ابن جرير الطبري ومنهجه في نقد الأخبار[1]
د. حاكم
المطيري
بسم الله
الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذه دراسة في منهج ابن جرير الطبري في تضعيف
الأخبار وتصحيحها، وشروطه، وضوابطه التي نص عليها في كتابه (تهذيب الآثار)، أو
التي يستنبطها الباحث من تصرفه وطريقته في نقد الأخبار بالاستقراء والتتبع. وقد
قسمت البحث إلى:
المبحث الأول: في منهج ابن
جرير في الاحتجاج بالأخبار، وشروطه فيها:
المطلب الأول: في تقسيمه للأخبار من حيث
الاحتجاج بها.
المطلب الثاني: في شروطه للاحتجاج بالآحاد.
المطلب الثالث: في منهجه عند تعارض الأخبار.
المبحث الثاني: منهج ابن جرير
في الحكم على الأسانيد:
المطلب الأول: منهجه في التضعيف.
المطلب الثاني: منهجه في التصحيح.
المطلب الثالث: في معرفة ضوابطه وشروطه للحكم
على الأخبار تصحيحًا وتضعيفًا.
المبحث الأول:
في منهج ابن جرير
في الاحتجاج بالأخبار وشروطه
فيها
المطلب الأول:
في تقسيمه للأخبار من حيث الاحتجاج بها:
يظهر جليًا أن ابن جرير الطبري يقسم الأخبار
إلى قسمين: أخبار متواترة، وأخبار آحاد، فقد ذكر آية الخوف، وسبب نزولها، ثم قال:
(وبالذي قلنا في ذلك تواترت الأخبار عن أصحاب رسول الله -ﷺ-).
كما ذكر بأن خبر خطبة النبي -ﷺ- في شأن ابن اللُّتْبِيَّةِ –عندما استعمله،
فأخذ ما أهدى له– خبر متواتر.
مع أن من رواه ثلاثة من الصحابة، هم أبو هريرة، وأبو حميد الساعدي، وعدي بن عميرة.
ولم أقف على حد المتواتر عنده، ولا عند
المتقدمين كافة، إلَّا أنهم يستعملونه، بمعناه اللغوي، وهو ما جاء من طرق كثيرة،
وتتابع وروده عن جماعة من الصحابة وأقل عدد الجماعة ثلاثة.
وقد ذكر ابن جرير أن الشرائع التي تنتهي إلى
من تنتهي إليه عن طريق من أودعها النبي -ﷺ- إياهم، وأوجب عليهم إبلاغها من سواهم تنقسم
إلى :
1) شرائع يقطع الإخبار بها عذر من وصلته،
ويلزمه ببلوغها إياه العلم بها والعمل بها، وهذه لا تكون إلَّا بإخبار جماعة يقطع
خبرهم العذر ويفيد العلم.
ولم يحدد في ذلك عددًا، بل كل ما رواه جماعة،
وقطع العذر، وأفاد العلم، فهو متواتر.
2) شرائع لا يقطع بلوغها العذر،
ولا تفيد العلم، إلَّا أن العمل بها واجب يلزم كل من بلغته بها الأخبار، وهي
الشرائع التي رواها الواحد، أو الجماعة التي تعني الواحد، إذا كان فيهم عدل صادق،
أي أخبار الآحاد الصحيحة سواء رواها واحد أو عدد.
3) شرائع لا يقطع بلوغها العذر،
ولا تفيد العلم، ولا يلزم بها العمل، وهو ما رواه الواحد، إن لم يكن صادقًا ولا
عدلا، أو ما رواه الجماعة التي يعني الواحد، إذا لم يكن فيهم عدل صادق. أي أخبار
الآحاد الضعيفة، سواء رواها واحد أو جماعة.
وقال أيضًا: (ببيان رسول الله -ﷺ- لأمته):
(منه: ما ينقله الواحد العدل، أو الجماعة
التي لا يوجب مجيئها العلم، ولا يقطع ورودها العذر، وإن لزم الوارد ذلك عليه
بوروده التصديق به.
ومنه: ما يقله يوجب وروده لمن ورد عليه العلم
بما ورد به، ويقطع مجيئه العذر، وذلك نقل الجماعة التي ينتفي عنها السهو والخطأ.
ويمنع من نقلها فيما نقلت الكذب).
وقد قال ابن جرير في بيان قيام الحجة بخبر
الواحد: (إن الخبر عن رؤية الهلال خبر نظير المنقول عن الحجة التي يلزم العمل به
من أورده عليه العدل الصادق، واحدًا كان الذي أورده عليه أو جماعة، ذكرًا كان أو
أنثى. حرًا كان أو عبدًا، بعد أن يكون بالصفة التي وصفناها، وهو أن يكون عدلًا
صادقًا، لما ذكرنا في الخبر عن رسول الله -ﷺ- من قبول خبر الأعرابي، ولقيام الحجة بوجوب
العمل بخبر الواحد العدل في الدين...)،
وأحال على كتابه (لطيف القول في البيان من أصول الأحكام). فهو يرى الحجة قائمة
بخبر الواحد إذا كان عملًا صادقًا، وإن لم يفد خبره العلم ولم يقطع العذر.
ويشكل على قوله هذا أنه قال في أحاديث مسألة
سماع الأموات: (فالواجب على من انتهت إليه وقامت عليه حجة الخبر الواحد العدل:
الإيمان بها، والإقرار بأن الله يُسمع من شاء من خلقه من بعد مماته مما شاء، وينعم
من أحب منهم بما أحب، ويعذب في قبره الكافر ومن استحق منهم العذاب كيف أراد على ما
جاءت به عن رسول الله -ﷺ- الآثار وصحت به الأخبار...).
فههنا أوجب بخبر الواحد الاعتقاد والإيمان
كما أوجب به العمل؟!
وقد يقال بأنه لا تعارض بين قوليه، فإن
الإيمان والاعتقاد هو من العمل القلبي، فيجب بخبر الواحد.
وأن قوله بأن خبر الواحد يوجب العمل دون
العلم، أي لا يفيد القطع بل الظن الراجح الذي يلزم به العمل سواء عمل الجوارح أو
عمل القلب.
ولم يعد ابن جرير هذه الأخبار الواردة في هذا
الباب من قبيل المتواتر، مع أنه رواها من طرق وصححها عن أربعة من الصحابة رضي الله
عنهم، وهم: عمر، والبراء ابن عازب، وأبي هريرة، وجابر بن عبدالله.
