف دولهم الاستعمارية، وتوفر عليها حروبا وجهدا كبيرا، عبر إقامة شبكة
علاقات واسعة ومعقدة مع كل المؤثرين من العسكريين والسياسيين ورجال الدين، الذين
يمكن التفاهم معهم، ليقوموا هم بتنفيذ مشاريع الحملة الصليبية في العالم العربي
والإسلامي، بعد سقوط نظام الخلافة وغياب الدولة المركزية فيه!
ففي سنة ١٩٤٢م -وهو تاريخ مهم جدا لمن أراد
أن يدرس هذه الحقبة حيت تأسست فيه "الحكومة العالمية" باتفاق تشرشل
ورزفلت - سيؤسس الشيخ مصطفى السباعي فرع "الإخوان المسلمون" في سوريا،
وبحضور سعيد رمضان صهر الإمام البنا، وكان السباعي في تلك السنة من أشد الخطباء
تحذيرا من الشيوعية!
وسيشارك الإخوان السوريون في حرب فلسطين سنة
١٩٤٨م، وسيتعرضون لما تعرض له الإخوان في مصر من هزيمة سببها الحكومات العميلة
للمحتل البريطاني، وسيقف بعده "الإخوان المسلمون" مع انقلاب حسني الزعيم
سنة ١٩٤٩م؛ وهو أول انقلاب عسكري في العالم العربي تديره الاستخبارات الأمريكية!
الذي قال عنه مايلز كوبلاند في "لعبة
الأمم": (كان انقلاب حسني الزعيم يوم ٣٠ آذار -مارس ١٩٤٩م من إعدادنا وتخطيطنا،
فقد قام فريق العمل السياسي بإدارة الميجر "ميد" بإنشاء علاقات صداقة
منظمة مع حسني الزعيم الذي كان رئيسا لأركان الجيش السوري، ومن خلال هذه
الصداقة أوحى الميجر "ميد" إلى حسني الزعيم بفكرة القيام بانقلاب عسكري،
اضطلعنا -نحن في السفارة- بمهمة وضع كامل خطته وإثبات كافة التفصيلات المعقدة،
إلا أن تحركاتنا هذه لم تثر أي شكوك عند الساسة السوريين، فقد كانت كلها سرية
ومتقنة الوضع والتخطيط، وأثارت هذه الشكوك -فيما بعد- فضول رجال الصحافة الغربيين،
وفئات من الطلبة، فقاموا بإجراء مقابلات مع من كان لهم ضلع في العملية، كما قاموا بفحص
الوثائق التي لها صلة بالموضوع، وكانت نتيجة ذلك أن اعترفوا بصحة شكوك الساسة
السوريين ودقتها، بيد أن الانقلاب حافظ على صبغة سورية محضة أمام أنظار العالم
الخارجي، إلى أن بدأت الألسن تتناقل أن حسني الزعيم ليس أكثر من مجرد صبي من
صبيان الأمريكان) انتهى.
وكان مشهد الانقلاب في سوريا هو المشهد نفسه
الذي جرى بعد ثلاث سنوات في مصر سنة ١٩٥٢م، فقد كانت هزيمة الجيش السوري في حرب
فلسطين، ومناقشة أسبابها في البرلمان سببا في تشكيل كتلة من الضباط عددهم ١٤
ضابطا، يقودهم حسني الزعيم وسامي الحناوي، وقاموا بحصار القصر الرئاسي ومقرات
الجيش، واعتقال الرئيس القوتلي ورئيس وزرائه، كما فعل انقلاب مصر ١٩٥٢ بحصار قصر
فاروق، ومقرات الجيش والأمن، وجرى إعلان البيان الأول دون ذكر اسم الزعيم، اكتفاء
بالقيادة الجماعية، تماما كما جرى في مصر، مما يؤكد أن كاتب السيناريو والمخرج
واحد!
وفي ١ إبريل عقد البرلمان جلسة فوضت حسني
الزعيم بقيادة الدولة، وقام بعدها بحل البرلمان وتعطيل الدستور!
وبدأ بتوقيع مشروع خط أنابيب البترول
"التابلاين"، وبدء سياسات الإصلاح الزراعي كما في المقترحات الأمريكية، وتأميم
الأوقاف!
وهو ما فعله بعد ذلك الانقلاب في مصر!
لقد قامت الاستخبارات الأمريكية باجتثاث
النظام العربي الوظيفي من جذوره وفي أخطر عواصمه وأعادت استزراع منظومة سياسية
جديدة تابعة لها!
وكما رحب "الإخوان المسلمون" في
مصر بانقلاب "الضباط الأحرار" ووقفوا معه، رحبوا أيضا بانقلاب حسني
الزعيم ووقفوا معه، كما ذكر أكرم الحوراني في مذكراته -٢/ ٩٤٠-: (ففي جامع بني
أمية حيّا خطيب الجمعة الشيخ بشير الخطيب الانقلاب وقال: إن الله قيض
للبلاد منقذا بشخص الزعيم الذي أنقذ الجيش من الانهيار والبلاد من ثورات
داخلية… وقام على أثره خطيبان أحدهما من الإخوان المسلمين والآخر من حزب البعث
العربي)!
وكما يقول أوين في كتابه: "أكرم الحوراني"
(لقد تأكد حديثًا بعد السماح بنشر بعض الوثائق السرية، وبعد ما يقرب من أربعين
عامًا من انقلاب حسني الزعيم تورط الولايات المتحدة بأول انقلاب عسكري في
العالم العربي، وكان قد أُشيع لسنوات بأنها ساندت انقلاب حسني الزعيم، كما كان
مايلز كوبلند عضو المخابرات المركزية السابق قد ذكر في كتابه "لعبة
الأمم" عن المساعدات الأمريكية لحسني الزعيم، ولكن روايته لم تؤخذ آنذاك على
محمل الجد، واستنادًا لما كتبه فإن سورية كانت على حافة اضطراب سياسي عنيف،
بينما كانت حكومة الكتلة الوطنية عمياء عنه!
ورأى السفير الأمريكي في سورية أن الأوضاع
ستأخذ أحد مجرين: إما احتمال قيام الانتهازيين قريبًا مع مساعدة السوفييت [روسيا]
بانتفاضة دموية، أو أن يسيطر الجيش على السلطة بمساعدة الأمريكيين السرية للمحافظة
على النظام، إلى حين إحداث ثورة سلمية!
ويقول المؤلف أيضًا: وهكذا شرعت المفوضية الأمريكية
بالقيام بعملية هدفها تشجيع الجيش السوري على القيام بانقلاب، من أجل الحفاظ على
سورية من الاختراق السوفييتي، وجلبها إلى طاولة السلام مع إسرائيل، ولم يكن
حسني الزعيم الخيار الأول لفريق العمل السياسي الأمريكي المشرف على العملية، ولكنه
أصبح هدفها لأنه لم يكن هناك الكثير مما يمكن عمله، لقد رأى فيه الأمريكيون نواحي
إيجابية عديدة، فقد كانت له مواقف شديدة العداء للاتحاد السوفييتي، وكان يرغب في
الحصول على مساعدات عسكرية أمريكية، بالإضافة لكونه مستعدًا لعمل بناّء بخصوص
"القضية الفلسطينية"، واستنادًا للوثائق السرية التي سمح بنشرها التقى
الزعيم حسني الزعيم مرات مع مسؤول من السفارة الأمريكية، للنقاش حول الانقلاب، وقد
بدأت هذه اللقاءات في أواخر ١٩٤٨، وانتهى الإعداد للانقلاب أوائل ١٩٤٩، وفي شهر
آذار من العام نفسه تقدم حسني الزعيم بطلب المساعدة من الأمريكيين للقيام
بانقلابه) انتهى!
ولم يدم حكم الزعيم سوى بضعة أشهر حتى انقلب
عليه سامي الحناوي في آخر السنة كما انقلب جمال على نجيب!
وسُينتخب في السنة نفسها مصطفى السباعي مراقب
الإخوان في سوريا نائبا عن دمشق سنة ١٩٤٩م! وسيصبح نائبا لرئيس الجمعية التأسيسية
وعضوا في صياغة الدستور الذي سيحقق الإصلاح المنشود أمريكيا لقطع الطريق على الثورات!
وقد أسس السباعي "الجبهة الإسلامية
الاشتراكية" في برلمان ١٩٥٠م، ودعا إلى سن قوانين اقتصادية تحول دون الصراع
الطبقي، وتقارب بين الفئات الفقيرة والغنية، وهو يرى أن اشتراكية الإسلام لو طبِقت
في مجتمعنا لاستفاد منها جميع المواطنين، من مسلمين ومسيحيين!
وكان الإصلاح الاقتصادي من أولويات السباعي؛
الذي فصّل نظريته في كتابه (اشتراكية الإسلام) لتتجنَّب سوريا الصراع الطبقي الذي
يؤمن به الاشتراكيون!
وكان صدور كتابه متزامنا مع تطبيق قانون
الإصلاح الزراعي في سوريا، فكان الاحتفاء به في سوريا كالاحتفاء في مصر بكتاب سيد
قطب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"!
وفي ظل تنامي النفوذ الروسي الشيوعي في سوريا
-وفق التقاسم الجديد للمنطقة العربية بين أمريكا وروسيا بعد إخراج بريطانيا
وفرنسا- دعا السباعي الذي كان آنذاك مراقب "الإخوان المسلمون" إلى
الانحياز صراحة للاتحاد السوفيتي الروسي!
كما قال د. حنا في مقاله عن السباعي: (اثناء
مناقشة بيان رئيس الوزراء خالد العظم في جلسة المجلس النيابي بتاريخ٢٩ نيسان ١٩٥٠م
قال النائب مصطفى السباعي: إذا كان رضوخ الجامعة العربية لإرادة المعسكر
الأنجلو أميركي أدى بنا إلى هذه الكوارث، أليس من حقنا أن نفكر بالتحول إلى
المعسكر الآخر؟ وما الذي يمنعنا من ذلك؟
ألم تساعد انكلترا وأمريكا إسرائيل لأن
مصلحتهما تقضي بذلك؟ فلماذا يُنكر علينا الاتجاه وفق مصلحتنا إلى المعسكر الروسي؟
فلتكن روسيا ما تكون، أي شيء يمنعنا من
التعاون معها لندفع خطر اليهود؟
نحن حين نعلن وجوب الاتفاق مع روسيا لمصلحتنا
لا نريد بذلك أن نكون شيوعيين، وإنما نريد أن نستفيد من كل جهة تمد إلينا يدها،
نريد أن نتحرر من الخضوع لجهة واحدة ومعسكر واحد)!
