كلمة إلى شباب ساحات الجهاد والرباط
الشيخ أ.د. حاكم المطيري
1442هـ - 2021م
- جماعة من شباب الشمال السوري المحرر يطلبون نصحكم شيخنا في كيف
يمضي الشاب وقته بحال السلم في أرض الرباط..
-
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم
اهدنا فيمَن هديت، وتولنا فيمَن توليت، واكفنا شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك،
إنه لا يعز مَن عاديت ولا يذل مَن واليت، تباركت ربنا وتعاليت، نستغفرك ونتوب إليك.
حياكم
الله أيها الشباب، ونسأل الله تعالى لكم النصر والثبات، وهنيئًا لكم الرباط في أرض
الشام المباركة التي وردت فيها الأحاديث وتواترت الأخبار في شأنها؛ كما في الحديث الصحيح:
"لَا تَزالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحقِّ لَا يَضُرُّهُمْ
مَنْ خَالفَهُم وَلَا مَن خَذَلَهم حَتّى يَأتيَ أمْرُ اللهِ، وَهُمْ كَذَلِك"،
وفي رواية قال: "هُمْ في الشَّام"، وفي حديث آخر: "لَا يَزَالُ أهْلُ الغَرْبِ
ظَاهِرِينَ علَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالفَهُم وَلَا مَن خَذَلَهم".
وأهل الغرب هنا هم أهل الشام، والشام تمتد من جنوب
فلسطين إلى جنوب تركيا اليوم، فكل هذه المنطقة هي أرض الشام المباركة، وهي أرض الملاحم
التي وردت فيها الأخبار، وكما في الحديث الآخر: "لَا تَزَالُ طَائفَةٌ مِنْ أُمَّتِي
ظَاهِرِينَ علَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالفَهُم إِلّا مَا كَانَ مِن لَأْوَاءٍ"
قالوا: أين هم يا رسول الله؟ قال: "هُم فِي بَيتِ المَقدِسِ وأكنافِ بَيتِ المَقدِسِ"، وأكناف
بيت المقدس الشام، أرض الشام.
ومن
توفيق الله للعبد المؤمن أن ييسرَ له الرباطَ في هذه الأرض المباركة، وأن يصطفيه إليها
ويجتبيه، خاصةً إذا جاء مهاجرًا مجاهدًا، فهنيئًا لكم، ونسأل الله لكم القبول والثبات.
وأرض
الرباطِ لا تكون دائمًا في حالة قِتال، ومن ثَم يجب على المؤمن والمجاهد في هذه الأرض
أن يستغلَّ وقته؛ كما في الحديث الصحيح، قال: "اغْتْنِمْ خَمسًا قبْلَ خَمسٍ:
شبابَكَ قبْلَ هَرَمِكَ وَصِحَّتَكَ قبْلَ سَقَمِكَ، وَغِنَاكَ قبْلَ فَقْرِكَ، وَفَراغِكَ
قبْلَ شُغْلِكَ، وَحَيَاتَكَ قبْلَ مَوْتِكَ".
فأرض
الرباط ليست للقتال فقط، وإنما هي للعلم أيضًا، فقد كان العلماء قديمًا إذا رابطوا
أقاموا دروس العلم وأفادوا واستفادوا، فكان أئمة الحديث يرابطون للجهاد ويرابطون للعلم
والدعوة والأمر، فهذه فرصة للمرابطين هناك لنشر الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي
عن المنكر والاستعداد، فالمعركة لم تنتهِ بعد، بل لا زلنا في بداية الملحمة، وهي ملحمة
كبرى، وردت فيها الأحاديث التي أخبر ﷺ
فيها عن المحطات التي ستعبر فيها الأمة إلى الظهور الثاني بعد الغربة الثانية، هذه
الغربة الثانية التي دخلت فيها الأمة منذ سقوط الخلافة العثمانية 1342هـ -1924م إلى
اليوم، هي الآن على أعتاب الخروج منها، ولا يمكن الخروج منها إلا بالأمرين معًا: الجهاد
في سبيل الله، والعلم والدعوة إلى الله.
ولا
يَستقل الداعية حيثما كان أو المجاهد حيثما كان، العمل في هذه الساحات فيما فتَح الله
عليه، فإن تيسر القتال؛ قاتل، وإن هدأت الجبهة؛ دعا إلى الله، وبذَل العلم، فكما في
الحديث: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَة"، فكما لا يستقل العالم ما أتاه
الله من علم وبلاغ حتى في بيان الآية واحدة، كذلك أيضًا لا يستقل أن يبذل من ماله حتى
شق التمرة كما في الحديث: "وَلَوْ بِشِق تَمرَة"، فلا يستقل المؤمن شيئًا مما يسره الله
له من عمل الخير في الدعوة وفي التعليم وفي الجهاد وفي العمل، وكل ذلك مُتاح في ساحات
الرباط.