وقد سبق الشافعي ابن جرير الطبري في بيان
الفرق بين السنة المجمع عليه، فالعذر فيها مقطوع لا يسع الشك فيها، ومن شك أو
امتنع قبولها استتيب.
والسنة التي جاءت عن طريق خبر الخاصة، وعلى
سبيل الانفراد، فهي حجة يلزم العملين قبولها، كما يلزمهم قبول شهادة العدول، ولو
شك في هذه السنة شاك لم يستتب، وإنما يقال له: ليس لك إن كنت عالمًا أن تشك كما
ليس لك إلَّا أن تقضي بشهادة العدول وإن أمكن فيهم الغلط.
وقد نص ابن جرير على أن ما نقل رسول الله -ﷺ- مما رواه الكافة عن الكافة، أو ما أجمعت
الأمة عليه من رواية أو رأى هو أثبت وأصح من الخبر الذي يرويه الواحد أو الجماعة
التي لا يقطع بروايتها، حيث قال: (نقل الحجة عن رسول الله -ﷺ- وراثة.
فإن قال: هل بذلك خبر منقول من رواية الآحاد؟
قيل: إن نقل الحجة ورأيه أثبت من الحجة، وأصح
من نقل الواحد والجماعة التي لا يقطع العدد نقلها، ولا يوجب الحجة مجيئها).
ثم ذكر بأن الآحاد الضعيف يتأيد ويتقوى
بموافقته لنقل الحجة أو موافقته لرأيها.
المطلب الثاني:
في شروطه للاحتجاج بالآحاد:
يشترط ابن جرير للاحتجاج بخبر الآحاد، سواء
رواه واحد أو جماعة، بمعنى الواحد شروطًا، وهي الإسلام والعدالة الظاهرة، حيث قال:
"فيه –أي: قبول خبر الأعرابي برؤية الهلال- الدليل الواضح على حقيقة قول
القائلين بإيجاب العمل بخبر الواحد العدل، وذلك أن رسول الله -ﷺ- قبل خبر الأعرابي، إذ صح عنده أنه مسلم، ولم
يكن علم منه أمرًا تسقط به عدالته، وكان ظاهره الصدق فيما أخبر به من الخبر، وعلى
ذلك من منهاجه كان عمل الخلفاء الراشدين".
وقد قال أيضًا في بيان صفة من تقوم بخبره
الحجة: (أن يكون عدلًا صادقًا)،
سواء كان حرًا أو عبدًا، ذكرًا أو أنثى.
وقال أيضًا: "لا خبر يصح سنده بنقل
الثقات العدول عن رسول الله -ﷺ- إلَّا وهو عندنا حق، والدينونة به للأمة
لازمة".
ومراده هنا بالثقة: العدل الصدوق، لا فقط
العدل الضابط –كما سيتبين من منهجه– إذا أن الصدوق –بالمعنى الاصطلاحي– ثقة في أدى
مراتب الثقات، وهو الثقة الذي خف ضبطه.
وقد ضعف ورد أخبارًا لضعف رواتها، إما من جهة
عدالتهم، أو جهة ضبطهم.
فقال في حديث: "هذا عندنا خبر غير جائز
الاحتجاج بمثله في الدين لوهاء سنده، وضعف كثير من نقلته.
وقال في حديث عن ابن عباس: "في مسنده
نظر لعلتين:
الأولى: الضحاك لم يسمع ابن عباس.
والثانية: أن بشر بن عمارة ليس ممن يعتمد على
روايته".
وقال في حديث تفرد به إسماعيل بن عياش:
"خبر لا يثبت بمثله في الدين حجة".
كما أنه لا يشترط اتصال السند، بل المرسل
عنده حجة، بشرط أن يكون المرسل ممن يحتفظ في روايته، فلا يروي عمن لا تجوز الرواية
عنه.
فقد قال في حديث رواه مجالد عن الشعبي مرفوعًا:
"فإن قال قائل: إن الخبر الذي ذكرت عن الشعبي عن رسول الله -ﷺ- في ذلك خبر مرسل، ورواية بعد مجالد، وواجب
في خبر مجالد عند كثير من أهل النقل التثبيت فيما كان منه عن رسول الله -ﷺ- متصلًا، فكيف بما يكون مرسلًا منقطعًا؟!
قيل له: قد بينا في غير هذا الموضع أن مراسيل
العدول الذي شأنهم التحفظ من الرواية عمن لا تجوز الرواية عنه من الأخبار، لله
تعالى دين لازم من بلغته قبولها والدينونة بها، مع بيان الأسباب الموجبة عليه قبول
خبر مجالد ونظرائه".
وقد نقل ابن جرير الطبري الإجماع على قبول
الخبر المرسل إلى رأس المائتين، قال ابن عبد البر: "زعم الطبري أن التابعين
بأسرهم أجمعوا على قبول المرسل، ولم يأت عنهم إنكاره، ولا عن أحد الأئمة إلى رأس
المائتين".
وقد استظهر ابن عبدالبر أن الطبري قصد
الشافعي، وأنه أول من تكلم في حجية المرسل.
والظاهر من كلام الطبري أنه لا يحتج بكل
مرسل، بل بمراسيل التابعين ممن لا يرسلون إلَّا عن مأمون.
قال في حديث رواه جابر الجعفي عن أبي جعفر،
عن أبي مسعود الأنصاري قال: "لو صليت صلاة لم أصل فيها عن النبي -ﷺ- ظننت أن صلاتي لم تتم".
قال الطبري بعد ذلك: "أما الخبر الذي
روى عن أبي مسعود... فإنه خبر مرسل، وذلك أن أبا جعفر لم يدرك أبا مسعود ولا رآه،
ولو كان قد أدركه ورآه لم يجز لنا تصحيحه عنه، إذا كان راويه جابر الجعفي، وفي نقل
جابر الجعفي ما فيه".
كما يشترط في رواة الأخبار أن يكونوا معروفين
غير مجهولين.
فقد قال: "إن قال لنا قائل: ما أنت قائل
في هذه الأخبار: أصحاح هي أم سقيمة؟...
وما الذي أسقمها ورواتها معروفون غير
مجهولين".
وقال أيضًا في حديث عن أبي أمامة رضي الله
عنه: "لا يجوز الاحتجاج به في الدين لوهاء سند وضعف نقلته، وذلك أن أبا العدبس
وأبا مرزوق غير معروفين في نقله الآثار ولا ثابتي العدالة في رواة الأخبار".