فكان السباعي مراقب "الإخوان
المسلمون" في سوريا يدعو إلى التحالف مع روسيا ويدعو إلى الاشتراكية
الإسلامية، في الوقت الذي كانت العلاقة تزداد قوة بين "الإخوان
المسلمون" وأمريكا عبر سفرائها وحكوماتها الوظيفية في مصر بدعوى مكافحة
الشيوعية!
سيد قطب والطريق الوحيد للخلاص:
بينما كان سيد قطب يدعو قبل الثورة وبعدها
إلى إيجاد "كتلة إسلامية" واحدة لا تنضوي تحت أي من المعسكرين الرأسمالي
والشيوعي، كما كتب في مقاله "طريق وحيد" -في مجلة الرسالة عدد ٩٧٢
بتاريخ ١٨/ ٢/ ١٩٥٢م- وذلك قبل الثورة بخمسة أشهر فقط، حيث يقول: (يومًا بعد
يوم يتبين أن هنالك طريقًا معينًا للشعوب الإسلامية كلها في هذه الأرض، يمكن
أن يؤدي بها إلى العزة القومية، وإلى العدالة الاجتماعية، وإلى التخلص من عقابيل
الاستعمار والطغيان والفساد، طريقًا وحيدًا لا ثاني له، ولا شك فيه، ولا مناص منه:
طريق الإسلام، وطريق التكتل على أساسه.
إن أحداث العالم، وملابسات الظروف، وموقف
الشعوب الإسلامية كلها تشير إلى هذا الطريق الوحيد، الذي لا تمليه عاطفة دينية، ولا تحتمه نزعة
وجدانية، إنما تمليه الحقائق والوقائع، ويمليه الموقف الدولي، ويمليه حب البقاء،
وتلتقي عليه العاطفة والمصلحة، ويتصل فيه الماضي بالحاضر، وتشير إليه خطوات الزمن،
ومقتضيات الحياة.
لقد أكلنا الاستعمار الغربي فرادى، ومزقنا
قطعًا ومزقًا يسهل ازدرادها [ابتلاعها]، وأرث بيننا الأحقاد والمنافسات لحسابه لا
لحسابنا، وجعل له في كل بلد إسلامي طابورًا خامسًا، ممن ترتبط مصالحهم بمصالحه،
وممن يرون أنفسهم أقرب إلى هذا الاستعمار منهم إلى شعوبهم وأوطانهم؛ وأقام
أوضاعًا معينة في كل بلد إسلامي تسمح له بالتدخل، وتملي له في البقاء، وتضمن له
أنصارًا وأذنابًا في كل مكان!
فإلى أين نتجه لنكافح الاستعمار وأذنابه
وأوضاعه؟ إن أناسًا من المخدوعين والمغرضين، يدعوننا أن نتجه إلى الكتلة الشرقية!
الكتلة الشرقية التي تمحو الإسلام والمسلمين محوًا منظما ثابتًا في أرضها، منذ
أن استقرت فيها الشيوعية، والتي تتخذ مع المسلمين في أرضها من وسائل الإفناء
المنظم ما لم يعرفه التتار ولا الصليبيون في أشد عصورهم قسوة وفظاعة.
لقد كان عدد السكان المسلمين في الأرض
الروسية اثنين وأربعين مليونًا عند ابتداء الحركة الشيوعية، فتناقص عددهم تحت
مطارق الإفناء المنظم، والقتل والتجويع والنفي إلى سيبيريا حتى وصلوا في خلال
ثلاثين عامًا فقط إلى ستة وعشرين مليونًا!
ستة عشر مليونًا من المسلمين في الأرض
الروسية وحدها قد أبيدوا!
أما في الصين الشيوعية فالمأساة تتكرر الآن
في تركستان الشرقية، بنفس الوسائل ونفس الشناعة.. وفي يوغوسلافيا تتم حركة التطهير
من العنصر الإسلامي، وفي ألبانيا كذلك..
كل أرض مستها الشيوعية قد نزلت فيها النقمة
على رؤوس المسلمين بشكل وحشي يروي الفارون منه أخباره وتفصيلاته، كما تروى أساطير
الهمجية الأولى.
ولقد ذاق المسلمون من قبل على يد القيصرية
الروسية ما ذاقوا باسم العصبية الدينية..
فأما اليوم فهم يذوقون الويل نفسه، بل أشد
وأشنع ولكن باسم العصبية الشيوعية..
وهي في حقيقتها روح واحدة: الروح الصليبية
التي لا تنساها أوربا أبدًا، مهما تبدلت فيها النظم.. الروح الصليبية التي نطق باسمها
المارشال (أللنبي) وهو يدخل بيت المقدس في الحرب العظمى الماضية فيقول: (الآن
انتهت الحروب الصليبية) والتي ينطق باسمها الجنرال كاترو في دمشق سنة ١٩٤١م فيقول:
(نحن أحفاد الصليبين، فمن لم يعجبه حكمنا فليرحل!) وينطق باسمها زميل له في
الجزائر سنة ١٩٤٥م بنفس الألفاظ والمعاني..
إنها هي هي في أوربا كما هي في أمريكا، وكما
هي في البلاد الشيوعية..
كلها تنضح من إناء واحد: إناء الحقد على
الإسلام، والتعصب الصليبي الذميم، يضاف إليه تعصب الشيوعية ضد الأديان جميعًا، وضد
الإسلام على وجه الخصوص.
ويتشدق أقوام هنا بالحرية الدينية في الكتلة
الغربية، كما يموه أقوام بالحرية الدينية في الكتلة الشرقية! وكلهم خادع أو مخدوع، والحوادث والوقائع تنطق بأن المسلمين غير
مرحومين عند الغرب أو عند الشرق، فكلاهما عدو غير راحم! إن الغرب الذي يمتص
دماء المسلمين بالاستعمار القذر اللئيم، وإن الشرق لهو الذي يبيدهم إبادة منظمة
تتولاها الدولة تحت شتى العناوين!
ويعرض علينا المخدوعون أو الخادعون أحيانًا
نصوص الدستور السوفييتي، ومادة فيه تنص على حرية الاعتقاد!
نعم لك حرية الاعتقاد في الاتحاد السوفييتي،
على ألا تسلم لك بطاقة للتموين -وليس هنالك وسيلة غير هذه البطاقة لتحصل على
الطعام والشراب والكساء- ولك أن تعبد الله إذن كما تحب، ولكن ليس لك أن تأكل من
مخازن الدولة! وأنت وما تشاء: الموت جوعًا مع الله! أو الحياة الحيوانية مع
ستالين!
إنه ليس الطريق أن ننضم إلى كتلة الغرب أو
كتلة الشرق، كلتاهما لنا عدو، وكلتاهما كارثة على البشرية، وعلى الروح الإنسانية..
لقد تكون الشيوعية في أرضها نعمة على أهلها،
ولقد تكون الديمقراطية في أرضها نعمة على أهلها..
ولكن هذه وتلك بلاء ونقمة على الشعوب
الإسلامية، الاستعمار بلاء واقع يجب كفاحه وإجلاؤه، والشيوعية بلاء واقع كذلك على
ملايين المسلمين الواقعين في براثنه، والوطن الإسلامي كله وحدة واحدة، ومن
اعتدى على مسلم واحد، فقد اعتدى على المسلمين أجمعين.
إنه ليس الطريق أن نلقي بأنفسنا إلى التهلكة
هنا أو هناك؛ فلقد حارب الاستعمار الغربي كل مقوم حقيقي من
مقومات الإسلام، وإن تظاهر بالإبقاء على المظاهر المموهة التي لا تقاومه ولا
تكافحه.. وحينما اجتمع مؤتمر جمع المبشرين في جبل الزيتون بفلسطين عام ١٩٠٩م
وقف مقرر المؤتمر ليقول: إن جهود التبشير الغربية في خلال مائة عام قد فشلت فشلا ذريعًا
في العالم الإسلامي لأنه لم ينتقل من الإسلام إلى المسيحية إلا واحد من اثنين: إما
قاصر خضع بوسائل الإغراء بالإكراه، وإما معدم تقطعت به أسباب الرزق فجاءنا مكرهًا
ليعيش. وهنا وقف القس "زويمر" المعروف للمصريين ليقول: كلا! إن
هذا الكلام يدل على أن المبشرين لا يعرفون حقيقة مهمتهم في العالم الإسلامي، إنه
ليس من مهمتنا أن نخرج المسلمين من الإسلام إلى المسيحية. كلا! إنما كل مهمتنا أن
نخرجهم من الإسلام فحسب، وأن نجعلهم ذلولين لتعاليمنا ونفوذنا وأفكارنا، ولقد
نجحنا في هذا نجاحا كاملا؛ فكل من تخرج من مدارسنا، لا مدراس الإرساليات فحسب،
ولكن المدارس الحكومية والأهلية التي تتبع المناهج التي وضعناها بأيدينا وأيدي من
ربيناهم من رجال التعليم، كل من تخرج في هذه المدارس خرج من الإسلام بالفعل وإن لم
يخرج بالاسم!
وأصبح عونًا لنا في سياستنا دون أن يشعر، أو
أصبح مأمونًا علينا ولا خطر علينا منه!
لقد نجحنا نجاحا منقطع النظير.. هذا موقف
الكتلة الغربية.
فأما الكتلة الشرقية، فقد اختارت الإفناء
المنظم، والإبادة الوحشية بمعرفة الدولة، وما تزال ماضية في طريقها لمحو الإسلام
والمسلمين!
إن طريقنا واضح، طريقنا الوحيد أن نمضي في
تكتل إسلامي، هو وحده الذي يضمن لنا البقاء، ويضمن لنا الكرامة، ويضمن لنا الخلاص من الاستعمار
وأذنابه وأوضاعه، كما يضمن لنا أن نقف سدا في وجه التيار الشيوعي المهلك
المبيد.
والتكتل الإسلامي لا يعني التعصب في أي معنى
من معانيه، إن الإسلام هو الضمانة الوحيدة في هذا العالم اليوم لوقف حركة
التعصب ضد المخالفين له في العقيدة، فهو وحده الذي يعترف بحرية العقيدة ويرعاها،
في عالم الواقع لا في عالم النصوص، وهو وحده الذي يمكنه أن يضمن السلام
للبشرية كلها في ظلاله، سواء من يعتنقونه ومن لا يعتنقونه.
إنه لا يستعمر استعمار الغرب الآثم الفاجر،
ولا يبيد مخالفيه إبادة الشيوعية الكافرة الجاحدة، إنه النظام العالمي الوحيد،
الذي تستطيع جميع الأجناس، وجميع العقائد، أن تعيش في ظله في أمن وسلام.