فلا
تتعطل الحياة في مناطق الرباط؛ لأن القتل هدأ لسبب أو لآخر، وإنما المؤمن كما ورد في
الأحاديث الصحيحة في باب الدخول من أبواب الجنة، باب يدخل معه المصلون، وباب لأهل الصدقة،
وباب لأهل الصيام، وهناك مَن يدخل من كل الأبواب، وهذا حال أبي بكر وممن هم على شاكلته
ممَّن لهم من كل باب حظ فيه.
فالشباب
كما في الحديث هم العُدّة لهذه الأمَّة في هذه الفتن العامة التي تواجه فيها عدوها
التاريخي، وكما في الحديث: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ تَعالى في ظِلِّهِ يَومَ لا ظِلَّ إلّا ظِلُّهُ:
إمامٌ عَدْلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في طَاعَةِ اللَّهِ"، فهذه النشأة في طاعة
الله من توفيق الله للعبد، وهذا غرْس يصطفيه ويغرسه، كما في الحديث الصحيح: "إِنَّ اللهَ يَغْرِسُ
لهذَا الْعِلْمِ غَرْسًا يَسْتَعْمِلهُم في طَاعَتِه"، فحيثما كانوا قاموا
بما أوجب الله عليهم من الواجبات، سواء فروض الأعيان أو فروض الكفايات.
وما
يجري الآن في ساحات الجهاد بشكل عام له ما بعده، وإن هدأت ساحة فالأمة في مجملها لم
تهدأ، بل هي تصاول العدو في ساحات أخرى: في ليبيا، وفي أفغانستان، وفي كل الساحات الساخنة
لا زال العدو يقاتل هذه الأمة، وهي تدفع عن نفسها.
والساحة
عندكم يُتربصّ بها، فلا يتخلى المجاهدون عن استعدادهم وسلاحهم في حال ما إذا باغتهم
العدو، فلا يأخذهم على حين غِرة، بدعوى أن القتال توقف في الساحة، فهو وإن هدأ لم يتوقف،
وقد نشهد تطورات للأحداث في مستقبل الأيام، وتخرج الأمور عن السيطرة، وقد تمتد الثورة
في المنطقة بشكل واسع، ولن تقتصر على الساحة السورية وإنما هناك ساحات أخرى مُرشحة
للدخول، فالعدو لديه مشروع تاريخي، والذي أربكه
وصدّ صولته هي الأمة بمجموعها والشباب على وجه الخصوص، فالشباب في ليبيا، والشباب في
سوريا؛ هم الذين صاولوا هذا العدو حين تخلت الحكومات والدول بل حين اصطفت الحكومات
مع هذا العدو، وجاءت بجيوشها لتقتل شعوبها، ولم تجد الأمة إلا الشباب الذين تصدوا للعدو،
وجاهدوا في سبيل الله، وقاموا بما أوجب الله عليهم من الجهاد في سبيل، وكانوا كما في
الحديث: "لَا تَزالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحقِّ لَا يَضُرُّهُمْ
مَنْ خَالفَهُم وَلَا مَن خَذَلَهم"، فمهما تعرضوا للخذلان إلا أنهم منصورون
بإذن الله.
ولا
يُنظر فيما جرى على الأمة من فتن ومحن على أنه ضعف فيها وتراجع لها، {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن
كُنتُم مُّؤْمِنِين. إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ
وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] فحتى إن بدا
في الساحات الجزئية أن الأمة تتعثر أو تتأثر بضغط العدو، فالقراءة الصحيحة تكون للمشهد
بكليته، وبالنظر إلى حال الأمة عامة، فالأمة تتقدم والعدو يتراجع وينكفئ {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ
وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ}[النساء:104] إلا أن لدى العدو من
وسائل الإعلام والتضليل والحرب النفسية ما يستطيع أن يخادع الشعوب والمجاهدين في أنه
يتقدم، وأنه استطاع أن يفرض مشروعه على الأمة، والصحيح أنه في حال عجز وانكفاء، ولولا
انحياز الحكومات الوظيفة إليه ومشاركته في هذه الحرب النفسية على الأمة وعلى شعوبها
لما بقي المحتل الأمريكي ولا الروسي، وفي السنوات القريبة القادمة لن يستطيع المحتل
الاستمرار في وجوده العسكري في المنطقة كلها والله أعلم.