وقال في مرسل للحسن البصري: "هذه أخبار
واهية الأسانيد، لا يثبت بمثلها في الدين حجة، وذلك أن مراسيل الحسن أكثرها صحف،
وأنه إذا وصلت الأخبار، فأكثر روايته عن مجاهيل لا يعرفون".
كما أن الطبري يعد كل فعل للصحابة فعلوه دون
نكير من أحد منهم سنة يحتج بها، فقد قال في جواز إحراق جيفة الكافر بعد موته:
"فيما ذكرت عن فعل الصديق، وأمير المؤمنين من ذلك بين ظهراني المهاجرين
والأنصار، من غير تكبرهم ذلك، أوضح البرهان على أن ذلك سنة ماضية من رسول الله -ﷺ- لولا ذلك لم يتقدم الصديق وأمير المؤمنين
على فعل ذلك بينهم، ولو كان فعلهما ما فعلا من ذلك غير سنة ماضية، لكان من بحضرتهم
من المهاجرين والأنصار قد أنكروا ذلك".
المطلب الثالث:
في منهج الطبري عند تعارض الأخبار:
يرى الطبري أن كل ما رواه الثقات من الأخبار،
هو صحيح لا يمكن أن يقع فيه تدافع أو تضاد، فقد قال: "لا خبر فيما ذكرت، أو
لم أذكر، يصح سنده بنقل الثقات العدول عن رسول الله -ﷺ-، إلَّا وهو عندنا حق، والدينونة به للأمة
لازمة، ولا شيء من ذلك يدفع شيئًا منه، ولا ينقض شيء منه معنى شيء غيره".
وقال أيضًا: "غير جائز حمل ما حملته
الثقات من الآثار على الفاسد من الوجوه، ولها في الصحة مخرج".
ولهذا لا يكاد يلجأ إلى الترجيح بين الأخبار،
وإن تفاوتت في صحتها، بل يتكلف الجمع بينها، وتأويلها على شتى الوجوه قرارًا من
الترجيح، إذ كل ما رواه الثقات فهو صحيح ولابد؟!
وليس مقصوده بقوله: "فيما حملته الثقات
من الآثار". على ظاهره، أو ما لا خلاف بين الأئمة في كونه صحيحًا من أخبار
الآحاد، بل مراده أعم من ذلك، فيدخل في ذلك كل خبر يراه الطبري صحيحًا، وإن خالفه
عامة الأئمة في كونه كذلك؟!
كما أنه لا يرى النسخ بمجرد معرفة المتقدم من
المتأخر من الأخبار، بل لابد من قيام الدليل من السنة نفسها على كون هذا ناسخ وذلك
منسوخ، فقد قال: ("فإن قال قائل"... فأنى لنا بمعرفة ناسخ أحكام رسول
الله -ﷺ- من منسوخه – وذلك غير موصول إلى علمه إلَّا بنقل
الرواة اختلاف أوقات ذلك– مبينًا وقت المنسوخ من وقت الناسخ، حتى لا يشكل على من
ورد ذلك عليه أمره، وقد علمت أن ذلك كذلك قليل فيما ورد عن رسول الله -ﷺ- من الآثار مع كثرة الأخبار الواردة عنه
باختلاف المعاني التي سبيلها سبيل الناسخ والمنسوخ؟
قيل: "إنه لا ناسخ من سنة لمنسوخ منها
في شيء من الحلال والحرام والأقضية والأحكام إلَّا وهو مبين.. كما إنه لا ناسخ في
القرآن لشيء من أحكام الله فيه، ولا منسوخ إلَّا وهو مبين..".
وقال أيضًا: "إن قال لنا قائل: فبأي
الروايتين أنت قائل: أبرواية طلحة عن رسول الله -ﷺ- كراهته الجمع بين اسمه وكنيته؟
أم برواية علي عن رسول الله -ﷺ- إجازته ذلك وإباحته؟
فإنك إن قلت بإحداهما لزمك ترك القول بالأخرى
منهما. وفي فعلك ذلك تركك القول بأن الأخبار عن رسول الله -ﷺ- لا تتدافع ولا تتضاد إذا ضحت مخارجها، وأن
ذلك إذا ورد باختلاف الرواية فيه، فإنما هو على وجه العموم والخصوص، أو المجمل
والمفسر، أو الناسخ والمنسوخ، وأن ذلك ذا كان على وجه الناسخ والمنسوخ كان غير جائز
أن يكون الناسخ منهما غير معلوم من المنسوخ").
وقد قال في خبر ابن عباس (الماء لا ينجسه
شيء)، وخبر ابن عمر: (إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث): (كلا الخبرين عندنا
صحيح، وإذا كان ذلك، فغير جائز لأحد إبطال أحدهما والقضاء عليه بالفساد، مع وجود
السبيل إلى تصحيحهما).
وأنه من الخطأ العظيم أن يظن أحد بأن النبي -ﷺ- يقول القولين: (ثم لا ينقل الذين شاهدوا
قوليه، أي قوليه كان أولًا، وأيهما كان آخرًا إلى من بعدهم، أو لا يبين هو لأمته
أن حكم قوله الثاني قد نسخ حكم قوله الأول في ذلك، ولكن الأمر على خلاف ما يتوهمه
كثير من الجهلة من أن أحد هذين الخبرين ناسخ الآخر، أو أن أحدهما معارض الآخر
ودافع معناه، أو أن أحدهما صحيح، والآخر سقيم، بل هما عندنا صحيحان، لعدالة
رواتهما ومخرجهما.. وقد بينا في غير موضع من كتبنا فساد قول من قال بإجازة حكمين
من النبي -ﷺ- أحدهما: ناسخ الآخر، بغير بيان للأمة الناسخ منهما من
المنسوخ، وخطأ قول الزاعمين بإجازة ورود أخبار تصح مخارجها عن رسول الله -ﷺ- معارضا بعضها بعضا..).
وهذا التأصيل في أنه لا يقع بين الأخبار
تعارض -إذا صحت عنده- يشكل عليه ما قرره ابن جرير نفسه من الفرق بين خبر الواحد،
وما في معناه مما رواه الجماعة، ولم يبلغ مبلغ الخبر القاطع للعذر الموجب للعلم
بأنه يلزم بها العمل دون العلم، وأنه قد يتطرق لرواتها السهو والخطأ، كشهادة
الواحد العدل، وذلك بخلاف ما تواتر من الأخبار، فأفاد العلم، وقطع العذر، وامتنع
تطرق الخطأ والسهو على رواتها.