وطريقنا إذن أن نرفض كل ارتباط يشدنا إلى
عجلة الاستعمار -تحت أي أسم وأي عنوان- وأن نرفض في الوقت ذاته كل دعاية تدفعنا
إلى فكي ذلك الغول الشرقي، الذي يبيد العنصر الإسلامي في أرضه بقسوة وشناعة، لا
يقرها الهمج في أحلك عصور التاريخ.
إنه طريق وحيد، طريق الكرامة، وطريق المصلحة،
وطريق الدنيا، وطريق الآخرة: إنه الطريق إلى الله في السماء، والى الخير في
الأرض، وإلى النصر والعزة والاستعلاء: إنه هو الطريق!).
سيد من التبشير بالثورة إلى سجنها:
وكما كان الخلاف واسعا والبون شاسعا بين دعوة
سيد قطب لمقاومة الاستعمار بشقيه: الغربي الأمريكي الأوربي الرأسمالي، والشرقي الروسي
الشيوعي، ودعوة جماعة الإخوان في مصر للتعاون مع أمريكا والمعسكر الغربي لمكافحة الشيوعية،
ودعوتهم في سوريا للتعاون مع روسيا الشيوعية لمكافحة الإمبريالية والصهيونية!
هذه الإستراتيجية المزدوجة -نتيجة لغياب المشروع
السياسي الإسلامي واستبدال الجماعة الواقعية والبرغماتية به، والتخلي عن المبادئية
والمثالية- التي ظلت تحكم مسيرة الجماعة منذ ١٩٤٢م حتى اليوم، كذلك كانت رؤى سيد
قطب عن الصراع بين الإسلام والجاهلية تختلف جذريا عن رؤى الجماعة، التي ترى
التعايش والتصالح مع الواقع!
ولعل رؤى سيد عن "العدالة الاجتماعية في
الإسلام" هي وحدها التي رشحته ليكون مفكرا مقبولا للثورة والضباط الأحرار
وللجماعة وأمريكا، لولا مثاليته المفرطة التي نعاها عليه طه حسين في أول حفل تكريم
لسيد بعد نجاح الثورة!
فقد كان الهم المشترك الذي وحد الأطراف
الثلاثة هو مواجهة الشيوعية في مصر والعالم العربي، وكان دور "الضباط الأحرار"
بانقلابهم العسكري هو قطع الطريق على وصول الشيوعيين لحكم مصر سياسيا، ودور
الجماعة التصدي لهم شعبيا، فإن كتابات سيد قطب عن العدالة الاجتماعية، هي التي
ستتولى مهمة مواجهتهم فكريا، إذ كانت الجماعة تفتقد قبل سيد للمفكر السياسي، ولم
تحتف به إلا بعد صدور كتابه "العدالة الاجتماعية" سنة ١٩٤٩م، وهو الوقت
الذي بدأت أمريكا تحضّر المسرح السياسي والفكري في مصر للانقلاب العسكري للضباط
الأحرار ومشروعهم البديل عن الشيوعية وهو "العدالة الاجتماعية"!
فقد رجع سيد إلى مصر من بعثته لأمريكا سنة
١٩٥٠م بعد أن قضى فيها نحو سنتين، وبدأ يلتف حوله شباب الإخوان، كما كان الضباط
الأحرار يزورونه، ويحتفون به، ويعدّونه مرشدهم!
كما قال الخالدي في كتابه "سيد
قطب" -ص ٣٢٠-: (كذلك كان لاحترام شباب الإخوان له، وإعجابهم بفكره، وترددهم
عليه، وزياراتهم له، أثر في اقترابه كثيرا من الإخوان، لكنه لم ينضم رسميا
للإخوان قبل ثورة يوليو عام ۱۹٥٢، لانشغاله بأعمال إصلاحية في محاربة الملكية، وفي
التمهيد للثورة! فلما قامت الثورة، انصرف إلى أعمال عديدة مع رجالها، استغرقت معظم
وقته، بحيث كان يعمل معهم أكثر من ١٢ ساعة يوميا)..
بينما سترفض الجماعة رؤى سيد قطب الأخرى عن
حتمية الصراع مع الجاهلية، وعن النظام الإسلامي، وعن الجهاد في سبيل الله لإزالة
طاغوت الحكم بغير ما أنزل الله!
تلك
الرؤى الشرعية السياسية التي عبر عنها سيد في كثير من كتبه الأخيرة -كما في مقومات
التصور الإسلامي ص٢٩- حيث يقول موجها خطابه لمن يريدون واقعا إسلاميا عبر الانتخابات
والديمقراطية بلا مواجهة مع الجاهلية ونظمها وقيمها خاصة الجاهلية العالمية التي
تحتل العالم الإسلامي وتفرض نظامها وقانونها بقوة الجيوش وسطوة الغازي المحتل:
(إن الإسلام لا يمكن أن يلتقي مع
الجاهلية، لا في منتصف الطريق، ولا في أول الطريق! إن طبيعته ليست من طبيعتها،
ومن ثم فإن طريقه ليس من طريقها، وليس هنالك من طريق مشترك -ولو في خطوة واحدة-
بين الإسلام والجاهلية، ولا بين التصور الإسلامي والتصورات الجاهلية..
وكذلك يبدو مثل هذا الاقتراح وليست له صورة
عملية يمكن أن يتخذها، وفضلا على كونه وهما، فإنه هزيمة في أول الطريق،
والهزيمة لا تنشئ نصرا؛ لأنها عندئذ هي هزيمة الإيمان ذاته، هزيمة الثقة في
أحقية الحق بأن يوجد ويسيطر، وأحقية الباطل بأن يزهق ويندحر..
وأولى للذين يريدون أن يتصالحوا مع الواقع
الجاهلي، أو مع التصور الجاهلي، وأن يلتقوا معه في منتصف الطريق كخطة للوصول إلى
النصر في النهاية أن يستسلموا للجاهلية منذ اللحظة الأولى، وأن يكفوا عن المحاولة
أصلا، وألا يحسبوا على الإسلام محاولة هازلة فاشلة كهذه المحاولة
للالتقاء مع الجاهلية في أي مرحلة من مراحل الطريق معناه -ابتداء- الاعتراف
للجاهلية بشرعية الوجود، والجاهلية بجملتها باطلة بطلانا شرعيا من أساسها، ليس
لها حق الوجود ابتداء، فهي بجملتها صادرة عن ادعاء البشر لخصائص الألوهية -وهو ادعاء
باطل فما يقوم عليه باطل- واغتصابهم لاختصاصات الربوبية -وهو اغتصاب لا يترتب عليه
حق- ورفضهم لألوهية الله سبحانه في الأرض وفي حياة الناس -وهو رفض يخرج صاحبه من
دين الله- ولا يجعل له -من ثم- ولاية على من يؤمن بالله..
وإنه ليستوي أن يعترف المسلم للجاهلية بشرعية
الوجود في الأمر الكبير وفي الأمر الصغير، فهو الاعتراف بالشرعية على كل حال، وهو
الإقرار بألوهية غير الله في الأرض، وفي حياة الناس من ناحية المبدأ، ولن يجتمع
في قلب واحد: الإسلام لله، والتمرد على الله!
كذلك لن يجتمع في قلب واحد: الإسلام لله
والاعتراف لهذا التمرد على الله بشرعية الوجود وحق البقاء!
ومن ثم فإنه لا لقاء بين الإسلام والجاهلية
في مرحلة من مراحل الطريق، إنها المفاصلة الحاسمة عند مفترق الطريق، المفاصلة
الحاسمة التي لا هزل فيها ولا مواربة، ولمثل هذا يقول الله سبحانه: {فلا تخشوا الناس
واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون}..).
لقد كان سيد قطب في هذا الكتاب يعرّض
بالجماعة نفسها وخطها الدعوي والسياسي الذي يراه متصالحا مع نظام الجاهلية
المعاصرة باعترافها به ومشاركتها السياسية في نظامه!
وظل سيد يبشر ويدعو قبل السجن وبعده إلى
العصبة المؤمنة التي تفاصل هذا الواقع، وهي نفسها العصبة التي أهدى لها كتابه
"العدالة الاجتماعية" قبل أن توجد!
ويقول أيضا في "مقومات التصور
الإسلامي" -ص ٣٥-: (وبناء على هذه الحقائق الرئيسية لا يحتاج الإسلام لكي
ينشئ واقعا إسلاميا في أية فترة من فترات التاريخ، أن يهادن الجاهلية، ولا أن
يعترف لها لحظة بشرعية الوجود جملة وتفصيلا، ولا أن يستعير شيئا من قيمها
وموازينها، أو مناهجها ووسائلها، إنما يحتاج الإسلام فقط إلى العصبة المؤمنة التي
ترتفع إلى مستواه، العصبة التي تدرك طبيعته وتعرف وسيلته، وتدرك طبيعة الفطرة
البشرية، وحاجاتها الحقيقة، في حياة نامية متجددة، حياة الحركة إحدى خواصها،
والنمو فطرة فيها، والتنويع والتركيب وظيفة من وظائف الخلافة فيها، مستمدة إدراكها
لهذا كله من تصورها الإسلامي ذاته، مستعزة بهذا التصور ومقتضياته، لكي تواجه به الجاهلية
وتصوراتها وقيمها وأوضاعها، منكرة على هذه الجاهلية العالمية الأرضية شرعية وجودها
ابتداء جملة وتفصيلا، ثم تعمد إلى واقع البشرية الجاهلي، تحذف منه ما تحذف، وتضيف
إليه ما تضيف، وفق هذا التصور، وبمنهجه
الذاتي، وبوسيلته الخاصة، كما صنع الإسلام أول مرة مع الواقع الجاهلي العربي،
والواقع الجاهلي العالمي، مع اليقين المطلق بأن كفاءة هذا التصور لمواجهة جاهلية
اليوم لا تنقص عن كفاءته لمواجهة جاهلية الأمس، لأنه بربانيته مطلق لا نسبي
والمطلق تستوي كفاءته بالقياس إلى أي مقيد، في أي زمان وأي مكان.
