المقاومة والمسالمة (٧)
تشكل النظام العربي الوظيفي
بقلم أ.د. حاكم المطيري
14 /9 / 1444هـ
5/ 4/ 2023م
شهد مطلع القرن العشرين ولادة النظام العربي الوظيفي على يد الحملة
الصليبية بزعامة بريطانيا بعد أن تآمرت على خلع السلطان عبدالحميد ومن ثم إلغاء
الخلافة كلية -بعد أن عاش المسلمون تحت كنفها 13 قرنا- وشكلت بدلا عنها النظام
الوطني الوظيفي لإبقاء المنطقة في حال تشرذم وضعف بما يرعى مصالح الحملة الصليبية وكيانها
الصهيوني، وقد كتب رئيس الوزراء البريطاني ووزير المستعمرات تشرشل في مذكراته ٢/ ٢٩٢عن صناعة بريطانيا للواقع العربي ودوله الوظيفية، فقال: (العرب مدينون
لبريطانيا، ولبريطانيا وحدها في وجودهم كدول، فنحن خلقنا هذه الدول، فلقد دفعت
الأموال البريطانية والمستشارون البريطانيون بها سريعا في طريق التقدم، وكانت الأسلحة
البريطانية هي التي تتولى حمايتهم).
وكان مذهب المسالمة والدعوة إلى الوطنية القطرية هو الوسيلة الفاعلة
لتخدير الشعوب الإسلامية بعد سلبها نظامها وأرضها وثرواتها، وكما رعت بريطانيا في
الهند مذهب المسالمة ودعاة الوطنية؛ رعت دعاتها في مصر، وكانت وراء إبرازهم كقادة
للشعب المصري، لتقسيم أقاليم الخلافة العثمانية، على أسس وطنية، وكان أبرز دعاتها
فكريا لطفي السيد، وسياسا سعد زغلول، وكلاهما ممن تتلمذ على السيد جمال الدين، إلا
إنهما خالفا دعوته إلى (الجامعة الإسلامية)، وتعزيز (الخلافة العثمانية)، وقد وجدت
بريطانيا فيهما ما وجدته في السير أحمد خان في الهند، فبدأت تروج فكرة فصل مصر عن
الخلافة قبيل بدء الحرب العالمية الأولى بسنتين، لتحضير ساحة المعركة سياسيا قبل
تحضيرها عسكريا، وقد ذكر لطفي السيد ما قاموا به لتحقيق هذا الهدف البريطاني، وكيف
تشكل الوفد، الذي ذهب لمؤتمر فرساي للحصول على شرعيته السياسية من باريس، ليفتتح
بذلك عصر الدويلات العربية الوظيفية للحملة الصليبية، التي لا ترى شرعيتها
السياسية إلا باعتراف أوربا الاستعمارية، وما زالت الدول العربية ونخبها السياسية
حتى اليوم وبعد مئة عام لا تخرج عن قرارات العواصم الأوربية، فمنها تمنح الشرعية،
ومنها تسحب!
فقد قال لطفي في مذكراته قصة حياتي ص ٨١:
(في سنة ١٩١٢ استقال سعد زغلول من وزارة الحقانية، وخلفه عليها حسين
رشدي باشا، وتولى يوسف وهبة باشا وزارة الخارجية، فذهبت إلى رشدي باشا أطلب إليه
أن نبدل بالعلم العثماني علما مصريا يرفعه المصريون على سفنهم وبواخرهم؛ اتقاء
لمثل ما وقع لتاجر دمياط، وكان وهبة باشا حاضرا الحديث، فقال: إن هذا العمل سابق
لأوانه، ثم رجعت مرة أخرى إلى رشدي باشا أطلب إليه أن تعلن مصر استقلالها عن
الدولة العثمانية، وأن تنصب الخديو ملكا عليها، ويعترف لها الإنجليز بهذا
الاستقلال، ورجوته باسم حزب الأمة أن يعرض هذا على الخديو عباس واللورد كتشنر
المعتمد البريطاني في مصر، وطلبت إليه ألا يخبر محمد سعيد باشا رئيس الوزارة في
ذلك الحين، وبعد يومين استدعاني، وأخبرني أن الخديو مسرور جدا من هذه الفكرة، وأما
اللورد كتشنر فقد رفضها؛ لأن إنجلترا لا تريد مضايقة تركيا، وقال لي: إنه أخبر بها
سعيد باشا، فقال: هذه هي الخيانة العظمى!
