الواقعيون
ووحي الشيطان
(١٠- ١٠)
"سيد
قطب … والثورة الحسينية"
بقلم أ.د. حاكم
المطيري
٢٥ / ٨/ ١٤٤٢هـ
٧/ ٤/ ٢٠٢١م
يسّر الله لي زيارة الشيخ محمد قطب رحمه الله
في بيته بمكة المكرمة سنة ١٤٣٠- ٢٠٠٩م، ولم يسبق أن زرته أو التقيته فيها مدة
دراستي في مرحلة الماجستير بجامعة أم القرى من ١٩٩١ إلى ١٩٩٥م، مع أنه كان محاضرا
بجوارنا في قسم "العقيدة"، وكنا نرى قاعته تمتلئ بالطلبة المنتظمين
والمستمعين الخارجيين، ونحن في القاعات المجاورة في قسم "الكتاب والسنة"
نستمع لمحاضرات شيخنا عبدالستار فتح الله سعيد في التفسير -عضو مكتب الإرشاد في
جماعة الإخوان المسلمين سابقا- ولشيخنا محمد الخضر الشنقيطي في علوم القرآن،
ولشيخنا عبدالعزيز العثيم في علم العلل، ولشيخنا أحمد محمد نور سيف في علوم
الحديث، ولغيرهم من العلماء الأجلاء.
ومع إعجابي بسمت الشيخ محمد قطب ووقاره
-وكأنما هو مَلك من السماء يمشي على الأرض- لم أجد وقتا آنذاك لزيارته، والتعرف
إليه، والاستماع لمحاضراته، لانشغالي بطلب علم الحديث والتفسير الذي استغرق كل
وقتي وجهدي.
وقد استقبلنا الشيخ محمد في بيته بمكة حين
زرناه بحفاوة كبيرة، مع مرضه، وكبر سنه، وفرح بالزيارة، وأهديته كتابي
"الحرية أو الطوفان"، وكان معي جماعة منهم الشيخ الشهيد محمد المفرح
-الأمين العام لحزب الأمة الإسلامي والناطق الرسمي لمؤتمر الأمة- وحدثته عن ضرورة
بعث مشروع "الأمة الواحدة" و"سنن الخلافة الراشدة"، فسُر بذلك
ودعا لنا بالتوفيق..
وتحدثنا عن سيد قطب، وقلت له فيما أذكر من
الحديث: إن الأمة ستحفظ لكم يا آل قطب هذه المأثرة في الدفاع عن الإسلام، والثبات
عليه، والتضحية من أجله، والاستشهاد في سبيله، فأخذ يرفع من شأن أخيه سيد، ويقلل
من شأن نفسه، ويقول: سيد فيما كتب يحلق ويطير في السماء، بينما أنا أمشي على
الأرض، ولن ألحق به!
وقد كان قليل الحديث، طويل الصمت، على محياه
نور التقوى والصلاح، رحمه الله رحمة واسعة.
لقد ضرب آل قطب رجالا ونساءً (سيد ومحمد
ونفيسة وأمينة وحميدة) أروع المثل في الصبر في المحن، والثبات في الفتن، والتضحية
في سبيل الله، مع كل ما تعرضوا له من سجن وتعذيب واضطهاد، مما يؤكد أنها أرواح
عَلوية، وأنفاس حسينية، إن لم يكن نسبًا ودمًا، فدينًا وهدىً، فقد تمثلت فيهم،
وتكررت بهم ملحمة استشهاد الحسين وآل بيته رضي الله عنهم وما جرى لهم من بلاء في
كربلاء!
وأحيا سيد وأهل بيته هذه السنة الحسينية في
هذا العصر، فكان لسيد من اسمه أوفر نصيب، كما في الحديث الصحيح: (سيد الشهداء
حمزة، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره، فنهاه، فقتله)!
سيد شهيد التوحيد:
لقد كان إعدام سيد قطب رحمه الله بتاريخ ٢٩/
٨/ ١٩٦٦م حدثا فارقا في تاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة، جعلت منه أحد أبرز
أعلامها ودعاتها، وتعد كتبه -خاصة "في ظلال القرآن" و"معالم على
الطريق"- المعين الرئيس للحركات الجهادية والثورية المعاصرة، على اختلاف
ألوان طيفها، وهي أشبه بالروح التي بعثت فيها الحياة بعد أن كادت تموت في أواخر
القرن الرابع عشر الهجري، وأواسط القرن العشرين الميلادي، حيث كان رحمه الله أمة وحده
بعث الله به جيلا كاد يتيه في ظلمات الفلسفات الوضعية الماركسية والليبرالية، فكان
"ظلال القرآن" و"معالم في الطريق" قبسا من نور أضاءت لهم الطريق
من جديد، ويعود السر في ذلك إلى:
١- أنه جعل القرآن والإسلام -حصرا- القضية
المركزية لدعوته، وعقيدته، ولنظرته للوجود، والإنسان، والمجتمع، والدولة، والعالم،
ونبذ من أجلهما، ونابذ كل الأفكار الجاهلية قديمها وحديثها، التي كانت تموج آنذاك
موج البحر في العالم الإسلامي، كأثر من آثار سقوطه تحت نفوذ الحملة الصليبية
العسكرية الغربية الأوربية الأمريكية، والشرقية الروسية، كالقومية، والاشتراكية،
والوجودية، والليبرالية، والديمقراطية، والوطنية..
فقد جعل سيد رحمه الله القرآن والنبي ﷺ قطبي الرحى لدعوته للتغير، فهما عنده مصدر الهداية
الوحيد للإنسانية كلها، كما يقول في الظلال -٤/ ١٨٤١- في سورة هود عن العقيدة
الإسلامية التي تقوم على حقيقة واحدة: (هي الدينونة لله وحده لا شريك له،
والعبودية له وحده بلا منازع، وتلقي ذلك عن رسل الله وحدهم على مدار التاريخ).
فهو مفكر وعالم وداعية مسلم عقائدي إيماني
محض، ولهذا عدّ دخول الفلسفة والمنطق اليوناني في المعرفة الإسلامية أحد أسباب
وقوع الخلل في التصور الإسلامي منذ القديم، ودعا إلى تحرير الوعي الإسلامي من كل
هذا الموروث اليوناني الذي كان له أسوأ الأثر على مستوى العقيدة، فقال -في الظلال
٥/ ٢٦٦١- عن المنطق القرآني الذي يقرر حقائق النفس الفطرية: (التي لا تقبل المراء
الذي يقود إليه المنطق الذهني البارد الذي انتقلت عدواه إلينا من المنطق الإغريقي
وفشا فيما يسمى علم التوحيد أو علم الكلام).
وقال -في ٣/ ١٧٦١-: (والقرآن لا يدخل في جدل
ذهني جاف بصدد قضية الألوهية والربوبية كالذي جد فيما بعد بتأثير المنطق والفلسفة
الإغريقية!
وكذا نعى على بني إسرائيل ما كانوا عليه من
طقوس شكلية فقدت روح الدين والتوحيد وحقيقته كمثل حال دراويش الطرق الصوفية،
واصطنعوا من الرياضة في جماعتهم ما يصطنعه هؤلاء الدراويش من التوسل إلى حالة
الجذب تارة بتعذيب الجسد، وتارة بالاستماع إلى آلات الطرب).
فبعث سيد قطب بذلك الروح من جديد في دعوة
ابن تيمية المركزية بوجوب العودة إلى الكتاب والسنة فقط، من أجل فهم قضية التوحيد
والإسلام والدين بمفهومه الشمولي، ابتداء من العقيدة والعبادة، إلى الحاكمية
التشريعية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، ثم الجهاد في سبيل ذلك، فأصبحت هذه
القضية -بفضل كتب سيد قطب- دعوة وحركة حية تقاوم أمواج الثقافة الغربية الجاهلية
المعاصرة التي طمت العالم الإسلامي في نصف القرن العشرين الميلادي، كأثر من آثار
اجتياح الحملة الصليبية -بشقيها الرأسمالي الأمريكي الأوربي، والشيوعي الروسي-
للعالم الإسلامي عسكريا وسياسيا وثقافيا..
فلا يمكن فهم كتابات سيد قطب عن الجاهلية
المعاصرة وتصوراتها بمعزل عن الواقع الذي كانت تخضع له الأمة وشعوبها تحت الاحتلال
الغربي، وما فرضه عليها من نظم وقيم علمانية مادية إلحادية، تنزع عنه وصف النظام
الإسلامي منذ سقوط الخلافة وتعطيل الحكم بالإسلام، دون أن يقتضي ذلك وصم الأمة
نفسها وشعوبها بالكفر والردة، وهو وصف يكاد يتفق معه في إطلاقه كثير من فقهاء
الإسلام في تعريفهم لدار الإسلام، بأنها الدار التي تكون الشوكة والسيادة والحماية
فيها للمسلمين، والأحكام والتشريعات الظاهرة فيها هي أحكام الإسلام، وبفقد الشوكة
والسيادة والحماية وتعطل الأحكام الشرعية تكون الدار دار كفر عند كثير من الفقهاء
قديما وحديثا -وإن كان الراجح عدم زوال وصف الإسلام عنها ما دام يجب على أهلها
الدفع عنها-ولا يقتضي ذاك عند أولئك الفقهاء كفر أهلها من المسلمين!
فالجاهلية مفاهيم وسلوكيات ونظم تشريعية وسياسية
واجتماعية تتعارض مع القيم والنظم الإسلامية، وقد يعيش المسلمون في حال الاستضعاف
والاغتراب تحت نفوذها، دون أن ينفي ذلك عنهم وصف الإيمان والإسلام، وإن كان واقعهم
جاهليا بحكم طغيان الجاهلية وسلطانها، وغياب حكم الإسلام وسلطانه.
وليس في كتب سيد ما يفهم منه الحكم على
المسلمين بالردة، كما حاول إثباته من حاكموه من شيوخ جماعة الإخوان نفسها لعبارات
موهمة تفيد إطلاق الأحكام كما أطلقها القرآن دون تنزيلها على الأعيان!
ومما جعل لسيد وكتاباته هذه المكانة في الفكر
الجهادي والثوري الإسلامي المعاصر أيضا:
٢- جهاده السياسي والحركي من أجل هذه القضية،
والخصومة مع الواقع بكل تجلياته الجاهلية حتى أفضى به ذلك إلى السجن ثم الإعدام!
فلم يكتف سيد بما اكتفي به علماء عصره
وأدباؤه ودعاته المصلحون من الدعوة للإصلاح بلا مفاصلة مع الواقع، بل تمثل دعاء
النبي ﷺ: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت،
وبك خاصمت، وإليك حاكمت).
فقد أحيا سيد قضية الخصومة مع الطاغوت
وأوليائه، والكفر به، والجهاد بالإسلام للإسلام، وحاكم الواقع له، ولم يقبل
المصالحة معه تحت أي ذريعة، كمفهوم الوطنية الذي حل محل الولاء لله ورسوله
والمؤمنين، فصارت الوطنية دينا جديدا يوجب التحالف مع الطاغوت ونظامه الوطني
والولاء والسمع والطاعة له، وعدم تصور إمكانية مفاصلته، وهو ما نعاه سيد على
الجماعة التي حصرت الجهاد في قتال العدو الخارجي فقط، لا الطاغوت الوطني! بينما
خصومة النبي ﷺ هي مع قومه من أهل مكة نفسها!
حيث يقول سيد عن الجهاد -"في ظلال
القرآن" ٢/ ١٧١٧-: (إن الجهاد في سبيل الله بيعة معقودة بعنق كل مؤمن… كل
مؤمن على الإطلاق منذ كانت الرسل، ومنذ كان دين الله.. إنها السنة الجارية التي لا
تستقيم الحياة بدونها ولا تصلح الحياة بتركه)!
ويقول -في الظلال ٣/ ١٥٠٣-: (الإسلام هو
تلك الحركة المصاحبة للنطق بالشهادتين، هو الانخلاع من المجتمع الجاهلي
وتصوراته وقيمه وقيادته وسلطانه وشرائعه)!
وقد جعل سيد قطب وجود الجماعة المؤمنة
بالإسلام وقيمه المجاهدة في سبيله أساسا وشرطا لتغيير الواقع، ومواجهة التجمع
الجاهلي الذي يناصب الإسلام العداء، وهو سبب الخلاف الرئيس بينه وبين جماعة
"الإخوان المسلمون" وغيرها من الجماعات الإصلاحية التي تتعايش مع النظم
الجاهلية، وتعترف بها، وتتعاون معها، بما في ذلك التعاون مع الاحتلال نفسه للمصلحة
الوطنية!
فللجماعات الدعوة والمساجد، وللأنظمة الحكم
والقضاء والسلطة، وللمحتل النفوذ والسيادة، مهما كان هذا الحكم الوطني جاهليا
طاغوتيا يحارب دعوة الإسلام نفسه، ويعطل شريعته!
فالتعايش بين الفريقين "واقعية
سياسية"، وفريضة شرعية، فهذه هي الدعوة النبوية التي لا يعرفها المثاليون
الحالمون، الذين عاشوا في الماضي وظلوا أسرى له، ولم يعودوا إلى الواقع ليصبحوا
عبيدا فيه!
وهو ما رفضه سيد قطب بفهمه البدهي لحقيقة
الإسلام وغايته، حيث يقول -في الظلال ٣/ ١٥٥٧-: (لم يكن بد أن ينشأ تجمع عضوي حركي
غير التجمع الجاهلي، منفصل ومستقل عن التجمع الحركي الجاهلي الذي يستهدف الإسلام
وإلغاءه، وأن يخلع كل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ولاءه من
التجمع العضوي الحركي الجاهلي الذي جاء منه، ومن قيادة ذلك التجمع في أي صورة
كانت، سواء في صورة قيادة دينية من الكهنة والسدنة والسحرة والعرافين، أو قيادة
سياسية واقتصادية واجتماعية التي كانت لقريش، وأن يحصر ولاءه في التجمع العضوي
الحركي الإسلامي الجديد وقيادته المسلمة... تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة
الدم والنسب، ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية).
وسيد هنا حين يتحدث عن المجتمع الجاهلي
المعاصر فهو يقصد الجاهلية العالمية، والتي غدت تحتل العالم الإسلامي وتفرض نظمها
وتشريعاتها الجاهلية عليه، لإقصاء الإسلام من واقع الحياة، عبر أنظمة حكم وظيفية
تعاديه وترفض حكمه، كما حاولت الملكية ثم الناصرية القومية الاشتراكية آنذاك في
مصر، والبعثية في الشام والعراق وغيرها من أنظمة الحكم الجمهوري والملكي..
وقد تحدث سيد بكل وضوح وتفصيل عن هذه القضية
في ظلال سورة يوسف، وأبان عن منهجه في تفسيره الحركي للقرآن، والحكم به وفق واقع
حركة المجتمع الإسلامي نفسه وتطوره وحاجاته، فليس هناك أحكام فقهية جاهزة يمكن
تطبيقها في واقع جاهلي، بل هناك مجتمع مؤمن إسلامي يوجد أولا، ويقوم على أساس
الإيمان والتسليم المطلق لله ورسوله ﷺ، والاستجابة لحكمه، ثم يستأنف تطبيق الأحكام
القرآنية من جديد حسب حاجته وظروفه واجتهاده، كما بدأ المجتمع الإسلامي في المدينة
النبوية، بعد مفارقة الجاهلية نفسها، إذ لا يتصور في ظل سلطانها أن يقوم حكم الله،
وهو ما أكده في كتبه الأخرى خاصة "معالم على الطريق"، و "العدالة
الاجتماعية"، و"خصائص التصور الإسلامي"..
وهي كافية في فهم فكر سيد ودعوته وقضيته التي
استشهد بسببها، وهي تدور كلها حول توحيد الله في كل خصائص ربوبيته وألوهيته وحكمه
وشرعه، ونبذ عبادة كل ما سواه وحكمه وطاعته، فكان أول شهيد تجري محاكمته وإعدامه
في العصر الحديث بسبب قضية (حاكمية الله وجاهلية النظم المعاصرة)! وهي قضية فكرية
لم يحتملها له النظام الطاغوتي الدولي والمحلي الذي فتح المجال لكل الأفكار
الشيوعية والإلحادية والإباحية في بلدان العالم الإسلامي، حتى نشر في هذه الفترة
منها ما لم ينشر في تاريخ الإسلام كله، ومع ذلك ضاق ذرعا في الدعوة إلى حكم الله،
ولم يحتمل ترْك فكرة سيد قطب الإسلامية، كما ترَك كل هذه الأفكار الجاهلية!
وقد شاء الله أن يلقب سيد قطب لذلك بالشهيد
من كل مكونات الأمة على اختلاف جماعاتها ومذاهبها حتى لا يكاد يذكر إلا بهذا
اللقب!
وتتجلى عبقرية سيد قطب في تفسيره "ظلال
القرآن" في ربطه الفريد من نوعه بين القرآن وآياته وهداياته والواقع
ومشكلاته، ولهذا صدق عليه بأنه واضع أسس هذا النوع الجديد من التفسير الذي اشتهر
بالتفسير الحركي للقرآن، والذي حاز فيه قصب السبق، وصار كل من جاءوا بعده عيال
عليه فيه، حيث يقول -في الظلال ٤/ ٢٠٠٦-: (وهنا تعرض شبهة.. أليس في قول يوسف
-عليه السلام-: {اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم}.. أمران محظوران في النظام
الإسلامي:
أولهما: طلب التولية، وهو محظور بنص قول
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله أو حرص
عليه "... (متفق عليه).
وثانيهما: تزكية النفس، وهي محظورة بقوله
تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم}؟
ولا نريد أن نجيب بأن هذه القواعد إنما تقررت
في النظام الإسلامي الذي تقرر على عهد محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنها
لم تكن مقررة على أيام يوسف -عليه السلام- والمسائل التنظيمية في هذا الدين ليست
موحدة كأصول العقيدة الثابتة في كل رسالة وعلى يد كل رسول..
لا نريد أن نجيب بهذا، وإن كان له وجه، لأننا
نرى أن الأمر في هذه المسألة أبعد أعماقا، وأوسع آفاقا من أن يرتكن إلى هذا الوجه،
وأنه إنما يرتكن إلى اعتبارات أخرى لا بد من إدراكها، لإدراك منهج الاستدلال من
الأصول والنصوص، ولإعطاء أصول الفقه وأحكامه تلك الطبيعة الحركية الأصيلة في
كيانها، والتي خمدت وجمدت في عقول الفقهاء وفي عقلية الفقه كلها في قرون الخمود
والركود!
إن الفقه الإسلامي لم ينشأ في فراغ، كما أنه
لا يعيش ولا يفهم في فراغ!
لقد نشأ الفقه الإسلامي في مجتمع مسلم، ونشأ
من خلال حركة هذا المجتمع في مواجهة حاجات الحياة الإسلامية الواقعية.
كذلك لم يكن الفقه الإسلامي هو الذي أنشأ
المجتمع المسلم، إنما كان المجتمع المسلم بحركته الواقعية لمواجهة حاجات الحياة
الإسلامية هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي..
وهاتان الحقيقتان التاريخيتان الواقعيتان
عظيمتا الدلالة، كما أنهما ضروريتان لفهم طبيعة الفقه الإسلامي، وإدراك الطبيعة
الحركية للأحكام الفقهية الإسلامية.
والذين يأخذون اليوم تلك النصوص والأحكام
المدونة دون إدراك لهاتين الحقيقتين، ودون مراجعة للظروف والملابسات التي نزلت
فيها تلك النصوص ونشأت فيها تلك الأحكام، ودون استحضار لطبيعة الجو والبيئة
والحالة التي كانت تلك النصوص تلبيها وتوجهها، وكانت تلك الأحكام تصاغ فيها
وتحكمها وتعيش فيها..
الذين يفعلون ذلك، ويحاولون تطبيق هذه
الأحكام كأنها نشأت في فراغ، وكأنها اليوم يمكن أن تعيش في فراغ..
هؤلاء ليسوا "فقهاء"! وليس لهم
"فقه" بطبيعة الفقه! وبطبيعة هذا الدين أصلا!
إن "فقه الحركة" يختلف اختلافا
أساسيا عن "فقه الأوراق" مع استمداده أصلا وقيامه على النصوص التي
يقوم عليها ويستمد منها "فقه الأوراق"!
إن فقه الحركة يأخذ في اعتباره
"الواقع" الذي نزلت فيه النصوص، وصيغت فيه الأحكام، ويرى أن ذلك الواقع يؤلف مع النصوص
والأحكام مركبا لا تنفصل عناصره، فإذا انفصلت عناصر هذا المركب فقد طبيعته، واختل
تركيبه!
ومن ثم فليس هنالك حكم فقهي واحد مستقل
بذاته، يعيش في فراغ، لا تتمثل فيه عناصر الموقف والجو والبيئة والملابسات التي
نشأ نشأته الأولى فيها..
إنه لم ينشأ في فراغ ومن ثم لا يستطيع أن
يعيش في فراغ) انتهى!
لقد كان سيد قطب هنا يرد على الجماعات
الإسلامية وشيوخ الأزهر وغيرهم، ويزري بأسلوبهم في الدعوة إلى تطبيق الشريعة
باستبدالها بالقوانين الوضعية، ودعوة الأنظمة الوظيفية -التي فرضتها الحملة
الصليبية- بتطبيق الشريعة وأحكامها، في فراغ سياسي تام، لا وجود فيه للنظام
السياسي العام للإسلام وهي الخلافة والدولة، لتنفصل فيه تلك الأحكام الجزئية عن
الواقع وحاجاته، وعن المجتمع ومشكلاته، وعن السلطة وأساس وجودها هي نفسها وفق
أحكام الإسلام ونظامه العام!
لقد كان "الإخوان المسلمون" كما
غيرهم من الجماعات والعلماء في مصر آنذاك يستجدون الملك فؤاد ثم بعده فاروق للحكم بالشريعة،
وقد بذلوا لهما البيعة، والسمع والطاعة، مع أن المحتل البريطاني هو من ولّاهما
السلطة، واختارهما للحكم، وحمى عرشهما في مصر، وفرض عليهما الحكم بالقوانين
الوضعية وتعطيل الشريعة!
وهو ما حدا سيد قطب إلى تجاهل وجود جماعة
الإخوان أصلا مدة عشرين سنة، منذ بواكير كتاباته سنة ١٩٣٢م، حتى غدا كاتبا مرموقا
منذ ١٩٤٢م، حين فارق الوفد بلا رجعة بسبب ارتباط الوفد بالمحتل البريطاني، إلى أن
جاءت الثورة سنة ١٩٥٢م، فلم يذكر الجماعة قط وكأنه لا وجود لها في الواقع السياسي
-اللهم إلا في مقاله سنة ١٩٥١م عن وجوب القصاص ممن قتل الإمام حسن البنا وغياب
العدالة في محاكمة المتهمين بقتله- مع كثرة مقالاته السياسية والاجتماعية وتعرضه
لكل تفاصيل الشأن العام المصري!
لقد نعى سيد على الجميع تصورهم أن تطبيق
الشريعة هو أخذ آراء الفقهاء وما قررته كتب الفقه، أو أخذ نصوص الشارع نفسه،
وإحلالها محل القوانين الوضعية على طريقة الفك والتركيب، دون أن يكون الواقع نفسه
هو الذي يفرض هذا التغيير، وفق حركة الإسلام نفسه وجهاد أهله لتغيير الواقع
الجاهلي، وقبل أن تقوم الدولة التي تؤمن بالإسلام وبوجوب الحكم به جملة وتفصيلا،
لتواجه مشكلات واقعها بهداياته، في مجتمع استجاب لله ورسوله وحكمه، وانفعل وتفاعل
مع هذه الاستجابة جهادا وحركة وتضحية، ولا يتصور ذلك في مجتمع خامد هامد خاضع
للمحتل الأجنبي لا يرفع بدينه رأسا، ولا يبدي لاستعادة سيادته وحريته قوة وبأسا!
إعدام سيد وعودة عقيدة الإرجاء:
وقد أدرك الشيخ يوسف القرضاوي كلام سيد هذا
وما يرمي إليه، وينتهي به، وأنه يهدم منهج الجماعة كله، وطريقتها من أساسها في
التوسل والاستجداء إلى الدول والحكومات الوظيفية بأن تحكم بالشرع وتطبق أحكامه في
ظل فراغ تام لا وجود فيه للنظام العام الذي تعبر عنه تلك الأحكام!
فقال القرضاوي في مقاله "كلمة أخيرة حول
سيد" وهو يعدد المآخذ على منهجه؛ (ومن ذلك: أنه رأى التركيز على وجوب الدعوة
إلى اعتناق هذه العقيدة، لا على عرض التشريع، أو النظام الإسلامي السياسي، أو
الاقتصادي، أو الاجتماعي، فإنما يتأتى ذلك [عند سيد] بعد وجود الجماعة المسلمة.
ومن ذلك السخرية بدعوى إحياء الفقه الإسلامي
وتطويره وفق حاجات العصر، وتجديد الاجتهاد، ونحو ذلك، مع غيبة المجتمع المسلم، بل مع
انقطاع الوجود الإسلامي منذ زمن بعيد)!
وقال عنه في مذكراته -٣/ ٢٣- تحت عنوان
"مرحلة الثورة الإسلامية" (وهذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب،
يمكن أن نسميها "مرحلة الثورة الإسلامية" الثورة على كل الحكومات
الإسلامية، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل "المجتمعات
الإسلامية" أو التي تدعي أنها إسلامية، فالحقيقة في نظر سيد قطب أن كل
المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية.
تكون هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله
وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة؛ لأنهم أسقطوا حاكمية
الله تعالى ورضوا بغيره حكما، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم
أرضية، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية
والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية، ومن خارج
مجتمعات الإسلام..
فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين
الإسلام؟!
بل الواقع عنده أنهم لم يدخلوا الإسلام قط
حتى يحكم عليهم بالردة، إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين: أشهد أن لا إله
إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهم لم يفهموا معنى هذه الشهادة، لم يفهموا أن لا
إله إلا الله منهج حياة للمسلم، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة، ممن
يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة.
أقول: تكون هذا الفكر الثوري الرافض، داخل
السجن، خصوصا بعد أن أعلنت مصر وزعيمها عبدالناصر، عن ضرورة التحول الاشتراكي،
وحتمية الحل الاشتراكي، وصدر الميثاق الذي سماه بعضهم “قرآن الثورة”!
وبعد الاقتراب المصري السوفيتي، ومصالحة الشيوعيين،
ووثوبهم على أجهزة الإعلام والثقافة والأدب والفكر، ومحاولتهم تغيير وجه مصر
الإسلامي التاريخي.
هنالك رأى سيد قطب أن الكفر قد كشف اللثام عن
نفسه، وأنه لم يعد في حاجة إلى أن يخفيه بأغطية وشعارات لإسكات الجماهير، وتضليل
العوام.
هنالك رأى أن يخوض المعركة وحده، راكبا أو
راجلا، حاملا سيفه، ولا سيف له غير القلم؛ لقتال خصومه، وما أكثرهم.
سيقاتل الملاحدة الجاحدين، ويقاتل المشركين
الوثنيين، ويقاتل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويقاتل المسلمين أيضا، الذين
اغتالتهم الجاهلية، فعاشوا مسلمين بلا إسلام) انتهى كلام القرضاوي!
وهنا يحاول الشيخ القرضاوي يحصر الخصومة بين
سيد والمعسكر الشيوعي والناصرية الاشتراكية، لا مع الجاهلية كلها بما فيها
الرأسمالية والمعسكر الأمريكي!
وكل ما ذكر القرضاوي هنا تقوّل على سيد لا
أساس له من كلامه لا في "المعالم" ولا في "الظلال"!
بل هو أشبه بالأوهام والخيال!
ثم إن هذه الآراء بثها سيد في مقالاته وكتبه
وفي تفسيره قبل المحنة والسجن!
ولم يدع سيد قط إلى قتال أهل الكتاب
والمشركين والناس أجمعين وقتلهم، كما يدعي الشيخ القرضاوي، بل سيد أعلم وأعقل من
أن يقول ذلك! وكتبه صريحة في نفي هذا الادعاء عليه، فهو يرى وجوب قتال العدو الذي
يقاتل الإسلام وأهله، ويصد عن سبيل الله ودينه، كما هو نص القرآن، بينما جاءت
أحكام المعاهدة والمسالمة مع المسالمين في آيات كثيرة، وأفاض سيد في شرحها، دون أن
تحول المسالمة عنده عن بلوغ هذا الدين غايته، وظهور كلمته على الدين كله، كلما
استطاع المسلمون ذلك بلا قتال، إلا مع من يحول دون هذا البلاغ القرآني، ويمنع هذا
الظهور الإسلامي، ويرفض هذه السيادة السماوية على النظم الجاهلية!
ومن ذلك قوله في ظلال سورة التوبة -٣/ ١٥٧٩- حيث
نقل قول ابن القيم مطولا من "زاد المعاد" عن هديه ﷺ في القتال والجهاد، وفي آخره قال ابن القيم:
(فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد،
وأهل ذمة..
ثم آلت حالة أهل العهد والصلح إلى الإسلام،
فصاروا معه قسمين:
محاربين. وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون
منه..
فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام:
مسلم مؤمن به. ومسالم له آمن. وخائف محارب).
ثم قال سيد بعده مباشرة -ذاكرا سمات المنهج
الحركي للإسلام من خلال مراحل الجهاد في الخطاب القرآني وفي هذه السورة كما اختصره
ابن القيم-: (ومن هذا التلخيص الجيد [لابن القيم] لمراحل الجهاد في الإسلام تتجلى
سمات أصيلة وعميقة في المنهج الحركي لهذا الدين، جديرة بالوقوف أمامها طويلا،
ولكننا في هذه الظلال لا نملك إلا أن نشير إليها إشارات مجملة..
والسمة الرابعة: هي ذلك الضبط التشريعي
للعلاقات بين المجتمع المسلم، وسائر المجتمعات الأخرى -على النحو الملحوظ في
ذلك التلخيص الجيد الذي نقلناه عن "زاد المعاد"- وقيام ذلك الضبط على
أساس أن الإسلام لله هو الأصل العالمي الذي على البشرية كلها أن تفيء إليه، أو
أن تسالمه بجملتها فلا تقف لدعوته بأي حائل من نظام سياسي، أو قوة مادية، وأن تخلي
بينه وبين كل فرد، يختاره أو لا يختاره بمطلق إرادته، ولكن لا يقاومه ولا يحاربه،
فإن فعل ذلك أحد، كان على الإسلام أن يقاتله حتى يقتله، أو يعلن استسلامه)!
ثم يقول بعد ذلك: (فإذا كان المسلمون
اليوم لا يملكون بواقعهم تحقيق هذه الأحكام، فهم -اللحظة ومؤقتا- غير مكلفين
بتحقيقها، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولهم في الأحكام المرحلية سعة
يتدرجون معها حتى ينتهوا إلى تنفيذ هذه الأحكام الأخيرة عندما يكونون في الحال
التي يستطيعون معها تنفيذها..
ولكن عليهم ألا يلووا أعناق النصوص النهائية
لتوافق أحكام النصوص المرحلية!
وعليهم ألا يحملوا ضعفهم الحاضر على دين الله
القوي المتين.
وعليهم أن يتقوا الله في مسخ هذا الدين
وإصابته بالهزال بحجة أنه دين السلم والسلام!
إنه دين السلم والسلام فعلا، ولكن على أساس
إنقاذ البشرية كلها من عبادة غير الله، وإدخال البشرية كافة في السلم كافة).
فهذا رأي سيد بكل وضوح يوافق تماما الموافقة
ما قرره ابن القيم بعد أن نقل كلامه من "زاد المعاد"، والموافق أيضا لقول
عامة الفقهاء الذين يرون بأن آيات السيف نسخت آيات الموادعة!