وهذا النمو والتجدد، والتنوع والتركب، الذي
حدث في الحياة البشرية منه الكثير هو مقتضى النمو الفطري في الحياة البشرية، ومن
ثم فالإسلام يقبله، ويضيف إليه أيضا، بعد استبدال الأسس التصورية والاعتقادية التي
يقوم عليها وإعادة ربطه بالتصور الإسلامي الصحيح، وعلى سبيل المثال نذكر أعظم ما
في هذه الحضارة القائمة من عناصر البقاء والنماء وهو الأساس العلمي في التفكير
والأساس التجريبي للنمو الحضاري، فهذا الأساس نشأ ابتداء بفعل التصور الإسلامي
والمنهج الإسلامي ذاته، بدأ في جامعات الأندلس وفي جامعات المشرق، ونقله عنها "روجر
بيكون" ثم "فرنسيس بيكون" -كما يقرر "دوهرنج" و"بريفولت"
و"دريبر" و"جب" من كتاب الغرب أنفسهم-حيث لم يكن للتفكير
العلمي ولا للمنهج التجريبي جذور تذكر لا في الفلسفة الإغريقية التجريدية، ولا في
اللاهوت النصراني، اللذين يعدان التربة الأصيلة للحياة الأوربية وللفكر الأوربي،
قبل اقتباسه من المنهج الإسلامي في جامعات الأندلس وفي جامعات الشرق أيضا، ولم
ينشأ هذا الاتجاه في جامعات الشرق والأندلس إلا بتأثير واقعية التصور الإسلامي
وإيجابيته، وتوجيهه الفكر الإنساني إلى التعامل مع النواميس الكونية، والقيام
بالخلافة في الأرض على أساس من هذه النواميس..).
سيد وصنم الوطنية والقومية:
كما كتب سيد قبل الثورة في مقاله في مجلة
الرسالة بعنوان "فقاقيع" عدد ٩٧٤ بتاريخ ٣/ ٣/ ١٩٥٢م، رافضا للفكرة القومية
والوطنية الجاهلية وعازيا لها سبب انهيار المنطقة العربية أمام الاحتلال الغربي،
وداعيا للوحدة الإسلامية، فقال:
(الذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة
الاجتماعية باسم القومية الضيقة التي تحد بالبحر الأبيض شمالا، وبالبحر الأحمر
شرقا، وبصحراء ليبيا غربا، وبخط الاستواء جنوبا، أو دون ذلك.
والذين يدعوننا إلى الخلاص والحرية والعدالة
الاجتماعية باسم الشيوعية أو غير الشيوعية من المذاهب المادية التي نشأت وعاشت في
بيئات غريبة عنا، لا تربطنا بها صلة روحية ولا تاريخية...
هؤلاء وهؤلاء يخطئون فهم طبيعة هذا الشعب،
وقوة العوامل الكامنة في ضميره، والرواسب الشعورية التي تحركه، وطريقة تفكيره
ونظرته إلى الحياة...
إن دعوة القومية الضيقة، التي تنزوي داخل
حدود صناعية أو تخوم جغرافية؛ دعوة تنافي الاتجاه العالمي إلى الاندماج في وحدات
ضخمة، تمهيدا للحلم البشري الكبير، حلم الوحدة العالمية الكبرى!
وهي تخالف فكرة الإسلام الذي تدين به غالبية
هذا الشعب، فالوطن الإسلامي هو كل أرض يظللها لواء الإسلام.
ومن ثم فهو يزيح الحواجز الصناعية والتخوم
الجغرافية، ويحل محلها فكرة، تندمج في ظلها كتلة بشرية ضخمة، تحاول دائما أن تضم
إليها بقية البشر، تحقيقا للهدف الإسلامي الأكبر..
كما
يتكشف مدى الضيق والانعزال والتأخر في دعوات القومية الضيقة التي عمت أوربا في القرون الماضية، وسرت
إلينا عدواها في غيبة الروح الإسلامية الراقية السمحة التقدمية، وفتنت بما فيها
من تعصب ضيق، بعض صغار العقول والنفوس، ملبية دسيسة الاستعمار في تمزيق أوصال
المجتمع الإسلامي الضخم، والوطن الإسلامي الكبير، ليسهل على الاستعمار ازدراد
أشلائه الممزقة باسم القوميات الضيقة الهزيلة، وتحت العنوانات الشتى المتفرقة!
ومن هنا كانت تلك الفقاقيع التي تحمل شتى
العنوانات في شتى أنحاء العالم الإسلامي. وكانت تلك الزعامات الصغيرة التي تهتف
باسم القومية، وتدعو إلى العزلة عن مشكلات العالم الإسلامي، وتسخر ممن يدعون إلى
وطنية الإسلام الضخمة، وإلى التكتل الإسلامي الكبير.
ولقد كانت تلك الزعامة البائسة التي قادت
ثورة سنة ١٩١٩م في مصر [يعني سعد زغلول] مثلا من أمثلة ضيق الأفق، والانعزال
عن الفكرة الإسلامية والهدي الإسلامي، والانعزال تبعا لذلك عن الاتجاه العالمي
في التكتل، والنظرة التقدمية لمستقبل البشرية.
ومن هذا الضيق والانعزال عن الهدي الإسلامي،
جاءت الكوارث كلها، وطال أمد الصراع مع الاستعمار، ووقع ذلك الانحلال الخلقي، والانهيار
الاجتماعي، وذلك الفساد الذي تعانيه البلاد، ويفتت كيانها تفتيتا..
لقد كانت تلك الزعامة فقاعة صغيرة، في زبد
الوثبة المصرية الكبرى، ولكنها مع الأسف حولت تلك الوثبة كلها إلى زبد ذهب كله
جفاء..
وما تزال مصر، وما تزال الشعوب الإسلامية
تصارع ذلك الخبث الذي دسه الاستعمار في تفكيرها، خبث القومية الضيقة الهزيلة، التي
تخدم الاستعمار ولا تخدم الشعوب، ما تزال تصارع ذلك التمزق في جسم الوطن
الإسلامي الكبير، في ضوء الفكرة الإسلامية التي انبثقت هنا وهناك، وتتجمع تحت
الراية الإسلامية الخالدة، أو تتنادى إلى هذه الراية الكلية الواحدة، التي تحول
الوطن الإسلامي كله وحدة تتفق مع الاتجاه العالمي السائر إلى التكتل والاندماج،
وحدات كبرى تجمع بينها نظم وأفكار، لا حدود جغرافية، ولا قوميات جنسية أو لغوية.
إنهم يفيئون شيئا فشيئا إلى النور الذي انبثق
منذ أربعة عشر قرنا، سابقا لتفكير البشرية كله، فلم تدركه إلا في القرن العشرين،
وما يزال هذا النور سابقا لما وصلت إليه البشرية في التفكير.
فأما دعوة الشعوب الإسلامية إلى الشيوعية أو
غيرها من المذاهب المادية الأخرى، فهي دعوة مضحكة تثير الهزء والاستخفاف بتلك
الفقاقيع الآدمية التي تدعونا إليها؟
إذن ما الذي يدعو شعوبا بأسرها، يتجاوز
تعدادها ثلاثمائة مليون مسلم، في شعاب هذه الأرض إلى التخلي عن فكرة أو عقيدة عاشت
في ظلها أربعة عشر قرنا).
وكتب في مقال "الشعوب الإسلامية
تزحف" ٧/ ٤/ ١٩٥٢م عدد ٩٧٩ محذرا من خطورة الفكرة الوطنية التي أدت إلى الضعف
والسقوط حيث يقول:
(أشد
ما أفلح فيه الاستعمار في بلاد العالم الإسلامي، هو خلق تلك الطائفة من الببغاوات
التي تردد أسطورة فصل الدولة عن الدين، وإبعاد الدين عن الوطنية!
لقد أمن الاستعمار واطمأن منذ أن أطلق هذه
الأسطورة في أوساط المسلمين، وتركها تمزق وحدتهم، وتفرق كتلتهم، وتفقدهم الراية
التي يفيئون إليها، فيحسون بتذاوب العنصريات وانمحاء الفوارق، والاندماج بعضهم في
بعض، قوة واحدة تقف متكتلة في وجه الاستعمار..
إن أسطورة أن الدين شيء والوطنية أو السياسة
شيء آخر، هي أسطورة نشأت في عوالم أخرى غير العالم الإسلامي، وإلا فالإسلام لا
يعرف هذه التفرقة المصطنعة، الإسلام يعرف أنه عقيدة في الضمير، وشريعة للحياة،
شريعة للحياة بكل جوانبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدولية.
ليس هناك شيء يقال له الدين، وشيء آخر يقال
له السياسة، وشيء ثالث يقال له الحكم، وشيء رابع يقال له الاقتصاد، وشيء خامس يقال
له الاجتماع!
إما أن يكون الإنسان مسلما أو غير مسلم، فإما
أن يكون مسلما فشريعة الإسلام هي التي تحكم حياته إذا تفرد في عباداته ومعاملاته، وتحكم حياة
الجماعة التي يعيش فيها من ناحية الحكم وناحية الاقتصاد وناحية الاجتماع، وتحكم حياة
الدولة التي تخضع لها من ناحية علاقاتها الدولية، وصلاتها بالعالم الخارجي كله، وإما
أن يكون غير مسلم فيدع لأي قانون آخر غير الشريعة الإسلامية أن تصرف حياته في كل
هذه النواحي، وليس هناك حل وسط، فالإسلام لا يعرف أنصاف الحلول..
فما أقدمت دولة على حماقة مؤذية كالتي أقدمت
عليها تركيا، لقد كانت في أضعف أيام الخلافة الوهمية الاسمية يحسب لها حساب، فأما
اليوم فقد انتهت إلى أن تصبح ذيلا صغيرا حقيرا للكتلة الغربية، ترتجف فرقا وفزعا
من الكتلة الشرقية، فلا هي كسبت الكرامة، ولا هي كسبت السلامة!
إن عجلة الزمن تسير، ولابد أن تطحن تلك
العقبات التي يقيمها الاستعمار أو تقيمها الشيوعية في وجه الكتلة الإسلامية،
وستذوب الأفكار المضادة، والشخصيات المضادة، والحكومات المضادة. وسيلتقي المسلمون يوما
تحت راية الإسلام، لا مصري، ولا سوري، ولا لبناني، ولا عراقي، ولا حجازي،
ولا نجدي، ولا أردني، ولا يمني، ولا مراكشي، ولا جزائري، ولا طرابلسي، ولا إيراني،
ولا تركي، ولا أفغانستاني، ولا باكستاني، ولا أندنوسي، ولكن المسلمون، ومسلمون فقط،
إن الشعوب الإسلامية تزحف، ولن تقف عقبة واحدة في الطريق، يوم يلتقي زحف هذه
الشعوب).