فما
جرى في الشام سنرى تداعياته -بإذن الله- على مستوى الأمة كلها في السنوات القادمة،
كما شاهدنا ذلك فيما جرى في أفغانستان حين أدى الجهاد هناك إلى انهيار الاتحاد السوفيتي
وخروجه من المنطقة ومن الجمهوريات الإسلامية الوسطى، وتحرر سبعون مليون مسلمًا بعد
حرب أفغانستان الأولى، وهذا ما يُتوقع في أرض الشام -إن شاء الله-، فالمجاهدون أثخنوا
في العدو، والعدو في حال ضعف، والهدوء المؤقت يجب على الشباب استغلاله في الإعداد العسكري
من جهة، والاستعداد للمواجهة، وأيضًا في القيام بواجباتهم التي تقتضيها الحياة الطبيعية
من العمل، والقيام على الأسرة والأهل، وأداء حقوق مَن له حق كالوالدين، كما في الحديث،
قال: "ألكَ أَبَوَان؟"، قال: نعم، قال: "فَبِهَمَا فجَاهِد"،
فلا يتعطل المؤمن والمجاهد في ساحات القتال عن أداء الحقوق الأخرى التي أوجبها الله
عليه، فأنتم الآن في سَعة، وهذه السعة قد لا تطول، فمَن وُفِّق إلى استثمارها في طاعة
الله، وأن يستغلها فيما يرضي الله، سواء في طلب العلم أو في التعليم أو في العمل أو
في أبواب الخير التي ييسرها الله له، والمرء حيث يرى ويجد نفسه، فلا يكلف نفسه ما لا
يستطيع، كما في الحديث: "كُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَه".
فمن
رأى في نفسه قوةً وعزيمةً وهمةً على أن يكون رجل أمة، فلا يتخلف، بل يتقدم، ويتهيأ
بأسباب الوصول إلى المكانة التي يرى نفسه فيها، ولا يحقرنّ من المعروف شيئًا، ومن المعروف
أن يلهمه الله تعالى معالي الأمور كما في الحديث، قال: "إنَّ اللهَ يُحبُّ مَعَالي
الْأمُورِ وَيكْرَهُ سَفَاسفَهِا"، فإذا وجد في نفسه همةً وعزيمةً وتطلعًا
على القيادة فعليه أن يأخذ بالأسباب المشروعة، ويتسلح بأدوات القيادة من العلم والمعرفة
والاطلاع الواسع، والاحتكاك بالقيادات المؤثرة، ومن ثم صقْل الموهبة لديه، وكذلك على
العلماء وعلى المشايخ الذين يرون في الساحة مَن هم أهل لأن يكونوا رجال أمة أو رجال
دولة، أو قادة، أن يرشحوهم ويدفعوا بهم إلى ما يصقل مواهبهم من خلال الدورات العلمية
والمهنية التي يُصنع من خلالها القادة.
فالحرب
لها فنون، ولها أدوات، ولها ساحات، وكذلك السياسة علم، ومهارة، وفن؛ منه ما هو كسبي، ومنه
ما هو وهبي، فالمجتمعات تحتاج أيضًا مَن يقودها، وهذه القيادة تُصنع، وتُدرب أيضًا،
فالآن فرصة لكل الشباب ولمن يرى في نفسه الكفاءة أن يأخذ نفسه بالعزيمة.
قَدْ رشَّـــحوك لأمْرٍ إنْ فطِنتَ لــهُ *** فَارْبَأْ
بنَفْسِـــــكَ أَنْ تَرْعَى مَعَ الهَمَلِ
فالإنسان
يستغل الفرصة في تطوير قدراته الذاتية، ويستعين بالله، ولا يعجز، ويجعل عمله خالصًا
لوجه الله، ويسأل الله أن يصلح له نيَّته: "إِنَّـمَا الأَعْمَـالُ بِالنِّيَّـات،
وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى"، فلا يتوارى ويتخلف خشية النفاق
والرياء، بل عليه أن يتقدم، ويستعد، ويخلص نيّته لله، فهذا أيضًا من مداخل الشيطان
في صرْف المؤمن عن المراتب العليا الشريفة، ومن هذه المراتب: الإمامة، {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}[الفرقان:74]،
قال: "سَبْعَةٌ يُظِلهُم اللهُ في ظِلِّه، إمَامٌ عَادل"، فالإمامة
بكل صورها سواء كانت إمامةً عامةً على أمة، أو إمامة خاصة على بلد، أو قيادة لجيش،
أو قيادة لمنطقة، كل هذه من أبواب المراتب الشريفة إذا لم يرد بها العبد العلو؛ {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ
عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا}[القصص:83]، فمَن لم يرد العلو في الأرض وإنما أراد الإصلاح؛
{إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[هود:88]،
فالله تعالى يسدده ويأخذ بيده ويلهمه رشده، وعليه أن يستعين بالله عليها، فمَن طلبها
أوكل إليها، ومَن حُملها واستعان بالله عليها سُدد وأُلهم رشده بإذن الله، فأسأل الله
لي ولكم السداد والثبات، وأن يعجل نصركم وفرجكم، وأن يفتح عليكم، وصلى الله وسلم على
نبينا محمد.