وهو خلاف ما يقرره فقه الهزيمة المعاصر الذي
يرى بأن السلم مع الجاهلية، والتعاون مع الطاغوت الدولي هو الأصل، وأن القتال
مشروع فقط للدفاع عن النفس! وهو الحق الذي تقرره لهم الأمم المتحدة ومجلس الأمن!
وتحظر عليهم الحرب الهجومية، التي لا يحق أن يشنها إلا أمريكا وروسيا وأوربا
الصليبية!
ويقول سيد -في ٣/ ١٥٩٧- في ظلال السورة نفسها:
(وأخيرا فإنه مع هذه الحرب المعلنة على المشركين كافة بعد انسلاخ الأشهر الأربعة
يظل الإسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك، فهو لا يعلنها حرب إبادة على كل
مشرك كما قلنا، إنما يعلنها حملة هداية كلما أمكن ذلك، فالمشركون الأفراد،
الذين لا يجمعهم تجمع جاهلي يتعرض للإسلام ويتصدى له، يكفل لهم الإسلام في دار
الإسلام الأمن، ويأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يجيرهم حتى يسمعوا
كلام الله، ويتم تبليغهم فحوى هذه الدعوة، ثم أن يحرسهم حتى يبلغوا مأمنهم.. هذا
كله وهم مشركون!
{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع
كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}..
إن هذا يعني أن الإسلام حريص على كل قلب بشري
أن يهتدي وأن يثوب، وأن المشركين الذين يطلبون الجوار والأمان في دار الإسلام يجب
أن يعطوا الجوار والأمان؛ ذلك أنه في هذه الحالة أمن حربهم وتجمعهم وتألبهم عليه،
فلا ضير إذن من إعطائهم فرصة سماع القرآن ومعرفة هذا الدين؛ لعل قلوبهم أن تتفتح
وتتلقى وتستجيب..
وحتى إذا لم تستجب فقد أوجب الله لهم على أهل
دار الإسلام أن يحرسوهم بعد إخراجهم حتى يصلوا إلى بلد يأمنون فيه على أنفسهم!
ولقد كانت قمة عالية تلك الإجارة والأمان لهم
في دار الإسلام...
هذه الحراسة للمشرك، عدو الإسلام والمسلمين
ممن آذى المسلمين وفتنهم وعاداهم هذه السنين.. هذه الحراسة له حتى يبلغ مأمنه خارج
حدود دار الإسلام!
إنه منهج الهداية لا منهج الإبادة، حتى وهو
يتصدى لتأمين قاعدة الإسلام للإسلام..
والذين يتحدثون عن الجهاد في الإسلام فيصمونه
بأنه كان لإكراه الأفراد على الاعتقاد! والذين يهولهم هذا الاتهام ممن يقفون
بالدين موقف الدفاع، فيروحون يدفعون هذه التهمة بأن الإسلام لا يقاتل إلا دفاعا
عن أهله في حدوده الإقليمية! هؤلاء وهؤلاء في حاجة إلى أن يتطلعوا إلى تلك
القمة العالية التي يمثلها هذا التوجيه الكريم:
{وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع
كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون}..
إن هذا الدين إعلام لمن لا يعلمون، وإجارة
لمن يستجيرون، حتى من أعدائه الذين شهروا عليه السيف وحاربوه
وعاندوه.. ولكنه إنما يجاهد بالسيف ليحطم القوى المادية التي تحول بين الأفراد
وسماع كلام الله، وتحول بينهم وبين العلم بما أنزل الله، فتحول بينهم وبين
الهدى، كما تحول بينهم وبين التحرر من عبادة العبيد، وتلجئهم إلى عبادة غير الله..
ومتى حطم هذه القوى، وأزال هذه العقبات، فالأفراد على عقيدتهم آمنون في كنفه،
يعلمهم ولا يرهبهم، ويجيرهم ولا يقتلهم، ثم يحرسهم ويكفلهم حتى يبلغوا مأمنهم..
هذا كله وهم يرفضون منهج الله!
وفي الأرض اليوم أنظمة ومناهج وأوضاع من صنع
العبيد، لا يأمن فيها من يخالفها من البشر على نفسه، ولا على ماله، ولا على عرضه،
ولا على حرمة واحدة من حرمات الإنسان! ثم يقف ناس يرون هذا في واقع البشر وهم
يتمتمون ويجمجمون لدفع الاتهام الكاذب عن منهج الله بتشويه هذا المنهج وإحالته إلى
محاولة هازلة قوامها الكلام في وجه السيف والمدفع في هذا الزمان وفي كل زمان!).
فهذا رأي سيد واضح جلي ليس فيه حرب على كل
أحد، ولا قتل لكل أحدا!
ويكمل القرضاوي نقده لمنهج قطب في مذكراته
فيقول: (وأنا برغم إعجابي بذكاء سيد قطب ونبوغه وتفوقه، وبرغم حبي وتقديري
الكبيرين له، وبرغم إيماني بإخلاصه وتجرده فيما وصل إليه من فكر، نتيجة اجتهاد
وإعمال فكر؛ أخالفه في جملة توجهاته الفكرية الجديدة، التي خالف فيها سيد قطب
الجديد سيد قطب القديم.. وعارض فيها سيد قطب الثائر الرافض لسيد قطب الداعية
المسالم، أو سيد قطب صاحب “العدالة" سيد قطب صاحب "المعالم".
وأخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه
المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة التكفير والتوسع فيه، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع
كثيرة ومتفرقة من "الظلال" ومما أفرغه في كتابه معالم في
"الطريق" أن المجتمعات كلها قد أصبحت جاهلية. وهو لا يقصد بالجاهلية
جاهلية العمل والسلوك فقط، بل "جاهلية العقيدة" إنها الشرك والكفر
بالله، حيث لم ترض بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندهم
الأنظمة والقوانين، والقيم والموازين، والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة
الله، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا، ليس الناس في حاجة إلى أن نعرض عليهم
نظام الإسلام الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو القانوني، ونحو ذلك؛ لأن
هذه الأنظمة إنما ينتفع بها المؤمنون بها، وبأنها من عند الله، أما من لا يؤمن
بها، فيجب أن نعرض عليه "العقيدة أولا" حتى يؤمن بالله ربا، وبالإسلام
دينا، وبمحمد رسولا، وبالشريعة حاكمة.
وهذا ما أشار إليه في كتابه
"المعالم" وفصله في كتاب "الإسلام ومشكلات الحضارة".
وشبه مجتمعاتنا اليوم بمجتمع مكة في عهد
الرسالة، وأن الرسول لم يعرض عليه النظام والتشريع، بل عرض عليه العقيدة والتوحيد.
كما رأى عليه رحمة الله أن لا معنى لما
يحاوله المحاولون من علماء العصر لما سموه "تطوير" الفقه الإسلامي أو "تجديده"
أو "إحياء الاجتهاد فيه" إذ لا فائدة من ذلك كله ما دام المجتمع المسلم
غائبا، يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولا، ثم نجتهد له في كل مشكلاته في ضوء واقعنا
الإسلامي.
وقد ناقشت أفكاره عن الاجتهاد وعدم حاجتنا
إليه قبل أن يقوم المجتمع الإسلامي، في كتابي "الاجتهاد في الشريعة
الإسلامية"، وبينت بالأدلة خطأ فكرته هذه، وكما ناقشت الشهيد سيد قطب في رأيه
حول قضية "الاجتهاد" ناقشته في رأيه في "الجهاد" وقد تبنى
أضيق الآراء وأشدها في الفقه الإسلامي، مخالفا اتجاه كبار الفقهاء والدعاة
المعاصرين، داعيا إلى أن على المسلمين أن يعدوا أنفسهم لقتال العالم كله، حتى
يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)!
انتهى كلام الشيخ القرضاوي ونقده لتوجه سيد
قطب الجديد الذي تجلى في كتابه "معالم على الطريق" و "في ظلال
القرآن" في نسخته الأخيرة، وهذا النقد غير الموضوعي -والذي قوّل سيد ما لم
يقل- يعبر عن تاريخ عودة "فكر الإرجاء" المعاصر من جديد بأوضح صوره في
خطاب "الحركة الإسلامية" في النصف الثاني من القرن العشرين، وذلك بنفي
حكم الردة عن الأنظمة والدول التي تتحول إلى الشيوعية والإلحاد، أو إلى العلمانية
والليبرالية الرأسمالية، وعدم الحاجة إلى البدء معها بالدعوة إلى العقيدة أو البدء
بالإيمان بالله ورسوله وكتابه وحكمه!
وقد راج هذا الخطاب الإرجائي المعاصر الذي
دعا إليه الشيخ القرضاوي، وقبله الشيخ الغزالي، كما ذكر د. محمد عمارة في مقاله
"نقد الغزالي لسيد قطب" وجاء فيه: (كان الإسلاميون هم الأسبق إلى نقد
مفاهيم "الحاكمية" و"الجاهلية" التي تبناها سيد قطب في كتابه
"معالم في الطريق".
ومن الذين انتقدوا هذه المفاهيم؛ الشيخ محمد
الغزالي الذي قال في "محاوراته": "إنني لم أسمع بفكرة الحاكمية إلا
بعد موت حسن البنا الذي كان في فكره أشبه بعلماء الأزهر عندما يصورون فكرة
الحاكمية يتكلمون بعقل وبدقة منطقية، وأكاد أقول إن الإسلام الذي يدرس في
الأزهر من أدق المدارس لتصوير الإسلام، فالحاكمية كلمة دخيلة، فإذا كان لا حكم
إلا لله، فهي كلمة حق أريد بها باطل، وكون الإنسان يشّرع، فهذا في الفروع التي
جاءت وفي شرح القواعد، ومن حق الإنسان أن يشّرع دستورا.
القاعدة عندي هي الشورى {وأمرهم شورى بينهم}،
لكن كيف أنظم هذه القاعدة؟ أقول: الحكم لله، وأنا أضع القاعدة، أقول: إن الأمة
مصدر السلطات، والحاكم عليه أن يجري انتخابات، هذه تشريعات العقل البشري فيها
أساسي، تعتمد على القاعدة، وهي حكم الله، وهي الشورى، والفروع متروكة للقياس
والاستصلاح والاستحسان.
فالمدرسة الأصولية الإسلامية التي تهتم بأصول
الفقه، كما شرحها علماء الأصول، بدءا من الإمام الشافعي، وحتى ما كتبه الشاطبي في
كتابه "الموافقات" هؤلاء كتبوا ووسعوا.
إنما المودودي، عندما تكلم عن الحاكمية، كان
يريد أن يقول للإنجليز في بلاده: ليس لكم صلة بالحكم، الحكم لله، أي للإسلام، فجاء بعض الناس ونقل هذا إلينا دون أن يعرف
الملابسات التي أحاطت بالكلمة هناك.
أما عندي: الإسلام دين الدولة، إذن أرجع إلى نصوصه وإلى تطبيقات النبي صلى
الله عليه وسلم وإلى فقه رجاله، فالأصول الفقهية عندنا ثروة أصلية، ويجب أن يؤخذ
الفقه من علمائه ومن أئمته، وأنا لا أستطيع أن أقول أن الإمام أبا حنيفة يمثله
إمام مسجد في "العتبة الخضراء" يقول أنا حنفي لأنه قرأ كتابا في الفقه
الحنفي!.
لقد قالها من قبلك أناس أرادوا بها اعتراض
الخليفة الراشد علي بن أبي طالب في أنه قبل تحكيم الناس في بعض الأمور، ولقد أباح
الله في خلاف الزوجين أن نجيء بحاكم من هنا حاكم من هنا، فما المانع أن يكون هناك
حكمان، يبدي هذا الرأي وهذا الرأي الآخر، والحاكمية لله)!
لقد كان الغزالي رحمه الله بهذا النقد الساذج
لسيد قطب، والتفسير السطحي لمراد المودودي، والتمجيد الطفولي للأزهر وتصوراته عن
الحكم بالإسلام أشبه بالعامي منه بالعالم الفقيه!
فلم يقصد سيد في قضية الحاكمية نفي أن يجتهد
الناس في تشريع الأحكام فيما لا نص فيه -كما سبق نقله من صريح كلامه في الأجزاء
السابقة من هذه المقالات- ولم يكن سيد يرى ما كان يراه الخوارج الذين لا يرون
الإمارة ولا السمع ولا الطاعة، بل كان يرى الخلافة عبر عصورها نظام حكم إسلامي
مهما وقع فيه من جور وقصور، فقد صرّح بأن الأمة ظلت تحت حكم الإسلام حتى سقوط
الخلافة، وإقصاء حكم الشريعة!
وإنما كان سيد يتحدث عن الجاهلية الصليبية
والوثنية العالمية المعاصرة التي خضع العالم الإسلامي لها سياسيا واقتصاديا
وثقافيا وفكريا، بدوله الوظيفية، وأن المعركة معها تبدأ بالأصول والعقائد وأولها
أصل توحيد الله بالإيمان به وإسلام الوجه إليه والرضا بحكمه واتباع رسوله!
كما لم يخطر ببال المودودي وهو يقرر مبدأ
الحاكمية لله سياسيا -بقطع النظر عن صحة رأيه- الرد على الإنجليز الذين يحكمون
الهند!
وإنما كان يخاطب المسلمين ويفسر كيف تراجع
الدين والإسلام في واقع حياتهم بعد خفاء حقيقة الدين بينهم، ودروس حقائقه، وخفاء
معنى العبادة والحاكمية لله!
كما إن تصور الأزهر وشيوخه حول استئناف الحكم
بالإسلام من جديد وتطبيقه في واقع الحياة -والذي يعده الغزالي نموذجا بل أدق صورة
لفهم الإسلام وأحكامه كما يقول- هو الذي رشح الغزالي لدى نظام جمال عبدالناصر
ليكون الرقيب على كتب سيد قطب وهو في السجن؛ ولهذا حذف منها الغزالي ما كتبه سيد
في ظلال سورة البروج!
لقد كان شيوخ الجماعة سواء من خرجوا منها أو
من بقوا فيها هم الذين وأدوا فكر سيد قطب الثوري، بعد تحالفهم مع النظام العربي
الوظيفي في ظل تنامي النفوذ الأمريكي، خاصة بعد مجيء السادات سنة ١٩٧٠م!
لقد كانت تلك الانتقادات لسيد -التي وصلت حد الافتراء
عليه واتهامه بتكفير المسلمين والحكومات الإسلامية- إرهاصات مرحلة "كامب
ديفيد"! وهي تعبر عن تماهٍ من الخطاب الحركي "الوسطي" مع
"الإسلام الأمريكي"، وما يقتضيه ذلك من البراءة من فكر سيد والتحذير
منه، فهناك تحالف جديد سيتشكل بعد وفاة عبدالناصر ومجيء السادات سنة ١٩٧٠م بين
الحركة الإسلامية والأنظمة العربية الوظيفية برعاية أمريكا، وسيصبح السادات سنة
١٩٧٥م "الرئيس المؤمن"، وسيدعو إلى تطبيق الشريعة، وسيدعم الجهاد في
أفغانستان، وسيوقع أيضا اتفاقية الصلح مع إسرائيل!
وسيصبح الملك الحسن الثاني في المغرب
"أمير المؤمنين" رئيس لجنة القدس سنة ١٩٧٥م بقرار من المؤتمر الإسلامي!
كما سيُعقد في مكة المؤتمر الإسلامي سنة ١٩٨١م
وسيقوم فهد بن عبدالعزيز بالإعلان عن مشروع "الصحوة الإسلامية" بحضور
الرؤساء العرب والمسلمين! وسيتلقب بعدها بخادم "الحرمين الشريفين"،
وسيقوم الرئيس جعفر نميري سنة ١٩٨٥م في السودان بالإعلان عن تطبيق الشريعة!
وكل ذلك يحتاج إلى التحالف بين الأنظمة
العربية والحركة الإسلامية، وإلى خطاب إسلامي "وسطي" جديد ستفتح له
المنابر الإعلامية، والإذاعات، والصحف، والقنوات الرسمية، والجامعات، لحشد
الطاقات؛ ليجوب بعدها دعاة الإسلام دول العالم الغربي كله من كندا شمالا إلى أقصى
أمريكا جنوبا ومن السويد إلى أسبانيا للدعوة للجهاد في سبيل الله في أفغانستان!
لقد بدأ العهد الأمريكي الإسلامي في الشرق
الأوسط، واستأنف الغرب توظيف الإسلام في معركته الأخيرة مع الاتحاد السوفيتي
والشيوعية، بعد أن وظفه في معركته الأولى لإسقاط الخلافة العثمانية في الحرب
العالمية الأولى واحتلال القدس والمدينة المنورة!
ثم وظفه مرة ثانية في مواجهة النازية
الألمانية والفاشية الإيطالية في الحرب العالمية الثانية!
ثم هذه هي المعركة الثالثة التي يوظف الغرب
الإسلام وشعوبه لمواجهة الاتحاد السوفيتي والشيوعية وخوض المعركة معه والتي ستمتد
من ١٩٧٥م إلى سقوط الاتحاد السوفيتي ١٩٩٠م!
والتي اعترف الأمير بندر بن سلطان في مذكراته
"الأمير" أنهم استطاعوا حشد العالم الإسلامي خلفهم لتنفيذ إستراتيجية
الرئيس الأمريكي ريغان!
ليبدأ الغرب بعده معركته الرابعة مع الإسلام
نفسه منذ ١٩٩٠م، والتي صرحت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا حينها بأن مهمة النيتو
وحلف شمال الأطلسي لم تنته بنهاية الشيوعية والاتحاد السوفيتي، فهناك خطر الإرهاب
الإسلامي الذي يجب خوض الحرب معه!
وتشكل منذ ١٩٩٠م إلى ٢٠١٠م خندق "مكافحة
الإرهاب" الذي انحازت له الدول العربية والإسلامية وجماعاتها الوظيفية، حتى
شاركت في الحملة الصليبية التي أطلقها الرئيس الأمريكي بوش الثاني لاحتلال
أفغانستان ٢٠٠١م ثم العراق ٢٠٠٣!
سيد والفقه الحركي للمجتمع الإسلامي:
لقد أدرك الشيخ القرضاوي بأن سيد قطب كان
فيما كتبه عن أولئك الفقهاء إنما كان يعني الجماعة وشيوخها -ومنهم القرضاوي نفسه-
الذين تصوروا بأن تطبيق الشريعة هو في هذه المواءمة الممسوخة في الدول الوظيفية،
بين أحكام الإسلام ونظم الجاهلية، وتفصيل الأحكام الشرعية على مقاس هذا النظام
الجاهلي الوظيفي، بشقيه: الملكي أو الجمهوري: العسكري أو الديمقراطي، دون فهم عميق
للعلاقة بين الواقع والفقه الذي يعالج مشكلات المجتمعات تعبيرا عن النظام السياسي
الذي يسوس هذه المجتمعات، وفلسفته التي يقوم عليها، والذي لا يمكن فك الارتباط فيه
بين هذا النظام وفلسفته والقوانين التي تصدر عنه لمواجهة حاجات المجتمع وحل
مشكلاته!
وقد أحسن سيد قطب غاية الإحسان في بيانها في
قصة يوسف حيث يكمل الحديث عن ارتباط الأحكام والقوانين بحاجات المجتمع وحركته
وتفاعله مع النظام الذي يؤمن به، وهو كلام عالم اجتماعي كبير، وسياسي خبير، يتقاصر
دون فهمه شيوخ الأزهر وفقهاء المدارس التقليدية، حيث يقول سيد عن تفسيره الحركي
للقرآن:
(ونأخذ مثالا لهذا التقرير العام هذا الحكم
الفقهي الإسلامي بعدم تزكية النفس وعدم ترشيحها للمناصب، وهو المأخوذ من قوله
تعالى: {فلا تزكوا أنفسكم} ومن قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إنا
والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله".
لقد نشأ هذا الحكم -كما نزلت تلك النصوص- في
مجتمع مسلم؛ ليطبق في هذا المجتمع؛ وليعيش في هذا الوسط؛ وليلبي حاجة ذلك
المجتمع وفق نشأته التاريخية، ووفق تركيبه العضوي، ووفق واقعه الذاتي. فهو من ثم
حكم إسلامي جاء ليطبق في مجتمع إسلامي..
وقد نشأ في وسط واقعي ولم ينشأ في فراغ
مثالي. وهو من ثم لا يطبق ولا يصلح ولا ينشئ آثاره الصحيحة إلا إذا طبق في مجتمع
إسلامي.. إسلامي في نشأته، وفي تركيبه العضوي، وفي التزامه بشريعة الإسلام كاملة..
وكل مجتمع لا تتوافر فيه هذه المقومات كلها
يعتبر "فراغا" بالقياس إلى ذلك الحكم، لا يملك أن يعيش فيه، ولا يصلح
له، ولا يصلحه كذلك!
ومثل هذا الحكم كل أحكام النظام الإسلامي،
وإن كنا في هذا المقام لا نفصل إلا هذا الحكم بمناسبة ذلك السياق القرآني..
ونريد أن نفهم لماذا لا يزكي الناس أنفسهم في
المجتمع المسلم، ولا يرشحون أنفسهم للوظائف، ولا يقومون لأشخاصهم بدعاية ما كي
يختاروا لمجلس الشورى أو للإمامة أو للإمارة؟
إن الناس في المجتمع المسلم لا يحتاجون لشيء
من هذا لإبراز أفضليتهم وأحقيتهم، كما أن المناصب والوظائف في هذا المجتمع تكليف
ثقيل لا يغري أحدا بالتزاحم عليه -اللهم إلا ابتغاء الأجر بالنهوض بالواجب وللخدمة
الشاقة ابتغاء رضوان الله تعالى- ومن ثم لا يسأل المناصب والوظائف إلا المتهافتون
عليها لحاجة في نفوسهم، وهؤلاء يجب أن يمنعوها!
ولكن هذه الحقيقة لا تفهم إلا بمراجعة النشأة
الطبيعية للمجتمع المسلم، وإدراك طبيعة تكوينه العضوي أيضا..
إن الحركة هي العنصر المكون لذلك المجتمع،
فالمجتمع المسلم وليد الحركة بالعقيدة الإسلامية:
أولا: تجيء العقيدة من مصدرها الإلهي
متمثلة في تبليغ الرسول وعمله -على عهد النبوات- أو متمثلة في دعوة الداعية بما
جاء من عند الله وما بلغه رسوله -على مدار الزمان بعد ذلك- فيستجيب للدعوة ناس
يتعرضون للأذى والفتنة من الجاهلية الحاكمة السائدة في أرض الدعوة، فمنهم من
يفتن ويرتد، ومنهم من يصدق ما عاهد الله عليه فيقضي نحبه شهيدا، ومنهم من ينتظر
حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق..
هؤلاء يفتح الله عليهم، ويجعل منهم ستارا
لقدره، ويمكن لهم في الأرض تحقيقا لوعده بنصر من ينصره، والتمكين في الأرض له،
ليقيم مملكة الله في الأرض -أي لينفذ حكم الله في الأرض- ليس له من هذا النصر
والتمكين شيء؛ إنما هو نصر لدين الله، وتمكين لربوبية الله في العباد.
وهؤلاء لا يقفون بهذا الدين عند حدود أرض
معينة؛ ولا عند حدود جنس معين؛ ولا عند حدود قوم أو لون أو لغة أو مقوم واحد من
تلك المقومات البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة! إنما ينطلقون بهذه العقيدة
الربانية ليحرروا "الإنسان".. كل الإنسان: في "الأرض"..
كل الأرض.. من العبودية لغير الله؛ وليرفعوه عن العبودية للطواغيت أيا كانت
هذه الطواغيت!
وفي أثناء الحركة بهذا الدين -وقد لاحظنا
أنها لا تتوقف عند إقامة الدولة المسلمة في بقعة من الأرض، ولا تقف عند حدود أرض
أو جنس أو قوم- تتميز أقدار الناس، وتتحدد مقاماتهم في المجتمع، ويقوم هذا التحديد
وذلك التميز على موازين وقيم إيمانية، الجميع يتعارفون عليها، من البلاء في الجهاد،
والتقوى، والصلاح، والعبادة، والأخلاق، والقدرة، والكفاءة..
وكلها قيم يحكم عليها الواقع، وتبرزها
الحركة، ويعرفها المجتمع ويعرف المتسمين بها..
ومن ثم لا يحتاج أصحابها أن يزكوا أنفسهم،
ولا أن يطلبوا الإمارة، أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية..
وفي المجتمع المسلم الذي نشأ هذه النشأة،
وقام تركيبه العضوي على أساس التميز في أثناء الحركة بتلك القيم الإيمانية -كما
حدث في المجتمع المسلم من تميز السابقين من المهاجرين، ثم الأنصار، وأهل بدر، وأهل
بيعة الرضوان، ومن أنفق من قبل الفتح وقاتل- ثم ظل يتميز الناس فيه بحسن البلاء في
الإسلام..
في هذا المجتمع لا يبخس الناس بعضهم بعضا،
ولا ينكر الناس فضائل المتميزين -مهما غلب الضعف البشري أصحابه أحيانا فغلبتهم
الأطماع- وعندئذ تنتفي الحاجة -من جانب آخر- إلى أن يزكي المتميزون أنفسهم ويطلبوا
الإمارة أو مراكز الشورى والتوجيه على أساس هذه التزكية..
ولقد يخيل للناس الآن أن هذه خاصية متفردة
للمجتمع المسلم الأول بسبب نشأته التاريخية! ولكنهم ينسون أن أي مجتمع مسلم لن
يوجد إلا بمثل هذه النشأة..
لن يوجد اليوم أو غدا، إلا أن تقوم دعوة
لإدخال الناس في هذا الدين من جديد، وإخراجهم من الجاهلية التي صاروا إليها..
وهذه نقطة البدء.. ثم تعقبها الفتنة
والابتلاء -كما حدث أول مرة- فأما ناس فيفتنون ويرتدون! وأما ناس فيصدقون ما
عاهدوا الله عليه فيقضون نحبهم ويموتون شهداء، وأما ناس فيصبرون ويصابرون ويصرون
على الإسلام، ويكرهون أن يعودوا إلى الجاهلية كما يكره أحدهم أن يلقى في النار؛
حتى يحكم الله بينهم وبين قومهم بالحق، ويمكن لهم في الأرض -كما مكن للمسلمين أول
مرة- فيقوم في أرض من أرض الله نظام إسلامي..
ويومئذ تكون الحركة من نقطة البدء إلى قيام
النظام الإسلامي قد ميزت المجاهدين المتحركين إلى طبقات إيمانية، وفق الموازين
والقيم الإيمانية..
ويومئذ لن يحتاج هؤلاء إلى ترشيح أنفسهم
وتزكيتها؛ لأن مجتمعهم الذي جاهد كله معهم يعرفهم ويزكيهم ويرشحهم!
ولقد يقال بعد هذا: ولكن هذا يكون في المرحلة
الأولى، فإذا استقر المجتمع بعد ذلك؟
وهذا سؤال من لا يعرف طبيعة هذا الدين! إن
هذا الدين يتحرك دائما ولا يكف عن الحركة.. يتحرك لتحرير "الإنسان". كل
الإنسان.. في "الأرض".. كل الأرض.. من العبودية لغير الله؛ وليرفعه عن
العبودية للطواغيت؛ بلا حدود من الأرض أو الجنس أو القوم أو أي مقوم من المقومات
البشرية الأرضية الهزيلة السخيفة!
وإذن فستظل الحركة -التي هي طبيعة هذا الدين
الأصيلة- تميز أصحاب البلاء وأصحاب الكفايات والمواهب؛ ولا تقف أبدا ليركد هذا
المجتمع ويأسن، إلا أن ينحرف عن الإسلام!
وسيظل الحكم الفقهي -الخاص بتحريم تزكية
النفس وطلب العمل على أساس هذه التزكية- قائما وعاملا في محيطه الملائم.. ذات
المحيط الذي نشأ أول مرة وعمل فيه...
إن الذين يفكرون في النظام الإسلامي اليوم
وتشكيلاته -أو يكتبون- يدخلون في متاهة! ذلك أنهم يحاولون تطبيق قواعد النظام
الإسلامي وأحكامه الفقهية المدونة في فراغ! يحاولون تطبيقها في هذا المجتمع
الجاهلي القائم، بتركيبه العضوي الحاضر! وهذا المجتمع الجاهلي الحاضر يعتبر
-بالقياس إلى طبيعة النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية- فراغا لا يمكن أن يقوم فيه
هذا النظام ولا أن تطبق فيه هذه الأحكام.. إن تركيبه العضوي مناقض تماما للتركيب
العضوي للمجتمع المسلم.
فالمجتمع المسلم -كما قلنا- يقوم تركيبه
العضوي على أساس ترتيب الشخصيات والفئات كما ترتبها الحركة لإقرار هذا النظام في
عالم الواقع، ولمجاهدة الجاهلية لإخراج الناس منها إلى الإسلام، مع تحمل ضغوط
الجاهلية وما توجهه من فتنة وإيذاء وحرب على هذه الحركة، والصبر على الابتلاء وحسن
البلاء من نقطة البدء إلى نقطة الفصل في نهاية المطاف، أما المجتمع الجاهلي
الحاضر فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية..
وهو -من ثم- يعد بالقياس إلى النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية فراغا لا يعيش فيه
هذا النظام ولا تقوم فيه هذه الأحكام!
هؤلاء الكاتبون الباحثون عن حل لتطبيق قواعد
النظام وتشكيلاته وأحكامه الفقهية يحيرهم -أول ما يحيرهم- طريقة اختيار أهل الحل
والعقد -أو أهل الشورى- من غير ترشيح من أنفسهم ولا تزكية! كيف يمكن هذا في مثل
هذه المجتمعات التي نعيش فيها والناس لا يعرف بعضهم بعضا، ولا يزنون كذلك بموازين
الكفاية والنزاهة والأمانة! كذلك تحيرهم طريقة اختيار الإمام؟ أيكون الاختيار من
عامة الشعب أم يكون من ترشيح أهل الحل والعقد؟ وإذا كان الإمام سيختار أهل الحل
والعقد -متابعة لعدم تزكيتهم لأنفسهم أو ترشيحها- فكيف يعودون هم فيختارون الإمام؟
ألا يؤثر هذا في ميزانهم؟ ثم إذا كانوا هم الذين سيعودون فيرشحون الإمام؟ ألا تكون
لهم ولاية عليه وهو الإمام الأعظم؟ ثم ألا يجعله هذا يختار أشخاصا يضمن ولاءهم له،
ويكون هذا هو العنصر الأول في اعتباره؟
وأسئلة أخرى كثيرة لا يجدون لها جوابا في هذه
المتاهة!
أنا أعرف نقطة البدء في هذه المتاهة.. إنها هي افتراض أن هذا المجتمع الجاهلي
الذي نعيش فيه مجتمع مسلم، وأن قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية سيجاء بها
لتطبق على هذا المجتمع الجاهلي بتركيبه العضوي الحاضر، وبقيمه وأخلاقه الحاضرة!
هذه نقطة البدء في المتاهة.. ومتى بدأ منها
الباحث فإنه يبدأ في فراغ، ويوغل في هذا الفراغ، حتى يبعد في التيه، وحتى يأخذه
الدوار!
إن هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه ليس هو
المجتمع المسلم، ومن ثم لن يطبق فيه النظام الإسلامي، ولن تطبق فيه الأحكام
الفقهية الخاصة بهذا النظام..
لن تطبق لاستحالة هذا التطبيق الناشئة من أن
قواعد النظام الإسلامي وأحكامه الفقهية لا يمكن أن تتحرك في فراغ؛ لأنها بطبيعتها
لم تنشأ في فراغ، ولم تتحرك في فراغ كذلك!