كما أن هذا التأصيل سيحمل ابن جرير على تصحيح
كثير من الأخبار التي هي عند أئمة الحديث من قبيل أوهام الثقات وأغلاطهم، كما سيأتي
بيانه.
وقد قال في بيان الفرق بين الخبر القاطع
للعذر والخبر غير القاطع للعذر: (إن كان الخبر الوارد بذلك خبرًا تقوم به الحجة
مقام المشاهدة والسماع وجبت الدينونة على سامعه بحقيقته في الشهادة عليه بأن ذلك
جاء به الخبر، نحو شهادته على حقيقة ما عاين وسمع.
وإن كان الخبر الوارد خبرًا لا يقطع مجيئه
العذر، ولا يزيل الشك، غير أن ناقله من أهل الصدق والعدالة وجب على سامعه تصديقه
في خبره في الشهادة عليه بأن ما أخبره به كما أخبره، كقولنا في أخبار الآحاد
العدول).
ومعلوم أن شهادة العدول قد تتعارض، ويقع فيها
السهو والخطأ فيرجح بعضها على بعض.
وقد قال الشافعي -وهو أشهر من نصر الآحاد-: (وما لم يوجد فيه إلَّا الاختلاف: فلا يعدو
أن يكون لم يحفظ مقتضى، كما وصفت قبل هذا. فيعد مختلفًا، ويغيب عنا من سبب تبيينه
ما علمنا في غيره، أو هما من محدث.
ولم نجد عنه -ﷺ- شيئًا مختلفًا فكشفناه إلَّا وجدنا له وجهًا
يحتمل به إلَّا يكون مختلفًا، وأن يكون داخلًا في الوجوه التي وصفت لك، أو نجد
الدلالة على الثابت منه دون غيره، بثبوت الحديث، فلا يكون الحديثان اللذان نسبًا
إلى الاختلاف متكافئين، فنصير إلى الأثبت من الحديثين).
وما قاله الشافعي هو الصواب، وهو قول محكم
يدل على إمامته، وابن جرير متأثر خطأ الشافعي في كثير مما ذهب إليه في هذا الباب
–كما سبق ذكره– إلَّا أنه غلا في ما ذهب إليه من دفع وقوع التعارض بين أخبار
الآحاد ردًا منه على من شكك في حجية خبر الآحاد، وهم الذين تصدى الشافعي لهم في
الرسالة وبين بطلان قولهم.
المبحث الثاني:
منهج ابن جرير
في الحكم على الأسانيد:
يظهر جليًا عند النظر في أحكام ابن جرير على
كثير من الأخبار أنه واسع الخطو في الحكم بالصحة لأحاديث كثيرة لا تصل إلى درجة
الحديث الصحيح ولا الحسن، وإن كان ابن جرير لا يستخدم مصطلح الحديث الحسن، بل
الحديث عنده إما صحيح يحتج به أو سقيم لا يحتج به.
وقد بنى كتابه (تهذيب الآثار) الذي أودعه
كثيرًا من الأحكام على خطة ذكرها في ثنايا الأجزاء التي عثر عليها، حيث قال:
"شرطنا في كتابنا هذا أنا إذا ذكرنا خبرًا من أخبار رجل من أصحاب رسول الله -ﷺ- عن رسول الله -ﷺ-، أبنا عن حاله، أهو مما انفرد به، أم هو
مما وافقه عليه غيره، ولم نشترط في سند الموافق أو المخالف ما شرطناه في خبر الذي نذكر
خبره عن رسول الله -ﷺ- من أصحابه من أن لا نحضر كتابنا هذا منه إلَّا ما صح
عندنا".
وقال أيضًا: "فإن قال لنا: ما أنت قائل
في هذه الأخبار التي رويتها لنا؟ فإن قلت: إنها صحاح، فما وجه اختلاف رواتها؟ وإن
قلت: إنها غير صحاح، فما وجه ذكرك لها، وقد شرطت لنا في أول كتابك هذا أنك لا ترسم
لنا فيه إلَّا ما كان عندك صحيحًا؟...".
ثم بيّن أنه على شرطه فيمَ يورده من أحاديث
في مسند كل صحابي عن هذا الصحابي، دون ما يورده من الأحاديث والأخبار التي توافق
رواية هذا الصحابي أو تخالفه، وأنه إنما يورد ما كان ضعيفًا من الأخبار لا
للاحتجاج بها في الدين، بل لبيان حجة من ذهب إلى القول بها.
وعليه؛ فكل حديث يورده عن الصحابي في مسنده
هو عنده حديث صحيح، وهذا ما يصرح به بعد كل حديث من هذا النوع، حيث يقول:
"وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير
صحيح لعلل.." ثم يسوق هذه العلل.
أما ما عدا ذلك من الأحاديث والشواهد
الموافقة أو المخالفة، فإنه أحيانًا كثيرة يصرح بصحتها فيقول: "وقد وافقه في
رواية هذا الخبر عن رسول الله -ﷺ- جماعة من أصحابه، نذكر ما صح عندنا من ذلك
سنده"، ثم يسوق الشواهد الصحيحة عنده، وأحيانًا كثيرة لا يصرح بتصحيحها.
وبالتتبع والاستقراء الكامل للأجزاء المطبوعة
من هذا الكتاب يتجلى منهج ابن جرير الواسع الخطو في تصحيح كثير من الأخبار الضعيفة
على طريقة الفقهاء، لا طريقة أهل الحديث، وهذا بيان منهجه في النقد.
المطلب الأول:
منهجه في التضعيف:
تبدو أحكام ابن جرير في تضعيف الأخبار قليلة
جدًا بالنسبة لأحكامه في التصحيح، وهي تدور على:
1) انقطاع في السند:
فقد أخرج حديث الضحاك عن ابن عباس موقوفا:
(لم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام).
ثم قال: (في سنده نظر لعلتين: الأولى أن
الضحاك لم يسمعه من ابن عباس..).
وقال في حديث رواه الحسن البصري، عن النبي -ﷺ- مرسلًا: "لا ينبغي أن يفدى أحد أحدًا":
"هذه أخبار واهية الأسانيد، لا تثبت بمثلها في الدين حجة، وذلك أن مراسيل
الحسن أكثرها صحف..".
