"عموم رسالة
النبي محمد ﷺ"
بقلم أ.د. حاكم المطيري
28/ 11/ 1443هـ
27/ 6/ 2022م
الحمد لله والصلاة والسلام على خاتم النبيين، المبعوث رحمة
للعالمين، النبي العربي محمد ﷺ، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان
إلى يوم الدين، أما بعد:
نشر الأستاذ أحمد أبو رتيمة -وفقنا الله وإياه- مقالا مطولا عن نسخ القرآن
للشرائع السابقة، وفيما ذكره ما هو محل اتفاق لا خلاف فيه، كثناء القرآن على بعض أهل
الكتاب ووصفه لهم بالإيمان والعمل الصالح، وأنهم ليسوا سواء، وأن الله وصف التوراة
بأن فيها حكمه، وأن الله لا يعذب إلا من قامت عليه الحجة، ونحو ذلك مما لا نزاع فيه
أصلا، وفيما ذكره ما هو باطل بالنص والإجماع، ومن ذلك قوله:
(نتحدث كثيراً عن عالميَّة رسالة القرآن، وهذا حقٌّ، ولكنَّ القرآن يشير
أيضاً إلى أن هذا القرآن عربي: ﴿كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِياً لِقَوْمٍ
يَعْلَمُونَ﴾، ﴿وإنَّه لذكر لك ولقومك﴾ فإذا كانت علة عربيَّته التذكير والتبيان، فإن
هذه العلة ينتفع منها العرب وليس غيرهم. ولا أقصد هنا نفي عالمية القرآن وتضمنه لمعانٍ
عظيمةٍ يتأثر بها غير العرب، إنما أقصد أن اللغة تظل عائقاً ثقافياً طبيعياً، وأن حظ
تذوق بلاغة القرآن من غير العرب لن يكون مثل حظِّ العرب، أليس هذا سبباً منصفاً لتعدد
الشرائع والأمم: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً﴾؟).
وهذا الرأي فيه نظر وأي نظر من وجوه:
الأول: أن رسالة النبي محمد ﷺ هي للعالمين كافة، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ﴾، وقال:
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ
إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾، فالعرب
وغير العرب في عموم رسالته سواء، وهذا بالنص والإجماع القطعي المعلوم من دين الإسلام
بالضرورة القطعية، وقد بعثه الله وبعث معه أمته لحمل الرسالة للعالمين، فقال: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ
أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيدًا﴾.
فلم يتوف الله رسوله ﷺ حتى بلّغ الرسالة ودخل العرب في دين الله أفواجا، وأرسل إلى ملوك الأرض
يدعوهم إلى رسالة الله الخاتمة، ولم ينقضِ عصر أصحابه وهو القرن الأول حتى دخلت الأمم
في دين الله أفواجا، وكانت الدعوة الإسلامية قد وصلت الصين شرقا، والأندلس غربا، فسمع
أهل الأرض كلهم به سماعا عاما إذ هو ﴿النَّبأ العَظِيم﴾ الذي لم يقرع أسماع العالم
مثله منذ وجد حتى بعثته ﷺ، وكان ظهوره على العرب، ثم ظهور أمته على الأمم كلها: فارس والروم والترك
والهند في فترة قصيرة لا تتجاوز خمس وعشرين سنة حدثا عالميا زالت معه كل العوائق التي
تحول دون البلاغ للرسالة.
الثاني: أن الإعجاز والتحدي بالقرآن ليس خاصا بالعرب بل هو عام للعالمين؛ كما قال
تعالى: ﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى
أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾، فالتحدي قائم للخلق كافة أن يأتوا بمثل هذا القرآن ولو بسورة مثله بأي
لغة كانت في بيانه وهداياته لكل خير وحق وعدل وحجة، وليس التحدي فقط للعرب أو باللغة
العربية بل التحدي لأهل كل لغة أن يأتوا بمثله ولو بلغاتهم، فإن كان العرب وهم أفصح
الأمم لسانا وأوضحها بيانا قد عجزت عن الإتيان بمثله بلغتها فالأمم الأخرى الأقل فصاحة
أشد عجزا، وما زال التحدي قائما، وما زال يدخل من كل أمم الأرض في دين الله أفواج من
المؤمنين في كل عصر، ويناوؤنهم أقوامهم من الكافرين فلا يأتون بسورة من مثل هذا القرآن
يبطلون به دعوته، ويقطعون به حجته!
وهذا ما أدركته الجن حين سمعته كما قال تعالى عنهم في أول سورة الجن:
﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِّنَ
الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ
وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا. وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا
اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَدًا﴾ فقد كانت هدايته إلى الرشد السبب الذي حملهم على الإيمان به، وقال عنهم
في آخر سورة الأحقاف: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا فَلَمَّا
قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنذِرِين. قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا
كِتَابًا أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى
الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيم﴾.