إن المجتمع الإسلامي ينشأ بتركيب عضوي آخر غير التركيب العضوي للمجتمع الجاهلي.. ينشأ
من أشخاص ومجموعات وفئات جاهدت -في وجه الجاهلية- لإنشائه؛ وتحددت أقدارها
وتميزت مقاماتها في ثنايا تلك الحركة.
إنه مجتمع جديد.. ومجتمع وليد.. ومجتمع متحرك
دائما في طريقه لتحرير "الإنسان"،.. كل الإنسان.. في "الأرض"..
كل الأرض.. من العبودية لغير الله، ولرفع هذا الإنسان عن ذلة العبودية للطواغيت..
أيا كانت هذه الطواغيت..
ومثل قضية التزكية وطلب الإمارة، واختيار
الإمام، واختيار أهل الشورى... وما إليها... قضايا كثيرة تثار، ويطرقها الباحثون
في الإسلام.. في الفراغ.. في هذا المجتمع الجاهلي الذي نعيش فيه.. بتركيبه العضوي
المختلف تماما عن التركيب العضوي للمجتمع المسلم.. وبقيمه وموازينه واعتباراته
وأخلاقه ومشاعره وتصوراته المختلفة تماما عن قيم المجتمع المسلم وموازينه
واعتباراته وأخلاقه ومشاعره وتصوراته..
أعمال البنوك وأساسها الربوي؟
شركات التأمين وقاعدتها الربوية؟
تحديد النسل؟!
إلى آخر هذه "المشكلات" التي يشغل
"الباحثون" بها أنفسهم أو يجيبون فيها عن استفتاءات توجه إليهم..
إنهم جميعا -مع الأسف- يبدأون من نقطة البدء
في المتاهة!
يبدأون من افتراض أن قواعد النظام الإسلامي
وأحكامه سيجاء بها لتطبق على هذه المجتمعات الجاهلية الحاضرة بتركيبها العضوي
الحاضر؛ فتنتقل هذه المجتمعات إذن -متى طبقت عليها أحكام الإسلام- إلى الإسلام!
وهي تصورات مضحكة لولا أنها محزنة) انتهى
كلامه!
وقد أثبتت السنون صدق رأي سيد قطب، وأن كل ما
كتبه هؤلاء الفقهاء من دراسات واجتهادات لا يمكن أن تقيم مجتمعا ونظاما إسلاميا، فالفقه
لا ينشأ دولة ولا مجتمعا، بل الدول والمجتمعات الحرة هي التي تنشأ الفقه الذي
يعالج مشكلات واقعها استلهاما من نظامها العقائدي الذي تؤمن به!
وقد كانت تجربة السودان أوضح التجارب على صدق
ما قاله سيد، فقد أرادت أمريكا والرئيس الأمريكي "ريغن" من السودان أن يقصي
الشيوعية والقوى اليسارية، ويعزز شرعيته وشعبيته بالقوى الإسلامية والمحافظة، وأن
يتحول إلى نظام إسلامي شكلي، فقام العسكر بقيادة جعفر نميري بإعلان تطبيق الشريعة
سنة ١٩٨٥م، ثم جاء انقلاب البشير ١٩٨٩م ليقوم بدوره الوظيفي لتلك المرحلة، حتى إذا
انتهى منه، أسقطه النظام الدولي والعربي الوظيفي الذي جاء به، وجاءوا بالرئيس
البرهان والقوى العلمانية واليسارية، دون أي دور للشعب السوداني في اختيار الرئيس
والنظام الجديد! لتنتهي التجربة الإسلامية بأسوأ صورة، وذهب كل جهد الفقهاء
والعلماء لأسلمة القوانين والمجتمع مدة ٣٥ سنة بجرة قلم من النظام الدولي وقواه
الوظيفية، ونُزع رداء "الأسلمة" في الوقت نفسه عن كلا النظامين السعودي
والسوداني على طرفي البحر الأحمر؛ ليواكبا مرحلة جديدة بعد إعلان الرئيس الأمريكي
ترامب عن "صفقة القرن" ومشروع "التطبيع" مع المحتل الصهيوني!
ويكمل سيد قطب رأيه عن ارتباط الفقه بالحركة
وحاجة المجتمع الإسلامي، تلك الحركة التي تعني عند سيد؛ الجهاد الدائم في سبيل الله
لإقامة أحكامه، في حال السلم لمواجهة حاجات الحياة الإنسانية، وحال الحرب لمواجهة
قوى الجاهلية، فيقول:
(إن الفقه الإسلامي بكل أحكامه ليس هو الذي
أنشأ المجتمع المسلم، إنما المجتمع المسلم بحركته -في مواجهة الجاهلية ابتداء- ثم
بحركته في مواجهة حاجة الحياة الحقيقية ثانيا، هو الذي أنشأ الفقه الإسلامي مستمدا
من أصول الشريعة الكلية.. والعكس لا يمكن أن يكون أصلا!
إن الفقه الإسلامي لا ينشأ في فراغ، ولا
يعيش في فراغ كذلك..
لا ينشأ في الأدمغة والأوراق؛ إنما ينشأ في
واقع الحياة. وليست أية حياة، إنما هي حياة المجتمع المسلم على وجه التحديد.. ومن ثم لا بد أن يوجد المجتمع المسلم أولا
بتركيبه العضوي الطبيعي؛ فيكون هو الوسط الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي ويطبق..
وعندئذ تختلف الأمور جدا..
وساعتها قد يحتاج ذلك المجتمع الخاص -بعد
نشأته في مواجهة الجاهلية وتحركه في مواجهة الحياة- إلى البنوك وشركات التأمين
وتحديد النسل... الخ
وقد لا يحتاج ذلك!
إننا لا نملك سلفا أن نقدر أصل حاجته، ولا
حجمها، ولا شكلها، حتى نشرع لها سلفا!
كما أن ما لدينا من أحكام هذا الدين لا
يطابق حاجات المجتمعات الجاهلية ولا يلبيها.. ذلك أن هذا الدين لا يعترف
ابتداء بشرعية وجود هذه المجتمعات الجاهلية ولا يرضى ببقائها، ومن ثم فهو لا يعني
نفسه بالاعتراف بحاجاتها الناشئة من جاهليتها ولا بتلبيتها كذلك!
إن المحنة الحقيقية لهؤلاء الباحثين أنهم
يتصورون أن هذا الواقع الجاهلي هو الأصل، الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه
عليه! ولكن الأمر غير ذلك تماما..
إن دين الله هو الأصل الذي يجب على البشرية
أن تطابق نفسها عليه؛ وأن تحور من واقعها الجاهلي وتغير حتى تتم هذه المطابقة..
ولكن هذا التحور وهذا التغير لا يتمّان عادة إلا عن طريق واحد.. هو التحرك -في وجه
الجاهلية- لتحقيق ألوهية الله في الأرض وربوبيته وحده للعباد، وتحرير الناس من
العبودية للطاغوت، بتحكيم شريعة الله وحدها في حياتهم..
وهذه الحركة لا بد أن تواجه الفتنة والأذى والابتلاء.
فيفتن من يفتن، ويرتد من يرتد، ويصدق الله من يصدقه، فيقضي نحبه ويستشهد، ويصبر من
يصبر ويمضي في حركته حتى يحكم الله بينه وبين قومه بالحق، وحتى يمكن الله له في
الأرض، وعندئذ فقط يقوم النظام الإسلامي، وقد انطبع المتحركون لتحقيقه بطابعه،
وتميزوا بقيمه.. وعندئذ تكون لحياتهم مطالب وحاجات تختلف في طبيعتها وفي طرق
تلبيتها عن حاجات المجتمعات الجاهلية ومطالبها وطرق تلبيتها.. وعلى ضوء واقع
المجتمع المسلم يومذاك تستنبط الأحكام؛ وينشأ فقه إسلامي حي متحرك -لا في فراغ-
ولكن في وسط واقعي محدد المطالب والحاجات والمشكلات..
ومن ذا الذي يدرينا اليوم مثلا أن يكون الناس
في مجتمع مسلم تجبى فيه الزكاة وتنفق في مصارفها، ويقوم فيه التراحم والتكافل بين
أهل كل محلة، ثم بين كل أفراد الأمة، وتقوم حياة الناس فيه على غير السرف والترف
والمخيلة والتكاثر.. إلى آخر مقومات الحياة الإسلامية.. من يدرينا أن مجتمعا كهذا
سيكون في حاجة إلى شركات تأمين أصلا؟! وعنده كل تلك التأمينات والضمانات مع تلك
الملابسات والقيم والتصورات؟! وإذا احتاج إلى نوع من التأمين فمن يدرينا أنه سيكون
هو هذا النوع المعروف في المجتمع الجاهلي، المنبثق من حاجات هذا المجتمع الجاهلي
وملابساته وقيمه وتصوراته؟!
وكذلك من يدرينا أن المجتمع المسلم المتحرك
المجاهد سيكون في حاجة إلى تحديد النسل مثلا؟..
وهكذا..
وإذا كنا لا نملك افتراض أصل حاجات المجتمع
حين يكون مسلما، ولا حجم هذه الحاجات أو شكلها، بسبب اختلاف تركيبه العضوي عن
تركيب المجتمع الجاهلي، واختلاف تصوراته ومشاعره وقيمه وموازينه.. فما هذا الضنى
في محاولة تحوير وتطوير وتغيير الأحكام المدونة لكي تطابق حاجات هي في ضمير الغيب،
شأنها شأن وجود المجتمع المسلم ذاته!
إن نقطة البدء في المتاهة -كما قلنا- هي
افتراض أن هذه المجتمعات القائمة هي المجتمعات الإسلامية؛ وأنه سيجاء بأحكام الفقه
الإسلامي من الأوراق لتطبق عليها، وهي بهذا التركيب العضوي ذاته، وبالتصورات
والمشاعر والقيم والموازين ذاتها!
كما أن أصل المحنة هو الشعور بأن واقع هذه
المجتمعات الجاهلية وتركيبها الحاضر هو الأصل الذي يجب على دين الله أن يطابق نفسه
عليه، وأن يحور ويطور ويغير في أحكامه ليلاحق حاجات هذه المجتمعات ومشكلاتها..
حاجاتها ومشكلاتها المنبثقة أصلا من مخالفتها للإسلام ومن خروج حياتها جملة من
إطاره!
ونحسب أنه قد آن للإسلام أن يستعلي في نفوس
دعاته، فلا يجعلوه مجرد خادم للأوضاع الجاهلية، والمجتمعات الجاهلية، والحاجات
الجاهلية. وأن يقولوا للناس -وللذين يستفتونهم بوجه خاص- تعالوا أنتم أولا إلى
الإسلام، وأعلنوا خضوعكم سلفا لأحكامه، أو بعبارة أخرى تعالوا أنتم أولا
فادخلوا في دين الله، وأعلنوا عبوديتكم لله وحده، واشهدوا أن لا إله إلا الله
بمدلولها الذي لا يقوم الإيمان والإسلام إلا به، وهو إفراد الله بألوهيته في الأرض
كإفراده بالألوهية في السماء، وتقرير ربوبيته -أي حاكميته وسلطانه- وحده في حياة
الناس بجملتها. وتنحية ربوبية العباد للعباد، بتنحية حاكمية العباد للعباد، وتشريع
العباد للعباد.
وحين يستجيب الناس -أو الجماعة منهم- لهذا
القول، فإن المجتمع المسلم يكون قد بدأ أولى خطواته في الوجود.
وهذا المجتمع يكون حينئذ هو الوسط الواقعي
الحي الذي ينشأ فيه الفقه الإسلامي الحي وينمو، لمواجهة حاجات ذلك المجتمع
المستسلم لشريعة الله فعلا..
فأما قبل قيام هذا المجتمع فالعمل في حقل
الفقه والأحكام التنظيمية هو مجرد خداع للنفس، باستنبات البذور في الهواء، ولن
ينبت الفقه الإسلامي في الفراغ، كما أنه لن تنبت البذور في الهواء!
إن العمل في الحقل الفكري للفقه الإسلامي عمل
مريح؛ لأنه لا خطر فيه، ولكنه ليس عملا للإسلام، ولا هو من منهج هذا الدين، ولا من
طبيعته، وخير للذين ينشدون الراحة والسلامة أن يشتغلوا بالأدب وبالفن أو بالتجارة،
أما الاشتغال بالفقه الآن على ذلك النحو بوصفه عملا للإسلام في هذه الفترة فأحسب
-والله أعلم- أنه مضيعة للعمر وللأجر أيضا!
إن دين الله يأبى أن يكون مجرد مطية ذلول،
ومجرد خادم مطيع، لتلبية هذا المجتمع الجاهلي الآبق منه، المتنكر له، الشارد عنه.. الذي يسخر منه الحين بعد الحين باستفتائه
في مشكلاته وحاجاته؛ وهو غير خاضع لشريعته وسلطانه) انتهى.
وهذا تماما ما حاوله شيوخ الجماعة وفقهاؤها
واتحادات العلماء وهيئات الفتوى الذين انساحوا في الدول العربية، يعملون في خدمة
أنظمتها الوظيفية، ويضفون عليها الشرعية، ويبشرون بأسلمة القوانين الوضعية فيها،
في ظل غياب النظام السياسي الإسلامي وأصوله العقائدية، ليجعلوا من الإسلام وأحكامه
فتنة للأمة في دينها، فلا يزداد في ظله الطغاة إلا طغيانا واستبدادا، ولا المسرفون
في الأرض إلا فسادا!
لقد أرادوا من الطغاة أنفسهم في ظل الحملة
الصليبية أن يقيموا أحكام الله في الأرض، وهو ضرب من الجنون لا يتصوره إلا هؤلاء
الفقهاء الذين عاشوا وهما كبيرا، وأرادوا من الأمة أن تعيش معهم فيه، وتكاثرت
الاتحادات العلمائية الوظيفية، تحت رعاية هذه الدول، تعقد مؤتمراتها، وتصدر
قراراتها، بما ينقض عرى الإسلام عروة عروة، حتى اجترأوا على الإعلان عن أن مفهوم
دار الإسلام قد تجاوزه الزمن، وأن الخلافة مرحلة زمنية ومرحلة تاريخية انقضت ولن
تعود! وبلغ من انحراف هذه الهيئات أن تواطأت على الفتوى بجواز إغلاق المساجد
وتعطيل الجمع والجماعات، وتغيير هيئة الصلوات، في أزمة كورونا التزاما بقرارات
وتوصيات النظم المادية الجاهلية، والحملة الغربية الصليبية!
فإذا العدو يحقق بالفتوى الوظيفية ما لم
يستطع تحقيقه بالقوة العسكرية!
ثم يكمل سيد تفسيره لآية التزكية في سورة
يوسف فيقول: (إن فقه هذا الدين وأحكامه لا تنشأ في فراغ، ولا تعمل في فراغ، وإن
المجتمع المسلم الخاضع لسلطان الله ابتداء هو الذي صنع هذا الفقه، وليس الفقه هو
الذي صنع ذلك المجتمع ولن تنعكس الآية أبدا.
إن خطوات النشأة الإسلامية ومراحلها هي دائما
واحدة، والانتقال من الجاهلية إلى الإسلام لن يكون يوما ما سهلا ولا يسيرا. ولن
يبدأ أبدا من صياغة الأحكام الفقهية في الفراغ، لتكون معدة جاهزة يوم يقوم المجتمع
الإسلامي والنظام الإسلامي.
ولن يكون وجود هذه الأحكام المفصلة على
"الجاهز" والناشئة في الفراغ هي نقطة البدء في التحول من الجاهلية إلى
الإسلام، وليس الذي ينقص هذه المجتمعات الجاهلية لكي تتحول إلى الإسلام هو الأحكام
الفقهية "الجاهزة"!
وليست الصعوبة في ذلك التحول ناشئة عن قصور
أحكام الفقه الإسلامي الحاضرة عن ملاحقة حاجات المجتمعات المتطورة.. إلى آخر ما
يخادع به بعضهم، وينخدع به بعضهم الآخر!
كلا! إن الذي يحول دون تحول هذه المجتمعات
الجاهلية إلى النظام الإسلامي هو وجود الطواغيت التي تأبى أن تكون الحاكمية لله؛
فتأبى أن تكون الربوبية في حياة البشر والألوهية في الأرض لله وحده، وتخرج بذلك من
الإسلام خروجا كاملا، يعد الحكم عليه من المعلوم من الدين بالضرورة..
ثم هو بعد ذلك وجود جماهير من البشر تعبد
أولئك الطواغيت من دون الله -أي تدين لها وتخضع وتتبع- فتجعلها بذلك أربابا متفرقة
معبودة مطاعة. وتخرج هذه الجماهير بهذه العبادة من التوحيد إلى الشرك..
فهذا هو أخص مدلولات الشرك في نظر الإسلام..
وبهذا وذلك تقوم الجاهلية نظاما في الأرض؛
وتعتمد على ركائز من ضلال التصور بقدر ما تعتمد على ركائز من القوة المادية!
وصياغة أحكام الفقه لا تواجه هذه الجاهلية
-إذن- بوسائل مكافئة. إنما الذي يواجهها دعوة إلى الدخول في الإسلام مرة أخرى؛
وحركة تواجه الجاهلية بكل ركائزها؛ ثم يكون ما يكون من شأن كل دعوة للإسلام في وجه
الجاهلية. ثم يحكم الله بين من يسلمون لله وبين قومهم بالحق..
وعندئذ فقط يجيء دور أحكام الفقه، التي تنشأ
نشأة طبيعية في هذا الوسط الواقعي الحي، وتواجه حاجات الحياة الواقعية المتجددة في
هذا المجتمع الوليد، وفق حجم هذه الحاجات يومئذ وشكلها وملابساتها، وهي أمور كلها
في ضمير الغيب -كما أسلفنا- ولا يمكن التكهن بها سلفا، ولا يمكن الاشتغال بها من
اليوم على سبيل الجد المناسب لطبيعة هذا الدين!
إن هذا لا يعني -بحال- أن الأحكام الشرعية
المنصوص عليها في الكتاب والسنة ليست قائمة الآن فعلا من الوجهة الشرعية، ولكنه يعني فقط أن المجتمع الذي شرعت
هذه الأحكام له، والذي لا تطبق هذه الأحكام إلا فيه -بل الذي لا تعيش هذه
الأحكام إلا به- ليس قائما الآن فعلا. ومن ثم يصبح وجودها الفعلي معلقا
بقيام ذلك المجتمع.. ويبقى الالتزام بها قائما في عنق كل من يسلم من ذلك
المجتمع الجاهلي ويتحرك في وجه الجاهلية لإقامة النظام الإسلامي؛ ويتعرض لما
يتعرض له من يتحرك بهذا الدين في وجه الجاهلية وطواغيتها المتألهة وجماهيرها
الخاضعة للطواغيت الراضية بالشرك في الربوبية.
إن إدراك طبيعة النشأة الإسلامية على هذا النحو الذي لا يتغير، كلما قامت
الجاهلية وقامت في وجهها محاولة إسلامية.. هو نقطة البدء في العمل الحقيقي
البناء لإعادة هذا الدين إلى الوجود الفعلي، بعد أن انقطع هذا الوجود منذ أن حلت
شرائع البشر محل شريعة الله في خلال القرنين الأخيرين؛ وخلا وجه الأرض من الوجود
الحقيقي للإسلام؛ وإن بقيت المآذن والمساجد، والأدعية والشعائر؛ تخدر مشاعر
الباقين على الولاء العاطفي الغامض لهذا الدين؛ وتوهمهم أنه لا يزال بخير؛ وهو
يمحى من الوجود محوا!
إن المجتمع المسلم وجد قبل أن توجد الشعائر،
وقبل أن توجد المساجد..
وجد من يوم أن قيل للناس: {اعبدوا الله ما
لكم من إله غيره}، فعبدوه، ولم تكن عبادتهم له ممثلة في الشعائر، فالشعائر لم تكن
بعد قد فرضت، إنما كانت عبادتهم له ممثلة في الدينونة له وحده -من ناحية المبدأ
فلم تكن بعد قد نزلت شرائع!- وحين أصبح لهؤلاء الذين قرروا الدينونة لله وحده
سلطان مادي في الأرض تنزلت الشرائع؛ وحين واجهوا الحاجات الحقيقية لحياتهم هم
استنبطت بقية أحكام الفقه، إلى جانب ما ورد بنصه في الكتاب والسنة..
وهذا هو الطريق وحده؛ وليس هنالك طريق آخر..
وليت هنالك طريقا سهلا عن طريق تحول الجماهير
بجملتها إلى الإسلام منذ أول وهلة في الدعوة باللسان، وببيان أحكام الإسلام! ولكن
هذه إنما هي "الأماني"!
فالجماهير لا تتحول أبدا من الجاهلية وعبادة
الطواغيت، إلى الإسلام وعبادة الله وحده إلا عن ذلك الطريق الطويل البطيء الذي
سارت فيه دعوة الإسلام في كل مرة.. والذي يبدؤه فرد، ثم تتبعه طليعة، ثم تتحرك هذه
الطليعة في وجه الجاهلية لتعاني ما تعاني حتى يحكم الله بينها وبين قومها بالحق
ويمكن لها في الأرض.. ثم.. يدخل الناس في دين الله أفواجا.. ودين الله هو منهجه
وشرعه ونظامه الذي لا يرضى من الناس دينا غيره: {ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن
يقبل منه}..
ولعل هذا البيان أن يكشف لنا عن حقيقة الحكم
في موقف يوسف -عليه السلام- إنه لم يكن يعيش في مجتمع مسلم تنطبق عليه قاعدة عدم
تزكية النفس عند الناس وطلب الإمارة على أساس هذه التزكية، كما أنه كان يرى أن
الظروف تمكن له من أن يكون حاكما مطاعا لا خادما في وضع جاهلي. وكان الأمر
كما توقع فتمكن بسيطرته من الدعوة لدينه ونشره في مصر في أيام حكمه. وقد توارى
العزيز وتوارى الملك تماما..)انتهى!
ويقول سيد أيضا في ظلال سورة يوسف -ص ٢٠٣٤- عن
ضرورة وجود الجماعة المؤمنة التي تؤسس للمجتمع الإسلامي قبل وجود الدولة، وهو
يخاطب هنا شيوخ الجماعات الإسلامية التي أصبحت جزءا من الدول الجاهلية الوظيفية
التي فرضتها الحملة الصليبية، من حيث يظنون أنهم شيئا آخر، فيعززون هم وجود هذه
الدول الجاهلية باسم الوطنية، ويحمون طغاتها باسم المحافظة على النظام وشرعية
مؤسسات الدولة! وقد عبر عن ذلك بكل وضوح كتاب القاضي المستشار الهضيبي نفسه
"دعاة لا قضاة"، فيقول سيد: (وأصحاب الدعوة إلى الله لا بد لهم من هذا
التميز، لا بد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمن لا يعتقد عقيدتهم،
ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعوا
أصحاب هذا الدين إلى دينهم، وهم متميعون في المجتمع الجاهلي. فهذه الدعوة لا
تؤدي شيئا ذا قيمة! إنه لا بد لهم منذ اليوم الأول أن يعلنوا أنهم شيء آخر غير
الجاهلية؛ وأن يتميزوا بتجمع خاص آصرته العقيدة المتميزة، وعنوانه القيادة
الإسلامية.. لا بد أن يميزوا أنفسهم من المجتمع الجاهلي؛ وأن يميزوا قيادتهم من
قيادة المجتمع الجاهلي أيضا!
إن اندغامهم وتميعهم في المجتمع الجاهلي،
وبقاءهم في ظل القيادة الجاهلية، يذهب بكل السلطان الذي تحمله عقيدتهم، وبكل الأثر
الذي يمكن أن تنشئه دعوتهم، وبكل الجاذبية التي يمكن أن تكون للدعوة الجديدة.
وهذه الحقيقة لم يكن مجالها فقط هو الدعوة
النبوية في أوساط المشركين.. إن مجالها هو مجال هذه الدعوة كلما عادت الجاهلية
فغلبت على حياة الناس..
وجاهلية القرن العشرين لا تختلف في مقوماتها
الأصيلة، وفي ملامحها المميزة عن كل جاهلية أخرى واجهتها الدعوة الإسلامية على
مدار التاريخ!
والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق
التميع في المجتمع الجاهلي والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك
المجتمعات ومن خلال هذه الأوضاع بالدعوة إلى الإسلام.. هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه
العقيدة ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب!..
إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن
عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟
وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماما عن سبيل الجاهلية؟..
إن الدعوة إلى الله ليست تجارة قصيرة الأجل؛ إما أن تربح ربحا معينا محددا في هذه
الأرض، وإما أن يتخلى عنها أصحابها إلى تجارة أخرى أقرب ربحا وأيسر حصيلة!
والذي ينهض بالدعوة إلى الله في المجتمعات
الجاهلية -والمجتمعات الجاهلية هي التي تدين لغير الله بالطاعة والاتباع في أي
زمان أو مكان- يجب أن يوطن نفسه على أنه لا يقوم برحلة مريحة، ولا يقوم بتجارة
مادية قريبة الأجل! إنما ينبغي له أن يستيقن أنه يواجه طواغيت يملكون
القوة والمال، ويملكون استخفاف الجماهير حتى ترى الأسود أبيضا والأبيض أسودا!
ويملكون تأليب هذه الجماهير ذاتها على أصحاب الدعوة إلى الله، باستثارة شهواتها،
وتهديدها بأن أصحاب الدعوة إلى الله يريدون حرمانها من هذه الشهوات!..
ويجب أن يستيقنوا أن الدعوة إلى الله كثيرة
التكاليف، وأن الانضمام إليها في وجه المقاومة الجاهلية كثير التكاليف أيضا. وأنه من ثم لا تنضم إليها -في أول الأمر-
الجماهير المستضعفة، إنما تنضم إليها الصفوة المختارة في الجيل كله، التي تؤثر
حقيقة هذا الدين على الراحة والسلامة، وعلى كل متاع هذه الحياة الدنيا. وأن عدد
هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا) انتهى كلام سيد ولم تنته ثورته على الجاهلية
المعاصرة وعلى الجماعة التي تريد المصالحة معها!
الحركة الإسلامية والمصالحة مع الجاهلية:
لقد كان هذا الخطاب الإسلامي العقائدي شيئا
غير معهود في وسط الدعاة والعلماء والمصلحين في مصر، بما فيهم الجماعة التي أراد سيد
منها الانعتاق من المجتمع الجاهلي والنظام السياسي الذي يحكمه، فكان الرد من
مرشدها الهضيبي (دعاة لا قضاة)، فكانت الجماعة أول من رفض فكرة المفاصلة، والتزمت
بخط المصالحة، وبدأت تحاكم فكر سيد قطب على أنه خروج عن خط الجماعة في هذه
القضية التي يعدها سيد أساس نجاح الدعوة الإسلامية منذ عهد النبوة!
وصارت كتب سيد -لا فكره ومنهجه ودعوته- محل
القبول لدى الجماعة! حيث وجد فيها الشباب الإسلامي المعاصر بغيته، فصارت وسيلة
لاستقطاب الشباب الذي جذبهم فكر سيد في مفاصلة الجاهلية واعتزال النظام الجاهلي
-وهو الدولة ومنظومتها السياسية- ليتم تأطيرهم في جماعة إسلامية توجد لهم كيانا
افتراضيا خاصا بهم (غيتو إسلامي) محايثا للدولة وتحت نفوذها في الوقت نفسه، يعيشون
فيه واقعا كهنوتيا يخصهم، في الوقت الذي تقوم فيه العلاقة بين الجماعة والدولة
الجاهلية الوظيفية على المصالحة والتعاون وعدم الاصطدام، في ظل سيادة المحتل
الأجنبي!
فالجماعة تدير شئون أتباعها ورعاياها وتوفر
لهم الأنشطة والعمل والمال في مؤسساتها، وتقوم الدولة والسلطة برعاية شئون
مواطنيها، وربما تركت للجماعة هامشا من الحرية لتقوم بدورها في ضبط حركة أفرادها
وفصل من يخرج عن طاعتها، ليتولى النظام تأديبه وعقابه إلا أن يعود إلى الجماعة
طائعا، في انسجام فريد من نوعه بين دولتين، دولة النظام الظاهرة التي تحكم
المجتمع، ودولة الجماعة الافتراضية التي تحكم الأتباع والمراكز وتدير شركاتها
وبنوكها لتمويل أنشطتها، وتأمين احتياجات أفرادها المالية، وقد تتعرض الجماعة
لثورة داخلية من أتباعها، ويحتلون مراكز القيادة فيها، فيقوم النظام والدولة
بالتدخل لتحرير المركز وإنهاء التمرد وإعادة القيادة إلى مراكزها، وكذا قد يثور
المجتمع على السلطة والنظام، فتقوم الجماعة بالدفاع عنه وحمايته والتفاهم معه!
ووجدت الجماعة بغيتها فيما كتبه سيد حول
ضرورة الجماعة والتنظيم والطاعة للقيادة، دون العقيدة السياسية التي أراد سيد
أصلا من الجماعة المؤمنة أن تتأسس لحملها والجهاد في سبيلها!
فعبّر الهضيبي عن ثقافة الداعية والقاضي
المسلم المحافظ الوارث لقيم المجتمع المصري في ظل الاحتلال البريطاني ثم النظام
الملكي والعسكري الذي يحترم النظام والقانون والقضاء!
وعبّر سيد قطب عن عقيدة المصلح المجاهد
الذي جعل القرآن لا الواقع هو الحاكم على كل شيء!
ولم يحتمل النظام الجمهوري الجاهلي هذا
الخطاب الفكري الذي يصطدم بالقومية والاشتراكية والعلمانية والدكتاتورية وهي الأسس
التي يقوم عليها النظام العسكري بمصر آنذاك، والذي تحول سنة ١٩٦٥م إلى خندق
الاتحاد السوفيتي، كما هو مسموح به من "الحكومة العالمية" منذ تأسسها
عام ١٩٤٢م باتفاق (تشرشل روزفلت ستالين)، بحيث يسمح للمعسكرين الرأسمالي
والاشتراكي بالتنافس على استقطاب الدول الحليفة والتابعة لكل منهما، وخوض الحروب
بالوكالة عنهما، دون صراع بينهما مباشر كما جرى طوال الحرب الباردة!
فجيّش جمال عبدالناصر بعد تحالفه مع الاتحاد
السوفيتي اليساريين لمواجهة الفكر الإسلامي، خاصة بعد صدور كتاب سيد "معالم
على الطريق"، ورأى أن التنظيم الحركي الإسلامي الذي كان سيد يدعو إلى ضرورة
قيامه يشكل خطرا مباشرا على نظامه، فقرر إعدامه في ٢٩/ ٨/ ١٩٦٦م!
لقد كان نقد سيد قطب في السجن في كل مؤلفاته
فيه منذ دخوله سنة ١٩٥٤ حتى خروجه الأول سنة ١٩٦٥م موجها حصرا للجماعة وقيادتها
-وشيوخها وفقهاؤها- التي عرف مكمن الخلل في منهجها، وحاول توجيه النصح لها
وإرشادها، واستطاعت هي التصدي له في السجن، وحصار فكره والحكم عليه بالتطرف والغلو!
ثم تصدى بعد ذلك شيوخ الجماعة ودعاتها
المشاهير كالشيخ محمد الغزالي والقرضاوي وغيرهم من الشيوخ لكل من تأثر خطى سيد،
وفتحت الأنظمة الوظيفية بعد ذلك لهؤلاء الشيوخ والدعاة الأبواب والمنابر الإعلامية
والتعليمية على مصراعيها في كل الدول العربية والإسلامية التي تخضع للنفوذ
الأمريكي الأوربي، وفتحت لهم أيضا معابر السجون لإلقاء المواعظ ومناصحة الشباب
المتطرف واستتابتهم ليعودوا إلى أحضان الطاغوت!