وكذا أهل حديث أبي جعفر عن أبي مسعود بأنه
مرسل، وأن أبا جعفر لم يدرك أبا مسعود ولا رآه.
وإنما يقبل مرسل التابعي الذي يتحفظ في
روايته، فلا يرسل إلَّا عمن تقبل روايته لو صرح باسمه.
2) جهالة في الراوي:
فقد أعل ابن جرير أحاديث لكون رواتها مجاهيل
غير معروفي العدالة، حيث قال في حديث أبي مرزوق عن أبي العدبس، عن أبي أمامة مرفوعًا
(لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظم بعضهم بعضًا): "خبر أبي أمامة لا يجوز
الاحتجاج به في الدين لوهاء، سنده، وضعف نقلته، وذلك أن أبا العدبس وأبا مرزوق غير
معرفين في نقلة الآثار، ولا ثابتي العدالة في رواة الأخبار...".
وقال في سبب رد مرسل الحسن البصري: "أنه
إذا وصلت الأخبار فأكثر روايته عن مجاهيل لا يعرفون" .
وأعل مرسلًا للشعبي، وقال في إسناده نظر؛
لكون الراوي عن الشعبي لا يعرف.
وأعل إسناد حديث محمد بن هلال، عن أبيه، عن
أبي هريرة قال: "كنا نقعد مع رسول الله -ﷺ- في المسجد بالغدوات، فإذا قام إلى بيته لم
نزل قيامًا حتى يدخل بيته".
فقال ابن حرير: "لا يعتمد على مثله لما
في إسناده من الوهاء".
وإنما علته هلال بن أبي هلال المدني. قال عنه
الذهبي: "عن أبي هريرة، لا يعرفن تفرد عنه ابنه محمد".
3) ضعف الراوي:
سواء كان لقدح في ضبطه وحفظه، أو لقدح في
عدالته.
فقد قال في حديث ينفرد في روايته إسماعيل بن
عايش، من حديث عبدالرحمن بن شبل مرفوعًا: (نهى عن أكل الضب): "خبر لا يثبت
بمثله في الدين حجة، وقد وردت الأخبار الصحاح بنقل العدول الأثبات عنه بإذنه في
أكل ذلك وإباحته".
وقد قال البيهقي عن هذا الحديث: "ينفرد
به إسماعيل بن عياش وليس بحجة".
ولا خلاف بين أئمة الحديث في عدالته وصدقه،
وإنما ضعفه من ضعفه منهم من جهة ضبطه لكثرة غلطه، خاصة في الرواة عن غير أهل بلده،
وحسن حديثه عن أهل بلده كثير من الأئمة، ووثقه بعضهم مطلقًا.
وهذا الحديث الذي ضعفه ابن جرير، هو من
روايته عن أهل بلده.
كما أعل ابن جرير حديثًا عن ابن عباس موقوفًا
عليه، فقال: "والثانية: أن بشر بن عمارة ليس ممن يعتمد على روايته".
وهو ضعيف لكثرة خطئه وغلطه، لا من جهة عدالته
في نفسه.
كما أعل حديثًا فيه سلام بن سليمان المدائني،
فقال: "سند هذا الخبر عندنا واه، لا يثبت بمثله في الدين حجة".
وسلام متفق على ضعفه.
وكذا أعل خبرًا رواه المنكدر بن محمد، فقال:
"المنكدر بن محمد عند أهل النقل ممن لا يعتمد على نقله".
والمنكدر من أهل العبادة والصلاح، وثقه أحمد،
وقال عنه يحيى بن معين: لا بأس به، وقال مرة: ليس بشيء، وقال عنه ابن المديني:
صالح وليس بالقوي، وضعفه الباقون.
وكذلك أعل حديث سليمان بن الحكم، عن محمد بن
سعيد المصلوب، عن عبادة بن نسيّ عن عبدالرحمن بن غنم، عن معاذ مرفوعًا: "طيبت
لك الهدية، فما أُهدي لك من شيء فهو لك".
فقال الطبري: "هذا عندنا خبر غير جائز
الاحتجاج بمثله في الدين لوهاء سنده، وضعف كثير من نقلته".
ومحمد بن سعيد المصلوب كذاب قتل على الزندقة.
وسليمان بن الحكم ضعفوه، وقال النسائي متروك.
4) اضطراب الرواية:
فقد أعل حديث أبي مرزوق عن أبي العدبس
بالاضطراب أيضًا، حيث قال: "هذا مع اضطراب من ناقليه في سنده، فمن قائل فيه:
عن أبي العدبس، عن أبي أمامة.
وقائل: عن أبي العدبس، عن أبي مرزوق من رجل،
عن أبي أمامة.
وقائل: عن أبي مرزوق، عن أبي العدبس، عن أبي
أمامة".
وعليه يمكن القول بأن الطبري لا يحتج برواية
المجهول، ومن لا تعرف عدالته، والضعيف، ولا يحتج بخبر منقطع إسناده، لم يسمع راويه
ممن روى عنه، إلَّا مرسل التابعي بشروطه، كما لا يحتج بخبر فيه اضطراب شديد يمنع
من الحكم له بالصحة.
وهذه شروط يوافقه على اشتراطها أكثر أئمة
الحديث، إلَّا أنه لم يعل شيئًا من الأخبار بالتدليس ولا بكون راويه من أهل البدع
–في الأجزاء الموجودة من كتابه– ولا إشكال في الثاني إذ هو القول الراجح، إذ
العمدة على الصدق في الرواية، وإنما الإشكال في عدم الإعلام بالتدليس، إلَّا أن
هذا مذهب جماعة كثيرة من أهل العلم، كما نقله الخطيب البغدادي، حيث قال:
"وقال خلق كثير من أهل العلم خبر المدلس مقبول، لأنهم لم يجعلوه بمثابة
الكذاب، ولم يروا التدليس ناقضًا لعدالته، وذهب إلى ذلك جمهور من قبل المراسيل من
الأحاديث، وزعموا أن نهاية أمره أن يكون التدليس بمعنى الإرسال".
فالظاهر أن ابن جرير يذهب هذا المذهب خاصة أنه ممن يقبل المرسل بشروطه.
