5
المقاومة.. والمسالمة (٥)
حركة المقاومة والجامعة
الإسلامية
بقلم: أ.د. حاكم المطيري
27 / 8/ 1444هـ
19/ 3/ 2023م
ظلت حركة المقاومة للاستعمار الأوربي محصورة سياسيا وفكريا في مصر منذ
وصول السيد جمال الدين الأفغاني إليها قادما من إسطنبول سنة ١٨٧١م، حتى نفيه منها
إلى الهند سنة ١٨٧٩م، إلا إنها ستتحول بعد ذلك إلى حركة مقاومة عالمية تخاطب
العالم الإسلامي كله سنة ١٨٨٤م، وسيصل صوت "العروة الوثقى" من باريس
-التي كانت آنذاك على توافق مع الخلافة العثمانية في مقاومة بريطانيا في مصر- إلى
كل علماء الأمة وزعمائها، وستشكل أوسع حركة مقاومة في التاريخ الحديث، تأثر خطاها
بعد ذلك كل زعماء حركات التحرير لاحقا، حتى لا يكاد يوجد بلد إسلامي شهد مقاومة
للاحتلال ليس في قادته من لم يكن من رجال هذه المدرسة أو من تلاميذهم!
مهمة جمال الدين في باريس:
لقد كانت المهمة التي انتُدب لها السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ
محمد عبده في باريس -من قبل "جمعية العروة الوثقى" السرية- هي تأسيس
مجلة للدعوة إلى "الجامعة الإسلامية"، والالتفاف حول
"الخلافة" العثمانية، والسلطان عبدالحميد، ودعوة الأمة إلى الجهاد
والثورة على الاحتلال، ومتابعة ما يجري في أوربا تجاه العالم الإسلامي، والتواصل
مع أعضاء الجمعية في كل مكان، كما صرحا بذلك في أول عدد لمجلة "العروة
الوثقى" التي صدرت في مارس سنة ١٨٨٤، حيث ورد فيها عن أهداف مؤسسي الجمعية
والمجلة، ومنها: (وكتبوا على أنفسهم النظر في أمر السلطة العامة الإسلامية
[الخلافة]، وفروض القائم بها [الخليفة]).
وكما أكده بعد ذلك محررها
الشيخ محمد عبده بقوله عن جمال الدين: (ولما كلفته جمعية "العروة
الوثقى" إنشاء جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة تحت لواء "الخلافة
الإسلامية" أيدها الله، سألني أن أقوم على تحريرها فأجبت، ونشر من الجريدة
ثمانية عشر عددًا، وقد أخذت من قلوب الشرقيين عموما، والمسلمين خصوصًا، ما لم
يأخذه قبلها وعظ واعظ، ولا تنبيه منبه، وذلك لخلوص النية..).
وتلك المهمة التي انتدب لها الأفغاني إلى باريس سنة ١٨٨٣م هي استكمال
للمهمة السرية التي جاء الأفغاني أصلا من أجلها إلى مصر سنة ١٨٧١م وهو السعي في
تحريرها، والحيلولة دون احتلال بريطانيا لها، كما جرى للهند وأفغانستان، باستنهاض
أحرارها، وتعزيز ارتباطها بالخلافة كأهم ولاياتها، ففي ذهاب مصر كما يرى الأفغاني
ذهاب الخلافة نفسها، كما عبرت عن ذلك المجلة في كل مقالاتها، وهذه المهمة السرية
الخطيرة هي التي فتحت لجمال الدين سنة ١٨٧١م أبواب مصر قادما لها من إسطنبول، مع
كونه غريبا عنها، فاستقبله في القاهرة رئيس النظار والوزراء رياض باشا، وأجرى له
راتبا كبيرا دون عمل؛ ليبقى في مصر، ويحدث بعد ذلك ما أحدثه فيها من حركة ونهضة
وثورة! ولينجح في مهمته فيها على أكمل وجه، وليحدث التغيير المنشود الذي تراهن
عليه إسطنبول بإزاحة إسماعيل خديوي مصر، الذي كان يسعى لفصل مصر عن الخلافة،
وإخضاعها للنفوذ البريطاني، خاصة بعد زيارته أوربا مرارا، وافتتاحه قناة السويس
ودعوته ملوك أوربا دون دعوة الخليفة السلطان عبدالعزيز الذي أصدر فرمان توليته على
مصر سنة ١٨٦٧م!