وكانوا منذ سنة ١٩٧٠ إلى سنة ٢٠١٠م يستقبلون
في قاعات التشريف في مطارات الدول العربية الوظيفية، ليعيدوا صياغة الخطاب الدعوي
الإصلاحي "الوسطي" الذي يضفي الشرعية السياسية على هذه الأنظمة، بمحاكمة
أفكار سيد والبراءة منها ومن حامليها، وإثبات أنها ومن يؤمن بها لا علاقة لهم، ولا
لسيد نفسه، بالجماعة وإمامها البنا، كما قال محمود عساف سكرتير الإمام البنا في
مذكراته عن الحركات الجهادية والثورية -ص ١٦٠-: (لقد أخذ هؤلاء أفكارهم عن الشهيد
سيد قطب، فقد ألّف سيد قطب كتابا هو "في ظلال القرآن"، وهو كتاب تفسير
عظيم مبتكر إذ يفسر السورة تفسيرا شاملا، كما ألف كتابا آخر وهو في السجن
"معالم على الطريق" ألفه وهو في حالة نفسية سيئة، وكان فيما كتبه في ذلك
الكتاب متشائما إلى أبعد حد، بسبب ما كان يعانيه من ظلم وتعذيب وافتراءات لذلك
أخذوا عنه فكرة الحاكمية لله، وتكفير المجتمع، إلى غير ذلك مما غذى عقولهم المريضة،
ولم يكن الشهيد سيد قطب من الإخوان القدامى، ولم يزامل الإمام حسن البنا، بل كان
كاتبا إسلاميا وأديبا فحسب، ثم عمل رئيسا لتحرير مجلة الاخوان بعد سماح حكومة
الثورة باستئناف نشاطهم، لذلك فإنه لم يتشرب فكر حسن البنا) انتهى!
هذا في الوقت الذي اكتشف سيد قطب في السجن
سنة ١٩٥٤ وبعد سنة واحدة فقط من إشرافه على مجلة الإخوان مدى ضحالة الفكر لديهم،
كما أسر بذلك إلى د. عبد العزيز كامل "عضو مكتب الإرشاد": حيث يقول كامل
في مذكراته "في نهر الحياة" -ص ٨٢-: (لا شك في أن سيد قطب صدم في كثير
مما رأى، وفي بعض من رأى، وبخاصة في المستويات الإدارية العليا للإخوان، ورأى
الرجل في بعضهم ضحالة في الفكر، واضطراب ولين في الدين، كان صدمة له)!
وهذه الصدمة تؤكد فعلا عدم معرفة سيد
بالجماعة، وأنه إنما عرفها واكتشف مدى الخلل الفكري الذي أصابها، في السنة التي
عمل معها فقط، مما أدى بعد ذلك إلى تمايز الرؤى بينه وبينها بعد دخول السجن!
وهذه الصدمة تقابلها الحيرة التي صرح بها
الشيخ محمد الغزالي في كتابه "معالم الحق" -ص ٢٢٤ ط٢ سنة ١٩٦٣م وحذفه في
الطبعات اللاحقة كما نبه عليه في آخر الكتاب- عن اختيار الهضيبي مرشدا للجماعة
بقوله:
(استقدمت الجماعة رجلًا غريبًا عنها ليتولى
قيادتها، وأكاد أوقن بأن من وراء هذا الاستقدام أصابع هيئات سرية عالمية أرادت
تدويخ النشاط الإسلامي الوليد فتسللت من خلال الثغرات المفتوحة في كيان جماعة هذا
حالها، وصنعت ما صنعت! ولقد سمعنا كلاما كثيرا عن انتساب عدد من الماسون بينهم
الأستاذ حسن الهضيبي نفسه، ولكني لا أعرف بالضبط كيف استطاعت هذه الهيئات الكافرة
بالإسلام أن تخترق جماعة كبيرة على النحو الذي فعلته)!
لقد كان الغزالي نفسه أحد من اقتحموا مركز
الإخوان العام، وثار على الهضيبي ومن معه، واختاروا قيادة جديدة، فيهم الشيخ سيد
سابق، ولم يفلحوا في انقلابهم وفُصلوا من الجماعة!
وليس ما رآه الغزالي وحار في فهمه حتى شك في
كون المستشار الهضيبي من الماسون سوى أثر من آثار العلاقة بين الجماعة والدولة
الوظيفية من جهة، والنظام الدولي المحتل و"الحكومة العالمية" والتفاهم
معها من جهة أخرى، بحيث تبدو المواقف مضطربة غامضة لا يمكن للأتباع فهمها، تماما
كما هو حال مواقف الأنظمة العربية الوظيفية وعجز شعوبها عن تفسير سياساتها!
فالهضيبي أتقى وأنقى من أن يتهم بالماسونية
التي تريد هدم الإسلام والأديان، إلا إن ارتباط الجماعة في الدولة الوظيفية،
وطاعتها للملك، واعترافها بشرعية النظام الملكي، ثم وقوفها مع الانقلاب العسكري،
جعلها شاءت أم أبت في خدمة "الحكومة العالمية" بالتبعية، التي هي أشد
خطرا من الماسونية في سعيها لهدم الإسلام نفسه والقضاء عليه!
وقد ذكر هذا الاضطراب الذي تعيشه الجماعة
محمود الصباغ في كتابه "التصويب الأمين" -وهو يتحدث عن سبب الخلاف بين
الثورة والجماعة- ما حدا كبار شيوخها إلى الانقلاب على الهضيبي، واتهامه بالارتباط
بالماسونية فيقول: (ولهذا السبب وحده لم يستطع الراسخون في تأسيس دعوة الإخوان
المسلمين أمثال صالح عشماوي، ومحمد الغزالي، والسيد سابق، والبهي الخولي، وعبد العزيز
كامل، والدكتور محمد سليمان، وأحمد حسن الباقوري، وأحمد عبد العزيز جلال، وعبد
الرحمن البنا، وأنس الحجاجي أن يستسيغوا من قيادة الإخوان تسخيرها للإخوان جميعا
مدنيين وعسكريين ليكونوا في خدمة الانقلاب حراسا ومقاتلين.. فإذا نجح الانقلاب
قادتهم هذه القيادة نفسها فورا وبلا مقدمات إلى مناصبته العداء غير عابئين بما
يمكن أن تؤدي معاداة حكومة عسكرية إلى أذى وهدم لكل ما بناه الإخوان بسواعدهم طوال
عشرين عاما أو يزيد، فوقف هؤلاء الإخوان كل بطريقته، إما بالاتصال الشخصي كما فعل
السيد سابق، أو بالنشر في مجلة الدعوة كما فعل صالح عشماوي ومحمد الغزالي وأنس
الحجاجي، أو بتحمل المسئوليات مع الانقلاب كما فعل أحمد حسن الباقوري والدكتور
محمد سليمان من أول الأيام، وتلاهما الدكتور عبد العزيز كامل، وكمال أبو المجد بعد
ذلك في فترات متلاحقة، ووقفوا من سياسة قيادة الجماعة -التي تقودها إلى صدام أكيد
مع الثورة- موقف العداء.
وبلغ من هجوم صالح عشماوي، ومحمد الغزالي على
المرشد إزاء هذا الموقف العجيب حد اتهامه بالماسونية، فهما لم يفهما من تعريض
الإخوان إلى نكسة جديدة مع فاروق إذا فشل الانقلاب، ثم تعريضهم إلى نكسة أكثر منها
خطورة إذا نجح الانقلاب، إلا على أنه تدبير محكم للقضاء على دعوة الإخوان المسلمين التي عاشوا من أجلها، يفتدونها بالمهج
والأرواح.
وقد أدى هذا الموقف طبعا إلى انشقاق هؤلاء
القادة الأفذاذ للإخوان المسلمين عن الجماعة التي تربت على السمع والطاعة لمرشدها
في المنشط والمكره، وبلغ الأمر أن وجهت قيادة الجماعة عواطف أتباعها إلى اتهام
هؤلاء الإخوان بأنهم عملاء لعبد الناصر، وأنهم باعوا أنفسهم ودينهم بدنياهم، وهم
لا يدرون أنه لو صح فيهم هذا الاتهام لكان على التربية الإسلامية التي تربوا في
أحضانها العفاء، ولكن مجريات الأمور أثبتت صدق هؤلاء الإخوان في الدفاع عن دعوتهم،
فقد ثبت هؤلاء الإخوان على الدعوة لدين الله فسخر صالح عشماوي مجلة الدعوة لصالح
الجماعة، واشترك في تحريرها معاونة منه للجماعة على القيام من عثرتها، وعاد الغزالي
إلى صفوف الجماعة بعد أن شاهد ما وقع على الإخوان من ظلم واجهوه بثبات وإيمان،
واستمر سيد سابق فقيها يملأ الأرض علما ونورا).
وقد قال الشيخ الغزالي أيضا عن الجماعة
وانحراف بعض شيوخها وتحالفهم مع الطغاة -في كتابه "معالم الحق" ص ١٥٧ ط
٤-: (وعندما كان بعض اللصقاء بالإسلام يطلبون منا مداهنة الملك فاروق وأمثاله من
الرؤساء ابتغاء نصرة الإسلام، قاومت هذا العوج النفسي جهد الطاقة، لأن الإسلام
الباقي بعد ترضي المتكبرين في الأرض، شيء آخر غير الدين الذي ارتضاه الله لعباده!
ولن نكون أصحاب رسالة صحيحة إذا كان الملوك
الفسقة وأمثالهم من دهاقين الاستبداد السياسي هم رعاة الدعاة إلى الله وحماتهم الأشداء!
إن الإسلام بحاجة إلى من ينجده من هؤلاء
الطغاة.
وإن أمته المهيضة بحاجة إلى من ينقذها من
عتوهم وعلوهم، فكيف يطلب منا أن نركن إلى أولئك الطغاة والله يقول {ولا تركنوا إلى
الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون}.
وعلى المسلمين ألا يخامرهم القنوط إذا ما
رأوا بعض المرتزقة في ميدان الجهاد لا يزالون يبحثون عن طاغوت آخر ليخدموا الإسلام
بالانحناء له، والاغتراف من خزائنه، إن العبيد لا يقدّرون الحرية يوم تساق إليهم
عفوا!
ألم تر كيف صنع اليهود مع موسى لما استخرجهم
من مصر واستنقذهم من بطش فرعون؟
حنت نفوسهم إلى صنم ينكسون عنده رؤوسهم كأن
ارتفاع الهامة أمر معنت!
{وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم
يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم
تجهلون. إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون. قال أغير الله أبغيكم
إلها وهو فضلكم على العالمين}!
إن الإسلام صنع الرجال الذين هدموا كسرى
وقيصر، ولم يلتحق أحد من رجاله بالوثنيات ليستنزل في مقاصيرها نصر السماء!
فلنعد إلى صفوفنا المتواضعة، وقروشنا
القليلة، فذلك أجدى من خزائن الذهب تلتمس عند ذوي الكنوز).
وقال أيضا مهاجما قيادة الحركة الإسلامية
ويعني بذلك الهضيبي ومن معه -ص ١٨٢-: (فقضية الدعوة هي التي تعنينا، هل ستترك
الأيدي الخفية تلعب بزمام الحركة الإسلامية الكبيرة وتشل نشاطها في ميادين الحياة؟
هل من الضروري أن يحمل الإسلام أوزار قيادات
واهنة، تستر ضعفها بالاستبداد، ونكوصها بالمكر السيئ؟ ولحساب من هذا؟ إن شرف
الدعوة العظيمة في أنها صدى للإسلام، وصورة كاملة لتعاليمه الراشدة، فاعلم أن
الإسلام بني على الوضوح والثقة والتعقل..
فارفض الغموض في رسالتك واحذر قبول الريبة
باسم السمع والطاعة، فالطاعة في المعروف، والرسول ﷺ يقول: "دع ما يريبك إلى ما لا
يريبك"، ولا تتعصب إلا لما تعقل وتؤمن، فإن التسليم للأوهام بعض الطقوس
الماسونية في هذا العصر، وبعض طقوس الكنيسة في العصور الوسطى المظلمة، أما الإسلام
فبريء من هذه المسالك المحدثة.
إن القيادات مسئولة -من قبل ومن بعد- عن
الخسائر التي أصابت الحركة الإسلامية في هذا العصر، وعن التهم الشنيعة التي توجه
للإسلام من خصومه المتربصين، فقد صورته على أنه نزوات فرد متحكم، كما صورت الهيئات
الإسلامية وكأنها تسودها الدسائس وتسيرها الأهواء..)!
وقد عرّض الغزالي أيضا -ص ١٨٤- بالهضيبي،
والذي جيء به من القضاء في عهد الملك فاروق ليشرف على التزام الجماعة بالقانون،
بعد اغتيال النظام المصري للإمام حسن البنا، وذلك بإيعاز من المحتل البريطاني، كما
قال: "جئت لأطهر الجماعة من الجريمة" كما رواه عنه محمود الصباغ في
"التصويب الأمين"، وقصد بالجريمة ما وقع من اغتيال للنقراشي وغيره!
فقال الغزالي -ص ١٨٤-: (عندما أنهض الإسلام
جماعة الإخوان في مصر كيما ينصفوا مبادئه، ويذودوا عن حماه، تنضرت وجوه كثيرة،
وسرت حرارة الأمل في أوصال المؤمنين، وتمشت إلى جانبها رعدة الخوف في قلوب الفساق
والظالمين، وسارت الدعوة تطوي المراحل البعيدة وهي تمر مر السحاب، وشرفها الذي
تباهي به الأولين والآخرين أنها تتأثر بصاحب الرسالة العظمى صلوات الله عليه
وسلامه وتقبس من سناه، ثم جاءت المحنة الكبرى فقتل حسن البنا جهرة لا اغتيالا،
واقتيد خيرة إخوانه إلى المنافي والسجون، وظل الإرهاب المسلط يجرعهم الغصص ويتوقع
منهم الفتنة حتى جاء نصر الله [يعني بالثورة ١٩٥٢م]، فانجابت الغمة، وعادوا
أحرارا.
أرأيت؟
كان شرف الدعوة التي قادها المسلمون أنها خطر
على الإقطاع الزراعي، والافتيات الرأسمالي، والاستبداد السياسي، لأنها صدى الإسلام
الصحيح، والإسلام الصحيح لا يبقى حيث تسود وتتوغل هذه المفاسد الشائنة، غير أن
حفنة من الملتحقين بالركب الإسلامي شاءت أن تعكر هذا كله، وأن تجعل حصاد ربع
قرن هشيما تذروه الرياح)!
وهو يقصد وقوف الهضيبي ضد الثورة وتعاطفه مع
النظام الملكي!
ثم أكمل الغزالي صرخته بوجوه دعاة الجماعة
وشيوخها وهم يتملقون الرؤساء والملوك فيقول:
(في بعض الأقطار التي تدين بالإسلام لا تزال
نظم الحكم أسوأ ما عرف العالم، فالفرعونية الحاكمة، والقارونية الكانزة كلتاهما
تنشب مخالبها في عنق الشعب العاني المهيض، وفي أيام قريبة ذهب داعية كبير إلى هذه
البلاد، واجتمع الناس حوله يستمعون منه الحكمة وفصل الخطاب، واجتمع الجياع الحفاة
يسمعون صوت الإسلام من الرجل المرموق! فإذا بمحاضرة تستغرق الساعتين عن غزوة
الحديبية!
ووقف الخطيب في المحراب ليتملق حكام البلد
المحروب، ويزجي لهم الثناء، ويوزع عليهم البسمات!
وفي هذه المحاريب خسر الإسلام معارك ميسورة
النجاح؛ لأن الذي يحارب الظلم الاجتماعي والاستبداد السياسي [يقصد الغزالي
نفسه] رجل متكبر طائش يعيش في محراب نفسه!! أما الذين هادنوا الظلم وساروا في
ركب الملوك، وحملت أبدانهم وبطونهم من هدايا القصور السادرة، فهم أهل المحاريب
الطاهرة!
وحسبي أن أنصح المسلمين بكلمات موجزة..
فاحذروا على صفوفكم أذناب العهد البائد [عهد فاروق] احذروا الرجال الذين أذعنوا
للعبودية يوم نشرت ظلامها في الآفاق، ونكصوا على أعقابهم ضائقين يوم بدت طلائع
النور الخافت [ويقصد بالنور ثورة ١٩٥٢]؛ لأنهم خفافيش، خفافيش للأسف تزعم أنها
وحدها صاحبة الحق في الكلام عن الإسلام!
والرجل الذي يأبى الحكم بما أنزل الله في
خاصة نفسه، وفي حدود إخوانه الأقربين لا يتصور منه أن يحكم بما أنزل الله بين
الناس، وسيكذبه العالم كله يوم يزعم ذلك!
فاحذروا على كيانكم هذا التطاول الذي إذا كره
طارد العلماء المجاهدين، وإذا رضي قرب المداهنين والقاعدين، ثم ادعى بعد ذلك أنه
يحكم بما أنزل الله!
انسوا الأشخاص واذكروا دعوتكم على ضوء
الإسلام وحده.
إن العابثين بحقائق الإسلام الكبرى لهم مطامع
لم تنته بعد!
ومرة أخرى أقول لكم: إن الإسلام يحتاج إلى
الهمم البعيدة، والمشاعر الحية النابضة..).
ويقول الغزالي -في كتابه "في موكب
الدعوة" ص ١٣-: (ومن المضحك أن تنظر إلى شيوخ الأزهر، ورؤساء الجماعات
الإسلامية، فلا ترى إلا رجالا أدبرت عنهم الحياة، وقلت حظوظهم من خلال القوة،
وعناصر الكفاح، تمر بهم الفرص الرائعة لكسب شيء يدعمون به جانب الحق فلا
يتحركون، ولا يدعون من معهم يتحرك، لأنهم قادة لهم على الأتباع حق السمع
والطاعة!
وجمهور المسلمين جند من خيرة الجند، لكنهم مع
هذه القيادات العاجزة لا يكسبون لا لأنفسهم ولا لدينهم خيرا.
وقد قامت في مصر سوق دنسة، كان الملك المخلوع
فاروق يبيع فيها الشرف والدين، ويتوقح فيها على الله والناس!
كدت أجن وأنا أدفع القادة العجزة [ويقصد
الهضيبي ومن معه] إلى الحد من آثامه، فيتخاذلون ويتصاغرون!
ورمقت الرجال الذين يتصدرون الجبهة
الإسلامية، وطويت لهم في صدري الاحتقار والمقت، ورمقت جمهور المسلمين وهو يتململ
لما يعرف من فسوق فرعونه ويترصد له الحتوف، وأنا أتساءل: حتى متى ينتظرون؟
ثم جاءت ضربة الجيش المعروفة [انقلاب الضباط
الأحرار ١٩٥٢م]، فكانت ختاما عادلا لحياة ماجنة، وكانت آية على أن الله يبارك
المغامرة في سبيل الحق، ويسخط على القاعدين ولو كانوا الجبهة الإسلامية يتصدرونها
بالبرود والمهزلة)!
وقال أيضا -في ٢٢٤-: (وبيننا الآن وبين
إنجلترا معاهدة مفروضة [معاهدة ١٩٤٨]، وقد سكنت هذه المعاهدة شعور العداء
للخصوم الذين احتلوا ديارنا غدرا، وأفاد الإنجليز من ذلك سلامة خطوطهم، وهدوء
الجبهة خلفهم في أحلك الأزمات، فلو أننا قمنا بثورة أيام
"العلمين"، لكانت إنجلترا محتلة الساعة بجنود ألمان، ولتغيرت معالم
الدنيا)!
وما ذكره الغزالي هنا عن الملك فاروق وعن
شيوخ الأزهر والجماعات الدينية والحركة الإسلامية وعن تقاعس الجميع عن الثورة على
المحتل البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، هو رأي سيد قطب الذي سبق ذكره
عنه، بما في ذلك تضييع الفرصة التاريخية للثورة على بريطانيا أثناء معركة
"العلمين" بينها وبين ألمانيا على أراضي مصر!
لقد ظلت حيرة الغزالي في فهم هذه المواقف
تنتاب كثير من المصلحين إلى اليوم، فمنهم من يعزو ذلك إلى قصور في الوعي السياسي
الإسلامي، ومنهم من يعزوه للعجز والضعف، مع أنها أخطاء تتكرر في كل الدول الوظيفية
في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، ولا يمكن إلا أن تكون التزاما بتفاهمات
تجعل الجماعات كالدول الوظيفية سواء بسواء، لا تستطيع الخروج عن الدوائر المسموح
لها بالعمل فيها، فتقف حيث يريد النظام الدولي لها أن تقف فتحجم، في الوقت الذي
كان أتباعها يتوقعون منها الإقدام فلا تقدم، تماما كما هو حال الدول العربية
الوظيفية في حروبها ومعاهداتها حيث تأتي مواقفها دائما على خلاف ما تريد شعوبها!
بل وحتى في طريقة اختيار قيادات هذه الجماعات في ظل الدول الوظيفية، حيث يجاء بهم
في كثير من الأحيان بلا اختيار من أتباعهم، أو باختيارهم بعد تعزيز الدول نفسها
لفرص نجاحهم داخل جماعاتهم وإضعاف فرص منافسيهم، تماما كما يؤتى برؤسائهم
وحكوماتهم بلا اختيار شعوبهم، فيبدأ البحث عن الأسباب، وتختلف التفسيرات، بينما هي
كلها أثر من آثار تلك التفاهمات التي تفرضها الحملة الصليبية على الجميع، وأثر من
آثار تحكم هذه القوى الدولية بكل شئون هذه الدول الوظيفية وبكل ما تحتها من قوى
سياسية ومجتمعية عبر مؤسسات هذه الدول واستخباراتها وجهازها الأمني الذي تغول على
نحو غير مسبوق خاصة منذ اتفاقية "كامب ديفيد" التي توّج فيها النفوذ
الأمريكي بشكل رسمي على مصر، لتعود محمية من محميات الحملة الصليبية كما كانت منذ
١٨٨٢م، ولتسهم في حماية الأمن الصهيوني!
سيد قطب والربيع العربي:
لقد وقع في نفسي حين زرت الشيخ محمد قطب
وتوسمت فيه -بحكم الفراسة وقلما تخطئ نظرتي في ذلك كما حدث لي مع كثير ممن توسمت
فيهم أنسابهم وتبين لهم صحة ذلك- أنه هاشمي علوي النسب، لا شك في ذلك، ولا يشك فيه
من أوتي فهما في هذا العلم الوهبي!
ويرشحه ما ذكره سيد في كتابه -"طفل في
القرية" ص ٢١- عن مكانة أسرته الاجتماعية، والدينية، ووجاهتها في الصعيد،
وكون أبيه هو عمدة القرية وراثة عن أجداده، والتقدير الذي كانت الأسرة تحظى به حتى
من موظفي الدولة؛ مما يؤكد أنها عريقة النسب كريمة الأرومة والأصل!
وما ذكره سيد قطب لأبي الحسن الندوي من أن
أحد أجداده قدم من الهند إلى مصر، لا ينفي علويته، إذ في الهند كثير من الأسر
العلوية والهاشمية، وهي في هجرة دائمة بين عواصم العالم الإسلامي، وتحرص في كثير
من الأحيان على إخفاء أنسابها تجنبا للمشاكل السياسية، كما تحول كثير منهم عن
النسبة العلوية، بالانتساب لغيرهم من القبائل والأسر والمناطق بسبب المجاورة
والمصاهرة والاستيطان كما هو شائع!
وسحنة وجه سيد السمراء وملامحه المختلفة عن
سحنة محمد قد تكون من جهة الأخوال، إذ ملامح أخوته الباقين كلهم واحدة، وجوه علوية
حسينية، تنطق بنسبها، وتفصح عن حسبها!
بيض الوجوه كريمة أحسابهم
شم الأنوف من الطراز الأول
مع أن ثبوت ذلك لا يرفع من شأن سيد فوق ما
حباه الله من الشهادة، ولا يغضّ من مكانته عدم ثبوته، كما قال النبيﷺ: (من بطأ به علمه لم يسرع به نسبه)!
وقد نفي الشيخ محمد قطب ما ذكره الندوي عن
سيد ومجيء أسرته من الهند، وعده من المجاملة والمداعبة في الحديث وهو الظاهر!
ولم تطل زيارتنا تلك للشيخ محمد لمرضه،
وتواعدنا على لقاء آخر، فلم يقدر الله ذلك، إذ تفجرت الثورة العربية مطلع ٢٠١١م،
ولم يتيسر لي دخول المملكة العربية السعودية بعدها، وتعذر عليّ زيارته حتى توفاه
الله، وكنت قد قرأت بعض كتبه ومنها: "واقعنا المعاصر" و "مذاهب
فكرية معاصرة" أثناء دراستي الماجستير في جامعة أم القرى بمكة.
وبعد "الربيع العربي" حدثنا الشهيد
محمد المفرح أنا والشيخ سيف الهاجري وبعض الإخوة عن رؤيا رآها بعد الثورة العربية،
وكأنه قد زار الشيخ محمد قطب في بيته وهو يحتضر على فراش الموت، فقال له قطب: هو
أنت دكتور أو الدكتور؟
فقال الشهيد المفرح: لا لست دكتورا!
فقال قطب: بلى أنت دكتور وسأزوجك ابنتي!
وقد عُبرت تلك الرؤيا آنذاك ومضت السنون!
وبقيت مؤمنا بالأمة وشعوبها وثورتها، لا أرى
في الدول الوظيفية، ولا الجماعات الإسلامية التي تحالفت معها أي أمل في إحداث
التغيير والإصلاح، وليس إلا "الثورة أو الطوفان" وهو الاسم الأول لكتابي
"الحرية أو الطوفان"، والذي اقترح الشيخ سيف الهاجري استبدال الحرية
بالثورة، حتى يجد طريقه للنشر، حيث عكفت على كتابته في صيف سنة ٢٠٠٠م، بعد عودتي
من زيارة لبريطانيا وإلقائي محاضرة عن "الخطاب السياسي الراشدي" في مركز
أمانة معاذ الإسلامي في برمنغهام، وكانت بحضور الأستاذ المؤرخ العراقي عبدالرحمن
الحجي، وتحدثت عن أزمة المشروع الإسلامي السياسي المعاصر ما بين نموذج إمارة
طالبان وديمقراطية الإخوان، وغياب المشروع الراشدي الذي أمر النبي ﷺ به بقوله "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين"، وأثار الحضور أسئلة كثيرة بعد تلك المحاضرة، وشارك الأستاذ الحجي
في التعليق محاولا التسويق للحركة الإسلامية ومشروعها الإسلامي بأسلوب عاطفي،
وسافرنا برفقته إلى مدريد حيث يقيم، وكانت الرحلة معه ممتعة، رحمه الله، ومضينا
نحن إلى قرطبة لزيارة جامعها!
فلما رجعت إلى الكويت شرعت في تأليف الكتاب
وفرغت منه مطلع سنة ٢٠٠١ ولم يصدر مطبوعا إلا سنة ٢٠٠٣م!
وقد كنت التقيت الأستاذ سيف الإسلام حسن
البنا في مؤتمر في الكويت سنة ٢٠٠٧ أو ٢٠٠٨م، وكانت "حركة كفاية"
المصرية في أوج نشاطها، فسألته: لمَ غاب الإسلاميون عنها، حتى تصدّر قيادتها غيرهم،
وهم الأكثر شعبية؟
فقال: لقد تخلف الإسلاميون كثيرا عن الشارع
ولم يعد لهم تأثير أو حضور كما ينبغي!
وقلت له فيما أذكر: لقد كان ارتباطهم
بالأنظمة العربية وتحالفاتهم معها هو الشؤم الذي يعيق حركتهم، فقد حملوا أوزارا من
زينة القوم!
وأهديته نسخة من كتابي "الحرية أو
الطوفان".
وقبل الثورة بأشهر وفي تاريخ ٢٦/ ٧/ ٢٠١٠م تلقيت
رسالة من الدكتور عصام العريان رحمه الله، وكنت قد أرسلت نسخا من كتاب
"الحرية أو الطوفان" لعدد من قيادات العمل الإسلامي ومنهم الشهيد
العريان، فأرسل هذه الرسالة المختصرة:
(تحية للدكتور حاكم المطيري وشكر واجب من د.
عصام العريان)!
فأجبته:
(وعليكم السلام ورحمة الله أخي الأستاذ
الفاضل، والمجاهد المناضل عصام العريان، وبارك الله في جهدكم وجهودكم وجهادكم فيما
تسعون إليه من الإصلاح، وأبشرك بحديث: "طوبى للغرباء الذين يصلحون ما أفسد
الناس"
ويسعدني التواصل الدائم بيننا، حفظكم الله،
ورعاكم..
أخوك د. حاكم المطيري)..
فأرسل في اليوم نفسه:
(السلام عليكم ورحمة الله
أخي الكريم د. حاكم..
شرفت بتلقي كتابكم السفر الكبير "الحرية
أو الطوفان"
أعكف الآن على قراءته بتأني!
يبدو أنك تدلي بدلوك في معترك يحتاج إلى جهد
جهيد وعمل شاق!
أسلوبك شيق، وسلس، وسهل..
تتناول أمورا في غاية الأهمية!
أشد على يديك، وأتمنى الاستمرار في طرح نماذج
تطبيقية من الواقع بعد جولة التنظير الكبرى التي طرحتها في السفر..
ستواجهك معارك كبرى، فلا تبتأس! ولا تحزن!
فهذا قدر الرجال!
عندما انتهي من القراءة الأولى قد أعرض لبعض
المسائل الهامة في الكتاب إن شاء الله.
إلى لقاء قريب!
رسالتي الأولى كانت فقط للاطمئنان أن الإيميل
صحيح!
بارك الله فيكم، وبلغنا رمضان، ورزقنا فيه
العمل الصالح، ولا تنسنا من دعائكم..
تحياتي لجميع الأخوة والأحباب، وللأهل الكرام
أخوكم عصام العريان).
فأجبته:
(وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
ويسعدني أي نقد، أو استشكال، أو إضافة، مع
العلم أن "الحرية أو الطوفان" هو دراسة تاريخية للخطاب السياسي
الإسلامي، وقد جاء بعده "تحرير الإنسان" وهو دراسة عقائدية وأصولية
وفقهية للخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، وقد نفدت نسخ الكتاب، وسأحاول
البحث عن نسخة وسأرسلها إليك، فالعلم رحم بين أهله..
وقد أثارت هذه الكتب وما تزال ضجة في الخليج
والجزيرة التي هي أحوج ما تكون للتحرير من الاستعمار والاستبداد!
وقد حاولت في موقعي أن أجيب على كثير من
الأسئلة والردود وآخرها سلسلة "أهل السنة والجماعة إشكالية الشعار وجدلية
المضمون"! وأبشركم بأن هذا الخطاب الراشدي الذي نبشر به يجد قبولا واسعا بين
كل الفئات، كما يواجه أيضا حربا ضروسا، وقد دخلت هيئة كبار العلماء بالمملكة على
الخط بتقريظ الفوزان لرد حمد عثمان على "الحرية أو الطوفان"، ونسأل الله
الثبات على الأمر، والعزيمة على الرشد، والصبر على الشدة!
وتحياتي لك وللأخوة جميعا) انتهت الرسالة!
لقد كانت الروح الثورية تملأ الشباب العربي
في كل بلد همة وعزيمة، وقد صارت تسيطر عليهم في يقظتهم وأحلامهم، كما فصلت ذلك في
سلسلة "أسطورة الثورة"!
وقد تواترت الرؤى عنهم في شأن الثورة، وهذه
رؤيا أحد الشباب أرسلها لي قبل الثورة المصرية بشهر واحد!