ملامح مشروع الأمة عند سيد قطب:
كما
رد سيد على من نفوا وجود عالم إسلامي واحد، وأن العالم يتقاسمه اتجاهان دوليان
سياسيان اقتصاديان: الشيوعية الاشتراكية، والرأسمالية الليبرالية، ولا خيار لشعوبه
إلا الانحياز إلى أحد النظامين العالميين، وهو في ذلك إنما يرد على من تصوروا
نهاية الوجود الإسلامي بعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة، وبعد الحرب
العالمية الثانية، وقيام المعسكرين الشرقي الشيوعي، والغربي الرأسمالي، وكتب مقاله
"العالم الإسلامي حقيقة واقعة" - مجلة الرسالة عدد ٩٦٦ بتاريخ ٧/ ١/
١٩٥٢ م- فقال:
(الذين يتحدثون اليوم عن "العالم
الإسلامي" بوصفه كتلة ثالثة تملك أن تلعب دورا أساسيا في سياسة العالم،
وتملك أن يكون لها وضع خاص متميز لا يرتبط بسياسة الكتلة الشرقية ولا بسياسة
الكتلة الغربية.
هؤلاء لا يتحدثون عن مسألة تاريخية قد انقضى
أوانها، ولا يتحدثون عن أمل في ضمير الغيب البعيد يتعلق به الخيال، إنما يتحدثون
عن حقيقة واقعة، حقيقة قائمة، لا سبيل إلى إنكارها، ولا سبيل إلى المغالطة
فيها..
إنها حقيقة تاريخية، وحقيقة جغرافية، وحقيقة
اقتصادية، وحقيقة فكرية وشعورية، فلها كل مقومات الحقائق الواقعة التي لا تجدي في
دفعها المغالطة والنكران...
إنها حقيقة تاريخية؛ فالعالم الإسلامي كان كتلة واحدة ذات ثقل
واحد في ميزان التاريخ، وميزان الاتجاه العالمي، وميزان السياسة الدولية، وميزان
الأحداث الإنسانية، ولقد ظل كذلك منذ القرن السابع إلى أوائل القرن التاسع عشر، أي
حوالي ألف ومائتي عام على الرغم من كل ما حاق به من محن، وكل ما أصابه من ويلات،
وكل ما دب في كيانه من تمزق، والفترة الوحيدة التي خف فيها وزن الكتلة الإسلامية
هي هذه الفترة الأخيرة التي لا تتجاوز قرنا واحدا من الزمان!
وهي حقيقة جغرافية؛ فالكتلة الإسلامية تمتد في حدود متصلة أو
شبه متصلة من مراكش إلى تونس، إلى الجزائر، إلى طرابلس، إلى وادي النيل، إلى
فلسطين، إلى سوريا، ولبنان، إلى شرق الأردن والعراق، إلى نجد والحجاز، إلى اليمن،
إلى إيران، إلى تركيا، إلى أفغانستان، إلى باكستان، إلى أندنيسيا.
وتكون حاجزا كاملا يفصل بين الكتلة الشرقية
والكتلة الغربية، بحيث يصعب تصور أي التحام بين هاتين الكتلتين لا يمر بذلك الحاجز
الطويل العريض المتصل الحدود.
وهي حقيقة اقتصادية؛ فهذه الرقعة الفسيحة من الأرض تحوي من
الخامات والموارد الطبيعية والإنتاجية ما يكفي لتكوين وحدة اقتصادية متكاملة، تكاد
تكفي نفسها بنفسها، فإذا احتاجت إلى شيء فهي تمتلك أن تقدم نظيره، ويبقى الميزان
الاقتصادي العام في صالحها، وقد برهنت الحرب العالمية الماضية على صحة هذه
الحقيقة؛ حينما تعذر الاستيراد من أوربا أو أمريكا لمنطقة الشرق الأوسط، وأقيم بها
مركز تموين لتحقيق كفاية نفسها بنفسها. فإذا أضيفت إلى منطقة الشرق الأوسط تلك
المساحات الإسلامية من الشرق الأقصى تمت الكفاية الذاتية، وثبتت تلك الوحدة
الكاملة الاقتصادية.
وهي حقيقة فكرية وشعورية؛ فهذه الكتلة المترامية الأطراف يجمع بينها
رباط فكري واحد ورباط شعوري واحد: رباط العقيدة الإسلامية، والتفكير المنبعث منها،
والنظام الاجتماعي المتأثر بهذه العقيدة، حتى بعد أن طغت عليها النظم الغربية،
وبعد ما بعد الكثير من حكوماتها عن حكم الإسلام وتعاليم الإسلام، وما تزال هذه
الكتلة تملك ذلك الرباط الواحد الذي تستمسك به جميعا، إن هذه المقومات المتعددة
المتكاملة لا يجتمع مثلها لواحدة من الكتلتين الشرقية أو الغربية. فهذه أو تلك
تمتلك بعض هذه المقومات، ولكنها لا تملكها مجتمعة، كما تملكها الكتلة الإسلامية،
أو العالم الإسلامي.
وإذن
فلا مجال للتشكيك في قوة المقومات التي تملكها هذه الكتلة، ولا في قيمتها، ولا في
أنها مقومات طبيعية، غير مصطنعة ولا متكلفة، وليست ناشئة من مجرد الرغبة في
تكوين كتلة ثالثة؛ وإنما هي تفرض نفسها فرضا، وتحتم قيام هذه الكتلة المستوفية
لكل شروطها ومقوماتها هذه بديهية واضحة لأنها تعتمد على الواقع المشهود، ولكن
الكثيرين يحاولون التشكيك فيها بشتى الوسائل، ففريق يزعم بأن العالم اليوم ينقسم
إلى كتلتين اثنتين: الشيوعية في جانب، والرأسمالية في جانب، ويزعم أن لا سبيل إلى
اختيار طريق ثالث، فإما أن ننضم إلى الكتلة الشرقية أو أن ننضم إلى الكتلة الغربية!
وليس أكذب من هذا الزعم ولا أبعد منه عن
الحقيقة الواقعة التي ينطق بها الواقع المجرد من وجود كتلة ثالثة لها كل
مقوماتها، ولها كل إمكانياتها..
فهناك نظام اجتماعي ثالث مستقل كل الاستقلال
عن النظام الرأسمالي وعن النظام الشيوعي، نظام كامل شامل، له رأيه في الحكم، ورأيه
في توزيع الثروة، ورأيه في العلاقات بين العمال وأصحاب العمل، وبين الملاك
والفلاحين، ورأيه في علاقة الأفراد بعضهم ببعض، وعلاقة الأفراد مع الدولة، وعلاقة
الدولة بالدول الأخرى..
وفريق يزعم أن هذه الكتلة الإسلامية من الضعف
اليوم بحيث لا تملك أن تصبح كتلة ثالثة تقف تجاه الكتلتين أو إحديهما. وأن
العالم الإسلامي قد أدى دوره قديما ولم يعد له دور جديد، وهذا الزعم قد
يكون مفهوما حين تردده إحدى الكتلتين المتعاديتين؛ لأن الكتلة الغربية
المستعمرة تردده لتقتل كل محاولة للتخلص من ربقة الاستعمار البغيض!
والكتلة الشرقية تردده كي تفهم الشعوب
الإسلامية المستعمرة أن وسيلتها الوحيدة للتخلص من الاستعمار هي الارتماء في أحضان
الشيوعية، وأنه لا أمل في أن يكون لها هي نفسها كيان خاص مستقل! هذا مفهوم..
فأما حين نردده نحن، أو حين نؤمن به، فهذا هو
العجب المنافي للرغبة البشرية الطبيعية في أن يكون للمرء كيان خاص، واحترام خاص بك،
وإن هو إلا المسخ الذي يصيب الفطرة، وما يقول بهذا إلا الممسوخون الذين حولتهم
دعاية هذه الكتلة أو تلك إلى فئات آدمي وحطام!
إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة، وإن كانت
هذه الحقيقة قد خف وزنها فترة من الزمن، أصاب الكتلة الإسلامية فيها ما أصابها من
الوهن والضعف، حتى وقعت في قبضة الاستعمار، فإن كل الدلائل تشير اليوم إلى أن هذه
الفترة قد انقضت، وأن البعث قد آن أوانه، وأن القوة الكامنة في هذه العقيدة ما
تزال تعمل؛ وأن هذه القوة لم تمت ولم تنطفئ، ولكنها كانت تجتاز فترة تكوّن وتجمّع،
وقد اجتازتها الآن..
لقد انبعثت دول إسلامية جديدة، ولقد نهضت أمم
إسلامية وشعوب، ولقد انبعثت الشعلة المقدسة تضيء من أقصى العالم الإسلامي إلى
أقصاه، ولقد تناءت شعوب العالم الإسلامي كله كتلة واحدة، وراحت تتجمع تحت راية
واحدة: الراية التي أظلتهم أول مرة، فاندفعوا تحتها إلى أقطار الأرض جميعا..
ولقد خفتت أو كادت تلك الأصوات المنكرة التي
كانت تدعو إلى القومية الهزيلة الضيقة وراء الحدود الصغيرة المصطنعة، وتبين
للغالبية الساحقة أن القومية الإسلامية هي القومية الحقيقية التي تجمع بين هذه
الشعوب، وإن حدود الوطن الإسلامي هي الحدود الحقيقية، وما عداها كله فخاخ وضعها
الاستعمار ليقع فيها الغافلون والمغرضون، ثم يتفرق الوطن الإسلامي إلى دويلات
صغيرة ضئيلة عاجزة، تحت عنوانات القوميات! ثم لا يفيد من هذا أحد كما يفيد المستعمرون
الذين واجهوا العالم الإسلامي وما يزالون يواجهونه بروح صليبية وبسياسة صليبية،
يتابعهم فيها أعداء هذا العالم الإسلامي في الشرق والغرب سواء.
إن العالم الإسلامي حقيقة واقعة، وما عاد
يجدي أحد أن يقف في طريق بروزها بعد اليوم، والكتلة الثالثة ضرورة إنسانية لتحقيق
غرضين أساسيين من أغراض البشرية في هذا الطور من التاريخ:
الغرض الأول:
هو تحقيق استقلال جميع الشعوب المستعمرة، والقضاء على الظل الاستعماري البغيض في
الأرض. فلقد استطاع الاستعمار أن يتصيد الشعوب الإسلامية واحدا واحدا، حينما
تمزقت وحدتها الكبرى، وضعفت عن حماية أنفسها فرادى، فإذا ارتدت اليوم إلى نوع
من الوحدة في صورة تكتل ذي كيان جغرافي واقتصادي واجتماعي ثم عسكري أمكن أن تصمد للاستعمار،
وان تتخلص من براثنه، دون أن ترتمي في أحضان الشيوعية، وإن كان هذا لا ينفي أن تمد
يدها إلى الكتلة الشرقية من الناحية السياسية لا الناحية الاجتماعية، فيما تتفق
فيه مصالحهما، ومصالحهما تتفق عند مكافحة الاستعمار، وفي هذا المجال تستطيع
الكتلتان الشيوعية والإسلامية أن تؤديا دورا مشتركا في هذا المجال وحده، وفيه
الكفاية والخلاص من الاستعمار.