فذهبت إلى اللورد كتشنر
وحادثته في الأمر، فقال لي: لقد بسطنا يدنا لتركيا، فبصقت عليها، وولت وجهها شطر
ألمانيا، ولو أنها كانت قبلت مودتنا لتغير الموقف كثيرا، ومع هذا فإني لا أجد
الوقت مناسبا لقبول فكرتك!
تأليف أول وفد مصري:
رجعت إلى رشدي باشا بعد ذلك، وكان قد قابل الخديو مرة ثانية، فقال لي:
إن الخديوي يرى أن يؤلف وفد من عدلي باشا، وسعد باشا، وأنت للذهاب إلى لوندره
[لندن] للسعي لتحقيق هذا الأمر مباشرة مع الحكومة الإنجليزية والرأي العام
الإنجليزي، وعليه النفقات!
واجتمعنا في بيت سعد زغلول باشا نحن الثلاثة لندبر الخطة، وأخذت أنا
أنشأ حملة في هذا المعنى تحت عنوان: سياسة المنافع لا سياسة العواطف.
هذه الأحداث امتدت أسابيع، في أثنائها قام الأمير عمر طوسون، وبعض
الكبراء والأعيان لجمع التبرعات لمساعدة تركيا في هذه الحرب، وأخذوا يطوفون البلاد
لهذا الغرض، ويشترون المؤن والأسلحة ويرسلونها للجيش التركي بطرابلس.
وكانت الصحف المصرية -عدا "الجريدة"- تشجع هذه الحركة،
وتنشر أخبارا عن هذه التبرعات تنبئ أن الأمة كلها مع تركيا، فتداولنا نحن الثلاثة،
سعد، وعدلي، في هذا الموقف العسير؛ لأن الأمة وهي بهذه الحال من تأييد تركيا
والإقبال على مساعدتها والتبرع لها، لا يمكن أن تريد الانفصال عنها، ولهذا لم ينجح
المشروع).
وكما كانت بريطانيا وراء فكرة الوطنية، لتقسيم الولايات العربية
العثمانية لدويلات وظيفية واحتلالها تحت التاج البريطاني باسم اتفاقيات الحماية؛
كانت وراء فكرة (الجامعة العربية) بدلا من (الجامعة الإسلامية)!
فقال لطفي السيد ص ٨٤:
(وحدة مصر وسورية:
في نحو سنة ١٩١١م؛ ظهرت لأول مرة بوادر ما يسمونه
"البنارابيزم" أو الجامعة العربية، وفي هذا الحين وفد على مصر رجلان من
أعيان الشام ولبنان، هما السيد شكري العسلي من دمشق، والسيد ثابت من أعيان بيروت،
وكانا نائبين في مجلس المبعوثان بإستامبول، وكان الغرض الذي جاءا من أجله السعي لضم
سورية إلى مصر، وقد لقياني مرارا فيمن لقيا من المشتغلين بالسياسة وأهل الرأي، ولم
أكن متفقا معهما في هذا الرأي؛ لا لتعذر هذا الطلب فحسب، بل لأني لم أر فيه
مصلحة مصر! وأذكر أن السيد شكري العسلي كان متحمسًا لفكرته إلى حد أنه كان
يدافع عنها بصراحة غلبته على كل اعتبار، حتى قال لنا أنا وعبد العزيز فهمي باشا
ومحمود بك أبو النصر في مأدبة بمنزلي: مصر فيها مال وسورية فيها رجال! وذلك في
مقام التدليل على فائدة وحدة سورية ومصر، وقد انتهى الأمر بأنهما لم ينجحا في هذا
المسعى.
