الولاية السياسية
بين المدرسة الحجازية
والمدرسة العراقية!
بقلم: أ.د. حاكم المطيري
١/ ١١/ ١٤٤٤هـ
٢١/ ٥/ ٢٠٢٣م
اتفق الإمامان: مالك بن أنس وأبو حنيفة النعمان -إماما فقهاء الحجاز والعراق
في عصريهما- على عدم شرعية ولاية الإمام الجائر، وهو كل من تولى الخلافة بلا شورى الأمة
ورضاها.
ثم اختلفا فرأى أبو حنيفة عدم تولي الولايات له، كالقضاء، وإمارة الأقاليم،
وعدم الجهاد معه لعدم صحة ولايته!
وخالفه مالك فرأى أن هذه فروض كفائية مخاطبة بها الأمة نفسها -وولايتها
على نفسها أسبق من ولاية الإمام وأوثق فهو يتغير وجودا وحكما، وهي ثابتة لا تتغير وجودا
ولا حكما- فلا تتعطل ولايتها العامة بسبب عدم صحة ولايته!
وكان مالك يحتج على من ترك الجهاد مع أئمة الجور بما حل بثغور المسلمين
وأخذ الروم لها، وما حل بالمسلمين بها.
وكان يرى عدم القتال مع الإمام الجائر إذا خرج عليه مثله، ويقول: (دع
الله ينتقم من الظالم بظالم مثله)، إلا في حال واحدة وهي إذا كان المسلمون يخشون هذا
الخارج على أنفسهم ودمائهم، فيقاتلون مع الجائر -مع عدم صحة ولايته شرعا- دفاعا عن
أنفسهم وأموالهم وعن ولايتهم العامة التي قد تتعرض لانتقاص وظلم أشد، ولا يتحملون وزر
ما يقع في ولاية هذا الجائر من إثم وجور بعد ذلك، كما قال النبي ﷺ: (عليهم ما حملوا وعليكم ما حملتم).
وقد رجع أصحاب أبي حنيفة إلى قول مالك بعد ذلك، واستقر القول عند الفريقين
على تولي الولايات العامة، والوظائف، والقضاء، والقتال مع أئمة الجور، إذا كان القتال
نفسه مشروعا كجهاد الكفار، وقتال اللصوص، وقطاع الطريق، ودفع البغاة الظالمين.
وهذا الفقه الراشد هو الذي حافظ على وحدة الأمة، وحمى الخلافة مدة ألف
وثلاثمئة عام من تاريخ الإسلام.
فمن يدعو الأمة وشعوبها اليوم إلى الاعتزال، وترك فروض الكفاية عليها،
والتخلي عن الوظائف الحكومية، والولايات العامة، وعدم المشاركة السياسية في دار الإسلام
بدعوى عدم شرعية السلطة، وأن المشاركة شرك وكفر، وتعزيز للكفر والحكم بغير ما أنزل
الله، إنما يدعوها في حقيقة الأمر لقبض يدها عن ولايتها على نفسها، وبسط يد عدوها عليها
أكثر وأكثر، وهو نقيض ما جعل الله للأمة من ولاية عامة على نفسها وعلى أرضها {ولن يجعل
الله للكافرين على المؤمنين سبيلا}!
وكما قال عمر: (والله إنها لبلادهم، عليها قاتلوا في الجاهلية، وعليها
أسلموا).
فمن دعاها بخطاب عام إلى ترك العمل في بلدانها، بدعوى عدم شرعية السلطة،
وأن العمل في وظائف الدولة هو اعتراف بالسلطة الجائرة، وإقرار لها على ما يقع منها
من جور، إنما يحملها آصارا وأغلالا وضعها الله عنها، كما قال ﷺ: (وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، وإنما يتولى المسلمون
الوظائف في بلدانهم، ويأخذون أجورهم عليها بحكم ولايتهم العامة على أنفسهم، وأرضهم
بنص الله {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا}، وبقوله {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر} وقوله {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون} وبموجب هذه
الولاية العامة وجب عليهم بالإجماع -إذا استطاعوا- الخروج على الإمام إذا كفر، وخلعه
إذا فسق، وقتال العدو الغازي لهم، والدفاع عن أرضهم فرض عين، دون نظر للسلطة وجورها
أو كفرها، ولولا هذه الولاية التي جعلها الله لهم لكان جهادهم للكافر الغازي لأرضهم،
وخروجهم على الإمام الكافر أو الجائر، وتصرفاتهم هذه كلها غير مشروعة، لفقدهم الولاية
التي بموجبها يحق لهم مثل هذه التصرفات التي لا تجب على المسلمين في دار الحرب أو المعاهدة
لفقدهم هذه الولاية السياسية التي جعلها الله للمؤمنين في دار الإسلام!