وهو شاب صالح من حفاظ القرآن، من آل البيت
النبوي الشريف، من مدينة ...
جاء فيها:
(رسالة بخصوص رؤيا سيد قطب)..
التاريخ السبت ٢٥/ ١٢/ ٢٠١٠م:
(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أسأل المولى أن تكون بخير وإلى خير..
شيخنا الكريم..
هذه رؤيا كنت قد رأيتها قبل سنين تذكرتها
اليوم، ولم أخبر بها أحدا، وسأعرضها لك، لأني أثق فيك:
رأيت أني في مسرح، جالس على كرسي، وعلى منصة
المسرح سيد قطب رحمه الله، يتحدث عن الحاكمية، وكلامه المذكور في كتاب "معالم
في الطريق"!
ولا يوجد أحد سواي في المسرح، إلا شخص واحد
إمام مسجد!
المسرح لون أرضيته حمراء والكراسي حمراء!.
حفظنا الله وإياكم)..
فأجبته حينها:
(وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته...
رؤيا خير إن شاء الله، ورموزها تبشر بالخير:
سيد قطب، ومعالم على الطريق، وإمام المسجد، والحديث عن الحاكمية..
حاكم المطيري).
لقد كانت هذه الرؤيا تنبئ عن:
١- قرب حدوث الثورة في مصر!
٢- وعودة روح سيد قطب الثورية من جديد على
المسرح!
٣- وسقوط الطاغوت عن عرشه الذي طالما دعا سيد
إلى إسقاطه!
٤- وفي اسم سيد قطب إشارة إلى سيادة وأقطاب
كبيرة ستتغير!
٥- وسيكون المشهد مخضبا بالدماء الحمراء!
٦- وسيكون للشباب وللمساجد دور في الثورة!
٧- وسيكون لجيل معالم على الطريق نصيب في
التغيير!
٨- وستعود قضية الحاكمية وتحكيم الإسلام في
واقع الحياة من جديد قضية حية!
وفي الرؤيا إشارات أخرى الله أعلم بها!
وبعد تلك الرسالة بثلاثة أيام جاءتني هذه
الرسالة التي تؤكد ما جاء في الرؤيا، وأن روح سيد قطب الثورية بدأت تعود للشباب
الإسلامي المصري، بعد أن وصلت بهم نظرية (دعاة لا قضاة) إلى طريق مسدود، استحكم
فيه الباطل، واستبد فيه الطاغوت، وضجت بسببه الأرض من الظلم والطغيان، وانتهاك
حقوق الإنسان، فكان لا بد من معالم للطريق مرة أخرى، يستهدي بها الحائرون، ويستبصر
بها الثائرون!
(رسالة عن تنامي الروح الثورية في مصر)...
28/12/2010م..
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على
رسول الله..
السلام عليكم ورحمة الله..
العلامة المصلح أستاذ هذا الجيل.. حاكم
المطيري..
بعد قراءة مقالكم بالأمس (نظرات شرعية) وأنا
أقرأ لكم منذ أكثر من عامين، وجدت في نفسي حاجة أن أرسل لكم هذه الرسالة:
أجد توافقًا فكريًا.. أو قل إنك تصل إلى ثمرة
الفكرة التي أبحث عنها منذ سنوات، فكتبت ما أريد أن أكتبه ولا أستطيعه!
توقفت بالأمس كثيرًا عند قولكم: لقد وأدت
الجماعة روح الثورة القطبية، وتبنى أفكاره أناس لم يسيروا على ما أراد!
هذا ما كنت أصرح به دائما، وأنا أنتمي لروح
الفكرة التي صاغها الأستاذ الشهيد سيد قطب، دون تعصب..
ورغم ضخامة الطرح الكبير للأستاذ سيد لم يجد
من يحمله!....
وكنت أتساءل من سيخلف الأستاذ سيد قطب رحمه
الله، وأحسب أنك ذلك، ولا أزكيك على الله، فله المنة والفضل، فأسميك بحق أستاذ هذا
الجيل، ومصلحه..
بالطبع أنا لم أكتب إليكم كلمات ثناء وإعجاب
بقدر ما أكتب ما أشعر به منذ أن قرأت (تحرير الإنسان).
وأكتب أسألكم.. إنني أريد أن أخدم الفكرة
التي تحملها، وأكون عونًا للفكرة، فمشكلة خطيرة من مشكلات هذه الأمة أنها لا تنزل
مصلحيها منازلهم، بل وتوأد أفكارهم بتخليها عنهم، والإنسان المخلص ـ وجند الله ـ
لا يبحث عن انتساب ذاتي لفكرته، بقدر ما يبحث عن فكرة إصلاحية يعيش لها ومن أجلها،
مثلما عزل الخليفة العادل عمر رضي الله عنه، القائد الملهم خالد بن الوليد رضي
الله عنه عن قيادة الجيش.. وظل خالد هو خالد، وهو قائد وهو جندي.. وبذل ما بذل من
أجل الله وحده..
ولهذا أقول: يجب على كل المخلصين والمصلحين
والمفكرين أن يسلموا الراية.. على الحقيقة يسلموا الراية.. فمن مازال يبحث ويفكر،
أو من كان يبحث عن حل، أو كائنا ما كان.. هذه هي الراية وجدت، وهذه هي معالم
الطريق... حقًا..
إنك تقف بالفكرة التي تحملها على باب الخروج
من النفق المظلم، وليس على كل مخلص إلا أن يتبع عن وعي وعلم وبصيرة ما وصلتم أنتم
إليه، فما وصلتم إليه ليس هو بالفكر الأهوج، ولا هو بالفكر المسالم، إنما هو الفكر
الرباني المتوازن، ووالله ما يقرأه منصف إلا واتبعه، وإنني لم أعد أجد في نفسي
حيرة مثل السابق، لا سيما بعد أن تتفتت خيوط الأفكار مع خيوط الواقع وأضيع بينهما،
فشمولية الفكرة الذي وهبها الله إياك، تلم بقضيتنا من كل جوانبها، أنا أؤمن بإفلاس
الحركات الإسلامية الآن، وأؤمن أن فكركم ورسالتكم هي ـ بإذن الله ـ بداية التغيير
وطريق الخلاص، وأريد أن أخدم هذه الفكرة، وأكون عونا لكم، ولهذه الفكرة بكل ما
أستطيعه، وأتمنى أن أجد ما أستطيع أن أقدمه لهذه الفكرة، بارك الله لكم وأتم عليكم
نعمه ظاهرة وباطنة، أتمم يتمم الله لك، واستعن بالله ولا تعجز، ولا يدخلنك عجب
فتهلك، فإن الله له الفضل، ومنه الجزاء. في رعاية الله..
أحمد طه .. مصر..
....
الرد:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
أخي الفاضل أحمد طه..
حفظك الله ورعاك، وسدد خطاك آمين..
أخي الكريم..
أحمد الله الذي له الحمد وحده أن هدانا
ووفقنا جميعا لحمل هذه الرسالة، وأن استعملنا في طاعته، وألف بين قلوبنا على غير
سابق معرفة، إلا محبته ومحبة رسوله ودينه..
أخي أحمد..
ليست هذه فكرتي وإنما ما أدعو إليه أنا وكثير
من إخوانك الدعاة في كل بلد هو العودة للخطاب الراشدي وبعثه من جديد والدعوة إليه
ونصرته، فإن أصبنا فذلك فضل الله، وإن أخطأنا رجعنا إلى الأصل الذي نحتكم إليه
الكتاب والسنة وسنن الخلفاء الراشدين، فهي المعيار والحكم على آرائنا وأفكارنا في
خطابنا السياسي، وإنما اجتهادنا هو في كيفية تنزيل هذا الخطاب على أرض الواقع
وتحقيقه على الأرض، لنصل إلى حكومات راشدة تفضي بنا إلى خلافة راشدة..
ومرحبا بك في (مؤتمر الأمة) الذي يحمل مشروع
الأمة...).
ثم جاءت "الثورة العربية" على قدر
رباني، بعد أن بلغ السيل الزبى، وضاقت الشعوب العربية ذرعا بالطغيان والاستبداد،
وكتبت مقالا في "أسطورة الثورة" بتاريخ ٩/ ١١/ ٢٠١١م قلت فيه:
(لقد كانت روح الثورة تسري في وسط الشباب
الإسلامي في مصر، والذي أعاقه الخطاب الديني التقليدي بشقيه الحركي والسلفي، فوجد
بغيته في كتاب "الحرية أو الطوفان"، وكتاب "تحرير الإنسان"،
حيث وجد فيه السلفيون الدليل على مشروعية الثورة في خطاب قرآني ونبوي وراشدي، كما
وجد فيه الحركيون روح سيد قطب التي تم وأدها منذ خرج كتاب "دعاة لا
قضاة"، لتعيش الدعوة الإسلامية المعاصرة منذ ذلك الحين أكبر أزمة في تاريخها
في الصراع بين روح سيد قطب الثورية الرافضة للواقع البائس، التي تستهوي الشباب
وعنفوانهم وحاجتهم للتغير نحو واقع أفضل، وروح القاضي الهضيبي التي تميل للمسالمة
والموادعة واحترام النظام كما هي طبيعة رجال القانون!
حتى حسم الشعب المصري خياره، وعزم أمره،
واختار طريق الشباب الثائر، لا طريق القانون الجائر!
فإذا دعوة سيد قطب تعود من جديد، غير أنها
هذه المرة بلا عزلة شعورية، وبلا اعتزال للجماهير، وبلا مثالية حالمة يسعد بها
الطاغوت وحزبه حين يرونها تحلق بعيدا عن واقعهم، بل عادت دعوة سيد وقد تسلحت
بالجماهير الثائرة، وبالحنكة السياسية التي تجمع بين الواقعية والمثالية، لتدك عرش
الطاغوت، ولتتجاوز الأزمة التي عاشتها الدعوة في مصر نصف قرن، وهو ما يوجب على من
أراد معرفة أسباب تعثر التغيير في مصر طوال هذه المدة الوقوف عنده، ودراسته دراسة
واعية) ا.هـ
وهو ما لم يتيسر لي آنذاك دراسته دراسة عميقة
واعية كما يجب، وظننت -والظنون كواذب- أن الواقع بعد الثورة العربية قد تجاوز تلك
المرحلة، فلا تستحق الانشغال بها، فهناك ما هو أولى، فكان أكذب الحديث الظن!
وقد كنت سجلت ورشة سياسية في أبريل ٢٠١١
منشورة على اليوتيوب في موقعي بالصوت والصورة حذرت فيها من الانقلاب العسكري
القادم على الثورة بترتيب أمريكي وتمويل خليجي!
وكنت أظن بأن قوى الثورة كانت حرة فعلا!
وأنها ستكون أكثر حذرا من تكرار تجارب الثورات التي وأدتها أمريكا في العالم
الإسلامي كثورة مصدق في إيران!
فلما زرت مصر في فبراير ٢٠١٢ استضافني مركز
"حضارة" في محاضرة لي قدم لها د. عبدالفتاح سيف، كما استضافني رئيس
اتحاد الأطباء في مصر د. عبدالمنعم أبو الفتوح -فك الله أسره- في محاضرة في مقر
الاتحاد، واستضافني حزب "البناء والتنمية" في ورشة سياسية في مقره،
واستضافتني مراكز شبابية أخرى التقيت فيها م. محمود فتحي وعلي فريد وغيرهم، وأجرت
معي قناة "الناس" مقابلة..
وقد كنت في القاهرة حين حاصرت الجماهير
الثائرة مبنى المجلس العسكري، ومبنى أمن الدولة، وكانت حشود شباب الإخوان هي التي
تطوقها بأسوار بشرية لحمايتها من الاقتحام، فقلت حينها في إحدى الورش السياسية
وكانت بحضور بعض قيادات الثورة من الشباب: اليوم له ما بعده فإن حررت الجماهير
المبنى، انتصرت الثورة، وإلا عاد النظام السابق!
وفشلت الجماهير في دخول المبنى؛ فقد حماه
الإخوان؛ ليكرروا خطأهم مرة أخرى بالتحالف مع العسكر والتفاهم مع أمريكا!
وجاء السيسي، والانقلاب العسكري الأمريكي،
والثورة المضادة سنة ٢٠١٣م ومذبحة رابعة والنهضة، وكان الجهاد قد وجب شرعا دفاعا
عن النفس والعرض والدين والثورة والحرية والأمة، فكان الرد "سلميتنا أقوى من
الرصاص"، تكرارا لموقف الهضيبي "دعاة لا قضاة"، وهو ما يخالف سنن
التغيير في كل المجتمعات الإنسانية عبر تاريخها البشري، ويخالف سنن القرآن
وهداياته الذي أوجب الجهاد والدفع عن النفس بالقوة فضلا عن الدفاع عن الأمة
والثورة!
الإخوان بين التنظيم الدولي والنظام الدولي:
وكان ما كان من مأساة اكتوى بنارها العام من
الناس والخاص، واستعاد النظام المصري دوره الوظيفي لمواجهة الثورة في كل بلدان
الربيع العربي لصالح المحتل الدولي، وتراجعت الثورة السورية، وعادت الجماعة للخط
المرسوم لها دوليا وفق التفاهم التاريخي مع النظام الدولي و"الحكومة
العالمية" في عاصمتها التاريخية لندن حيث تدار الجماعة من طرف مجموعة تخضع
لهذا التفاهم، وهو ما ذكره د.مجدي شلش عضو شورى الجماعة في مقاله بعنوان
"التنظيم الدولي منهج وإدارة وسياسة" بتاريخ ١٦ أغسطس ٢٠١٩ حيث يقول فيه
بكل صراحة ووضوح مشخصا أزمة الجماعة في هذه المجموعة التي تديرها من لندن:
(الدكتور محمود حسين والأستاذ إبراهيم منير
بحسب ظني لا يشكلان حالة فردية شخصية، قد تخطئ وتصيب، لكن يمثلان منهجية ورؤية في
إدارة وسياسة شؤون الجماعة، ولذلك لا غضاضة أبدا في نصحهما على الملأ؛ لأن المفسدة
التي تترتب على هذه المنهجية كبيرة وخطيرة، وقد تؤدي إلى هدم البنيان من أساسه!
ونستطيع أن نقول الآن وبكل قوة وصراحة
وعلانية؛ لأننا نتكلم في أمر إدارة وسياسة ورؤية: أن الدكتور محمود حسين والأستاذ
إبراهيم منير لا يمثلان ذاتهما، ولا وقعا في خطأ شخصي فيكون فيه العفو أو الصفح أو
السكوت عن النصح، إنما يمثلان منهجية تعامل، وسياسة مجموعة من الإخوان يرونها
صحيحة وسليمة، حتى ولو وقف العالم كله ضدهم، لقالوا: "...إنما نحن
مصلحون"، وهذه بعض سياستهم واستراتيجيتهم بكل صراحة وعلانية:
أولا: شكلية المؤسسات الشورية داخل الجماعة..
ثانيا: الكفران التام بالثورة المصرية؛ لأنها
ماتت في نفوسهم، ومحاربتها بكل قوة ناعمة وخشنة، ففعلوا الأفاعيل لهدم الثورة وتأخرها،
وذكرت لذلك شواهد كثيرة في مقال سابق بعنوان "المشهد الثوري المصري".
ثالثا: الإخوان في نظرهم جزء من "النظام
العالمي" لا يتخطى أدبياته مهما كانت فاسدة، وخطوطه الحمراء مهما كانت مخلة،
فصانعوا [داهنوا] الحكومات الغربية لأجل العيش والحياة، وحتى لا تتضرر مصلحة
الجماعة، وفي الحقيقة مصالحهم الشخصية..
كان آخر لقاء لي مع أحد مسؤولي المكاتب
الإدارية المعين من قبلهم قال لي: لا يمكن تغيير القيادة! قلت -وكنت أنا مسؤوله-:
لماذا؟
قال: لأنهم أعرف الناس بمصلحة الجماعة، ولن
يستطيع أحد أن يدير الجماعة من الناحية الأممية إلا هم!
فاعترضنا على كلامه جميعا، وقلنا: الجماعة
ليست متوقفة على أشخاص مهما كانوا، والصف فيه من يناسب ذلك ويزيد.
رابعا: الصف لا اعتبار له ولا وجود، وإنما
يجب عليه أن يتحرك بحركتهم، بحكم السمع والطاعة والثقة، الصف عندهم في حكم القاصر
واليتيم، فلا بد من الوصاية عليه وترتيب أموره.
خامسا: شيطنة وطرد المخالف، ووسمه بأبشع
الألفاظ، ماذا فعلوا بالدكتور محمد كمال؟ سلموه لقمة سائغة للقتل بوصفه من أحدهم
بأنه داعشي الإخوان، والإخوان براء منه، الرجل المجاهد في نظرهم إرهابيا دمويا
قاتلا، كم نشروا من مقالات، وكم كتبوا من تغريدات، وكم ألفوا من دراسات وأبحاث
للصف تقول بأن المقاومة عنف، وبأن الجهاد خاص بالكفار، وأنه لا سبيل إلا بالعودة
في ركاب النظام، فالخروج على الحاكم جريمة في كل الأحوال، وما زال عندي بحث
مكتوب بخط أيديهم ويدرس في مجالسهم يقول بذلك وأشنع.
وأخيرا...
هؤلاء لا ولاية، ولا بيعة، ولا طاعة لهم، ولا
ثقة فيهم، هم أقرب إلى الانقلابيين منهم لدعوة سامية أسسها مجاهد وشهيد، دعوة فيها
زبدة الأمة من كل عالم وفقيه، وسياسي بارع وأديب أريب، تركها لهؤلاء جريمة يحاسب
عليها كل من علم وسكت، ومن لم يعلم فيتبين حتى يقف على الحقيقة المرة، فيأخذهم من
نواصيهم، ويحاسبهم بما اقترفت أيديهم..)!
انتهى كلام د. شلش وكأنما المشهد نفسه يتكرر
مرة أخرى بعد ستين سنة من انقلاب جمال على نجيب ١٩٥٤م وزج الإخوان في السجون في ظل
إدارة أمريكا للصراع آنذاك، فالمشكلة نفسها، والحجج والذرائع هي هي! والمواجهة بين
أطراف الصراع ذاتها! وأمريكا من ورائها!
وهو ما أدركه مؤخرا كثير من قيادات الجماعة
ظنا منهم أن هذه المجموعة الإخوانية في لندن وسويسرا وباريس أسيرة رؤاها الخاصة
بضرورة الارتباط بالنظام الدولي وعدم الخروج عليه حفاظا على مصلحة الجماعة! دون أن
يدركوا طبيعة النظام العربي الوظيفي نفسه منذ تأسيسه في مصر بعد مؤتمر القاهرة سنة
١٩٢١م، وتنظيمه في إطار "الجامعة العربية" سنة ١٩٤٥م، ودوره المنوط به
في الحفاظ على وجود الحملة الصليبية ذاتها وقواعدها العسكرية، والحفاظ على وجود
المحتل الصهيوني نفسه!
ودور الجماعة الإسلامية التي ولدت بولادة
النظام العربي الوظيفي، وترعرعت في ظله، معترفة بشرعيته، والأدوار المرسومة لكل
منهما، والتفاهم على التعاون بينها وبين أمريكا وبريطانيا منذ ١٩٤٢م، والذي يعد
الخروج عنه سببا لتصفية الخارج حتى ولو كان مؤسس الجماعة الشهيد حسن البنا، الذي
كان خروجه عن تلك التفاهمات في الجهاد في فلسطين كاف في اغتياله وإعادة ضبط سلوك
الجماعة بالمستشار القضائي حسن الهضيبي!
وكذا كان خروج سيد قطب كاف للحكم عليه
بالإعدام، وهو ما جرى مع الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي اختطف من قصر الرئاسة حتى
لا يعلم أحد أين مكانه! إلى أن خرج في محاكمة هزلية في قفص من وراء الزجاج في مشهد
معبر عن طبيعة الأنظمة العربية الوظيفية وحال شعوبها وكيف تديرها الاستخبارات
الأمريكية!
لقد دفع الشهيد د. محمد كمال الثمن، كما دفعه
الشهيد سيد قطب، ووصم بالغلو والتطرف كما وصم سيد قطب، ومن الجماعة نفسها!
كما دفع الشهيد محمد مرسي وآلاف المخلصين من
أعضاء الجماعة ثمن ثباتهم ورفضهم في السجون للمساومات والعروض التي كانت وراءها
أمريكا ودول الثورة المضادة!
وعادت الأسئلة تطرح من جديد: ما الذي يحدث
للجماعة؟
ولمَ
تتكرر الأخطاء نفسها؟ ولمَ يتكرر المشهد السياسي منذ ١٩٥٢م؟ دون إدراك عميق لطبيعة
النظام الدولي الذي تخضع له مصر كلها بنظامها السياسي والعسكري، والقوى التي تشارك
في العملية السياسية، وهو ما يجعل أداءها نمطيا، وفق المحددات التي يضعها النظام
الدولي، ويلتزم بها الجميع على حد سواء، النظام والمعارضة، وهو ما تجلى بوضوح بعد
انقلاب السيسي، حيث ظلت قوى الثورة المصرية في الخارج تراهن على تغير موقف الإدارة
الأمريكية منها، وعلى تدخلها لعودتها إلى السلطة أو تغيير النظام العسكري! وتحرص
على عدم الخروج عن الدور المسموح لها به دوليا!
وهو ما أكده د. محمد حبيب نائب المرشد -الذي
استقال احتجاجا على الممارسات غير المفهومة داخل الجماعة- وقال في كتابه
"الإخوان المسلمون بين الصعود وتآكل الشرعية" - ص ٢٨- وهو يتحدث عن نجاح
الثورة وكيف أضاعها الإخوان بتفاهمهم مع المجلس العسكري، وكأنما يتحدث عن المشهد
نفسه الذي حدث سنة ١٩٥٢م:
(كانت تلك اللحظات الفارقة في تاريخ مصر مناسبة
وملائمة للغاية لكي يتشكل مجلس رئاسي يدير شئون البلاد، ثم هيئة تأسيسية لكتابة
دستور يعبر عن هذا التوافق العظيم، لكن رفاق الثورة ارتكبوا خطأ العمر، سلموا
الثورة للمجلس العسكري على طبق من فضة!
والعسكري بثقافته وطبيعة تركيبته، لا يمكن أن
يكون ثوريا، أسلوب حياته لا ينسجم مع طبيعة الثورات... لكن
المجلس العسكري في حاجة إلى غطاء شعبي وسياسي يتناغم معه، وجد بغيته في التيار
الإسلامي، وفي القلب منه الإخوان، فالأخير يخضع لنفس ثقافة السمع والطاعة، لكن
ممزوجة بشورى، طبقا لطبيعته المدنية، ومنهجه المحافظ غير الثوري... ثم هو يبحث في
الوقت ذاته عن مؤسسة عسكرية قوية، لها سمعتها وهيبتها، وتاريخها، تستطيع أن تبسط
هيمنتها على البلاد، وتستطيع أيضا أن تواجه أي عنف أو بلطجة تابعة لداخلية وحزب
نظام مبارك.. والتقت الرغبتان..
لكن على حساب ألق الثورة ووهجها.
كانت أولى التفاهمات، مسألة التعديلات
الدستورية... تسع مواد للاستفتاء عليها، حتى يتمكن المجلس العسكري من بسط هيمنته
بشكل شرعي على البلاد.. وثار جدل كبير.. كان السؤال المطروح: تعديلات أي دستور؟
الدستور الذي أسقطته الثورة وصار جثة هامدة؟! وهل يجوز إجراء عملية جراحية لجسد ميت؟!
لكن المجلس العسكري والاخوان كان لهما رأي آخر، وهو أننا نريد خلال ستة أشهر إجراء
انتخابات برلمانية، لتبدأ عملية الاستقرار!!
ومن الغريب والعجيب استحضار المادة الثانية
من الدستور قبل وأثناء عملية الاستفتاء على التعديلات الدستورية، والتي لم تكن مطروحة أصلا ضمن المواد
التسع.. لكن الأمر كان واضحا وهو محاولة استثارة البسطاء من الناس للإقبال على
الاستفتاء بنعم، وكأننا في معركة من أجل العقيدة!!
في يوم السبت ١٩ مارس ۲۰۱۱، شهدت عملية الاستفتاء على التعديلات
الدستورية إقبالا شديدا غير مسبوق في تاريخ مصر.. وللإنصاف كانت الجماهير حريصة
على الإدلاء بأصواتها، وهو ما دفعها للوقوف ساعات طويلة أمام لجان الاستفتاء دون
شعور بكلل أو ملل، وكانت السعادة والبشر والمودة بادية على وجوههم وفي تصرفاتهم...
من جهة أخرى، أحدثت هذه التعديلات شرخا في
المجتمع المصري قسمه إلى فسطاطين؛ فسطاط إسلامي وآخر علماني!
في ۳۰ مارس ۲۰۱۱، أصدر المجلس العسكري إعلانا دستوريا من ١٣
مادة، متضمنة المواد التسع التي تم الاستفتاء عليها.. كان هذا الإعلان
انقلابا حقيقيا على الاستفتاء.. إذ لم يتم الاستفتاء عليه، ولم يؤخذ رأي الشعب
في نظام الحكم الذي تضمنه، ولا مجلس الشورى الذي فرضه، ولا نسبة ٥٠٪ للعمال والفلاحين التي أصر على الاحتفاظ بها.. لقد
تم ذلك للأسف برضا أو بصمت التيار الإسلامي كله!!
وكما صمت التيار الإسلامي على الإعلان
الدستوري، صمت أيضا عن الانتهاكات البشعة والجرائم التي ارتكبت في عهد المجلس
العسكري، مثل كشف العذرية، ومذبحة ماسبيرو، ومحمد محمود، ومجلس الوزراء، وإستاد
بورسعيد، ومحمد محمود، والعباسية.
يوم الاثنين ٢ يناير ۲۰۱۲، نشرت لي جريدة الدستور المصرية مقالا
بعنوان "العار" قلت فيه ما يلي:
لقد كان إلقاء القبض على الفتيات من ميدان
التحرير في ٩ مارس ٢٠١١، وإلقائهن في السجن الحربي، والاعتداء عليهن، وانتهاك
أعراضهن تحت اللافتة القبيحة والقميئة المسماة بكشف العذرية؛ جريمة.. أظن أن
العالم كله شاهد أعمال القتل التي قامت بها قوات الشرطة العسكرية والجيش، فضلا عن
عمليات السحل والقمع والبطش، التي جرت للمعتصمين أمام مجلس الوزراء وفي شارع القصر
العيني في الفترة من ١٦ إلى ١٩ ديسمبر ٢٠١١م..
وأظنه شاهد كذلك هذا المشهد المهين للمصريين
جميعا، والذي تناقلته صحف العالم، أقصد به مشهد الفتاة "ست البنات" التي
تم سحلها وتعريتها من قبل عدد من الجنود..
لقد آلمني وأحزنني كما آلم وأحزن كل إنسان
وطني غيور الموقف السلبي لبعض الفصائل الإسلامية من هذه القضية.. وقد سبق في ذلك
تبريرات وأعذار أوهى من بيت العنكبوت... كان أولى أن يصمتوا.. وإذا كان موقفهم ذلك
راجعا إلى محاولتهم عدم إغضاب المجلس العسكري، خوفا أو ممالأة، فليعلموا أن الشعب
المصري كان أحق أن يغضبوا له..
كان يجب عليهم ان يغضبوا للقيمة والمبدأ..
كان عليهم أن ينتصروا للعزة التي استبيحت
والكرامة التي انتهكت، وليعلموا أن الشعب والتاريخ لن يغفر لهم ذلك..).
وقال محمد حبيب أيضا -في ص ٣٨- عن اتخاذ شورى
الجماعة قرارا بعدم الترشح للانتخابات الرئاسية، ثم تراجعه عنه بعد اتصال المشير
الطنطاوي رئيس المجلس العسكري بهم (عند تلك المرحلة، قررت قيادة الجماعة ترشيح
أحد أفرادها، وهو المهندس خيرت الشاطر، خاصة بعد أن أعلن حازم صلاح أبو إسماعيل عن
ترشحه وحسب ما أعلنته إحدى بنات خيرت الشاطر على صفحة التواصل الاجتماعي الخاص
بها أن هذا الترشح جاء نتيجة اتصال المشير طنطاوي بوالدها.
وعلى إثر الإعلان عن هذا الترشح، أعلنتُ في
منتهى الوضوح أن هذا الأمر يعتبر خطأ استراتيجيا، وانه سوف يكلف الجماعة والوطن
غاليا..
وقد حدث ما حذرت منه فعلا.
وقد علمت أن مجلس شورى الجماعة في جلسته
الأولى لم يكن موافقا على الترشح.. فكان أن تأجلت الجلسة بضعة أيام إلى جلسة
أخرى.. وما بين الجلستين، قام مكتب الإرشاد بممارسة الضغط على أعضاء المجلس لتغيير
رأيهم..
وقد حدث فعلا، إذ جاءت نتيجة التصويت بموافقة
٥٦ عضوا مقابل رفض ٥٢ عضوا..
وهذا يدل على أن ما يقرب من نصف أعضاء مجلس
الشورى كانوا مدركين لحجم التحديات الداخلية والخارجية التي يمكن أن تواجه الجماعة
حال فوز مرشحها في انتخابات الرئاسة.
في تصوري، كان السماح بنزول خيرت الشاطر
للترشح في مواجهة حازم أبو إسماعيل، هو تفتيت الأصوات حتى يفوز المرشح الذي يراهن
عليه المجلس العسكري.. وتكتمل الصورة مع ترشح اللواء عمر سليمان لانتخابات
الرئاسة مع أنه سبق أن أعلن رفضه للفكرة، ثم يتبين بعد ذلك أن عدد التوكيلات التي
قدمها كان ينقصها ۳۱ توكيلا، وهو ما يعني عدم استيفاء العدد الضروري للترشح،
وبالتالي خروجه من المنافسة، وكأن الرجل قد دخل ميدان الترشح -قصدا- لكي
يخرج ومعه الإخوان خيرت الشاطر وحازم أبو إسماعيل).
لقد كانت الجماعة كما الدولة كلها تدار وفق
تفاهمات مع النظام الدولي الذي كان يتحكم في المشهد السياسي كله؛ ابتداء من الرئيس
المخلوع حسني مبارك إلى المجلس العسكري والقوى السياسية التي كانت على اتصال مباشر
مع السفيرة الأمريكية بالقاهرة، والتي قامت بالاتصالات بهم لتشكيل الحكومة بعد
انقلاب السيسي على مرسي، تماما كما كان يفعل السفير الأمريكي كافري بعد انقلاب
١٩٥٢م!
وهو ما اكتشفه د. محمد حبيب الذي تفاجأ بأنه
وهو نائب المرشد لم يكن يعلم عن الاتصالات بين الجماعة وأمريكا من وراء الكواليس!
لقد تجلى بوضوح أن النظام الدولي
"والحكومة العالمية" التي عمّدت النظام العربي و"الجامعة
العربية" منذ ١٩٤٥م لتمثيل الشعوب العربية في نظامها الدولي، وهي المسئولة عن
ضبط سلوك الأنظمة والشعوب فيها؛ قد عمّدت أيضا "الجماعة" لتمثيل الحالة
الإسلامية فيها؛ فهي المسئولة عن الجماعات الأخرى، وعن التصدي لكل حالة خروج عن
الخط المرسوم لها، فلا تكاد توجد حالة إسلامية في العالم العربي كله ثائرة على
النظام الدولي وترتيباته لم تتعرض لهجومها واتهامها وحصارها، وهي الجهة الإسلامية
الوحيدة المرشحة كبديل سياسي عند الحاجة في كل بلد يحدث فيه فراغ سياسي، ولا يعترف
النظام الدولي بغيرها مهما كان ممثلا حقيقيا لشعبه؛ كما جرى لجبهة الإنقاذ في
الجزائر!