المطلب الثاني:
منهج ابن جرير في التصحيح:
صحح ابن جرير كثيرًا من الأخبار، مخالفًا
بذلك غيره من أئمة الحديث، بل ومخالفًا قواعده التي التزم بها في تضعيف ما ضعفه من
الأخبار، حتى بدا منهجه مضطربًا مختلًا، ومن ذلك:
1) تصحيح أخبار في أسانيدها ضعفاء:
1- فقد صحح إسناد حديث حرب بن ميمون، عن خالد
الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا: (ضع أنفك يسجد معك) مع ذكره تعليل من أعله
بالإرسال والوقف.
وقد قال الخطيب البغدادي: "لم يسند هذا
الحديث عن خالد الحذاء غير حرب بن ميمون، وغيره يرسله ولا يذكر فيه: عن ابن
عباس".
وحرب بن ميمون، هو العبدي البصري، متروك
الحديث.
2- وصحح إسناد حديث الحارث
الأعور، عن علي مرفوعًا: "تجوزنا عنكم صدقة الخيل والرقيق".
والجمهور على ضعف الحارث الأعور، بل كذبه
بعضهم، مع غلوه في التشيع، وانفرد يحيى بن معين بتوثيق، ولم يتابع على ذلك.
3- وصحح إسناد حديث أبي اليقظان
عثمان بن عمير، عن زاذان، عن جرير بن عبدالله مرفوعًا "اللحد لنا والشق
لغيرنا".
وعثمان بن عمير البجلي، متفق على ضعفه، منكر
الحديث مع غلوه في التشيع.
كما أخرجه أيضًا من رواية أبي حمزة الثمالي،
عن زاذان، وأبو حمزة ثابت بن أبي صفية كوفي متفق على ضعفه، مع غلوه في التشيع.
4- وصحح إسناد حديث كثير بن زيد، عن ربيح بن
عبدالرحمن بن أبي سعيد الخدري، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: "الشرك الخفي أن
يعمل الرجل لمكان الرجل".
وقد قال ابن جرير قبل ذلك: "ذكر بعض ما
حضرنا ذكره مما صح سنده".
أي من الشواهد لحديث عمر: "إنما الأعمال
بالنيات". فأخرج حديث ربيح هذا.
وربيح غير معروف، وقال البخاري: منكر الحديث.
وقال عنه الحافظ: (مقبول).
أي حيث يتابع. وكثير بن زيد مختلف في توثيقه وتضعيفه.
5- وصحح إسناد حديث موسى بن
عبيدة عن عبدالله بن دينار، عن ابن عمر: (طاف النبي -ﷺ- على ناقة يوم الفتح... في يده محجن يستلم به الأركان كلها).
وقد قال قبل إخراجه هذا الحديث مع غيره من
الأحاديث كشواهد لحديث ابن عباس: "وقد وافق ابن عباس في رواية هذا الخبر عن
رسول الله -ﷺ- جماعة من أصحابه، نذكر ما صح عندنا من ذلك سنده".
وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد عن هذا
الحديث: "فيه موسى بن عبيدة، وهو ضعيف، وقد وثق في غير ما رواه، عن عبدالله
بن دينار. وهذا منها".
وموسى ضرب أحمد على حديثه، وقال: لا تحل
الرواية عنه، خاصة في حديث عبدالله بن دينار، فهو أشد ضعفًا.
مع صلاحه وعبادته وزهده.
6- صحح إسناد حديث عباس بن
منصور، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا: "كان يكتحل قبل أن ينام بالإثمد ثلاثًا
في كل عين".
قال: (هذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن
يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح لعلل:
والثالثة: أنه من رواية عباد بن منصور، عن
عكرمة، وفي نقل عباد عندهم معان يجب التثبيت فيه من أجلها).
وعباد ضعفه أحمد، وأبو حاتم، وأبو زرعة، وابن
معين، والنسائي، والدارقطني، وقال ابن سعد: "هو ضعيف عندهم، وله أحاديث
منكرة".
وهو داعية للقدر، ومدلس سأله القطان عن
أحاديثه عن عكرمة فقال: "حدثهن ابن أبي يحيى عن داود، عن عكرمة".
فكان يدلسها عنه؟!
وهذا الحديث منها، وقد دلسه عن إبراهيم بن
أبي يحيى، وهو متروك.
وكذا صحح ابن جرير بهذا الإسناد نفسه حديث
ابن عباس مرفوعًا "ما مررت بملأ من الملائكة ليلة أسري بي إلَّا قالوا عليك
بالحجامة".
وقد قال أبو حاتم عن هذا الحديث: منكر.
وهو مما دلسه عباد بن منصور، عن إبراهيم بن
أبي محيي.
وقد قال الترمذي -مع تساهله– عن حديث عباد
هذا والذي قبله: "حسن غريب لا نعرفه إلَّا من حديث عباد بن منصور".
والحسن عند الترمذي: هو الضعيف إذا روى من
غير وجه. فصار ضعيف الإسناد عند الترمذي –مع تساهله– صحيح الإسناد عند ابن جرير
الطبري؟!
كما صحح بهذا الإسناد أيضًا حديث ابن عباس
مرفوعًا: "اقتلوا مواقع البهيمة والبهيمة، والفاعل والمفعول به، واقتلوا كل
مواقع ذات محرم".
فقد قال: "هذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد
يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح للعلل التي ذكرنا من قبل، من قولهم
في نقل عباد ابن منصور، وأخرى: وهي أن هذا خبر قد حدث عن عباد بن منصور به، غير
عون بن عمارة، فقال عنه عن الحكم، عن ابن عباس، وجعله من كلام ابن عباس، ولم
يرفعه".
فاجتمع في هذا الإسناد:
أ- ضعف عباد بن منصور.
ب- وتدليسه ما رواه من حديث عكرمة، عن
إبراهيم بن أبي يحيى المتروك.
جـ- وضعف عون بن عمارة الراوي، عن عباد بن
منصور، فهو منكر الحديث، متفق على ضعفه.
د- ومخالفة عون بن عمارة للإمام الحافظ يزيد
بن هارون، حيث رواه عن عباد موقوفًا على ابن عباس.
فلم تمنع كل هذه العلل وغيرها من الحكم
للإسناد بالصحة في نظر ابن جرير الطبري؟!
بل روى الأسانيد الصحيحة عن ابن عباس، أنه
كان لا يرى الحد على من أتى البهيمة، ومع هذا صحيح إسناد حديث عباد؟!