وكنت منذ زمن طويل أنادي بأن مصر للمصريين، وأن المصري هو الذي لا يعرف له وطنًا آخر غير مصر، وأما الذي له
وطنان يقيم في مصر، ويتخذ له وطنا آخر على سبيل الاحتياط، فبعيد أن يكون مصريا
بمعنى الكلمة، وقد دعوت السوريين في مصر إلى أن يسجلوا أسماءهم في المحافظة؛
ليكونوا مصريين، وبعث إلي شكور باشا مدير بلدية الإسكندرية، وعبد الله صفير باشا
مدير المطبوعات بالداخلية يعززان هذا الرأي، ولم أقصد السوريين فقط، ولكني كنت
أريد أن يتحمل كل قاطن في مصر من الواجبات ما يتحمله المصريون لتحقيق القومية
المصرية؛ فقد كان من السلف من يقول بأن أرض الإسلام وطن لكل المسلمين، وتلك
قاعدة استعمارية تنتفع بها كل أمة مستعمرة تطمع في توسيع أملاكها، ونشر نفوذها كل
يوم فيما حواليها من البلاد، تلك قاعدة تتمشى بغاية السهولة مع العنصر القوي الذي
يفتح البلاد باسم الدين، ويحب أن يكون أفراده كاسبين جميع الحقوق الوطنية في أي
قطر من الأقطار المفتوحة؛ ليصل بذلك إلى توحيد العناصر المختلفة في البلاد
المختلفة حتى لا تنقض أمة من الأمم المفتوحة عهدها، ولا تتبرم بالسلطة العليا، ولا
تتطلع إلى الاستقلال بسيادتها على نفسها، أما الآن وقد أصبحت أقطار الشرق غرضا
لنفوذ الغرب، وانقطع أمل هذه الأمم الشرقية في الاستعمار ووقفت أطماعهم عند حد
المدافعة لا المهاجمة، والاحتفاظ بسلامة كل أمة في بلادها من أن تنمحي جنسيتها،
ويفنى وجودها، فإن أكبر مطمع لكل أمة شرقية هو الاستقلال.
ولهذا أصبحت هذه القاعدة لا حق لها من البقاء؛ لأنها لا تتمشى مع
الحال الراهنة للأمم الإسلامية وأطماعها، فلم يبق إلا أن يحل محلها المذهب
الوحيد المتفق مع أطماع كل أمة شرقية لها وطن محدود، وهو مذهب الوطنية!
إن مصريتنا تقضي علينا أن يكون وطننا هو قبلتنا وأن نكرم
أنفسنا ونكرم وطننا، فلا ننتسب إلى وطن غيره، ونخصه بخيرنا، والانتساب إلى مصر شرف
عظيم؛ فقد ولدت التمدن مرتين، ولها من الثروة الطبيعية والتاريخية ما يكفل لها
الرقي متى أكرم أهلوها، وعزت نفوسهم، وكبرت أطماعهم، فاستردوا شرفها وسموا بها إلى
مجد آبائهم الأولين).
وهذا خطاب وطني فرنسي أوربي لا علاقة له بالإسلام وتاريخه وموروثه
السياسي والفقهي، فقد ألقى الاستعمار الأوربي في هذه الفترة بظلاله على العالم
الإسلامي، وترعرعت في أحضانه ثقافة عربية صليبية، يروجها عرب مسلمون، وكان لطفي
السيد، وعلي عبد الرازق، وطه حسين هم رواد هذه الأفكار!
وقد رشحهم ذلك إلى توالي وزارة المعارف والتعليم في مصر في ظل
الاحتلال البريطاني، وتولي الجامعات التي كانت أهم مؤسسات الحملة الصليبية في
صناعة الوعي والفكر في العالم العربي والإسلامي كله!
وستتأثر به لاحقا كل التيارات الفكرية والسياسية بما فيها الجماعات
الإسلامية، التي انتهت فعليا إلى تبني الوطنية، والديمقراطية، والقوانين الوضعية،
والمرجعية الدولية، ورفض الخلافة الإسلامية، تحت شعار قيم الحرية والواقعية
السياسية!
وصارت المعركة مع الحملة الصليبية التي تحتل العالم العربي لا تتجاوز
ما يجري بين الأحزاب السياسية الأوربية في بلدانها، وهو الإصلاح السياسي تحت
النظام العربي الوظيفي الذي هو جزء من الحملة الصليبية، وامتداد لها، وصار أقصى
أمانيها أن يسمح لها بممارسة نشاطها السياسي كجزء من هذا الواقع!
لقد أصبح فكر لطفي السيد وعلي عبد الرازق هو من يشكل الوعي السياسي
الإسلامي الحركي اليوم، ولا تكاد تخرج مفرداته عما قرره هؤلاء في كتبهم من الدعوة
إلى الديمقراطية، والحرية، والوطنية، والسلمية!