فكانت هدايته إلى الحق والطريق المستقيم الذي كان عليه الأنبياء من قبل
الدليل على أنه من عند الله، ولم يتوقف إيمانهم على عجزهم عن الإتيان بمثله أو على
تحديه وإعجازه لهم.
الثالث: أن الامتنان بإنزال القرآن بلسان عربي هو امتنان على الخلق كافة أن خاطبهم
الله برسالته الخاتمة بأفصح لسان وأوضح بيان يتحدث به الخلق لعلهم يعقلون ويتفكرون،
وذلك أن هذا النبي هو آخر رسول، وكتابه هو آخر رسالة من الله للعالمين كافة، فاقتضى
أن يخاطبهم بأفصح لغاتهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ وقال: ﴿قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ
الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ فعمّ
كل القرى التي يصل إليها البلاغ، فلا يحتاج غير العربي لفهمه إلا للبلاغ بما يدعو إليه
هذا القرآن بلغته أيًّا كانت هذه اللغة، فحقائقه من الوضوح بالمحل الأسمى الذي يمكن
التعبير عنها بأي لسان، كما في سورة الإخلاص (قُلْ هُوَ اللَّهُ
أَحَد) وما تقرره من التوحيد
المطلق في ذاته وصفاته، وسورة الكافرون وما تقرره في توحيده في عبادته؛ ولهذا كان من
أسلم من غير العرب أكثر من العرب عبر تاريخ الإسلام، من أمم الفرس والروم والهند والترك
وكل أمم الأرض؛ لما وجدوا فيه من البيان المعجز مثل ما وجد فيه العرب، فقامت حجة الله
على الجميع كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ
مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ
غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيد﴾ فلا
يوجد عائق لغوي أو ثقافي لفهم القرآن لغير العرب.
الرابع: أن حصر إعجاز القرآن بالبلاغة لا دليل عليه بل إعجازه أعمّ فهو معجز في
بيانه، ومعجز في نبوءاته، ومعجز في تشريعاته، ومعجز في هداياته، ومعجز في حججه وبيناته،
ومعجز من كل وجه لفظا، ومعنى، وحُكما، وحكمة، وهذا الإعجاز يدركه كل من قرأه أو سمعه
عربيا كان أو غير عربي، وهو ما صرح به كثير ممن أسلم من غير العرب.
الخامس: أن كثيرا من العرب الذين تحداهم القرآن لم يسلموا، مع عدم وجود هذا العائق
اللغوي الطبيعي، فدلّ على أن إعجازه البياني لا يقتضي بالضرورة إيمان كل من سمعه من
العرب! فهناك أسباب كثيرة تحول بين المرء والاهتداء بالقرآن، كاتباع الآباء والرؤساء
والتقليد لهم، كما كان حال مشركي العرب، واتباع الأحبار والرهبان كما كان حال أهل الكتاب،
واتباع الأهواء والشهوات، وعبادة الذات... إلخ
السادس: أن أهل الكتاب وكل أمم الأنبياء كان عندهم خبر عن النبي محمد الخاتم وقد
أخذ الله الميثاق على الأنبياء جميعا بالإيمان به وقد بشروا أممهم به وأوجبوا عليها
اتباعه ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا
آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ
لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ
إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِين﴾ وقد وصفه الأنبياء في نبوءاتهم، ووصفوا أمته، والمكان الذي يبعث فيه
وأنه مكة، والزمان الذي يأتي فيه، والبلد التي يهاجر إليها، والملة التي يدعو لها،
حتى قال الله عن أهل الكتاب وسعة علمهم بالنبي محمد ﷺ: ﴿يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ﴾ وهي غاية المعرفة، فالأمم كانت تنتظر النبي الخاتم، فلما بعثه الله دخل
أهل الكتاب في دينه بما معهم من العلم به، كما قال تعالى محتجا على العرب بهم: ﴿أَوَلَمْ يَكُن
لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاء بَنِي إِسْرَائِيل﴾ وقال: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا
إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ
مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِين﴾.
فلم يكن خبر النبي الخاتم محصورا في العرب بل هو النبأ العظيم الذي ظل
العالم ينتظره ويترقب حدوثه، ليس فقط اليهود والنصارى، بل كل الأمم التي بقي فيها شيء
من أثر نبوة، كما في كتاب زرادشت عن ظهور العالم المخلص ﷺ كما في الملل والنحل للشهرستاني ٢/ ٤٤: (ثم يظهر بعد ذلك أشيزريكا على
أهل العالم، ويحيي العدل، ويميت الجور، ويرد السنن المغيرة إلى أوضاعها الأول، وتنقاد
له الملوك، وتتيسر له الأمور، وينصر الدين الحق، ويحصل في زمانه الأمن، والدعة وسكون
الفتن، وزوال المحن).