7- وصحح إسناد حديث سلام بن أبي
عمرة، عن عكرمة، عن ابن عباس مرفوعًا: "صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام
نصيب: المرجئة والقدرية".
فقال: "هذا خبر عندنا صحح سنده، وقد يجب
أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح لعل: والثالثة: أن سلام بن أبي عمرة ليس
من أهل الرواية المعروفين بها، فالواجب التوقف في نقله".
وسلام هذا قال عنه يحيى بن معين: ليس بشيء.
وأورد له ابن عدي هذا الحديث في منكراته.
وذكر ابن حِبَّان في المجروحين. فقال:
"يروي عن الثقات المقلوبات، لا يجوز الاحتجاج بخبره، وهو الذي روى عن عكرمة،
عن ابن عباس قال: قال رسول الله -ﷺ-: "صنفان من أمتي...".
وقال عنه الأزدي: واهي الحديث.
فهو متفق على ضعفه، ولم أجد من قواه، وقد ذكر
الأئمة هذا الحديث في مناكيره استدلالا به على ضعفه.
فما وجه تصحيح ابن جرير لإسناد هذا الحديث؟!
8- وصحح إسناد حديث عباد بن
عبدالله الأسدي، عن علي مرفوعًا: "من يضمن عني ديني، ويقضي عني عداتي، ويكون
معي في الجنة؟ قلت: أنا".
وقد ذكر ابن جرير حجج من أعل هذا الحديث.
ومنها أن المنهال بن عمرو وشريك بن عبدالله
ليسا بحجة.
مع أن الراوي عن علي وهو عباد بن عبدالله الأسدي ضعيف الحديث عند أحمد، وابن
المديني، والبخاري.
9- وصحح إسناد حديث ثوير بن أبي
فاختة، عن أبيه، عن علي مرفوعًا "أهدى كسرى لرسول الله -ﷺ- فقبل...".
وحديث: "كان يحب (سبح اسم ربك
الأعلى)".
وثوير رافضي متفق على ضعفه. قال عنه سفيان
الثوري: "من أركان الكذب".
وقال الهيثمي عن الحديث الثاني: "فيه
ثوير بن أبي فاختة، وهو متروك".
10- وصحح حديث علي بن زيد بن
جدعان، عن أبي المتوكل، عن أبي سعيد الخدري: أن ملك الروم أهدى إلى رسول الله -ﷺ- جرة من زنجبيل فقسمها رسول الله -ﷺ- بين أصحابه..."، ثم روى نحوه عن الحسن مرسلًا.
وعلي بن زيد غال في التشيع، ضعفه عامة
الأئمة، ومرسل الحسن شبه الريح.
11- وصحح إسناد حديث أبي نعيم
عبدالرحمن بن هانئ، عن شريك، عن إبراهيم ابن مهاجر، عن زياد عن علي قال:
"والله لئن عشت لنصارى بني تغلب لأقتلن المقاتلة، ولأسبين الذرية، وذاك أنني
كتبت الكتاب بين النبي -ﷺ- وبينهم على ألَّا ينصروا أبناءهم". ثم ذكر حجج من أعل هذا الحديث،
ومنها:
أ- أن إبراهيم لا يحتج به.
ب- وأن شريكًا كثيرًا لغلط.
جـ- وأن أبا نعيم لا يحتج به.
د- وأن صلح بني تغلب إنما كان في عهد عمر، لا
عهد رسول الله -ﷺ-. [98]
وأبو نعيم كذبه يحيى بن معين، فقال: "في
الكوفة كذابان: أبو نعيم النخعي وأبو نعيم ضرار بن صرد".
وضعفه الفضل بن دكين، وأحمد، وأبو داود،
والنسائي، وقال البخاري: فيه نظر، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه.
وإبراهيم بن المهام صدوق في نفسه، ضعيف في
روايته، ضعفه أكثر الأئمة، وقال أبو حاتم: "ليس بالقوي هو وحصين وعطاء بن
السائب قريب بعضهم من بعض، ومحلهم عندنا الصدق، يكتب حديثهم ولا يحتج به".
فقال عبدالرحمن بن أبي حاتم له "ما معي
لا يحتج بحديثهم؟ قال: كانوا قومًا لا يحفظون، فيحدثون بما لا يحفظون، فيغلطون،
ترى في أحاديثهم اضطرابًا ما شئت".
وهذا الحديث قال عنه أبو داود "حديث
منكر، بلغني عن أحمد أنه كان ينكر هذا الحديث أشد الإنكار".
ومع كل هذه العلل في الإسناد والمتن صححه الطبري؟!!
12- وصحح إسناد حديث محمد بن
عمر الرومي، عن شريك، عن سلمة بن كهيل، عن سويد، عن الصنابحي، عن علي مرفوعًا:
(أنا دار الحكمة وعلي بابها).
ثم ذكر من أعلوه، ومنها أن سلمة بن كهيل لا
يحتج به.
وقد قال الترمذي عن هذا الحديث: "حديث
غريب منكر، ولا نعرف هذا الحديث عن واحد من الثقات، عن شريك".
ومحمد بن عمر الرومي، ضعفه أبو زرعة، وأبو
حاتم، وأبو داود والترمذي -كما هنا- وقال أبو حاتم: "روى عن شريك حديثا منكرًا"،
وهو هذا الحديث، ثم قال أبو حاتم: "فيه ضعف".
وقال الدراقطني: "الحديث مضطرب غير
ثابت، وسلمة لم يسمع منه الصنابحي".
وقد ذكر ابن الجوزي هذا الحديث وطرقه في
الموضوعات، ثم قال: "والحديث لا أصل له".
وقال أبو زرعة عن هذا الحديث: "كم من
خلق قد افتضحوا فيه".
وقد أورد الطبري له شاهدًا عن ابن عباس، وهو
موضوع.
13- وصحح إسناد حديث عثمان بن
عمير، عن أبي حرب، عن عبدالله بن عمرو مرفوعًا: "ما أظلت الخضراء ولا أقلت
الغبراء من ذي لهجة أصدق من أبي ذر".
وعثمان شيعي غال منكر الحديث، متفق على ضعفه.
14- وصحح إسناد حديث عبدالرحمن
بن حماد، عن طلحة بن يحيى، عن أبيه، عن جده طلحة بن عبيد الله قال: "دخلت على
النبي -ﷺ- وفي يده سفرجلة يقلبها، فقال لي النبي -ﷺ-: "دونكها يا أبا محمد، فإنها تجم الفؤاد".