ولا تكاد تخرج كل دعوة أحزاب
الإسلام السياسي اليوم عما دعا إليه إمامهم لطفي السيد ص ١٠٧ حيث يقول: (ولقد
أصبحنا في بلادنا ندرك الحرية بمثلها الأعلى الذي يأتلف مع شرف الإنسان في هذا
الزمان، وصرنا نمتعض من كل فكرة، ومن كل قانون، ومن كل عمل يمس الحرية الشخصية، أو
يعطل استعمال الحرية المدنية في غير الحدود المتفق عليها في أعلى البلاد مدنية،
وأصبحنا كذلك نرى أن الحكومة المعقولة الوحيدة المطابقة لشرف الأمة هي حكومة
الدستور، وأن الطلبة الكبرى التي يجب أن توجه إليها قوى الشعب بأسره، هي الاستقلال
التام [بالسلمية لا بالجهاد!].
لهذا نهضنا نهضة مباركة، وهدفنا هذا الغرض العظيم، وبدأنا نحن
الاصدقاء الخمسة: سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي، ومحمد محمود، وأنا، نفكر
في كيفية الاستفادة من المبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس ويلسون رئيس
جمهورية الولايات المتحدة، تلك المبادئ الحرة التي تنص في جملتها على أن كل
أمة، مهما صغرت، لها الحق في اختيار مصيرها، وتقرير الحكم الذي ترضاه بمحض إرادتها
وحريتها.
وفي نوفمبر سنة ١٩١٨ بدأنا نؤلف الوفد المصري، واستقلت من دار الكتب
المصرية، وأخذنا نعمل في ذلك الحين على ما جاء في مذكرات صديقي عبد العزيز فهمي
باشا.
في ثورة سنة ١٩١٩م:
ولا أستطيع بالضبط أن أروي الآن ما جرت به الحوادث من وقت تأليف
الوفد، وإن كنت قد كتبت بها يوميات لكني اضطررت لإحراقها، كما سأقص هنا:
بعد أن نفي إلى مالطة أصحابنا الأربعة: سعد زغلول، ومحمد محمود،
وإسماعيل صدقي، وحمد الباسل، قامت في البلاد ثورة عنيفة في أوائل سنة ١٩١٩م، كانت
من الخطر بحيث لم نكن نتوقعها، حتى لقد ألفت في مديرية المنيا جمهورية برياسه
الدكتور محمود عبد الرزاق بك الطبيب، وقطعت سكة الحديد بينها وبين القاهرة، وكذلك
قيل عن تأليف جمهوريات في بعض مديريات الوجه البحري، فدعتنا نحن أعضاء الوفد
الباقين السلطة العسكرية [البريطانية] للمثول أمامها في فندق سافوي، وكان بين
ضباطها العظام مستر إيموس، فلما مثلنا أمامها وجه القائد العام إلينا الكلام،
محملًا إيانا مسئولية الثورة، فكان جوابي على هذه التهمة: إن الوفد بريء منها، وإن
تبعتها تقع على السلطة العسكرية التي نفت أربعة من رجال الوفد المصري بلا ذنب أتوه
إلا أن يطالبوا بحرية بلادهم، ثم قابلت المظاهرات البريئة بالمترليوز، فغضب أهالي
البلاد لقتل أبنائهم، وقاموا بهذه الحركة، وإني أنصح للسلطة العسكرية أن تستدعي
حسين رشدي باشا، أو عدلي يكن باشا، أو ثروت باشا؛ ليؤلف وزارة تعمل على ترضية
الأمة ترضية كافية، وبهذا يقضى على الثورة!
وفي هذا الحين عين المارشال اللنبي معتمدا بريطانيا في مصر، وأعلن أنه
يقبل من أي كان ما يراه في أمر وقف الثورة القائمة، وعودة السكينة والسلام إلى البلاد، فأرسل إليه الوفد تقريرا
شرح فيه أسباب الثورة، وعزا حدتها إلى تصرف السلطة العسكرية العنيف، ونصح بتنصيب
واحد من الثلاثة المذكورين سالفا رئيسًا للحكومة، والإفراج عن المنفيين الأربعة،
وإعطاء البلاد الترضية الكافية.