وكما حدث في ليبيا بعد الربيع العربي وسقوط
نظام القذافي؛ حيث استطاع النظام الدولي عبر الدعم الإقليمي للجماعة جعلها الممثل
للثورة، مع تهميش القوى الحقيقية لها!
فالجامعة العربية هي الواجهة الرسمية للنظام
العربي الوظيفي، والجماعة هي الواجهة الشعبية له، ولهذا بادرت في اليمن في ظل
الثورة وخروجها عن السيطرة للتحالف مع الثورة المضادة ودولها الخليجية لإعادة
ضبطها وفق ترتيبات النظام الدولي!
قصتي مع سيد:
ونسيت رؤيا الشهيد محمد المفرح، وابنة محمد
قطب، والوعد بالزواج بها!
حتى إذا جاء مقال "الواقعيون.. ووحي
الشيطان" هذا، فإذا هو يضطرني إلى قراءة تراث سيد قطب لأول مرة في حياتي!
وقراءة أهم ما كتبه قادة الجماعة عن تلك الحقبة! لفهم هذه الازدواجية في السلوك
والممارسة، والفجوة بين الخطاب السياسي الإسلامي المعاصر وواقع جماعاته وأحزابه،
والظاهرة الفكرية السياسية التي يتناقض فيها من ينتحلون سيد قطب مع ما يمارسونه
على أرض الواقع السياسي!
وكيف انتهى "الإسلام الحركي" الذي
بعثه سيد قطب وراهن عليه إلى أن يصبح هو نفسه "الإسلام الأمريكي" الذي
حذر منه!
ولأقف على أسباب هذا الفصام النكد بين فكر
سيد قطب الحر الثائر، وخطاب "الإسلام السياسي" المعاصر!
وكيف انتهى الحال بهم إلى الاصطفاف مع المحتل
الأمريكي، والمجيء على ظهر دبابته، كما جرى في أفغانستان والعراق بدعوى إقامة
الديمقراطية!
والتطبيع مع المحتل الصهيوني كما جرى في
المغرب والسودان!
والتعاون مع المبعوث الدولي في كل ساحات
الثورة والربيع العربي على تنفيذ ما تقرره "الحكومة العالمية" كما في
تونس وليبيا واليمن وسوريا بما في ذلك قتال الثوار والمجاهدين واعتقالهم بدعوى
التطرف والإرهاب!
والتحالف مع الحملة الصفوية الإيرانية
الطائفية في فلسطين!
وعدت لقراءة كل شيء مرة أخرى؛ لمعرفة كيف جرى
اختطاف سيد وفكره، ثم إعادة إنتاجه وقراءته وتوظيفه على النحو الذي خدم النظام العربي
الوظيفي والدولي مدة نصف قرن!
ولمَ قامت كل الدول التي تدور في فلك المحتل
الأمريكي وتخضع لنفوذه بعد الحرب العالمية الثانية من باكستان شرقا إلى الجزائر
والمغرب وموريتانيا غربا، مرورا بدول الخليج والأردن ومصر باحتضان الحركة
الإسلامية ورعايتها، والتحالف معها، ومشاركتها في السلطة، والسماح بطباعة كتب سيد
قطب ونشرها، وهو ألد أعدائها وأول من أطلق مصطلح "الإسلام الأمريكاني"،
ودعا إلى جهاد أمريكا قبل غيرها؟
كيف وظفت أمريكا كتب سيد نفسه عدوها الأول
لخدمة "الإسلام الأمريكي" ونشره في العالم العربي والإسلامي ليكون
"في ظلال القرآن" و"معالم على الطريق" جزءا من المقررات في
مدارس السعودية واليمن ودول الخليج والأردن والمغرب مدة نصف قرن منذ سنة ١٩٦٠ إلى
٢٠١٠م؟
إنه "الوحي الشيطاني" وقدرته على
"تأويل الفكر"، وعلى "تبديل الخطاب"، وإعادة قراءته وصياغته
على نحو يتناقض تماما مع ظاهره وحقيقته لخدمة أمريكا والحملة الصليبية!
وهي الأسئلة التي ظللت أبحث عن أجوبتها
أربعين سنة منذ أول صدام بيني وبين سيد قطب!
فقد كنت ابن خمس عشرة سنة حين ألحّ علي الأخ
سعد المسئول عن مجموعتنا الشبابية بقراءة كتاب "معالم على الطريق"،
أثناء الجدل في قضية شرعية، ومدّ لي الكتاب بغضب لآخذه منه وهو يقول: "اقرأ
هذا الكتاب"!
فأبيت أن آخذه عصبيّةً، ورفضته حميّةً، وقلت
إن في القرآن والسنة غنىً، وفيهما هدىً، يغني عن كل كتاب!
وكنا حينها في حلقة درس في مسجد الحي، في
منطقة الرقة في الكويت في حدود سنة ١٤٠٠ - ١٩٨٠م!
وكان ذلك المسئول التنظيمي مع ما كان عليه من
خلق ودين قد أغلظ لي القول بعد أن ضجر من أسئلتي واعتراضي -لصغر سني وحداثة عهدي
بجماعته- على بعض ما لم أكن أعهد مثله من سلوك حين كنت في جماعة "الدعوة
والتبليغ"، وهي أول جماعة دعوية عرفتها ولزمتها منذ سنة ١٣٩٧ - ١٩٧٧م، وافتقدت
بعد تركها بعض الأجواء الإيمانية الروحية، وإن اتسعت عندي المدارك الفكرية
والعقلية، فقد دخلت مع مجموعتي هذه الجديدة في جو تنظيمي أشبه بالمعسكر منه
بالمدرسة!
ولزمت -مدة سنتين تقريبا- هذه المجموعة من
الشباب الذين أحببتهم؛ لأنهم أصحابي وفي سني، إلا إني لم أتأقلم معهم بسبب مفهوم
"السمع والطاعة" الذي كانوا يخضعون له، والذي يتنافى مع الروح العربية،
والثقافة القبلية، التي نشأتُ عليها في مجتمعي، وما تغرسه في النفس من إباء وأنفة
لا تقبل النظرة الفوقية أو التحكم والسيطرة ولو باسم الدين والدعوة!
وقد كنت أظن أن مفهوم "السمع
والطاعة" في الجماعة كان انضباطا تنظيميا لخدمة الدعوة والدين، حتى تبين لي لاحقا
وبعد عشرين سنة أنه كان لخدمة الدولة والنظام والسلطة!
وكان لذلك الموقف الذي أضجرني من الأخ
المسئول أثره في عزوفي عن المجموعة، ثم عن الجماعات كلها لاحقا، وعن القراءة لسيد
قطب، الذي لم أكن قرأت له شيئا أصلا آنذاك، مع حبي الشديد له رحمه الله؛ لما كنا
نسمع عنه في الخطب، ونقرأ في المجلات الإسلامية، عن تضحيته، وقصة سجنه واستشهاده
في سبيل الله!
وكبرت، وما زالت الأسئلة في ذهني تكثر،
والمشكلات تكبر، ولا أجد لها جوابا مقنعا، وكأنما هي ألغاز وأحاجي لا حل لها!
فقد كان ما يصدع به الخطباء آنذاك على
المنابر من خطب "قطبية" حماسية عن "الحاكمية"،
و"الجهاد" في سبيل الله يشدنا، ويجذبنا، ويعبئنا، ويملأ نفوسنا حماسة
لديننا، ونظل نتابع الخطباء، ونتحرى سماع خطبهم من جمعة إلى جمعة، وكانت تلك الخطب
تملأ فراغ أوقاتنا، وتشغلنا، وتفرغ الشحنة العاطفية التي تلمّ بنا، وتخفف عنا
غضبنا وسخطنا على حال أمتنا، إذ ما زال فيها بحمد الله من يصدع بالحق، ويأمر
بالمعروف كهؤلاء الخطباء!
وإن كان واقع الأمة لا يتغير مع مرور السنين،
بل هو يدور ويتكرر في كل بلد عربي وإسلامي كما هو، إلا في حشد الشباب لساحات
الصراع الدولي بين أمريكا وروسيا كما جرى في أفغانستان ثم في البوسنة والشيشان
واليمن الجنوبي!
لقد كانت الثورة في البلدان الإسلامية التي
تخضع للنفوذ الروسي الشيوعي آنذاك تعد في نظر الجماعة جهادا في سبيل الله كما جرى
في أفغانستان وثورة حماة في سوريا ١٩٨٢م، فتضجّ المنابر كلها في الدعوة إليه والحث
عليه، بينما الثورة في البلدان التي تخضع للنفوذ الأمريكي الرأسمالي فتنة وفساد في
الأرض كبير!
لمَ هذه الازدواجية في الخطاب؟
هل كان يخفي على السلطة خطورة مثل ذلك الخطاب
الذي يعبئ الشباب ويدعوهم للجهاد في مناطق الصراع الدولي؟
وما الذي يمنع السلطة من وقف أولئك الخطباء
إذن آنذاك؟ هل هي فعلا مع الجهاد في سبيل الله؟
أسئلة كثيرة، وأحداث مثيرة، كانت تشغل ذهني
ولا تجد تفسيرا معقولا!
ثم رأيت شباب الدعوة السلفية في المدرسة في
المرحلة الثانوية، وما هم عليه من تنطّع وجدل فلم أرتض حالهم، ولم اختلط بهم،
وأقبلت كليةً على طلب العلوم الشرعية والعربية، ولزمتُ دروس الشيوخ والعلماء من كل
المدارس الفقهية، وعكفتُ على القراءة الواسعة لكل ما أجده من كتب تراثية، أو كتب
عصرية فكرية أو أدبية، فقد أجد فيها ما يجيب عن أسئلة كثيرة تشغل نفسي، وتدور في
ذهني عن واقع الأمة وخطوط التماس مع عدوها!
ثم بعد خمس سنوات تقريبا من قصتي تلك مع الأخ
المسئول عن مجموعتنا في مسجد الحي، دخلت كلية الشريعة بجامعة الكويت، وكانت حديثة
عهد بتأسيس، وبقي بيني وبين سيد قطب حد ردمٌ، وسدٌ ضخم، بناه ذلك الأخ المسئول
بأسلوبه الفظ، بلا ذنب لسيد قطب!
أوردها الماءَ وسعدٌ مشتملْ
ما هكذا يا سعدُ تورد الإبلْ
كذلك كنت، وكبرت، وما زالت نفسي تأبى علي
قبول التحكم والسيطرة حتى من والدي الذي كان أحب الناس عندي، وكان يخشى علي من هذه
النزعة الاستقلالية في الرأي!
وقد حاول بعض الإخوة من الجماعة السلفية في
كلية الشريعة سنة ١٩٨٤م إقناعي بالانضمام إليهم، فلما لم يجدوا أذنا صاغية أخذني أحدهم
للشيخ عبدالرحمن عبدالصمد رحمه الله في منطقة الوفرة وهي منطقة زراعية نائية قريب
من الحدود السعودية، بيوتها من الصفيح، فاستضافنا الشيخ في بيته بكل حب وبشر،
وأفاض في الحديث معي، ثم وضع يده على صدري وأخذ يدعو لي بكل صدق وإخلاص بالهداية
والتوفيق، وما زلت أجد بركة دعائه في نفسي، وأهداني كتبه ومنها "أسئلة طال
حولها الجدل"، فشرح الله صدري لعدم الانضمام للجماعات في الكلية، فقد كان
الله يصرفني عنها، حتى أراها من الخارج كما هي، لا كما يعيش أفرادها من أوهام حول
طهوريتها في ظل الدول الوظيفية التي تتحكم استخباراتها في اختيار قياداتها، وتوجيه
نشاطها بما يخدم مشروع المحتل الأمريكي الأوربي!
وكنت قد استفتيت الشيخ العثيمين رحمه الله
قبلها بسنوات في حدود سنة ١٤٠٠ هج - ١٩٨٠م، عن هذه الجماعات، فأوصاني بطلب العلم
ولزوم الكتاب والسنة..
وقبل تخرجي من الكلية بأشهر سنة ١٩٨٩م دعاني
أستاذ من كلية التربية، وسألني أسئلة كثيرة هي في حقيقتها تحقيق أمني لمعرفة
أفكاري وتوجهاتي وأمنياتي! بهدف كسبي إلى كوادر النظام الوظيفي! ولم أفطن لذلك
حينها!
ورفضت رغبة والدي -رحمه الله- لحضور حفل
التخرج برعاية أمير الدولة واستلام الشهادة ودرع التفوق منه وكنت الأول على
الكلية، ومن الأوائل على جامعة الكويت، إيمانا مني بأنه لا يليق بأهل العلم أن
يأخذوا عليه جائزة، وأن يقربوا السلطة وأهلها!
ثم عرفت -بعد أن خبرت الحياة وعركتها،
وقرأتها وعشتها، ورأيت كيف انتهى المطاف بمجموعتنا تلك الشبابية الصغيرة، وشيوخ
الجماعة الأم الكبيرة، والوظائف التي يتولونها في الوزارات، والقطاعات التي
يديرونها في الدولة ومؤسساتها وشركاتها وبنوكها، سواء في الكويت أو في الخليج كله-
أن ما كان يجري في زوايا المساجد للشباب هي برامج حكومية منظمة، ودورات محكمة، تحت
إشراف وزارات الأوقاف نفسها ورعايتها، بتوجيه أمني أمريكي، لمنع الشباب آنذاك من
الالتحاق بالجماعات والأفكار الثورية -سواء القوى اليسارية، أو السلفية الجهادية،
حيث كانت دعوة جهيمان بن سيف قد استشرت تلك الفترة- وجذبهم عوضا عن ذلك إلى محاضن
الشباب الإسلامي الحركي والدعوي سواء في الجامعات أو المساجد ومراكز تحفيظ القرآن،
وملء الفراغ الفكري لديهم بأفكار سيد نفسه، بعد إعادة تفسيرها لهم لاحقا وتفريغها
من مضمونها!
فقد كان الشباب آنذاك يتعرضون من حيث لا
يعلمون لعملية استقطاب وتنظيم وترويض مبكر في المساجد، وعلى يد الجماعات الإسلامية
نفسها، التي تقوم الدولة بتقسيم المساجد فيما بينها، ليخرج الشباب بعدها مواطنين
مسالمين وادعين في خدمة الدولة والدين!
وقد كانت اهتماماتي سياسية منذ أن كنت طالبا
في الثالث المتوسط ١٩٧٧م، فقد كنت أتابع في الصحف والتلفاز أخبار المقاومة
الفلسطينية، وعملياتها الفدائية، وأتابع أخبار اتفاقية "سالت" بين
واشنطن وموسكو لتخفيض الأسلحة! وأخبار اتفاقية كامب ديفيد، وشاركت في تظاهرات
الطلبة ومسيراتهم الاحتجاجية ضدها سنة ١٩٧٨م ونحن في المرحلة المتوسطة قبل
الثانوية!
وعشت بعد ذلك مأساة محاصرة المخيمات
الفلسطينية ودكها في لبنان، ومذبحة صبرا وشاتيلا، ١٩٨٢م، وإخراج منظمة التحرير
الفلسطينية من لبنان إلى تونس!
ثم مأساة مذبحة حماة في السنة نفسها، وكنت
أشعر بحرقة الأسى، ولوعة الحزن، وشدة السخط!
وقد كنت وأنا في الثاني الثانوي ١٩٨٢م أفكر
بشغف بدراسة العلوم السياسية في "السوربون" بعد الحصول على بعثة إلى
فرنسا، وتأكد عزمي هذا في الثالث الثانوي حيث كنت اخترت القسم الأدبي، وتفوقت في
دراستي، وأجدت اللغة الفرنسية فيها، وكنت من الأوائل على المدرسة تلك السنة، وفي
الرابع الثانوي تعرضت لمرض أثر على صحتي ونشاطي تأثيرا كبيرا، وصرفني الله عن فكرة
الابتعاث إلى الخارج، وشرح صدري لدخول كلية الشريعة، التي كانت قد افتتحت حديثا.
وقد كان كتاب "معالم على الطريق"
هو أول كتاب -فيما أذكر- قرأته لسيد قطب رحمه الله، وذلك بعد دخولي كلية الشريعة،
سنة ١٤٠٤ - ١٩٨٤م، فاستثارني الكتاب بروحه العقائدية، وتقريراته الإيمانية، وزاد
حبي لسيد، الذي أحببته منذ سمعت -من أشرطة الكاسيت آنذاك- قصة سجنه واستشهاده في
خطبة مؤثرة حزينة للشيخ عبدالحميد كشك سنة ١٣٩٩ هجرية - ١٩٧٩م، ومنذ أن حدثنا عنه
الشيخ يونس الضرير المصري في درس لمجموعتنا الشبابية في منطقة الرقة سنة ١٤٠٢ -
١٩٨٢م!
لقد كان كتاب "المعالم" بركان
كلمات ثائرة، وعبارات قاهرة، يخاطب روح قارئه، ويستثير همته، ويحفزه للحركة
والثورة، قبل أن يخاطب عقله ليقنعه بالفكرة، وهو ما يتوافق مع طبيعتي العربية
الأعرابية، وروحي الثورية!
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
ولم أر آنذاك أن سيدا في كل ما ذكره في
"المعالم" عن "الحاكمية" قد خالف ما قرره شيخ الإسلام ابن
تيمية -الذي كنت قد أقبلت على كتبه منذ سنة ١٤٠٠ هجرية ١٩٨٠م أتملاها وأعكف على
قراءتها ليل نهار- وكأنما نفخ ابن تيمية من روحه الحرة الثائرة في روح سيد!
وقد طلب سيد حين دخل السجن كتب ابن تيمية
وابن القيم واستفاد منها في تقريراته العقائدية في إكمال تفسيره "ظلال
القرآن" وتحريره لنسخته الأخيرة، وهذا أيضا ما بدا واضحا جليا في كتابه
"المعالم" وقضية "الحاكمية"، التي أولاها ابن تيمية حيزا
كبيرا من جهده وجهاده؛ لمواجهة "الياسق" المغولي الذي فرضه جنكيز خان
وإمبراطوريته العالمية على الشعوب الإسلامية التي خضعت لها في القرن السابع
الهجري، وإن كانت كثيرا من مقالات سيد القديمة كما في رده على توفيق الحكيم تؤكد
أنه على اطلاع على كتبهما، كما في موقفه من الفلسفة اليونانية، وأن "الفلسفة
الإسلامية" لا علاقة لها بالإسلام وتصوراته وأحكامه، إلا من حيث أنها جهد
علماء مسلمين، في ظل الحضارة الإسلامية، وأثر من آثار ترجمة الكتب اليونانية، ليس
إلا!
ثم لم أفرغ بعد ذلك لقراءة شيء من كتب سيد،
لانهماكي في دراستي في الكلية، وانشغالي بقراءة الكتب التراثية، مما يمضي معه
العمر، ولم يخبُ بالطالب همه، ولم ينقضِ منها نهمه!
ثم مضت الأيام، وانقضت الأعوام، فوقع بيدي
كتاب آخر لسيد ولعله "خصائص التصور الإسلامي" أو غيره، وذلك بعد أن فرغت
من الدكتوراه سنة ١٤٢٠ - ٢٠٠٠م!
ولا أكاد أذكر شيئا آخر قرأته من كتب سيد بما
في ذلك "ظلال القرآن" الذي ظللت إلى اليوم أمني النفس بالفراغ لقراءته،
فلم أجد الوقت لذلك حتى الآن؛ بسبب اهتمامي بتفسير الطبري، وابن كثير وغيرها من
كتب التفسير التي صنفها الأئمة المتقدمون، ومضت بي السنون، وحبي لسيد قطب يزداد،
بلا سبب يقتضي ذلك، إلا ما أودع الله في عالم الأرواح من أسراره في الخلق والقدر!
التحول
العالمي في مطلع التسعينات:
وفي سنة ١٤١٠ - ١٩٩٠م حدث تحول عالمي كبير،
وحدث سياسي خطير تمثل في:
١- سقوط الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الشيوعية
في روسيا نفسها، بعد هزيمتها في أفغانستان، على يد المجاهدين، الذين كنت أتابع
أخبارهم منذ ما قبل سنة ١٩٨٠م، مع بواكير جهادهم، ولا تكاد تطبع لهم مجلة أو صحيفة
على اختلاف فصائلهم، إلا وأحرص على اقتنائها وقراءتها مرارا، لمعرفة أحوالهم، حتى
كأنما كنت بينهم، أعرف كل شيء عنهم، وعن مواقعهم، ومناطقهم، وعملياتهم، وكنت قد
عزمت على النفير إليهم، لولا الظروف القاهرة التي حالت دون ذلك، ومنها مرضي وحرص
والدي الشديد وخوفه علي، لرؤيا رآها قبل ولادتي، وظل يخشى علي حتى توفي رحمه الله
رحمة واسعة!
٢- وبدخول أمريكا والحملة الصليبية الخليج
العربي بشكل عسكري مباشر بعد غزو العراق للكويت، وبدء عصر القطب الأمريكي الأوحد
في العالم كله، وعقد مؤتمر مدريد ١٩٩١م للسلام مع إسرائيل، حيث تغير كل شيء!
فإذا الخطاب الإسلامي في دول الخليج والعالم
العربي كله يتحول في سنة واحدة فقط من الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله إلى الدعوة
لمكافحة التطرف والإرهاب!
وكانت الفتنة والمحنة فيه بسيد قطب وفكره
وكتبه!
وكان الشيخ ربيع المدخلي قد نشر في أول تلك
السنة كتابه (منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله)، وذلك قبل غزو العراق للكويت والتدخل
العسكري الأمريكي، وكان يثني فيه على سيد وعلى كتبه، وإذا هو في آخر السنة نفسها،
وبعد التدخل الأمريكي يتراجع عما كتب عن سيد وينتقد كتبه ويهاجمه، مما اضطر الشيخ
بكر بو زيد من الرد عليه والتعجب من تحوله هذا!
وبدأت الحرب الإعلامية على سيد وعلى فكره،
وإذا كتاب "هي القطبية فاحذروها" يطبع وينشر برعاية سعودية خليجية في كل
مكان في العالم!
وكتب د. عبدالله الفارسي في الكويت مقالا
تعرض فيه لسيد، وكتبت أنا حينها ردا عليه في صحيفة الوطن بتاريخ ٢٦/ ٩/ ١٩٩٣ م فنّدت
فيه شبهه عن سيد واتهامه إياه بالفكر الخارجي!
وجاءت معاهدة أوسلو ١٩٩٣م، وبعدها مشروع
كلينتون "تجفيف منابع الأصولية" سنة ١٩٩٤م، وبدأ خطاب إسلامي جديد يضفي
الشرعية على الوجود الأمريكي العسكري في جزيرة العرب، حيث بدأ فصل مئات الخطباء
والأئمة في دول الخليج ممن رفضوا هذا الوجود الأمريكي، ورفضوا المصالحة مع المحتل
الصهيوني!
وزار ياسر عرفات الشيخ ابن باز وشكا له وضع
الشعب الفلسطيني، واضطراره إلى توقيع معاهدة الصلح مع إسرائيل، فأفتى له بالجواز،
وفق الشروط المعلومة للفقهاء، فاجتزأتها وسائل الإعلام واستغلتها في الترويج
لمشروع التطبيع!
فكتبت ردا بعنوان "الضوابط الشرعية لمعاهدات
الصلح الدولية" وبينت بطلان هذه المعاهدة لأنها تطبيع وموالاة كاملة مع العدو
المحتل، لا مصالحة ووقف للحرب فقط!
وكتبنا نحن ومجموعة من أهل العلم -فيهم الشيخ
حامد العلي- بيانا تضمن أصول السنة والجماعة -زكّاه الشيخ ابن باز- رددنا فيه على
هذه الفتنة التي راجت آنذاك وكان للاستخبارات وأجهزة الأمن يد فيها، وأكدنا فيه حق
الأمة في مقاومة العدو والجهاد في سبيل الله!
لقد كان قطار التطبيع مع المحتل الصهيوني
يمضي سريعا، وكان كل ذلك التحول الثقافي تمهيدا له!
ورأيت التحول الذي عاشته الساحة الإسلامية في
الخليج بعد مشروع كلنتون "تجفيف المنابع" سنة ١٩٩٤م، وكيف كانت أمريكا
تعيد صياغة وعي شعوب المنطقة الديني عبر وزارات الأوقاف، ومراكز الوسطية، فيزور
وفد أمريكي وزير الأوقاف، فيصدر الوزير الإسلامي من الغد التعليمات إلى أئمة
المساجد بعدم الدعاء على اليهود والنصارى!
وقامت السعودية باعتقال المشايخ والمصلحين
الذين اعترضوا على بقاء الوجود الأمريكي العسكري في جزيرة العرب بعد تقديمهم كتاب
"النصيحة" للملك فهد آنذاك، ورأيت كيف ضجت المساجد في مكة -وكنت أدرس
فيها الماجستير- بالخطب التي تحذر من الفتن والخروج على ولي الأمر، وكان كثير من
الخطباء آنذاك إسلاميون حركيون وإخوان مسلمون!
حيث ساروا في ركب النظام الوظيفي وتحالفوا
معه كما تحالف الجيش والشيخ محفوظ النحناح في الجزائر وبدعم سياسي وأمني فرنسي
أمريكي ومصري، ودعم مالي سعودي بلغ ٤ مليارات، للانقلاب على الانتخابات في الجزائر
التي فازت الجبهة الإسلامية للإنقاذ فيها أولا بمقاعد البلدية، ونجحت نجاحا كبيرا
في إدارتها خلال سنتين، ثم حصلت على ٨٥٪ من مقاعد البرلمان، فقام الغرب كله ولم
يقعد، وكأنما أصيب بزلزال، من هذا الفوز الكاسح، فتدخلت فرنسا وأوربا، وبدأت
"العشرية السوداء"، بإلغاء نتائج الانتخابات، واعتقال قادة الجبهة،
وتعليق الدستور، وإعلان حالة الطوارئ، والحرب على الشعب الجزائري بدعوى مكافحة
الإرهاب!
وقد كنا آنذاك -عبر صفحة "المشكاة"
في صحيفة الوطن- الصوت الوحيد في الخليج الذي حاول التصدي إعلاميا لهذا المشروع
الأمريكي، وكشف حقيقة الحرب على الإسلام باسم مواجهة الإرهاب، وكشف ما يجري في
الجزائر من قتل للشعب وأود حريته بدعوى مكافحة التطرف، وكانت جماعة
"الإخوان" قد اصطفت مع النظام الدولي ومع الانقلاب العسكري كما فعل
النحناح، حتى صرح الشيخ الغزالي نفسه للصحافة بأنه يحمد الله أنه لم تستلم الجبهة
الإسلامية للإنقاذ الحكم في الجزائر وإلا شوهت صورة الإسلام، فكانت قاعات
التشريفات تستقبله في كل الدول العربية الوظيفية، وتفتح له منابرها الإعلامية!
وكتبت مقالات كثيرة حينها أرد على هذه الافتراءات،
ذكرت فيها بأن ما يحدث في الجزائر من قتل همجي للأهالي هو من صناعة الاستخبارات
والجيش بدعم فرنسي أمريكي، وكان صوتنا يواجه بهدير التضليل الإعلامي الرسمي، حتى
فرّ رئيس الوزراء الجزائري السابق عبدالحميد الإبراهيمي إلى لندن، وعقد مؤتمرا
صحفيا تحدث فيه عن حقيقة ما يجري هناك، ودور فرنسا والجيش الجزائري في هذه
المذابح، فكانت صدمة كبرى للرأي العام العربي والإسلامي، بعدما خربت البصرة وفات
الأوان!
وقد كتبت حينها مقالا في صفحة
"المشكاة" في صحيفة الوطن ٢٢/ ٩/ ١٩٩٧م بعنوان "لمن تقرع الأجراس" قلت فيه: (عندما كتبت رأي
المشكاة في العدد الماضي "الحرب الإعلامية والدروشة السياسية" الذي حذرت
فيه من الانسياق وراء التضليل الإعلامي للأنظمة العسكري والديكتاتورية في عالمنا
العربي، التي تحاول قمع معارضيها بشتى الوسائل خاصة الإعلامية، ليتحول الضحية
مجرما إرهابيا، والجلاد حرا ديمقراطيا، لم أكن على علم بالمحاورة التي أجرتها
صحيفة الوطن في العدد نفسه بتاريخ ١٥/ ٩/ ١٩٩٧م مع رئيس الوزراء الجزائري السابق
عبد الحميد الإبراهيمي، التي فاجأ بها الجميع، وكشف عن حقيقة ما يجري في الجزائر،
وأن الصراع ليس بين الإسلاميين وغيرهم، وإنما هو بين الحضارة الإسلامية التي ينتمي لها الشعب
الجزائري، وبين التيار الفرانكفوني الذي هو إيديولوجية تغريبية استعمارية، وأن هذا
التيار مدعوم من "بعض الأجهزة الفرنسية ورئيس الجمهورية السابق فرانسوا
ميتران، الذين شجعوا انقلاب ١٩٩٢م، ودعموا النظام العسكري في كل المجالات السياسية
والاقتصادية والعسكرية الجزائرية" وقال: "ستة أو سبعة جنرالات كانوا
موجودين في الجيش خلال فترة الاستعمار وهؤلاء الجنرالات وأركان الحرب مرتبطون
بفرنسا سياسيا وعسكريا"، وأن هؤلاء "عملاء لفرنسا" يريدون استئصال
الإسلاميين من الجزائر وعلى رأسهم الجنرال "محمد العماري قائد أركان الحرب
الذي قال يوما بأنه مستعد لقتل خمسة ملايين جزائري لتخليص الجزائر من
الإسلاميين"، وأن هناك "عشرات الآلاف من جبهة الإنقاذ لا يزالون معتقلين
في السجون"، وأن جبهة الإنقاذ ليست بحزب وإنما هي "ظاهرة سياسية
واجتماعية ومعظم الجزائريين ناقمون على النظام فاقدو الثقة فيه لذلك يدعمون جبهة
الإنقاذ وفيهم الإسلاميون وغير الإسلاميين! وأن "جبهة الإنقاذ تمثل جميع
الشرائح ففيها المثقفون والأكاديميون والمحامون والموظفون والعمال في المدن
والقرى"، و"إنهم بريئون من كل ما يحدث"، وأنه قد تم إحالة
"خمسة آلاف ضابط للتقاعد ممن لا يتجاوز عمرهم ٣٥ سنة لأنهم يصلون أو لأنهم
كانوا فرحين بفوز جبهة الإنقاذ"!! وهذا الذي يفسر استبعاد الجنرالات للجيش
والاعتماد على قوات خاصة فرانكفونية؟!
ولعل أخطر تصريحات الإبراهيمي على الإطلاق
اشتراطه لعودة الاستقرار في البند الخامس "تجريد الأسلحة من كل الميليشيات
التي سلحتها السلطة وعددهم حوالي ٢٠٠ ألف يقومون بالتقتيل الجماعي للشيوخ
والأبرياء والأطفال وينسبونها إلى الإسلاميين"؟!!
إن
هذه الاعترافات من رئيس وزراء جزائري سابق، وأحد كبار زعماء جبهة التحرير الوطني،
التي يؤكدها اعترافات كثير من قادة الشعب الجزائري كالرئيس السابق أحمد بن بيلا
وغيره، دليل على مدى التضليل الإعلامي الذي تمارسه وسائل الإعلام الفرنسي داخل
وخارج الجزائر، التي فرض الجنرالات عليها حصار إعلاميا؛ فلا يعلم أحد ما يجري في
الداخل إلا عن طريق صحيفة (ليبرتيه) و(لوموتان) و(الاتريبيون) التي جعلت مهمتها
دعم التيار الفرانكفوني الاستئصالي، وحرب الإسلام وربطه بالإرهاب، والتي تجد صدى
إشاعاتها في الإعلام الغربي ثم العربي؟!