ثم ذكر حجج من أعلوه. وعبدالرحمن بن حماد
منكر الحديث، وقد ذكروا هذا الحديث في منكراته.
وقال الذهبي عن هذا الحديث: (باطل).
وقال ابن حِبَّان: (وهذا شبه لا شيء فليس
للحديث مدار يرجع إليه).
15- وصحح إسناد حديث إسماعيل بن
عياش، عن ابن أبي الحسين المثنى بن الصباح عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن المسيب،
عن طلحة بن عبيد الله مرفوعًا: (ستكون فتنة لا يهدأ منها جانب إلَّا جاش منها جانب
حتى ينادي مناد من السماء إلَّا إن أميركم فلان).
فقال: "هذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد
يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيمًا غير صحيح لعلتين.
والثانية: أنه من نقل إسماعيل بن عياش، وفي
نقل إسماعيل عن غير أهل بلده –عندهم– نظر".
وقد قال الهيثمي: "فيه المثنى بن الصباح
وهو متروك".
والمثنى مع عبادته وصلاحه، اتفق الأئمة
المتقدمون على تضعيفه، واختلف قول ابن معين فيه.
وإسماعيل بن عياش سبق تضعيف الطبري نفسه له.
وهو ضعيف في ما رواه عن غير أهل الشام، وهذا الحديث منها.
16- وصحح إسناد حديث أبي غزية
محمد بن موسى، عن عبدالله بن مصعب، عن هشام، عن عروة، عن فاطمة، عن أسماء، عن
الزبير في شأن شعر حسان ابن ثابت، وأنه كان يعرض شعره على النبي -ﷺ- فيعجبه ويحسن إسماعه، ويجزل عليه ثوابه، ولا يشغل عنه بشيء.
وقد ذكر حجج من أعلوه، ومنها أن مصعب لا
يعتمد عليه في النقل.
وأبو غزية متهم بالوضع.
17- وصحح إسناد حديث إسحاق بن
إدريس، عن إسماعيل بن عياش، عن هشام بن عروة.
ثم ذكر علل من أعلوه، ومنها أن في نقل
إسماعيل، عن هشام نظرًا، وأن إسحاق بن إدريس لا يجوز الاحتجاج به.
وإسحاق مذكور في الوضاعين!
وإسماعيل بن عياش ضعيف في روايته، عن غير أهل
الشام، كما قرره ابن جرير نفسه فيما سبق!
2) تصحيح أخبار فيها مجاهيل:
فمع أنه قرر أنه لا تقبل رواية المجهول،
إلَّا أنه صحح كثيرًا من الأحاديث التي رواه مجاهيل، ومن ذلك:
1- صحح خبر نعيم بن حكيم عن أبي مريم،
عن علي رضي الله عنه. قال: "انطلقت مع النبي -ﷺ- إلى الأصنام التي فوق الكعبة لنكسرها، فلم
أقو على حمله، فحملني فتناولتها فكسرتها".
وقد ذكر حجج من أعلوه، ومنها أن أبا مريم غير
معروف، وقد تفرد بهذه الرواية عنه نعيم.
وأبو مريم هو قيس الثقفي، مجهول،
إلَّا أنه روى عنه اثنان.
ونعيم بن حكيم صدوق له أوهام.
2- صحح خبر هانئ، مولى علي، عن علي رضي الله عنه
مرفوعًا: "لعن الله من ذبح لغير الله...".
وذكر حجج من أعلوه، ومنها أن هانئ بن هانئ
غير معروف في نقله الآثار.
وقد قال الشافعي عنه: "لا يعرف، وأهل
العلم بالحديث لا ينسبون حديثه لجهالة حاله".
وقال ابن المديني: "مجهول".
قال الحافظ: "روى عن علي وعنه أبو إسحاق
وحده".
مع أن الراوي هنا عنه هو عبدالرحمن بن يعقوب
مولى الحرقة؟ ومع ذلك قال عنه مقبول أي حيث يتابع.
3- وصحح إسناد خبر أم موسى، عن علي مرفوعًا (لهو-أي ابن مسعود– أثقل في كفة
الميزان يوم القيامة من أحد).
وذكر علل من ضعفوه، ومنها أن أم موسى لا تعرف
ولا يعلم عنها راوٍ غير مغيرة بن مقسم، ولا يثبت بمجهول من الرجال في الدين حجة،
فكيف بمجهوله من النساء.
وأم موسى هي سرَّية علي رضي الله عنه لم يرو
عنها سوى المغيرة، قال الدارقطني: "حديثها مستقيم، يخرج حديثها اعتبارًا".
وقال عنها الحافظ: "مقبولة".
4- وصحح إسناد حديث إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن
أبيه، عن جده مرفوعًا: "يا معشر التجار ألا إن التجار هم الفجار إلَّا من
اتقى وبر وصدق".
وإسماعيل هذا لم يرو عنه غير ابن خثيم.
وقال عنه الحافظ: مقبول.
والحديث صححه الحاكم.
5- وصحح إسناد حديث ابن الأحمس، عن أبي ذر مرفوعًا
في الثلاثة الذين بغضهم الله: "التاجر الحلاق، والبخيل المنان، والفقير
المختال".
وابن الأحمس لا يعرف إلَّا بهذا الإسناد.
6- وصحح إسناد حديث شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن
ذي حدان، عن علي مرفوعًا: "الحرب خدعة".
وقد ذكر حجج من عللوه، ومنها:
أ- أنه جاء موقوفًا.
ب- أن سعيد بن ذي حدان مجهول لا تقوم به حجة.
وقد قال الحافظ عن سعيد: "كوفي
مجهول".
ولم يرو عنه سوى أبي إسحاق السبيعي.
7- وصحح أيضًا إسناد حديث حلام الغفاري، عن علي مرفوعًا: "ما أظللت
الخضراء، ولا أقلت الغبراء، من ذي لهجة أصدق من أبي ذر".
وذكر أنه أعل لكون حلام مجهولًا غير معروف،
وأن شريكًا كثير ذا الغلط. وحلام ذكره ابن أبي حاتم، ولم يرو عنه سوى أبي الطفيل.
8- وصحح إسناد حديث نوفل بن إياس، عن عبدالرحمن بن عوف. قال: " هَلَكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَشْبَعْ هُوَ وَأَهْلُ بَيْتِهِ
مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