وعلى إثر وصول هذا التقرير إليه استدعانا وأخذ يناقشنا، حتى اقتنع بما
فيه، فتألفت وزارة برئاسة حسين رشدي باشا، وصدر الأمر بالإفراج عن المنفيين، وأبيح
لنا السفر إلى إنجلترا على باخرة عسكرية إنجليزية، ذهبت بنا إلى مالطة، فاصطحبنا
زملاءنا: سعدا، ومحمد محمود، وصدقي، وحمد الباسل، حتى إذا ما وصلنا إلى مرسيليا
جاءنا تلغراف بأن مستر ويلسون رئيس الولايات المتحدة قد وافق على الحماية
الإنجليزية على مصر، فكانت صدمة قوية من هذا الذي نادى بحرية الشعوب، وأعلن مبادئه
الحرة التي قوبلت في العالم أجمع بالغبطة والإعجاب، وبخاصة عند الشعوب المهضومة.
في مؤتمر السلام:
ذهبنا إلى باريس، وتقدمنا لمؤتمر السلام، فأغلق أبوابه أمامنا،
وقابلنا أعضاؤه على النحو الذي أيأسنا منه، ووصفه صديقي عبد العزيز فهمي باشا في
مذكراته.
ولما وقع الخلاف بين سعد وعدلي على رئاسة المفاوضات، وانتقل الأمر إلى
خصومة كان مظهرها التلاحي، اعتزلت السياسة، ثم عرض علي أن أرجع لدار الكتب
المصرية..).
فقد كان هذا التقرير الذي قدمه لطفي السيد ومن معه للجنرال إدوارد
اللنبي للمساعدة على وقف الثورة شبيها بالتقرير الذي قدمه السير أحمد خان لحكومة
الهند البريطانية قبل نصف قرن بعد ثورة مسلمي الهند!
واستطاعت بريطانيا تهيئة المشهد في المسرح السياسي ليتبوأ حزب الوفد
قيادة المجتمع المصري نحو الليبرالية، بعد أن حاصرت الحزب الوطني بعد اغتيال زعيمه
مصطفى كامل ١٩٠٨م، وتهديد نائبه فريد وجدي، وحصار نشاط الحزب؛ لإيمانه بالجامعة
الإسلامية، والوحدة في ظل الخلافة العثمانية، وكان هو الممثل الحقيقي للشعب المصري
حتى قطعت بريطانيا عليه الطريق، وصنعت البديل الوظيفي "حزب الوفد" التي
ستعمم تجربته في الحكم نيابة عن المحتل على المنطقة العربية كلها برعاية بريطانية،
ثم أمريكية، تارة كأحزاب ونخب سياسية، وعسكرية، وتارة كحركات إسلامية سلمية، أو
مقاومة، إلا أن الجميع لا يخرج عن الدور المرسوم له في النظام العربي الرسمي
الوكيل الحصري للحملة الصليبية، والالتزام بقرارات منظومتها الاستعمارية الدولية
"الأمم المتحدة"!
وهذا ما تجلى في
أوضح صوره بعد الربيع العربي وثورة شعوبه سنة ٢٠١١م التي تفاجأت بأن البديل الإسلامي
والديمقراطي الذي كانت تعول عليه ونخبه السياسية لا تختلف عن النظام العربي الوظيفي
لا في الخطاب السياسي والفكري، ولا الممارسة السياسية، وأنها الوجه الآخر له، حيث أعادته
للسلطة وتخلت عنها بعد احتواء الثورات الشعبية، وفق ترتيبات الحملة الصليبية!
ولم يستطع أربعمئة
مليون عربي وبعد مئة عام من الكفاح تحرير أرضهم، وانتزاع سيادتهم، لا بمذهب المسالمة،
ولا المقاومة الوطنية وفق شروط الحملة الصليبية، وما زالوا عبيدا وبالأغلال، يخضعون
في كل ساحات الثورة لترتيبات المبعوث الدولي وقرارته! بينما استطاع الشعب الأفغاني
خلال مئة عام بالجهاد في سبيل الله تحرير أرضه ثلاث مرات من المحتل البريطاني، ثم الروسي،
ثم الأمريكي، ليثبت للأمة أنه الخيار الوحيد لتحقيق الحرية.
ولم يعد للحديث بقية إلا الثورة الجذرية!