السابع: أن إقرار الإسلام للتعددية والحرية الدينية هو من الرحمة والعدل والقسط
الذي أرسل الله بهما رسوله الخاتم ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ
إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين﴾ وقال:
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ
مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيم﴾..
فالله لم يشأ قدرا وكونا أن يكون الناس أمة واحدة، ولا فرضه شرعا وحكما؛
لأنه لا يتحقق اختبارهم إلا بذلك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، لا لأن رسالة النبي
محمد ﷺ غير عامة وشاملة وخاتمة، أو لأنها باللغة العربية التي لا يدرك بلاغتها
إلا العرب؛ بل لأن عمومها وشمولها اقتضى تركهم وما شاءه الله لهم قدرا وشرعا، كما قال
تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِين. وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ
بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُون﴾ وقال: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ
وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير﴾..
الثامن: أن الإيمان والعمل الصالح الذي أثنى الله على أهله من الأمم الأخرى هو
إيمان الموحدين منهم لا المشركين كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ
يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ
بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ وقال: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ
اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ
اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار﴾، فكل الرسل حذروا أممهم من الشرك بالله، وفي الاعتذار لهم عن شركهم بعدم
علمهم أو حسن قصدهم: إبطال للرسل ورسالتهم وإنذارهم، وتعطيل لحقيقة الوحي الإلهي والغاية
منه، وصار من آمن واهتدى، كمن أعرض وأبى ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم
مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ
عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾..
ولهذا خصّ الله رحمته بعد بعثة محمد ﷺ بمن آمن به واتبعه والنور الذي أنزل معه ﴿ قَالَ عَذَابِي
أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ
يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَـاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُون. الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ
يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي
كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ
النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾.
التاسع: أن هذه أحكام الله في الدنيا، فالناس فيها إما مسلم مؤمن بالله وبما جاءت
به رسله، لا يفرق بين أحد منهم، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، سواء أدرك بعثة النبي محمد
ﷺ أو لم يدركها، أو كافر به، أو برسله وكتبه، أو بما جاءت به رسله، أو ببعضهم،
كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ
وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ
بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا. أُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا
وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا. وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ
وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَـئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَكَانَ اللّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾، فحكم الله على من آمن بموسى أو عيسى وكفر بمحمد أنه كافر حقا، يستوي
في ذلك العالم منهم والجاهل، فمن لم يسلم فهو كافر في أحكام الدنيا..
وأما في الآخرة فالله يقضي بينهم بحكمه العدل، ولا يظلم ربك أحدا، وهو
أعلم بمن مات منهم مؤمنا لا يشرك به أحدا، ومن مات مشركا به، ومن مات معذورا، ومن قامت
عليه حجة الله ولا عذر له، ومن مات مسلما ظاهرا ومنافقا باطنا يظهر الإيمان ويسر كفره
﴿إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ
مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا﴾..
العاشر: أن كل شريعة بعد بعثة محمد ﷺ منسوخة بشريعته، وكل رسالة منسوخة برسالته، وهذا معنى كونه خاتم الرسل
﴿وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ
وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا﴾، فالقول بأن الشرائع الأخرى ما زالت باقية، ولم يزل الله مخاطبا بها
أهلها يقتضي عدم عموم رسالة النبي محمد ﷺ وأنه رسولٌ للعرب الأميين فقط، وليس رسولا للعالمين، وأنه يسع اليهود
والنصارى أن يبقوا على شرائعهم، وألّا يتبعوه، وهو قول باطل بالنص والإجماع، كما قال
تعالى مخاطبا أهل الكتاب: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا
يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن
كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِين. يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ
بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيم﴾، وقال: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا
مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِير﴾..
فلا تلازم بين تركهم على أديانهم وشرائعهم فلا إكراه في الدين، وكونها
منسوخة بالإسلام والقرآن، وبحكم الله ورسوله ﷺ..
إن تقرير مثل هذه الأقوال للاعتذار عن أهل الأديان الأخرى، وإقرارهم على
كفرهم وشركهم ووثنيتهم باسم التسامح، هو في حقيقته استدراك على الوحي الذي جاءهم بالنذارة
والتحذير، وتعطيل للرسالة ووظيفة الرسول، وإبطال لدين الإسلام الذي هو الدين الحق عند
الله، وما سواه باطل أو منسوخ، كما قال تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ
لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ
اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ
حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُون. وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ
ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ
يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُون.
اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ
ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهًا وَاحِدًا لاَّ إِلَـهَ
إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُون. يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ
بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُون.
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ
كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُون﴾، وقال: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ
وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ
بَصِير﴾.