الغرض الثاني:
هو تجنب البشرية ويلات حرب ثالثة - أو على
الأقل تأخيرها إلى أطول أمد ممكن..).
وكتب أيضا في مقاله "إذا جاء نصر الله
والفتح" عدد ٩٥١ بتاريخ ٢١/ ٩/ ١٩٥١م، وذلك بعد ثورة الضباط الأحرار بشهرين،
وفي الفترة التي كان سيد يعمل معهم، ويوجه الرأي العام الإسلامي إلى مشروع جديد
تقوده مصر الثورة آنذاك، فقال:
(إن
الدعاة اليوم إلى تكتيل العالم الإسلامي في جبهة، والى تحكيم الإسلام في هذه
الكتلة، ليسوا هم الدعاة الدينيين وحدهم، وليسوا هم "الإخوان المسلمين"
وحدهم، وليسوا هم الأفراد الذين يوجه الإسلام تفكيرهم وحدهم، إنهم ليسوا هؤلاء
وحدهم فحسب في هذه الأيام، إنما هم كذلك جماعات وأحزاب وشخصيات ليست الدعوة
الإسلامية طابعها البارز، أو جهتها الإسلامية، وهذا هو الدليل على أن الأمة
الإسلامية قد وجدت نفسها بعد التيه والضلال، وأنها تتجاوب بصدى واحد، منبعث من
ضميرها بلا تمحل ولا افتعال.
لقد لعب الاستعمار لعبته الكبرى يوم مزق
الوطن الإسلامي الأكبر، وحوله إلى دويلات تحمل الطابع القومي الهزيل، وتتخلى عن قوميتها الإسلامية الكبرى، لقد
هدم حينذاك كل ما بناه الإسلام من وحدة ضخمة تذوب فيها العناصر والأجناس، وتنصهر
فيها الألوان واللغات، وتهتف كلها هتافا واحدا من قلوب متآخية في الله.
ولم يكن بد للاستعمار من أن يلعب هذه اللعبة،
فما كان في استطاعته أو مقدوره أن يزدرد هذه الكتلة الكبرى وهي وحدة متماسكة، فأما
حين نفخ لها في بوق "القومية" الخدّاع فقد انفرط العقد، وانحلت العقدة، وتناثرت الفلول، وباتت كلها
لقمة سائغة لمن أراد.
ثم واجهت كل دويلة مشكلاتها الداخلية،
واجهتها عزلاء من راية تقف في ظلها، ومن قبلة تثوب إليها. وانطلقت كل دويلة
تجابه الاستعمار المتجمع المتكتل وحدها، تارة في مجلس الأمن، وتارة في هيئة الأمم،
وتارة في محكمة العدل، وفي كل مرة كانت تؤوب بالفشل والخيبة؛ لأن الاستعمار كان
هناك وحدة، ولأن "القومية" التي خدع بها المستضعفين في الشرق لا تجعله
ينسى "الصليبية" التي يواجه بها الإسلام كافة!
وانطلقت كل دويلة تجابه الطغيان الداخلي فيها
والمظالم الاجتماعية بحلول ومبادئ تلهث وراءها في أرض غير أرضها، وفي بيئة
غير بيئتها؛ تارة باسم الديمقراطية، وتارة باسم الاشتراكية، وتارة باسم
الشيوعية؛ وهي كلها محاولات يائسة، أنشأتها أوضاع غير أوضاع الوطن الإسلامي، وهي
امتدادات طبيعية للفكرة المادية التي يدين بها الضمير الغربي والحضارة الغربية،
وتجد جذورها في الحضارة الإغريقية والرومانية، ولا مبرر لنشأتها أو امتدادها
في الجو الإسلامي والتفكير الإسلامي.
وماذا كانت العاقبة؟
كانت العاقبة في الخارج هي ما نراه من تفكك
العالم الإسلامي وتكتل العالم الصليبي!
كانت هي ضعف الدويلات الإسلامية، وقوة
الاستعمار الأوربي!
كانت هي هذه الحلقة المفرغة التي تدور فيها
هذه الدويلات حول دول الاستعمار!
كانت هي توزيع الأسلاب بين إنجلترا وفرنسا
وهولندا وأمريكا!
كانت هذه المواقف الهزلية التي تقفها حكومة
الدويلات شبه المستقلة كمصر والعراق، تقدم رجلا وتؤخر أخرى!
وكانت العاقبة في الآخر هي هذه البلبلة في
مواجهة الطغيان والمظالم الاجتماعية، منا من يريد مواجهتها باسم الإسلام، ومنا من
يريد مواجهتها باسم الاشتراكية، ومنا من يدعو خفية للشيوعية! والإقطاع العارم
والرأسمالية الفاجرة يقفان في الجبهة الأخرى صفا، يضربان هؤلاء بأولئك، ويوقعان
بينهم الفتنة والبغضاء!
وبين الحين والحين يخرج بغاث هزيل، وببغاوات
فارغة تحذرنا من دعوة الإسلام ومن راية الإسلام. تحذرنا عداء العالم الغربي إذا
نحن هتفنا باسم الإسلام، وتجمعنا كتلة تحت رايته كأن هذا العالم يساقينا اليوم
كؤوس المودة! وتحذرنا الفرقة والتنابز في داخل الوطن الواحد،
كأننا اليوم جبهة واحدة لا شراذم وشيع وفرق!
وتحذرنا ما هو اشد وأنكى تحذرنا طغيان الحكم
الإسلامي!
تحذرنا هذا الطغيان كأنما ننعم اليوم في
بحبوحة الحرية!
وتحذرنا ألاعيب رجال الدين المحترفين، كأننا
الآن لا نذوق منها الأمرين!
إنها تعلات فارغة لا تخدم أحدًا إلا
المستعمرين الذين يفزعون من فكرة التكتل الإسلامي تحت راية الإسلام؛ لأنهم يدركون ما أدركته الملكة فكتوريا،
وما أدركه جلادستون من أن راية القرآن يجب أن تمزق قبل أن يتسنى للرجل الأبيض حكم
هذه البقاع الإسلامية، ولأنهم يدركون أن ظل الاستعمار الأسود سيتقلص يوم ترتفع هذه
الراية من جديد.
أن الاستعمار الغربي لا تخفى عليه ضخامة
القوة التي يمكن أن تواجهه في ميدان الحرب والسياسة والاقتصاد لو تكتل الوطن
الإسلامي، لا تخفى عليه ضخامة الموارد البشرية والمادية التي يمكن أن يحشدها لا
يخفى عليه أن الدفة سيتحول اتجاهها يوم يقف أربعمائة مليون من البشر تحت راية
واحدة وفي ظل عقيدة واحدة، ونظام اجتماعي واحد).
وقال في مقاله "غبار حول الكتلة
الإسلامية" مجلة الرسالة عدد ٩٨١ بتاريخ ٢١/ ٤/ ١٩٥٢م، وذلك قبل الثورة
بأشهر، يدافع عن وحدة العالم الإسلامي، وخصوصيته، وخطورة انجراره لأي من المعسكرين
الروسي أو الأمريكي:
(يجب أن يتوقع الدعاة إلى الكتلة الإسلامية
غبارا كثيرا يثار حولهم، وحول الفكرة ذاتها، غبارا من نواحي شتى: في الداخل وفي
الخارج، بطرف مباشر وغير مباشر، تصريحًا وتلميحًا، من قريب ومن بعيد، عن طريق بعض
السلطات وبعض العناصر وبعض الجماعات...
يجب أن يتوقعوا هذا كله منذ اليوم، لأن
الدعوة إلى الكتلة الإسلامية مرادفة للدعوة إلى البعث الإسلامي آت لا ريب فيه؛
ولكن المعرضين والمناوئين لهذا البعث لن يستسلموا بسرعة، ولن يسلوا عن طواعية.
إنهم سيقاومون هذا البعث إلى آخر لحظة،
وسيستخدمون جميع الوسائل، ومن بين هذه الوسائل تخويف المسلمين أنفسهم من هذا
البعث أو إثارة مخاوفهم وشكوكهم حول الدعوة وحول الدعاة!
إن البعث الإسلامي آت لا محالة، لأنه حركة طبيعية غير مصطنعة، حركة تجيء في
أوانها، ولم يكن مستطاعا أن تجيء قبل هذه الأوان..
ولقد
حاولنا والكثيرون من قبل منذ أيام جمال الدين الأفغاني بل قبله، ولكنها لم تتم،
لأنها في ذاك الوقت كانت دعوة رواد سابقين لزمانهم ولمقتضيات هذا الزمان، أما
اليوم فهي دعوة أوانها بعد أن تهيأت لها معظم الأسباب.
إن قيام الكتلة الإسلامية اليوم، على أساس
النظام الاجتماعي الإسلامي، وعلى أساس تحكيم الشريعة الإسلامية في الحياة، هو حركة
طبيعية لا بد منها كما أسلفنا..
أما محاولة الاستعمار أن يستغل لحسابه هذه
الكتلة الناشئة فهي محاولة مصطنعة يمكن القضاء عليها.
وإذن فلندع لقيام الكتلة الإسلامية، على
أساس النظام الاجتماعي الإسلامي، لا على أساس اتفاقات دبلوماسية بين بعض السياسيين
- على طريقة جامعة الدول العربية - وليكن همنا أن ننشر حركة إسلامية حقيقي بين
الشعوب، وهذا هو الضمان لاستقلال هذه الكتلة عن الاستعمار، وقيامها على أساس
مكافحة الاستعمار.
وحين يقوم العالم الإسلامي على أساس النظام
الاجتماعي الإسلامي؛ فانه سيكون في حصانة من الشيوعية، بل سيكون بدء تحطيم الكتلة
الشيوعية، والنظام الشيوعي..).