وفي الوقت الذي يتباكى وينعي بعض كتابنا
ومثقفينا على المثقفين العرب انسياقهم وراء التضليل الإعلامي العراقي؛ نجدهم في
الوقت ذاته ينساقون وراء التضليل الإعلامي للنظام العسكري في الجزائر، ويحملون
مسؤولية ما يجرى هناك على (التطرف) و (الإرهاب)؛ ليشاركوا مرة أخرى في تضليل الرأي
العام، وليبرروا للأنظمة الدكتاتورية وأدها للحرية والديمقراطية، وليتجاوزوا -كما
هي العادة- أسباب المشكلة، فيشغلونا بتحليل وتعليل النتائج وكأننا لا نستفيد من
تجارب الماضي؟!!
وفي الوقت الذي يستأصل الجنرالات في الجزائر
آلاف الشباب المسلم هناك، ويطلقون الميليشيات ليقتل الأبرياء خاصة في ضواحي
العاصمة حيث فازت جبهة الإنقاذ بنسبة ١٠٠٪ في انتخابات ١٩٩٢م، وحيث تقع المجازر
بقرب ثكنات الجيش لإرهاب الشعب وإخضاعه للفرانكفونية، يخرج علينا
"دراويش" الإسلاميين ليحدثونا عن خطورة فكر الخوارج هناك، وليروجوا ما
تبثه وسائل الإعلام الفرنسي الذي يقول الإبراهيمي عن أهدافها: "فرنسا تحاول
استكمال ما فعلته بنا فترة الاستعمار ولكن هذه المرة بأيد جزائرية تحدث العنف كي
تمحو من الذاكرة ما فعلته هي بنا أيام الاستعمار وحتى تبرر الصحافة الفرنسية بأن
الجزائريين أصحاب عنف" ولم يعلم
الإبراهيمي أن "الدراويش" عندنا في الشرق من الإسلاميين والعلمانيين
الذين أمطرونا بسيل من المقالات حول المشكلة الجزائرية طول مدة خمس سنوات قد كفوا
فرنسا مؤونة ترويج هذه الإشاعات؛ ليكتشفوا الآن أنهم كانوا ضحية التضليل الإعلامي
تماما كما حصل مع النظام العراقي؟!
الجزائر تعيش منذ الاستقلال صراعا حضاريا بين
الهوية الإسلامية والهوية الفرانكفونية التي رسخت طول مدة قرن من الاستعمار
الفرنسي، غير أن هذا الصراع قد صار مسلحا بعد إلغاء الانتخابات وإزاحة الرئيس بن
جديد، وقتل الرئيس أبو ضياف، والزج بآلاف ممثلي جبهة الإنقاذ بالسجون، وقتلهم،
وتشريدهم، بعد فوزهم في الانتخابات التشريعية، وبعد سعي الجنرالات لاستئصال
الإسلاميين، هذه هي أسباب المشكلة الحقيقية، فلم تكن الجزائر تعيش قبل ذلك مشكلة
الإرهاب والتطرف، والقفز فوق هذه الحقائق ليس سوى تضليل إعلامي أو دروشة سياسية.
لقد
كشف الإبراهيمي -رئيس الوزراء السابق- حقيقة ما يجري هناك، وسط صمت عربي، ونوم
عميق لأمين الجامعة العربية وتخاذل إسلامي وعربدة فرنسية، فلمن تقرع الأجراس)!
هذه كانت صرختي في ذلك المقال آنذاك قبل خمس
وعشرين سنة، وما زال المشهد كما هو حتى اليوم!
وقد زود نظام الجزائر بعد ذلك خبراته
الإجرامية هذه في صناعة المجموعات الإرهابية للجيش السوري لمواجهة ثورة شعبه سنة ٢٠١٢م!
كما كتبت مقالا آخر آنذاك في صفحة
"المشكاة" في صحيفة الوطن ١٦/ ٦/ ١٩٩٧م بعنوان "الأزمة الأخلاقية" ردا على تصريح للشيخ النحناح
تناقلته وسائل الإعلام بأن الزمن تجاوز جبهة الإنقاذ، قلت فيه:
(دخلت الجزائر بعد الانتخابات الأخيرة مرحلة
جديدة قد تسهم في تخفيف حدة الصراع غير إنها ستزيد من تعقيد المشكلة التي ستظل
قائمة ما دام الطرف الأساسي في الصراع مستعبدا من الحوار محاصرا في السجون، وما
دامت النخبة العسكرية -التي قال عنها جيل كيبل أستاذ معهد باريس للدراسات السياسية
بأنها "تضم مائتي ٢٠٠ عائلة تسيطر على القطاع النفطي" الذي صار
الاستثمار فيه، كما يقول "حكرا على من يملكون زمام الأمور في الدولة مما يدر
عليهم أرباحا خيالية"- ترفض أن يشاركها فيه أحد، وما دامت هذه النخبة هي التي
تدير دفة الأمور وتحدد للشعب ما يجب عليه اختياره!
ولعل أخطر ما كشفت عنه الانتخابات الجديدة هو
تخلي أحزاب المعارضة عن الميثاق والمبادئ التي اتفقت عليها في "مؤتمر
روما" ومنها رفض استبعاد أي طرف من أطراف الصراع فما بالك بالطرف الرئيسي
[وهو جبهة الإنقاذ]؟!
وفي الوقت الذي يقبع الآلاف من "سجناء
الرأي" في السجون وفي مقدمتهم قادة "جبهة الإنقاذ" الذين يمثلون
الشرعية الحقيقية يخرج محفوظ النحناح ليعلن للعالم "إن الجبهة قد تجاوزها
الزمن" مصدرا بذلك صك وفاتها ومبررا سبب استبعادها، وليكشف عن أبعاد الأزمة
الجزائرية وأنها أزمة أخلاقية لا مجرد مشكلة سياسية؟! وهكذا أثبت النحناح أن
السجون وليست صناديق الاقتراع هي التي تحدد من هو في دائرة حركة الزمن ومن هو
خارجها؟!!
قد لا تكون "الجبهة" هي الأقدر على
تحقيق طموحات الشعب الجزائري -مع إنها أثبتت نجاحها في إدارة البلديات- وقد تفشل
عند وصولها للسلطة غير إنها كانت -في نظر المواطن الجزائري- الأوثق والأصدق، وأنه
عندما أختار "جبهة الإنقاذ" ممثلا له لم يكن ذلك عن سذاجة سياسية وإنما
عن قناعة بها، وأن الأحزاب الأخرى -بما فيها حزب محفوظ النحناح- ليست مؤهلة للدفاع
عن حقوقه المشروعة، لتاريخها "الميكافيلي"!
وقد أثبتت الأيام صدق ظن المواطن الجزائري،
ففي الوقت الذي يرفض قادة "الجبهة" وهم في السجون وتحت وطأة التعذيب
التنازل عن حق الشعب في اختيار ممثليه بكل حرية بعيدا عن تدخل السلطة العسكرية،
يجد قادة الأحزاب الأخرى تتنازل عن حقوقه مقابل المشاركة بفتات
"السَلَطة"؟!
وما كان لمحفوظ النحناح الذي صوت له قطاع
كبير من أتباع الجبهة اضطرارا لا اختيارا دفعا للمفسدة، أقول: ما كان له ولا لغيره
مكان على مسرح الأحداث السياسية لو شاركت الجبهة في الانتخابات إذ عندها -فقط-
سيثبت للعالم من الذي تجاوزه الزمن؟!).
انتهى ما كتبته آنذاك عن النظام العربي
الوظيفي، وجماعاته الإسلامية الوظيفية، الذي يديره ويديرها النظام الدولي وما
يزال، وبالأسلوب نفسه، بالانقلابات والانتخابات، والتفاهمات!
أمريكا والإسلام الخليجي:
وقد اضطرت أمريكا بعد تعرض قواتها في
السعودية للهجمات المتكررة، إلى نقلها إلى قاعدة العديد، وكان تأسيس هذه القاعدة
العسكرية في قطر سنة ١٩٩٦ متزامنا في الوقت نفسه مع بدء بث قناة الجزيرة الفضائية،
ليبدأ برنامج "الشريعة والحياة" مباشرة بالترويج للشيخ القرضاوي وخطابه
الدعوي -برعاية أمريكية كما أوصى بذلك تقرير راند- الذي كان يبشّر بالانفتاح على
الحضارة الغربية والتعاون معها بذريعة الاستفادة منها، وبدأ يتشكل وعي إسلامي جديد
يواكب المرحلة، ويرفض الجهاد ومقاومة الوجود الأجنبي بدعوى تحريم العنف والتطرف
والإرهاب، بما يخدم الوجود العسكري الغربي في المنطقة، وتم تحضير المنطقة كلها
ثقافيا وفكريا للتحولات الجديدة، هذا في الوقت الذي كانت السجون في الخليج تمتلئ
بمئات العلماء والدعاة والمصلحين الرافضين للمشروع الأمريكي وحملته الصليبية، الذي
بدأ يفرض نفسه بالقوة العسكرية، وبالخطاب الإسلامي الجديد، الذي كان الشيخ يوسف
القرضاوي وقبله الغزالي أبرز دعاته، وقد فتحت له المنابر الإعلامية كلها، وروجته
مراكز الوسطية في دول المنطقة بالتعاون مع الخارجية الأمريكية، وبلغ التعاون أوجه
بغزو أمريكا واحتلالها أفغانستان ٢٠٠١ ثم غزوها العراق واحتلاله سنة ٢٠٠٣!
لقد كانت سنة ١٩٩٠م محطة تاريخية كبرى شهدت
انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، وبروز الولايات المتحدة كقطب
أوحد في العالم، وانتهى بذلك فعليا مبدأ آيزنهاور الذي تم الإعلان عنه سنة ١٩٥٧م
لمواجهة الشيوعية في الشرق الأوسط كخطر مهدد للمصالح الأمريكية، وللحضارة الغربية،
وأصبح بموجبه الشرق الأوسط كله منطقة نفوذ أمريكي يحق لها التدخل العسكري لحماية
دوله وأنظمته الحاكمة حين تقتضي المصالح الأمريكية ذلك.
وقد تم منذ الإعلان عن مبدأ آيزنهاور توظيف
العالم الإسلامي بدوله وجماعاته -الدعوية ثم السياسية فالجهادية- في إطار هذا
المشروع الأمريكي الإستراتيجي؛ لمكافحة الإلحاد الشيوعي بداية من عهد آيزنهاور ثم
كينيدي ثم جونسون ثم ريتشارد نيكسون ثم فورد ثم كارتر ثم ريغن ثم بوش الأب!
وبلغ هذا التوظيف أوجه بعد الاحتلال السوفيتي
لأفغانستان سنة ١٩٧٩ - ١٩٨٩، بدعم الحركات الجهادية عبر باكستان والسعودية، هذا
الدعم الذي أدى بالنهاية إلى هزيمة الشيوعية وانهيارها سنة ١٩٩٠م، وكما قال بندر
بن سلطان في مذكراته -الأمير ص ١٤٠- عن التوظيف الأمريكي لدول العالم الإسلامي
فضلا عن جماعاته لتحقيق أهدافها الإستراتيجية: (أصبح السعوديون الذين يجمعون في آن
واحد بين الثروة والسرية ومعاداة الشيوعية مكونا حاسما من مكونات هجوم ريغن
الإستراتيجي على الكتلة السوفيتية..
وقد وضعت إدارة ريغن إستراتيجية للتعامل مع شواغل المملكة العربية السعودية
في العالم وتوجيه الفائض النقدي السعودي نحو السياسة الخارجية الأمريكية..
لم تقتصر الجهود السعودية في محاربة
الشيوعيين على النفط والبترودولار لمصلحة السي آي إيه السرية..
نحن استخدمنا الدين وجيشنا العالم الإسلامي
وراءنا لمواجهة الشيوعية، وهو ما تلاءم تماما مع إستراتيجية الرئيس ريغن لقتال
الاتحاد السوفيتي في منطقة لا يستطيعون التأثير فيها كما نؤثر نحن) انتهى كلام الأمير بندر!
ولم ينته التوظيف الأمريكي للإسلام -كقوة
هائلة للتغيير- بانهيار الاتحاد السوفيتي؛ فقد بدأ مشروع بوش الأب "مكافحة
التطرف الإسلامي" منذ سنة ١٩٩١م، ثم مشروع كلينتون "تجفيف منابع
الأصولية"، ثم مشروع بوش الابن "الحرب على الإرهاب"!
وكان كتاب الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد
نيكسون "الفرصة السانحة" الذي أصدره بعد التدخل الأمريكي في الخليج سنة
١٩٩٠م وحذر فيه من خطورة الأصولية الإسلامية بعد زوال الخطر الشيوعي كعدو للحضارة
الغربية! وكتاب الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز "الشرق الأوسط الجديد"
-الذي دعا للتعاون مع الدول العربية والخليجية لمواجهة الأصولية- من أهم الكتب
التي حددت معالم عصر ما بعد سقوط الشيوعية، وهي مصدر إلهام لمراكز الدراسات
الغربية، وكان كتاب "صدام الحضارات" الأصرح والأجرأ في تحديد طبيعة
العدو الجديد، وأن الخطر ليس الأصولية والحركات الإسلامية الجهادية والسياسية
فحسب، بل الإسلام نفسه الذي يرفض الحضارة الغربية بماديتها وعلمانيتها، وهو الدين
الوحيد الذي لديه تصور شامل للحياة؛ مما يجعل من الصدام معه أمرا حتميا!
وقد بدأت أمريكا وأوربا فعلا بمواجهة ما
تسميه الخطر الإسلامي واحتوائه كما واجهت الخطر الشيوعي، وبالدول والجماعات
الوظيفية ذاتها والآليات نفسها!
وقد بدأ هذا المشروع الأمريكي الإستراتيجي
يشق طريقه منذ سنة ١٩٩٠م بدخول أمريكا بجيوشها بشكل مباشر كقوة استعمارية جديدة في
الخليج والجزيرة العربية بذريعة تحرير الكويت، حيث انتهى بها الأمر باحتلال الخليج
عسكريا، ثم أفغانستان سنة ٢٠٠١م ثم العراق سنة ٢٠٠٣م؛ كتتويج لنصر تاريخي للغرب
على الشيوعية والاتحاد السوفيتي من جهة، ثم على العالم الإسلامي وجماعاته الجهادية
والسياسية -الرافضة للنفوذ الغربي- بدعوى مكافحة الإرهاب من جهة أخرى!
غير أن تنامي حركة الجهاد والمقاومة في
أفغانستان والعراق قد أدى لهزيمة الاحتلال الأمريكي هزيمة كبرى بلغت أوجها سنة
٢٠٠٦م؛ مما دعا الجيش الأمريكي للاستعانة بدراسات مؤسسة "راند" التي
توالت تقاريرها وتوصياتها قبل سنة ٢٠٠٠م وبعدها؛ بضرورة تشكيل ثقافة إسلامية جديدة
تسهم في إنجاح مشروع الاحتلال الأمريكي للمنطقة بالأدوات نفسها التي واجه الغرب
فيها الشيوعية!
فجاء في تقرير سنة ٢٠٠٧ "بناء شبكات
إسلامية معتدلة" Building Moderate Muslim Networks الذي أفرد
التقرير فصله الثاني للتركيز على فكرة الحرب البادرة The Cold War Experience والاستفادة
من الخبرة الأمريكية في حرب التيار الشيوعي من الداخل، في تقديم نموذج مشابه لصانع
القرار الأمريكي؛ كي يستفيد منها في المواجهة المشابهة مع التيار الإسلامي، وركّز
هنا على جانبين:
الأول: خاص بخبرة الاستعانة بالطابور الخامس
من المهاجرين البولنديين والشيوعيين للغرب ومعهم المفكرين الأمريكيين لتمهيد أرض
المعركة ونشر القيم الغربية.
والثاني: خاص بالجانب الإعلامي مثل تجربة
(راديو ليبرتي) الموجه لروسيا، فضلًا عن إنشاء قسم خاص في المخابرات الأمريكية،
دوره هو التغيير الفكري لمواقف وآراء طلاب ومفكري الدول الشيوعية وتقديم العالم
لهم من وجهة نظر غربية محببة، ويطرح التقرير أفكارًا بشأن كيفية استخدام الدين ضد
الشيوعية، كنوع من الإسقاط لبيان أنه يمكن -العكس- باستخدام العلمانية ضد الدين
في الدول الإسلامية!
ويسرد التقرير قائمة بمن يعتبرهم من
المعتدلين في العديد من الدول العربية ودول الخليج، ويطرح أفكارًا لمواجهة اتهام
أنصاره بالعمالة، ويؤكد أهمية برامج التلفزيون التي تركز على فكرة "التعايش
مع الغرب".
"ويركز التقرير هنا على أن الطريق
الصحيح هو بناء أرضية من المسلمين أنفسهم من أعداء التيار الإسلامي، مثلما حدث
في أوروبا الشرقية وروسيا حينما تم بناء منظمات معادية للشيوعية من أبناء الدول
الشيوعية نفسها.
وقد ركز الفصل الثالث من دراسة
"راند" على بحث أوجه التشابه أو الخلاف بين أسلحة الحرب البادرة في هدم
الشيوعية، وأسلحة الحرب الحالية ضد الفكر الإسلامي، ويؤكد أن هناك أوجه تشابه
أبرزها أن الصراع مع الشيوعية كان فكريًّا مثلما هو الحال مع العالم الإسلامي؛ فهو
يعترف بأن عقبات هذه السياسة أعمق مع المسلمين.
ويذكر من أوجه الخلاف -عما حدث في الحرب
البادرة- بأن أهداف الشيوعية كانت واضحة للغرب وكان من السهل محاربتها، بعكس أهداف
التيار الإسلامي غير الواضحة للغرب، كما أن الشيوعية كانت هناك آليات للتفاوض
معها، عبر أجهزة الأمم المتحدة وغيرها، بعكس التيار الإسلامي غير المحدد في كتلة
واحدة محددة كالشيوعية، أما الأهم فهو المخاوف -كما يعترف التقرير- من أن ينظر
لمحاولات " تحرير" العالم الاسلامي أو اعتداله على الطريقة الغربية على
أنه غزو واحتلال فكري، فضلًا عن صعوبة ضرب وتحجيم الدول التي تقف خلف الفكر
الوهابي "السعودية"؛ لأنها في نفس الوقت دول ترتبط أمريكا بمصالح معها
(البترول - مناطق النفوذ) "
انتهى مختصر ترجمة تقرير راند!
لقد بدأ الإعلان عن معركة استعادة الإسلام
المخطوف بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها؛ كما يقول وزير خارجيتها جون كيري:
"لدينا مركز عالمي جديد للاتصالات، ونحن نعمل مع السعوديين، ومع
الإماراتيين، ومع الماليزيين، مع الناس في جميع أنحاء العالم، ليست أصواتنا
التي ستجري الفرق بل صوت الإسلام، عليهم استعادة دينهم ونحن سنساعدهم..."!
وقد حددت مؤسسة "راند" بكل وضوح
الحلفاء الذين يجب على أمريكا تعزيز الشراكة معهم في العالم الإسلامي؛ لمواجهة
التيار الإسلامي الجهادي والسياسي الذي يرفض النفوذ الغربي، ومن أهم الأطراف التي
يؤكد تقرير "راند" ضرورة التحالف معها: الطرق الصوفية عامة، وجماعة فتح
الله كولن خاصة، هذا التحالف الذي تجلى في وقوف شيوخ الطرق الصوفية مع الثورة
المضادة للربيع العربي، المدعومة أمريكيا في كل ساحات الثورة العربية، كما فعل علي
جمعة في مصر، وحسون في سوريا، والجفري في اليمن، وجاء تشكيل "مجلس حكماء
المسلمين" بدعم إماراتي وتشجيع أمريكي مؤكدا هذه الرعاية حيث فتح منبر الأمم
المتحدة لرئيسه ابن بيه ليقول ما يريد الغرب قوله عن التطرف الإسلامي!
التحالف
الغربي مع الصوفية:
لقد جرى تصنيف الصوفية في توصيات مؤسسة
"راند" ضمن فئة قوى الحداثة -حيث جاء في ترجمة تقرير سنة ٢٠٠٤م
"الإسلام المدني الديمقراطي" ص ٤٦-:
"يمثل الصوفيون التأويل الفكري المنفتح
للإسلام، وينبغي أن يُشجع بقوة على إدراجه في المناهج المدرسية والمعايير المعتمدة
والحياة الثقافية في الدول التي تمارس تقاليد صوفية مثل أفغانستان أو العراق،
ويمدّ التيار الصوفي من خلال أشعاره وموسيقاه وفلسفته جسورا قوية تربط بين مختلف
الانتماءات الدينية"!
وورد في ترجمة تقرير راند ٢٠٠٧ "بناء
شبكات إسلامية معتدلة" ذكر فتح الله كولن كنموذج يحتذى به؛ حيث يقول التقرير:
(يروج القائد الديني التركي فتح الله كولن الإسلام الصوفي الحديث المعتدل، ويعارض
تطبيق الدولة للشريعة الإسلامية، مشيرا إلى أن معظم الأحكام الإسلامية
تتعلق بحياة الأفراد الخاصة، ويهتم القليل منها فقط بأمور الحكم، فالدولة كما
يعتقد، لا ينبغي أن تطبق الشريعة الإسلامية: لأن الدين مسألة خاصة، ولا ينبغي
أن تفرض الدولة أي أحكام من أي ديانة معينة على السكان.
كولن يستمد أفكاره حول التسامح والحوار مع
المسيحيين واليهود؛ فقد اجتمع مرتين مع البطريرك بارثولوميوس، رئيس طائفة الروم
الأرثوذكس البطريركية في إسطنبول، كما زار البابا في روما في عام ١٩٩٨م، وتلقى
زيارة رئيس حاخامات من إسرائيل.
ويؤكد غولن التوافق بين الإسلام
والديمقراطية، ويقبل الجدل أن فكرة النظام الجمهوري هي إلى حد كبير تتفق مع
المفاهيم الإسلامية في وقت مبكر من الشورى، كما يعارض أي نظام استبدادي من شأنه
فرض قيود صارمة على الأفكار، ووجه انتقادات شديدة إلى الأنظمة في إيران والسعودية،
ويعتقد أن التجربة التركية والتفسير التركي للإسلام تختلف عن تلك التي لدى
الآخرين، خصوصا العرب، ويكتب عن "إسلام الأناضول" الذي يقوم على التسامح
ويستبعد القيود القاسية والتعصب)
(كما ورد في تقرير راند 2007 بناء الشبكات
الإسلامية المعتدلة "Building Moderate Muslim Networks" ص 74).
رعاية أمريكا لفتح الله كولن:
وما أوصى به تقرير راند هو ما تجلى في أوضح
صوره في رعاية أمريكا لجماعة فتح الله كولن، ابتداء من التحالف معه سنة ١٩٨٠م عبر
انقلاب كنعان إيفرين الذي كانت وراءه الاستخبارات الأمريكية والذي فتح الباب على
مصراعيه لنشاط جماعة كولن، ثم استقباله بولاية بنسلفانيا كمهاجر سنة ١٩٩٩م،
وانتهاء باشتراكه في الانقلاب العسكري سنة ٢٠١٦م، مرورا بفتح الأبواب لمدارسه
وجامعاته في كل العالم الإسلامي، حتى احتفلت الجامعة العربية بتجربته في إصدار خاص
لها عنه سنة ٢٠٠٩م؛ في الوقت الذي لا تستطيع كثير من الجماعات الحصول على فتح
مدرسة واحدة في بلدانها؛ فضلا عن الآلاف المدارس في كل البلدان التي تخضع للنفوذ
الأمريكي! وحتى وصل تمدد الجماعة إلى السعودية التي تتبنى الدولة فيها الوهابية
السلفية المناهضة للصوفية! وذلك تنفيذا لتوصيات تقرير راند؛ لتحجيم الثقافة
الأصولية في السعودية، وإحلال ثقافة دينية بديلة أكثر انفتاحا على الغرب وحضارته
وبمساعدة الحكومة السعودية نفسها!
حيث أكدت مؤسسة "راند" ضرورة اتخاذ
السعودية والإمارات والكويت وتركيا وماليزيا كدول حليفة لنشر الوسطية الإسلامية؛
عبر فتح الباب للصوفية والعلمانية الليبرالية والمذاهب التقليدية التي باستطاعتها
مواجهة الأصولية الإسلامية!
وفي الوقت الذي قامت السعودية بإغلاق مئات
المراكز الإسلامية الرسمية والأهلية بضغط أمريكي منذ ١١ سبتمبر ٢٠٠١م؛ كان الطريق
يفتح في دول الخليج العربي -بما فيها السعودية- لجماعة كولن حيث بدأت ترجمة كتبه
إلى العربية ونشرها على نطاق واسع، وتزكيته وجماعته وكتبه حتى من شيوخ السلفية في
السعودية على نحو غير معهود! لتهيئة البيئة المناسبة لتغلغل الثقافة التي تريد
أمريكا نشرها في العالم الإسلامي عبر صوفية كولن!
وبما أن إعادة تشكيل الثقافة الإسلامية بما
يتواءم مع القيم الغربية يحتاج إلى المدارس والمعاهد والجامعات أكثر من أي شيء
آخر؛ فستكون هي السبيل الذي يجب العبور من خلاله لإعادة تشكيل الوعي الإسلامي كما
يريده الغرب والحملة الصليبية!
لقد وجدت أمريكا ضالتها في حركة كولن؛ فهي
كما جاء في كتاب "فتح الله كولن خميني الأتراك": (بدأ فتح الله ولا
سيما بعد عام ١٩٩٠م -لاحظ التاريخ- بحركة رائدة في الحوار والتفاهم بين
الأديان وبين الأفكار الأخرى متسمة بالمرونة والبعد عن التعصب والتشنج، ووجدت
هذه الحركة صداها في تركيا ثم في خارجها، ووصلت هذه الحركة إلى ذروتها في الاجتماع
الذي تم عقده في الفاتيكان بين الشيخ فتح الله وبين البابا إثر دعوة البابا له.
لقد آمن كولن بان العالم أصبح -بعد تقدم
وسائل الاتصالات- قرية عالمية لذا فان أي حركة قائمة على الخصومة والعداء لن تؤدي
إلى أي نتيجة إيجابية، وأنه يجب الانفتاح على العالم بأسره، وإبلاغ العالم كله بأن
الإسلام ليس قائمًا على الإرهاب -كما يصوره أعداؤه- وان هناك مجالات واسعة
للتعاون بين الإسلام وبين الأديان الأخرى)!
وهو تماما ما أوصت به مؤسسة راند؛ لتحقيق
الهدف الذي تطمح أمريكا لتحقيقه!
إن الانفتاح على الغرب هو الباب الذي فتح
الغرب من خلاله لفتح الله كولن كل الأبواب، كما جاء في كتاب "خميني
الأتراك": (تتميز حركة كولن عن باقي الحركات الإسلامية في المنطقة والعالم هو
أنها غالبا تلقى ترحيبا كبيرا من الغرب، إذ تعتبر هي "النموذج" الذي
ينبغي أن يحتذى به بسبب "انفتاحها" على العالم، وخطابها الفكري.
فمثلا إذا كان نجم الدين أربكان يرى أميركا عدوا للعالم الإسلامي بسبب تحكم
"الصهيونية العالمية" في صنع القرار فيها، فإن كولن يرى أميركا
والغرب عموما قوى عالمية لا بد من التعاون معها. وإذا كان أربكان يرى ضرورة
الوحدة بين العالم الإسلامي، وهي الأفكار التي بلورها عمليا في تأسيسه مجموعة
الثماني الإسلامية، فإن كولن لا ينظر إلى العالم العربي وإيران بوصفهما المجال
الحيوي لتركيا؛ بل يعتبر القوقاز وجمهوريات آسيا الوسطى والبلقان هم المجال الحيوي
لتركيا، فهذه البلدان تضم أقليات تركية هامة، وهو يرى أنه إذا كان لتركيا يوما
ما أن تعود لمكانتها بوصفها واحدة من أهم دول العالم، كما كانت خلال الدولة
العثمانية، فلا بد من نفوذ قوي لها وسط الأتراك في كل مكان في العالم. لكن كولن من
البراغماتية والذكاء بحيث لا يستخدم تعبير "القيادة التركية" في
المنطقة، كما لا يدعو إلى استقلال الأقليات التركية في وسط آسيا، ولا تمارس جماعته
أنشطة تعليمية في البلاد التي يمكن أن تتعرض فيها الأقلية التركية لمشاكل من قبل
النظم الحاكمة مثل الصين وروسيا واليونان)!
وهذه النزعة للقومية التركية لدى جماعة فتح
الله كولن هي التي جعل منها حركة أقرب للأتاتوركية والمؤسسة العسكرية في تركيا،
وهو سر تحالفها مع انقلاباتهم كما جرى لها مع انقلاب كنعان إيفرين سنة ١٩٨٠م بدعم
أمريكي، وانتهاء بالانقلاب الأخطر على الإطلاق يوم الجمعة ١٥ /٧ / ٢٠١٦ على حكومة
أردوغان!
وهذه النزعة القومية لدى كولن هي أيضا سبب
الفجوة بينه وبين نجم الدين أربكان ثم أردوغان!
فقد قدم فتح الله كولن إسلاما قوميا علمانيا
ليبراليا يتماهى تماما مع الحضارة الغربية التي تحاول إخضاع العالم الإسلامي
لمشروعها الحضاري والاستعماري، وكما جاء في كتاب "خميني الأتراك":
(واليوم يقترن اسم فتح الله كولن بمصطلح الإسلام التركي المتنور أو المعتدل؛ إذ
حاول فتح الله كولن مع مؤيديه تأسيس حركة دينية سياسية اجتماعية حديثة تمزج
الحداثة بالتدين، وبالقومية، وبالتسامح، وبالديمقراطية. ووضع الإسلام والقومية
والليبرالية في بوتقة واحدة... كتبت الكثير من الدوريات الغربية عن كولن
تصوره كزعيم حركة اجتماعية إسلامية قومية غير معاد للغرب، ووجه المستقبل للإسلام
الاجتماعي في الشرق الأوسط)!
ويقول عنه أيضا: (وأول ما يلفت النظر في
كولن هو أنه لا يفضل تطبيق الشريعة في تركيا، حيث يقول الغالبية العظمى من
قواعد الشريعة تتعلق بالحياة الخاصة للناس، فيما الأقلية منها تتعلق بإدارة الدولة
وشؤونها، وأنه لا داعي لتطبيق أحكام الشريعة في الشأن العام. ووفقا لهذا يعتقد
كولن أن الديمقراطية هي أفضل حل)!
ولهذا أوصى تقرير راند الولايات المتحدة
العمل من أجل (إعلاء شأن التصوف والتواصل مع ممثليه: تشجيع البلدان ذات
التقاليد الصوفية القوية على التركيز على ذلك الجزء من تاريخها، وإدراجه في
المناهج الدراسية، وإيلاء مزيد من الاهتمام الى الإسلام الصوفي)!
(كما في تقرير راند سنة 2003م الإسلام المدني الديمقراطي "Civil Democratic Islam" ص
79).
كما عدّ تقرير راند ص ٦٢: (الصوفية
والمذاهب التقليدية حلفاء طبيعيين للغرب لدرجة أنه من الممكن إيجاد أساس مشترك
فيما بينهم، ونحن نستكشف إمكانية إقامة شراكات مع التقليديين والصوفيين، من المهم
أن نأخذ في الاعتبار التنوع الواسع بذلك)!