سيد قطب والخطر الأمريكي:
وكتب سيد مقاله "الرجل الأبيض عدونا
الأول" عدد ١٠٠٩ بتاريخ ٣/ ١١/ ١٩٥٢م، يدعو بعد نجاح الثورة في مصر إلى الحذر
من خطر أمريكا كما روسيا، بعد أن رأى توجها من قيادة مجلس الثورة والضباط الأحرار
ومن جماعة الإخوان المسلمون لتعزيز العلاقة مع أمريكا، بدعوى وقوفها مع حرية
الشعوب ضد الاستعمار، أو للتحالف معها لمكافحة الشيوعية، فقال محذرا من النفوذ
الأمريكي القادم وصدق في استشرافه للمستقبل:
(فالذين يعتقدون أن الأمريكان يمكن أن يكونوا
معنا ضد الاستعمار الأوربي هم قوم إما مغفلون أو مخادعون، يشتغلون طابورًا خامسًا
للاستعمار الأمريكي المنتظر لبلاد الشرق الأوسط!
إن مصالح الاستعمار الأمريكي قد تختلف أحيانًا
مع مصالح الاستعمار الأوربي، ولكن هذا ليس معناه أن يكون في صف استقلالنا وحريتنا، إنما معناه أن يحاولوا زحزحة أقدام
الأوربيين ليضعوا هم أقدامهم فوق رقابنا، وفي الغالب هم يجدون حلا لخلافاتهم مع
الاستعمار الأوربي على حسابنا..
هذا هو الاستعمار الذي بثه في أرواحنا كتاب
خانوا أماناتهم للوطن، وخانوا أماناتهم للإنسانية، فوقفوا أقلامهم طويلًا على
تمجيد فرنسا، ومع ذلك فإن بعضنا لا يزال يهتف لهم، ويعدّهم روادًا للفكر في الشرق!
إنني أفهم أن تهتف لهم فرنسا، أو أن تهتف لهم إنجلترا، أو أن تهتف لهم أمريكا، أما
أن نهتف لهم نحن العرب فهذا هو الهوان البشع، الذي لا يقدم عليه فرد وله كرامة!
إن مكان هؤلاء اليوم كان ينبغي أن يكون مكان
الجواسيس والخونة والطابور الخامس، لا مكان التمجيد والتقدير والاحترام.
كل رجل غمس قلمه ليمجد فرنسا أو يمجد إنجلترا
أو يمجد أمريكا هو رجل منخوب الروح، مستعمر القلب، لا يؤتمن على النهضة القومية،
ولا يجوز أن يكون له مكان في حياة هذه البلاد بعد نهضتها..
أفهم أن تكون هناك ظروف اضطرارية تلجئنا إلى
تبادل التمثيل السياسي والقنصلي، وإلى المبادلات التجارية والصلات الاقتصادية مع
هؤلاء المستعمرين القذرين، أما أن يتبادل العواطف والمشاعر، وأما أن نتحدث عن
المآثر والمفاخر، وأما أن نفتح قلوبنا وصدورنا، فدون هذا ويعجز خيالي عن تصور
المهانة، وتصور المذلة، وتصور المسخ الشعوري الذي يصيب الفطرة البشرية، فيهوي بها
إلى ذلك الدرك السحيق من الهوان!
ولن نستطيع التغلب على هذا الاستعمار، إلا
إذا حطمناه في مشاعرنا، وحطمنا معه الأجهزة التي تستحق إيماننا بأنفسنا، هذه
الأجهزة الممثلة في وزارة المعارف ومعاهد التربية، والأفلام الخائنة الممسوخة التي
سبحت يوما وما تزال تسبح بحمد فرنسا أو إنجلترا أو أمريكا.
وأنا لا أطمع في الجيل الذي شاخ أن يصنع شيئًا.
هذا الجيل قد انتهى. جيل منخوب مهمًا بدا كالطود الشامخ، جيل مزيف لأنه لا يؤمن بنفسه، ولا يأنف من
تقبيل الأرجل التي تركل قومه ووطنه وإنسانيته أيضا!
جيل لا بأس أن تكرمه فرنسا، وأن تكرمه
إنجلترا، وأن تكرمه أمريكا؛ لأنه يعمل لحسابها ويؤدي لها خدمات، لا يؤديها جيش
مسلح كامل.
كلا! لست أطمع في هذا الجيل الذي شاخ. إنما
أنا أطمح في جيل الشباب المتحرر، الذي يحترم رجولته، ويحترم قوميته، ويحترم
إنسانيته..
أطمع في جيل الشباب أن يخرس كل صوت يرتفع في
مدرسة أو معهد أو كلية بتمجيد الرجل الأبيض، الذي خان أمانة الإنسانية.
أطمع في جيل الشباب أن يحطم كل قلم ينغمس في
مداد الذل والعار، ليمجدوا الرجل الأبيض الذي يدوس أعناقنا بحذائه!
أطمع في جيل الشباب أن يحتقر كل رجل يصادق
الرجل الأبيض، طائعا مختارا، بدون ضرورة ملجئة تحتمها الأوضاع الدبلوماسية!
ويوم ننقض الاستعمار على هذا النحو من
أرواحنا وعقولنا، يوم تغلي دماؤنا بالحقد المقدس على كل ما هو أوربي أو أمريكي..
يوم نسحق تحت أقدامنا كل من يربطنا بعجلة
الاستعمار..
عندئذ فقط سننال استقلالنا كاملا؛ لأننا نلنا
الاستقلال من داخلنا: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}. {ولن تجد
لسنة الله تبديلا}...).
سيد قطب ومحاكمات الإخوان:
لقد كان سيد قطب في كل ما كان يدعو إليه قبل
الثورة وبعد الثورة يختلف في دعوته ورؤيته للواقع وكيفية تغييره عن جماعة
"الإخوان المسلمون"، هذا الخلاف الذي تجلى بينهما أوضح ما يكون في كتابه
"معالم على الطريق"، وفي رد المرشد الهضيبي عليه ضمنيا في كتابه
"دعاة لا قضاة"!
ومع انشقاق الجماعة بعد ذلك إلى فريقين: من
وقف مع الدولة، وشارك في الحكومة، كالشيخ الباقوري، ومحمد الغزالي، ومن وقف ضدها
بقيادة الهضيبي؛ إلا أن كلا الفريقين وقف ضد سيد ورؤيته للتغيير!
وقد كان الشيخ محمد الغزالي مكلفا من قبل
نظام جمال عبدالناصر بمراجعة تفسير سيد "في ظلال القرآن" الذي كان قد أكمل
نشره في السجن بعد أربع سنين من اعتقاله، وذلك سنة ١٩٥٨م، كما ذكر الخالدي في
كتابه عن سيد -ص ٥٤٦- حيث يقول: (وقد عينت الحكومة الشيخ محمد الغزالي رقيبا
دينيا على الظلال يطلع على أصوله قبل صدورها من المطبعة) وقد حذف الغزالي منه
بعض ما كتبه سيد من شرح لسورة البروج، وهو الذي نشره سيد لاحقا في فصل "هذا
هو الطريق" في كتابه "معالم على الطريق"!
فلم يكن سيد قطب من جماعة الإخوان لا فكريا
ولا تنظيميا، بل جمعته بهم الثورة سنة ١٩٥٣ إلى سنة ١٩٥٤، وهي مدة لا تتجاوز
السنتين، وإنما جمعه بهم بعد ذلك المحنة في السجن كإخوة في الله، يجاهدون في
سبيله، يربطهم الإسلام والدعوة إليه، لا الجماعة التي حلت ولم يعد لها وجود طوال
فترة السجن، وهو ما دعا مجموعة من الشباب في السجن سنة ١٩٦٢م، إلى تدارس تأسيس
حركة إسلامية جديدة، وقد أرادوا من سيد قيادتهم فاعتذر، واكتفى بإرشادهم ونصيحتهم
لما يرى أنه هو الطريق إلى الله، كما ذكر الخالدي في كتابه عن سيد -ص ٣٨٦ - ٣٩١- حيث
يقول سيد عن نفسه كما ورد في التحقيق معه: (أنا إلى ذلك الوقت -١٩٦٢م- في محيط
الإخوان المسلمين مجرد أخ مسلم)!
مما يؤكد بأن عمله معهم سنة ١٩٥٣ وإشرافه على
مجلتهم كان فقط تعاونا بين كاتب إسلامي وجماعة دعوية في نشاط فكري وثقافي يخدم
الجماعة والمجتمع والدولة والثورة، ولم يكن عضوا فيها!
وقد بدأ الشباب في السجن -وكثير منهم لم يكن
أصلا من الإخوان- يتبنون رؤى سيد الفكرية، مما اضطر شيوخ الإخوان في السجن إلى
التحذير منه، بدعوى أن خطه يعارض خط جماعتهم، وبدأت بينهم محاكمة فكر سيد، وقد نفى
سيد عن نفسه كل ما أشيع عنه من افتراءات واتهامات في السجن بأنه يكفر المسلمين!
وكما حاكم العسكر سيد قطب على رأيه السياسي، وحكموا
عليه بالإعدام الحسي، حاكم الإخوان سيد على رأيه الفكري والديني وحكموا عليه بالإعدام
المعنوي، وأصبحت "القطبية" محاربة في سجون الطغاة، ومحاصرة في مراكز الدعاة،
وعادت محاكم التفتيش من جديد، ليتحالف الفريقان العسكر والإخوان بعد مجيء السادات برعاية
الأمريكان، منذ سنة ١٩٧٠ حتى سقوط مبارك ٢٠١١م، كان الإخوان فيها يشاركون الأنظمة العربية
الوظيفية مهمة صناعة الوسطية المطلوبة أمريكا، وفتحت لهم الجمعيات والمنابر، ولكل من
يدعو إلى الثورة والجهاد المشانق والمعابر، وستتكرر الظاهرة على نحو غير مسبوق في تاريخ
الأمة، وسيتحالف الشيخ حسن الترابي في السودان مع النميري ثم البشير، ويتحالف الإخوان
والزنداني مع نظام علي صالح العسكري، ويتحالف بعده النحناح في الجزائر مع العسكر وخالد
نزار، وكذا تكرر المشهد في كل الدول العربية التي كانت تخضع في الحرب الباردة للمعسكر
الأمريكي الأوربي الرأسمالي، وستظل الثورة والجهاد محرمة مجرمة من الطرفين: الأنظمة
والجماعة، إلا في دول العالم العربي والإسلامي التي تخضع لنفوذ المعسكر السوفيتي الاشتراكي،
حيث ستوظف الثورة والجهاد لإسقاط أنظمتها بدعم أمريكي أوربي، وهو ما تجلى في أوضح صوره
في حرب أفغانستان الأولى والجهاد ضد روسيا، حيث وقف الإخوان والجماعات الإسلامية مع
الجهاد، حتى إذا خرجت روسيا من أفغانستان سنة ١٩٩٠م، وجاءت أمريكا لاحتلالها سنة
٢٠٠١م، فإذا أكثر الجماعات الإسلامية تنحاز إلى أمريكا، وتتحالف معها، أو تلتزم الحياد
وتنأى بنفسها، وتتخلى عن الجهاد دفاعا عن أفغانستان ونصرة أهلها، وبقي الشعب الأفغاني
وحده يواجه بقيادة طالبان جيوش الأمريكان!