هذه الشراكة -التي أوصت بها مؤسسة راند
التابعة للجيش الأمريكي كجهة استشارية- بدأت بالتوافق الفكري وفتح الأبواب لنشاط
جماعة كولن على أوسع نطاق في العالم الإسلامي؛ لتنتهي في توظيفها في أخطر انقلاب
عسكري على نظام اختاره الشعب التركي بإرادته، وحقق نجاحا سياسيا واقتصاديا هو
الأبرز في تاريخ الجمهورية التركية؛ بل في المنطقة كلها، لا لشيء إلا لأنه بدأ
يخرج عن النفوذ الأمريكي!
تيارات أوصت بها مؤسسة راند:
لم تقتصر توصيات راند على التحالف مع الصوفية
فحسب؛ بل دعت الولايات المتحدة للتحالف مع الشيعة والتيارات العلمانية الليبرالية
والمدارس الفقهية التقليدية؛ لمواجهة ما يسميه التقرير "الأصولية
الإسلامية" التي تبين لاحقا أنها تبدأ من طالبان وتنتهي عند حزب العدالة
والتنمية!
فجاء في تقرير بناء شبكات إسلامية معتدلة -ص
١٠٤-: (المشاركون المرتقبون: هناك ثلاثة قطاعات واسعة خلال نطاق النزعات
الأيديولوجية على مستوى العالم الإسلامي حيث تستطيع الولايات المتحدة والعالم
الغربي أن تجد مشاركين من بينهم في مجهوداتهم للتغلب على التطرف الإسلامي، وهذه
القطاعات تتكون من: العلمانيين، والمسلمين الليبراليين، والمعتدلين التقليديين بما
فيهم الصوفية)!
وقد نوه التقرير بأهمية التحالف مع الشيعة
للتصدي للحركات الإسلامية السنية؛ فجاء فيه: (قد تكون هنالك مصلحة للولايات
المتحدة للانحياز بسياساتها إلى جانب الشيعة العراقيين الذين يطمعون في الحصول على
حصة كبيرة من الحكم، والمزيد من حرية التعبير في السياسة والدين. فإذا أمكن تحقيق
هذا التوافق فقد يشكل حاجزا في وجه الحركات الإسلامية المتطرفة، وسيشكل أُساسا
لاستقرار الموقف السياسي الأمريكي في المنطقة، وبطبيعة الحال هذا التوافق لن يتحقق
بسهولة. بعكس التزام الولايات المتحدة لاجتثاث البعث في العراق، أو سياسة الولايات
المتحدة التي ينظر إليها على أنها مؤيدة للسنة، وسيضعف الثقة في التزام الولايات
المتحدة بالديمقراطية، ومن جهة أخرى سيدفع معتدلي الشيعة في أحضان إيران).
(من تقرير راند 2004 العالم الإسلامي بعد 11
سبتمبر "The Muslim World After 9/11" ص٢٠).
لقد قامت الولايات المتحدة بالفعل بتنفيذ ما
جاء في توصيات تقارير راند منذ ١٩٩٩م -وهي السنة التي تم فيها استضافة فتح الله
كولن في بنسلفانيا- وتتابعها حتى صدور أخطرها سنة ٢٠٠٧، بتشكيل شبكة التحالفات بين
شركائها؛ ففي الوقت الذي تأسست مراكز حكومية لنشر الوسطية والاعتدال وفق المنظور
الأمريكي في الإمارات والكويت والسعودية والبحرين، تم كذلك رعاية الجماعات الصوفية
والمذاهب التقليدية وشيوخها وإبرازهم إعلاميا كنموذج للإسلام الوسطي! وظهر التحالف
الأمريكي الشيعي في أوضح صوره في العراق! وباتت القنوات الفضائية التي تروج
الثقافة الغربية كالحرة والعربية وmbc
تقوم بدورها في الحرب الإعلامية على التيارات الإسلامية الجهادية والسياسية، تماما
كما جاء في توصيات مؤسسة راند! وبلغ التوظيف أوجه في تورط الجميع في الانقلاب
الأمريكي في تركيا يوم الجمعة ١٥/ ٧/ ٢٠١٦؛ فقد استخدمت أمريكا دولها وجماعاتها
الوظيفية لدعم الانقلاب ماليا وماديا، وقنواتها الفضائية في الترويج لنجاحه،
وجماعة كولن الصوفية وبقايا العسكر الأتاتوركي لتنفيذه!
المشروع الأمريكي في جزيرة العرب وتوظيف مشايخ
الصحوة:
وكما رعت أمريكا الحالة الإسلامية التركية
منذ ما قبل انقلاب كنعان إيفرين سنة ١٩٨٠م حتى الانقلاب العسكري في تركيا ٢٠١٦م؛
رعت كذلك هذه الحالة الإسلامية في العالم العربي في الوقت نفسه، فقد بدأت رعايتها
لهذه الحالة الإسلامية في جزيرة العرب منذ إطلاق الملك فهد لمشروع الصحوة عام ١٩٨١م
في مؤتمر مكة الإسلامي بحضور كل الرؤساء والملوك!
وقد رأت أمريكا بعد احتلالها العراق ٢٠٠٣م
بأن تنامي الجهاد فيه؛ بات يهدد وجودها العسكري في المنطقة كلها، وأن أكثر
المجاهدين الذين جاءوا من خارج العراق هم من جزيرة العرب، وأن خطاب
"الوسطية" لم يؤثّر داخل دول الخليج كما أثّر خارجها في العالم العربي
والإسلامي، فبدأت بتوجيه الخطاب المباشر لشعوبها، عبر القنوات الفضائية، وانتدبت
أشهر الدعاة والمشايخ الخليجيين لبرامجها، ووقعت هذه القنوات معهم العقود بملايين
الدولارات، لتوجيه الرأي العام الخليجي، الذي لم يجد خطاب الشيخ القرضاوي صدى
كبيرا بينهم منذ ١٩٩٦ عبر برنامج "الشريعة والحياة"، كما لم تعد تؤثر
فيهم فتاوى هيئة كبار العلماء في السعودية بعد وفاة الشيخ ابن باز ١٩٩٩م، ثم الشيخ
العثيمين مطلع سنة ٢٠٠١، فكان تأسيس "اتحاد علماء المسلمين" سنة ٢٠٠٤م،
برعاية قطر أحد وسائل توجيه الرأي العام الإسلامي في تلك المرحلة، وتم الاستعانة
بالشيوخ الذين كانوا في السجون منذ سنة ١٩٩٤م؛ بسبب اعتراضهم على دخول الجيش
الأمريكي سنة ١٩٩٠م، وأطلق سراح آخرهم سنة ١٩٩٩م؛ لمواجهة خطاب التيارات الجهادية
الذي بدأ يتنامى على نطاق واسع، والذي دعا لإخراج أمريكا من المنطقة، واصطف أولئك
الشيوخ بعد خروجهم من السجن مع الأنظمة الوظيفية مرة أخرى، وتصدوا للحركة
الجهادية، التي استطاع المحتل الأمريكي اختراق صفوفها بخلاياه الاستخباراتية
وبالمجموعات المتطرفة منهم التي مارست كل جرائم القتل الهمجي وتصويرها وبثها في
وسائل الإعلام ونسبتها للجهاد والمجاهدين عامة؛ لصرف الناس عنهم وحصارهم، واتخذت
تلك ذريعة للشيوخ والدعاة للتحذير من الجهاد نفسه والمجاهدين، حتى بلغ بهم الحال
أن تعاونوا مع وزارات الداخلية في لجان المناصحة للمجاهدين في السجون ليتوبوا
ويعودوا إلى أحضان الدولة الوظيفية تحت نفوذ الحملة الصليبية، كما جرى قبل ذلك في
مصر وليبيا وتونس والمغرب والجزائر!
وكانت أمريكا قد أعدت عدتها قبل غزو العراق
فاستطاعت كسب أكثر من ٦٠٠ كاتب ومثقف وشيخ دين في دول الخليج العربي إلى صفها في
الحرب على الإرهاب الإسلامي وهو الحركات الأصولية والجهادية، كما نشرته آنذاك
"الكويت نيوز"، وذلك عبر استكتابهم وإشراكهم في الكتابة في زوايا الصحف
وبرامج القنوات الفضائية، مذيعين ومحاورين ومشاركين، ورصدت لتمويل ذلك المشروع ٥٠٠
مليون دولار، وكان من يقوم على هذا الاستقطاب والتوظيف هي الصحف نفسها والقنوات
الفضائية، فيأتي الدعم الأمريكي لهم بشكل غير مباشر عبر هذه الوسائل، كأجرة مقابل
الكتابة أو تقديم البرامج وإعدادها!
وهي الخطة الإعلامية نفسها التي واجهت أمريكا
بها الشيوعية في أوربا الشرقية، حيث استخدمت كل وسائل الإعلام والصحف ودور النشر
ومراكز البحث في استقطاب الكفاءات الفكرية والثقافية وتمويلها بأسلوب غير مباشر من
خلال عملها في هذه المؤسسات، وتوجيه الرأي العام بها ضد الشيوعية!
وقد كانت تقارير مؤسسة "راند"
الاستشارية للجيش الأمريكي قد حددت منذ سنة ١٩٩٩م خطة عملها والقوى التي استهدفتها
للتعاون معها في مواجهة التطرف والإرهاب الإسلامي كما وصفته، ورأت ضرورة تعزيز
مراكز "الوسطية" والإسلام "المعتدل" في العالم العربي
والإسلامي!
وبدأت قناة mbc العربية بث برنامج "حجر
الزاوية" للشيخ سلمان العودة سنة ٢٠٠٤م، والذي كثف فيه -وفي غيرها من البرامج
الإعلامية في كثير من القنوات الفضائية كروتانا والعربية والرسالة- خطاب الشيخ
القرضاوي "الوسطي" والتصدي للخطاب "الجهادي"؛ في الوقت الذي
كانت المعركة في أفغانستان والعراق مع الحملة الصليبية على أوجها، ثم اختير الشيخ
العودة بعد ذلك مساعدا للقرضاوي في "اتحاد علماء المسلمين" فأحدث خطاب
الشيخ العودة الإعلامي -وغيره من الشيوخ الذين أُطلق سراحهم لمواجهة خطاب القاعدة
كالشيخ ناصر العمر- داخل الخليج ما لم يحدثه خطاب القرضاوي، بحكم أنه ابن البيئة
ويخاطبها بثقافتها السلفية التراثية، فأحدث في قطاع واسع من الشباب من التحول إلى
"التنوير" ما حدث له هو كما كتبه عنه تركي الدخيل في كتابه "سلمان
العودة من السجن إلى التنوير"، واستمر البرنامج يبث طوال فترة الجهاد في
العراق إلى سنة ٢٠٠٩م، حيث أحكم العدو الطوق على العراق وعزله عن محيطه العربي،
وتراجعت حركة الجهاد فيه!
لقد كان هؤلاء الشيوخ يعترفون بحق الشعب
العراقي بمقاومة المحتل وجهاده، إلا إنهم في الوقت ذاته يوجبون السمع والطاعة
للأنظمة الوظيفية التي تقوم بحصاره وقتاله مع الجيش الأمريكي!
لقد كان السقف الوطني عندهم هو المحدد
لمشروعية الجهاد من عدمه!
وهذا هو كل ما تحتاجه الحملة الصليبية لمحاصرة
كل بلد إسلامي تحتله على حدة، والقضاء على المقاومة فيه، إذ لا يمكن مواجهة الحملة
الصليبية الدولية بالمقاومة الوطنية، ما لم تشارك الأمة وشعوبها فيها كلها، كما هو
الواجب بإجماع الفقهاء إذا دهم العدو أرض الإسلام!
لقد كان بوش نفسه كما صرح لوسائل الإعلام يحيي
المقاومة العراقية ويعترف بحقها في القتال! فالمهم أن يظل الصراع وفق حدوده
المرسوم لها، وألا تدخل الأمة الإسلامية فيه، وهو ما دعا إليه أولئك الشيوخ مع
وقوفهم مع حق الشعب العراقي في الجهاد، فلم يزيدوا على تأكيد موقف الرئيس الأمريكي
بوش!
لقد استضافني الشيخ العودة -فك الله أسره
وجميع المصلحين- في منزله في مدينة بريدة بعد احتلال العراق، ومع بدء تنامي حركة
الجهاد فيه، وكان ذلك سنة ٢٠٠٤ أو ٢٠٠٥م، وسألني عن قراءتي لمستقبل المنطقة، وإلى
أين تمضي الأمور، فقلت له: لقد سقطت المنطقة كلها سياسيا وعسكريا تحت نفوذ الحملة
الصليبية الصفوية، وسيتنامى الجهاد في المنطقة كلها، وستأتي الثورة!
فقال: ألا ترى بأنها ستكون ساحات حرق للشباب
كما جرى في أفغانستان؟
فقلت: هناك عدوان على الأمة وشعوبها، ولا
خيار أمامها إلا مقاومته وصده، ولو لم يحدث ذلك لكان وضعا غير طبيعي، فهذه ردة فعل
طبيعية للشعوب، وستزداد ضراوة المعركة، وستتنامى موجة الجهاد، ما دام الصراع
قائما، والواجب الوقوف مع الأمة وجهادها مهما كانت التضحيات، فالعدو يحاول
بالسياسية والإعلام أن يحقق ما عجز عنه بالحرب والقتال!
وحذرت من خطورة غياب مشروع الأمة في مواجهة
هذا التداعي الأمم، وعجز المشروع الوطني عن تحقيق الأمن لشعوب المنطقة، بعد سقوط
العراق أمام الحملة الصليبية في ثلاثة أسابيع!
ثم بعد سنة من تأسيس (حزب الأمة) زارنا في
الكويت سنة ٢٠٠٦م -في مقر الحزب وبحضور أعضاء مكتب الأمانة العامة والمكتب السياسي
للحزب- الشيخ د. سلمان العودة ومعه الشيخ د. عصام البشير، وكان آنذاك رئيس مركز
"الوسطية" التابع لوزارة الأوقاف في الكويت، ولمجلس الأمن الوطني، وكان
معهما النائب في مجلس الأمة د. جمعان الحربش عضو الحركة الدستورية "الإخوان
المسلمون" في الكويت، وبدأ الشيخ عصام في الحديث عن ضرورة الدعوة إلى الوسطية
بلا تثوير ولا تخدير، وتحريم الخروج المسلح والاصطدام بالحكومات!
وتحدث الشيخ العودة مؤكدا هذا المعنى، وحاجة
مجتمعاتنا للإصلاح المجتمعي قبل الإصلاح السياسي!
وكانت الزيارة مفاجئة لنا وهي الأولى من
نوعها، ولم يسبق أن زار الحزب وفد من جهة وزارة الأوقاف أو مؤسساتها، أو الحكومة،
كما كان موضوع الحديث عن الخروج المسلح أكثر غرابة في مقر حزب سياسي سلمي حديث
التأسيس!
فأدركنا جميعا بأنها مهمة كلف بها مركز
"الوسطية" التابع للأمن الوطني في الكويت، بإشراف أمريكي، وقد استعان
المركز على تنفيذها بالشيخ العودة!
ثم تحدثت فقلت: هل هذه قضية اجتهادية لا نص
فيها، يدلي كل فيها برأيه، أم قضية فيها نصوص شرعية يحتكم إليها ويحتج بها؟
وذكرت النصوص التي أمر فيها الشارع بالتغيير
باليد وهي القوة، وأفضت في بيان الآيات والأحاديث الصحيحة في المسألة، والخلاف
الفقهي، والراجح منه..
فقال الشيخ العودة: أنا رأيت لنفسي دورا في
الإصلاح الاجتماعي وحاجة الأمة والشباب إليه، وركزت عليه..
فقال الشيخ سيف الهاجري: أخشى يا شيخ سلمان
أن يكون الرأي العام الشعبي قد تجاوزكم وتجاوز أطروحاتكم هذه، وصار أكثر وعيا،
وأكثر اهتماما بمشاكله السياسية التي تؤثر على حياته المعيشية والاقتصادية،
فالشعوب تواجه خطرا خارجيا يحتل أرضها، ويستبيح دماءها، ويهدد أمنها ووجودها،
وغياب الدعاة والمصلحين عن طرح مشروع إنقاذ لها، سيجعل الأمة وشعوبها تبحث عن الحل
عند غيرهم ولن تنتظرهم!
وتأثر الشيخ العودة بما سمع وشعر بأنه تعريض
به وبدوره الإصلاحي الذي يقوم به!
كما زار الكويت أيضا سنة ٢٠٠٦م الشيخ ناصر
العمر واستضافه النائب عبدالله عكاش في ديوانه، ودعانا للحضور، فتحدث العمر عن
الدعوة إلى الله وتربية الشباب!
فسأله الشيخ سيف: ما هو واجب الوقت الآن
والعدو الأمريكي يحتل العراق ويهجر شعبه؟
فأزعجه السؤال وأخذ يتحدث عن مسئولية كل
إنسان عن نفسه زمن الفتن، وعدم الانشغال بأمر العامة، وأن مهمة الداعية هي بيان
الحكم الشرعي فقط!
لقد كان هؤلاء الشيوخ أنفسهم ممن دخلوا السجن
سنة ١٩٩٤م بسبب اعتراضهم على الوجود الأمريكي العسكري، ودعوتهم الأمة وشعوبها إلى
الاهتمام بواقعها السياسي وبفقه الواقع، فلما تفاعلت الشعوب مع خطابهم؛ عادوا بها
إلى خطاب شيوخهم التقليدي وهو الدعوة إلى الله وعدم الانشغال بالواقع!
لقد استطاعت أمريكا عبر حكومات الخليج
الوظيفية توظيف أولئك الشيوخ والدعاة -الذين كانوا في السجن قبل سنوات لوقوفهم ضد
الوجود العسكري الأمريكي- فإذا هم من حيث لا يشعرون -وبحسن نية من أكثرهم وصدق
طوية- يخدمون وجودها، ويعززونه بتعاونهم مع حكوماتها الوظيفية التي تحميها أمريكا،
من حيث يظنون أنهم يصلحون من واقعها، حتى إذا انتهى الدور المرسوم لهم، فإذا السجون
تفتح لهم مرة أخرى، بعد الثورة المضادة على الربيع العربي، وبعد انقلاب السيسي في
مصر سنة ٢٠١٣م، وإذا المشهد يتكرر في الخليج وجزيرة العرب كما حدث في مصر منذ سنة
١٩٥٤م وحتى اليوم!
أمريكا وصناعة الأيقونات الزائفة:
لقد كشفت مرحلة الثورة المضادة عن مدى تأثير
النفوذ السياسي والإعلامي الأمريكي على النخب في العالم العربي، وعلى قواه
السياسية، وشبكة العلاقات الواسعة والسرية بين هذه النخب والقوى والنظام الدولي
الغربي، عبر مؤسساته ومراكزه التعليمية والحقوقية والإنسانية، خاصة بعد حادثة
خاشقجي الذي أرادت أمريكا ومؤسسات الدولة العميقة فيها عبر وسائل إعلامها كصحيفة
"الواشنطن بوست" أن تجعل منه أيقونة الربيع العربي! ولتتخذه ذريعة للضغط
على النظام السعودي الذي بات بعد ابن سلمان معدودا على فريق ترامب الجمهوري، وخصما
لفريق بايدن الديمقراطي!
واصطف خلف جناح بايدن "الإخوان المسلمون"
وغيرهم من قوى المعارضة في العالم العربي وخارجه خاصة في أوربا وأمريكا، وراهنوا
على فوزه في الانتخابات لاستعادة الديمقراطية في مصر، في مشهد هزلي؛ أصبحت فيه
أمريكا حليفا للشعوب العربية ضد الثورة المضادة!
وصارت "توكل كرمان" في الإعلام
الغربي والعربي الوظيفي هي الموجه الفكري والناطق الرسمي باسم قوى الثورة العربية
بما فيها القوى الإسلامية!
والداعية إلى "التجديد الديني"
والإصلاح السياسي الذي يتمثل في (دولة علمانية ديمقراطية)!
وصار جمال خاشقجي -رئيس تحرير صحيفة
"الوطن" السعودية والمستشار الإعلامي للأمير تركي الفيصل الذي ذهب ضحية
صراع أجنحة الحكم وأجهزة الاستخبارات-
نموذجا للإصلاحي العربي الديمقراطي الملتزم بقيم الغرب السياسية، وبالعلاقة
الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، خاصة في حربها على ما تسميه الإرهاب
والتطرف، لإعادة برمجة وعي الشباب العربي الثوري على النحو الذي يريده الغرب
الاستعماري لا على النحو الذي تريده الأمة وشعوبها!
فالنموذج المطلوب لإحداث التغيير في المنطقة هو
نموذج الكاتب جمال خاشقجي وليس د. محمد مرسي أو د. محمد كمال فضلا عن الملا محمد
عمر أو د. الظواهري وابن لادن!
وقد ذهب آلاف الشهداء العرب في سبيل الثورة
والإصلاح، في كل الدول العربية، إلا أن الإعلام الأمريكي والأوربي والعربي الوظيفي
لم ير في المشهد كله من يعبر عن قيمه وأهدافه في العالم العربي غير توكل كرمان
وخاشقجي!
الذي قال عنه تركي الفيصل رئيس الاستخبارات
السعودية سابقا في مقابلته مع الواشنطن بوست ٢٤/ ١٠/ ٢٠١٨ بأنه (مصدوم لخسارته أحد
تلاميذه الذين رباهم مدة طويلة)!
لقد كانت أمريكا وأوربا بحكم احتلالها
للمنطقة هي من يصنع قيادات النظام العربي الوظيفي الرسمي وقيادات العمل الشعبي
السياسية والدينية!
وهي من يفتح الطريق لمن تريده ممثلا للنظام أو
المعارضة على حد سواء!
لقد أراد الغرب احتواء الثورة العربية في كل
ساحاتها بواجهات ليبرالية ليتصدر قيادتها من يريده النظام الدولي ممثلا لها!
فحوصر رمز الثورة السورية والجيش الحر رياض
الأسعد في مخيمات اللاجئين، وجيء بأحمد الجربا ونصر الحريري -بدعم سعودي- ممثلين
عن الشعب السوري!
وأصبح أيمن نور -بدعم قطري- قطب رحى قوى
المعارضة المصرية في الخارج بما فيها القوى الإسلامية مع أنها الأكثر شعبية!
وإذا أزمة الأمة وشعوبها وجماعاتها ومصلحيها
تبدأ من الدولة الوظيفية التي أسستها الحملة الصليبية وتعود إليها؛ فهي في حد ذاتها
الأزمة التي تعيشها الأمة، ولا يمكن لها أن تتحرر مما هي فيه في ظل وجودها، ولن
تستطيع "الواقعية السياسية" أن تحدث التغيير المنشود فيها؛ لفقد هذه
الدول ذاتها مفهوم السيادة ومفهوم الدولة نفسه، الذي يمكن تحته وفي ظله إحداث
الإصلاح بالعمل المدني السلمي، أو بالتدافع المجتمعي، إذ المتحكم في المشهد
السياسي فيها هو النظام الدولي و"الحكومة العالمية"، والتي جعلت من شعوب
العالم العربي حقل تجارب لبرامجها السياسية والفكرية والدينية، فلا تحتاج إلى
"أسلمة" النظام السوداني لمواجهة الشيوعية والنفوذ الروسي إلا إلى
انقلاب النميري ثم البشير، ولا إلى "أسلمة" النظام السعودي، إلا إلى
الملك فهد ومشروع "الصحوة الإسلامية"، حتى إذا انتهت المرحلة، وزال
الخطر الشيوعي، جاء الرئيس ترامب إلى الرياض بمشروع ابن سلمان، وفي الخرطوم بمشروع
حميدتي والبرهان، ومشروع "علمنة" السعودية والسودان!
الخاتمة:
هذه مرحلة عشتها وشاهدتها ولم أذكر ههنا كل
ما أعرفه عنها، فقد كان جميع المصلحين المخلصين أفرادا وجماعات ضحايا حملة صليبية
دولية كبرى احتلت العالم العربي، وفرضت واقعا سياسيا في عشرين دولة وظيفية خاضعة
لها ولقواعدها العسكرية وأنظمتها السياسية، وقد أصبح تغيير هذا الواقع السياسي
بوجود هذه الحملة الصليبية والقوى الدولية الغربية على مستوى كل قطر على حدة غير
ممكن إلا بثورة أمة، وحركة تحرر كبرى تواجه مشروع الحملة الصليبية بمشروع (الأمة
الواحدة) و(الخلافة الراشدة)!
ولن يتحقق ذلك إلا ببعث القيم
"المبدئية" والروح "المثالية" التي عبر عنها الأمير المجاهد
الملا محمد عمر بكلمته التاريخية "وعدنا بوش بالهزيمة ووعدنا الله بالنصر
وسنرى أي الوعدين أصدق"، ومضى في جهاده بصبر وثبات وتضحية وقاد حركة طالبان،
التي استطاعت بهذه الروح الإسلامية وبالجهاد في سبيل الله -مع قلة عددها وعتادها-
هزيمة أمريكا وحلف النيتو والحملة الصليبية الغربية بكل جيوشها، وظلت طالبان تجاهد
وحدها، مع وقوف العالم كله ضدها، وحصاره لها، وتخلي الأمة وأكثر جماعاتها
الإسلامية عن نصرتها، فما زالت تجاهد ومن لحق بها من المسلمين في سبيل الله عشرين
سنة، حتى تحقق لها النصر كما وعد الله
﴿إن تنصروا الله ينصركم﴾، وغدت أقصى أماني الرئيس الأمريكي ترامب أن تجلس
معه طالبان بسلاحها على طاولة المفاوضات لفتح الطريق لانسحاب جيوشه وتأمين خروجه!
بينما أدى فقدان هذه القيم واستبدال
"الواقعية السياسية" بها في العالم العربي، وترك الجهاد، ووصم أهله
بالإرهاب، إلى هذه "الغثائية"!
حتى زج بعشرات الآلاف من العلماء والدعاة
والمصلحين في سجون الدول الوظيفية العربية -تحت نفوذ الحملة الصليبية- تستجدي
جماعاتهم الإسلامية لجان حقوق الإنسان الأمريكية والأوربية للنظر في مظالمهم،
والإفراج عنهم، ولو قام عُشرهم فقط بما أوجب الله عليهم من الدفع عن أنفسهم، وجهاد
عدوهم، كما فعل الأفغان وحركة طالبان، لعاشوا أحرارا أو ماتوا أبرارا، ولحرروا
أوطانهم، وصانوا أعراضهم ودماءهم وأموالهم، فارتضوا باسم "الواقعية
السياسية" والدعوة "السلمية" أن يعيشوا هذه الغثائية والعبودية
التي هي أشد من عبودية بني إسرائيل لفرعون، وارتضوا لأنفسهم وأهليهم ما ارتضى بنو
إسرائيل لأنفسهم، أن يقتّلوا، أو يهجّروا من أرضهم في الشتات -يطلبون اللجوء في
بلدان الحملة الصليبية التي أخرجتهم من بلدانها- ولا يجاهدوها، وتولوا عن جهاد
عدوهم فظلموا أنفسهم وأمتهم!
﴿قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد
أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم
بالظالمين﴾!
وقال تعالى: ﴿قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم
وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم
من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾!
فذاقوا من الذل والهوان ما لم يعرفه أسلافهم
العرب حتى في جاهليتهم، فلم يستطيعوا وهم ٤٠٠ مليون أن يحموا القدس والمسجد الأقصى
وأهله، فضلا عن تحرير ما أخذ من أرض فلسطين قبله، وحتى صار أقصى ما يرجون من
قتالهم أن تعيد لهم الحملة الصليبية ونظامها الدولي أرض ١٩٦٧م، وأن تقيم لهم عليه
دولة وظيفية أخرى تضاف إلى ٢٢ دولة قبلها!
واستبدلوا "المقاومة" بالجهاد،
والذي هو أدنى بالذي هو خير، وصاروا يتحاشون في تصريحاتهم وبياناتهم لفظ
"الجهاد" حتى لا يصمهم عدوهم بالإرهاب!
وصدق ما حذر منه الخليفة الأول والصديق
الأفضل بقوله: (وما ترك قوم الجهاد قط إلا ذلوا)!
ثم بلغ بهم سوء الحال أن لم يعودوا يشعرون
بالذل والهوان، بل صاروا يفتخرون بصبرهم في سجون عدوهم، وقدرتهم على تحمل ذلك، ويحتفلون
بسجنائهم، دون أن يقاتلوا لتحريرهم وفك أسرهم!
ورضوا بالمشاركة في الانتخابات ليتنافسوا على
سلطة وهمية تحت إشراف الحملة الصليبية مقابل تخليهم عن الجهاد في سبيل الله
والاكتفاء بحق دفع العدوان الذي يقره لهم النظام الدولي!
وأصيب العرب بالوهن كما في الحديث: (حب
الحياة وكراهية القتال) حتى فوتوا الفرصة على أنفسهم لدحر الجيش الأمريكي في
العراق، فقاموا بحصار فصائل المقاومة ووصمها بالإرهاب، وشارك "الإخوان
المسلمون" في العملية السياسية الطائفية التي فرضها المحتل الأمريكي بدعوى
"الواقعية" وإقامة "الديمقراطية" برعاية القائد العسكري
"بول بريمر"!
وشاركوا في إعداد الدستور في سوريا تحت نفوذ
المحتل الروسي الذي دك مدن شعبهم وهجر الملايين منهم، فالمهم أن لا يخرجوا عن
قرارات الشرعية الدولية!
وحول النظام العربي الوظيفي ٤٠٠ مليون عربي
لعبيد لدى الحملة الصليبية الأمريكية الأوربية الروسية وجيوشها المحتلة وقواعدها
العسكرية من الخليج إلى المحيط، فلم يعد لهم ولا لدولهم مهمة إلا تأمين احتياجات
هذه الحملة، وتأمين خطوط إمداداها، وحماية وجودها، وخدمة جنودها، وإلى حراس أمن
لدى إسرائيل وحدودها، في ظل خطاب ديني غثائي "وسطي" بين الحق والباطل،
لا ينصر حقا، ولا يزهق باطلا، بل غايته التوفيق بينهما بفقه "التزوير"!
فأفسد هذا الخطاب على العرب دينهم، وأذهب
دنياهم، بعد أن صارت "الغثائية" فلسفة وفقها، لا يدرك غايته إلا
الفقهاء، و"الوهن" دينا ومذهبا، لا يعرف مقاصده إلا العلماء، الذين يرون
جهاد هذه الحملة الصليبية إرهابا وإجراما! والتطبيع مع العدو الصهيوني سلاما
وإسلاما!
وغدت مجامعهم الفقهية تتنافس في إصدار
الفتاوى لخدمة هذه الدول الوظيفية، حتى دعا بعضهم إلى "الديانة
الإبراهيمية" ووحدة الإسلام مع اليهودية والنصرانية! وأفتوا جميعا بشرعية
الدولة الوطنية، واختلفوا بين من يرى شرعية الأنظمة الدكتاتورية الطاغوتية، ومن
يدعو إلى الديمقراطية اليونانية! واستخفوا جميعا بالدعوة إلى الوحدة الإسلامية
والخلافة الراشدة النبوية والقرآنية!
وبقيت الأمة وشعوبها -والمخلصون من علمائها
ومجاهديها ومصلحيها ممن انحاز إليها- كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره، وهي تستشرف
عصرا جديدا، وتمضي إلى وعد الله لها بعودة الخلافة الراشدة الثانية كما بشر بها
النبي ﷺ، فالسعيد من دعا إليها، وبشر بها، ورمى فيها
بسهم!
﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنوا مِنكُم
وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم فِي الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذينَ
مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دينَهُمُ الَّذِي ارتَضى لَهُم
وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدونَني لا يُشرِكونَ بي
شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الفاسِقونَ﴾ [النور: ٥٥]