ولم تتوقف محاكمة الجماعة وشيوخها لفكر سيد
وكتبه، حتى بعد إعدامه، وبعد وفاة عبدالناصر؛ لتؤكد عدم اتفاقها مع سيد فيما قرره
من رؤى لا تعبر عن "الإخوان المسلمون"، وهي حقيقة تاريخية ما يزال
الواقع يؤكدها!
هذه المحاكمة الفكرية التي بلغت ذروتها في
كتابات الشيخ القرضاوي كما في مقاله (كلمة أخيرة حول سيد قطب): حيث يقول عن من
تبنوا فكر سيد (هذا الفكر الثائر على مفاهيمهم، والرافض علاقاتهم بالآخر،
ورفض الانفتاح والحوار، والمفاصلة الشعورية مع المجتمع، وإعلان الحرب على العالم
كله، حتى المسالمين، والسخرية بدعاة الاجتهاد وتطوير الفقه، وغير ذلك، واتهام
دعاة التسامح والموسعين بالهزيمة النفسية والسذاجة الفكرية... إلخ.
قد ينطبق حكم سيد قطب على بعض الأنظمة
الحاكمة التي تتبنى "التطرف العلماني" الذي يجاهر بالعداوة لشريعة
الإسلام، ويحارب دعاته، ويعمل على تجفيف منابع التدين في الحياة من التعليم
والإعلام والثقافة، وهم الذين تحدثت عنهم في كتابي "التطرف العلماني في مواجهة
الإسلام"، هؤلاء فئة قليلة مبغوضة من الأمة وموالية لأعدائها.
أما تكفير الجماهير من مسلمي اليوم، كما تنطق
بذلك ظواهر نصوص سيد قطب، فلا نوافقه عليها بحال من الأحوال والله يغفر له)!
وقال عنه أيضا مؤكدا الخلاف الجذري بين خط
سيد وخط الإخوان في الرؤية والمنهج والوسيلة، متهما إياه بالتكفير! وهي التهمة
التي نفاها سيد عن نفسه، ونفاها عنه نفيا قطعيا أخوه الشيخ محمد قطب في مقدمة كتاب
سيد "مقومات التصور الإسلامي" -ص ٩- مستدلا على ذلك بعشرات النصوص من
كلام سيد نفسه، ومع ذلك قال عنه الشيخ القرضاوي: (والقضية التي نتحدث عنها -قضية
تكفير مسلمي اليوم- ليست قضية فقهية بعيدة عن اختصاص سيد كما يتصور أو يصور بعض
الإخوة المتحمسين، بل هي قضية فكرية محورية أساسية، أو قل هي: قضية أصولية
اعتقادية، هي ألصق بعلم العقائد والكلام منها بعلم الفقه والفروع؛ ولأنها قضية فكرية
محورية مركزية عند سيد، رأيناه يلح عليها، ويكررها ويؤكدها بأساليبه البيانية
الرائقة والرائعة حتى تتضح كالشمس في رابعة النهار)!
وقال في بيان الاختلاف الجذري بين البنا
وقطب: (ويحلو لبعض الإخوة أن يعقدوا مقارنة بين حسن البنا وسيد قطب محاولين أن
يثبتوا أنهما كانا على خط واحد، ونهج واحد، وأن سيدا لم يتجاوز خط البنا ورحم الله
الرجلين.
وأنا أقول: إن سيدا أشاد بالبنا في كتاباته
القديمة التي جمعها في كتاب (دراسات إسلامية) فكتب عن حسن البنا وعبقرية البناء.
ولكنه لم يتحدث -فيما علمت- عن فكر البنا ومقاصده، ولم ينقل عنه في كتبه كما نقل
عن المودودي والندوي، وإن كان يجمعه بحسن البنا الاتجاه العام لنصرة الإسلام،
والذود عن حماه.
أما المنهج فكان لكل منهما شخصيته وتميزه، من
حيث المنطلق، ومن حيث الغاية، ومن حيث الوسيلة ومن حيث الروح العامة.
فأما المنطلق -وإن كان إسلاميا لكليهما- نجده
مختلفا كثيرا بينهما، فحسن البنا ينطلق من أن الأمة الإسلامية موجودة، وأن المسلمين
موجودون، ولكنهم يحتاجون إلى عمل كبير لتفقيههم بالإسلام، وتربيتهم عليه، بدءا
بالفرد المسلم، فالبيت المسلم، فالشعب المسلم، فالحكومة المسلمة، فالأمة المسلمة.
وسيد قطب ينطلق من أن الأمة المسلمة قد انقطع
وجودها منذ زمن، ولا بد من إعادتها من جديد، وكل الموجودين اليوم من سلالات أقوام
كانوا مسلمين، وأوطانهم كانت من قبل دارا للإسلام، ولم تعد اليوم دارا للإسلام،
وإذا لم يكونوا مسلمين، فعلينا أن ندعوهم إلى اعتناق العقيدة الإسلامية، وأن
يدخلوا في الإسلام من جديد.
حسن البنا يرى أن الإسلام -باعتباره دينا-
قائم وموجود، وأن هناك أمة تؤمن به من المحيط إلى المحيط، وأن الأمة المسلمة من
أشد الأمم في الأرض تمسكا بدينها، وأن الإنسان العاصي أو المفرط من عامة المسلمين
نجد أصل الإيمان مغروسا في أعماقه، ولكنه إيمان نائم أو مخدر، وهو في حاجة إلى
إيقاظ وبعث وتنبيه، وهذه مهمة الدعوة الإسلامية ورجالها.
نجد حسن البنا يقول في رسائله: يا قومنا -وكل
المسلمين قومنا- ندعوكم إلى كذا وكذا.
بخلاف سيد قطب، فهو يرى أن الإسلام قد انقطع
وجوده من الأرض، فلا توجد أمة مسلمة، ولا يوجد مجتمع مسلم، بل لا يوجد أفراد
مسلمون، لا بمعنى أنهم ارتدوا عن الإسلام، بل لأنهم لم يدخلوا أصلا في الإسلام؛
لأن دخول الإسلام لا يتحقق إلا بشهادة أن (لا إله إلا الله)، بما تتضمنه من إفراد
الله تعالى بالحاكمية، وهم لم ينطقوا بالشهادة بهذا المدلول.
وهذا هو المفهوم الذي أنكره العلامة الندوي
على سيد وعلى المودودي من قبله، وسماه (التفسير السياسي للإسلام).
حسن البنا يشعر بوجود الإسلام وأمته، ويتعاطف
معها، ويعيش بهمومها، وسيد قطب لا يحس للإسلام ولا لأمته بوجود من حوله، بل يقول:
قومنا على ملة، ونحن على ملة وهم على دين، ونحن على دين آخر!
غاية حسن البنا: أن يصحح فهم المسلمين
للإسلام الذي يعتنقونه بحيث لا يقتصر على المعنى اللاهوتي أو التعبدي الشعائري، بل
يجب أن يفهموه بشموله وتكامله وتوازنه: عبادة وجهادا، ودينا ودولة، خلقا وقوة،
ثروة وغنى، تربية وتشريعا، وبعد تصحيح الفهم تبدأ عملية تجديد الإيمان وغرس المعاني
الربانية والأخلاقية.
وغاية سيد قطب: أن يعلن رفض هذا المجتمع كله
من حوله، فهو مجتمع جاهلي، لم يدخل بعد في الإسلام المطلوب: والواجب أن ندخل الناس
في الإسلام من جديد، وندعوهم إلى اعتناق عقيدته، كما دعاهم الرسول وأصحابه وأن
نشعرهم بأنهم شيء ونحن شيء وأن نصارحهم بذلك بلا وجل ولا خجل حتى يعرفوا حقيقة
أنفسهم.
وسيلة حسن البنا: هي الدعوة والحوار والتربية
والتغلغل في المجتمع، والعناية به بحل مشاكله وأخذه بالرفق والتدرج والانفتاح على
المخالفين، والتسامح معهم دون تفريط في حقوق الأمة.
وسيلة سيد قطب: هي الدعوة والتربية أيضا مع
غرس الشعور في العصبة المؤمنة القليلة -التي هي المسلمة دون من عداها- بالعزلة
الشعورية من المجتمع، ورفض الانفتاح والتحاور مع الآخر، بل وتجب التعبئة الفكرية
والشعورية ضده، وتقديم سوء الظن بهؤلاء الذين لا يضمرون إلا الشر والعداوة
لمسلمين.
الروح العامة في منهج حسن البنا هي: التسامح
والانفتاح والحكمة والتدرج.
والروح العامة في منهج قطب هي: التشدد
والصرامة وإغلاق الأبواب.
ومن أجمل ما عبر عن اختلاف المنهجين: المفكر
المؤرخ المستشار طارق البشري حين قال: إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن
البنا -رحمهما الله- ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة، إنما يجري وصف
كل فكر وظروف إعماله، وفكر حسن البنا -لمن يطالعه- فكر انتشار وذيوع وارتباط
بالناس عامة وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى، وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة، وفكر
امتناع عن الآخرين.
فكر البنا: يزرع أرضا وينثر حبا، ويسقي شجرا
وينتشر مع الشمس والهواء.
وفكر قطب: يحفر خندقا ويبني قلاعا ممتنعة
عالية الأسوار، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب)!
انتهى كلام الشيخ القرضاوي عن سيد كما يراه
هو وجماعته لا كما تنطق به كتب سيد!
وكشف عن عمق الأزمة التي تعيشها الجماعة على
مستوى الفكر والرؤية والمشروع، وقد عادت الجماعة بعد وفاة جمال عبدالناصر ومجيء
السادات للحكم إلى طبيعتها الإصلاحية الواقعية التي تصل إلى حد البرغماتية، من
خلال تحالفها مع الأنظمة العربية الوظيفية، وترميم علاقتها مع الجاهلية الدولية،
حتى بلغ بها الانحراف أن انحازت في العراق مع المحتل الأمريكي والحملة الصليبية
سنة ٢٠٠٣م!
ومضى سيد قطب ومن معه من الشباب المجاهد إلى
مشانق الإعدام إيمانا بالمبدئية والمثالية، وما زال للحديث بقية مع سيد قطب
والثورة الحسينية!