فكان خلعه لاحقا -وبفرمان من السلطان عبد الحميد سنة ١٨٧٩م- المهمة
التي سعى جمال لتحقيقها قبل أن يحدث لمصر ما حدث للهند وأفغانستان من الوقوع تحت
الاحتلال، الذي طالما حذر من قوعه جمال.
ومما يؤكد دوره السري في الحركة الإصلاحية السياسية شفاعته في الضابط
لطيف باشا سليم الحجازي، ومن شاركوا في ثورة الضباط على وزارة نوبار الأرمني،
فسجنوا سنة ١٨٧٩م، فسعى جمال في إخراجهم من السجن، كما أخبر بذلك عنه أحمد لطفي
السيد في "قصة حياتي" كما سيأتي.
وقد نجح جمال في تلك المهمة
بتحقيق النهضة السياسية والفكرية خلال تسع سنوات، وشارك في تأسيس أول حزب سياسي ضم
كل رجال مصر وأحرارها، وخلع الخديوي إسماعيل، لولا أن بريطانيا قطعت عليه الطريق
بنفيه، كما قال المؤرخ الرافعي: (ذكر الأمير شكيب أرسلان في ترجمته للسيد جمال
الدين أن أول أثر ظهر لجمال الدين في ميدان السياسة هو الحركة التي هبت في
أواخر أيام الخديوي اسماعيل باشا، وآلت إلى خلعه من الخديوية، وكان للسيد اليد
الطولى فيها، ولما جلس توفيق باشا على كرسي مصر شكر لجمال الدين مساعيه، لكن
لم يطل الأمر حتى دبت عقارب السعاية في حقه، وجاء من دس إلى الخديوي الجديد أن
السيد لن يقف عند هذا الحد، وقد تحدثه نفسه بثورة ثانية وبإقامة حكم جمهوري وما
أشبه ذلك!
وفي خاطرات جمال الدين الأفغاني: أن الخديوي توفيق قال لجمال الدين:
مع الأسف إن أكثر الشعب خامل جاهل، لا يصلح أن يلقى عليه ما تلقون من الدروس
والأقوال المهيجة، فيلقون أنفسهم والبلاد في تهلكة!
فقال جمال الدين مجاوبا: ليسمح لي سمو أمير البلاد أن أقول بحرية
وإخلاص: إن الشعب المصري كسائر الشعوب لا يخلو من وجود الخامل والجاهل بين أفراده،
ولكنه غير محروم من وجود العالم العاقل، فالنظر الذي تنظرون به إلى الشعب المصري
وأفراده ينظرون به لسموكم! وإن قبلتم نصح هذا المخلص وأسرعتم في إشراك الأمة في
حكم البلاد على طريق الشورى، فتأمرون بإجراء انتخاب نواب عن الأمة تسن
القوانين وتنفذ باسمكم، وبإرادتكم، يكون ذلك أثبت لعرشكم، وأدوم لسلطانكم.
هذا أهم ما جرى في هذه المقابلة، التي كان فيها الخديوي غير راض، وأسر
في نفسه البطش بجمال الدين، ولكن لم يظهر له شيئا من ذلك!
وأصدر توفيق أمره بنفي جمال الدين، وكان نفيه بقرار من مجلس الوزراء
منعقدا برئاسة الخديوي، وكان تنفيذه غاية في القسوة والغدر، إذ قبض عليه ليلة
الأحد السادس من رمضان سنة ١٢٩٦هـ / ٢٤ أغسطس سنة ١٨٧٩م، وهو ذاهب الى بيته، هو
وخادمه الأمين عارف أبو تراب، وحجز في الضبطية ولم يمكن حتى من أخذ ثيابه، وحمل في
الصباح في عربة مقفلة إلى محطة السكة الحديدية، ومنها نقل تحت المراقبة الشديدة
إلى السويس -كان نقله الى الباخرة في صبيحة الثلاثاء ٨ رمضان سنة ١٢٩٦هـ/ ٢٦ أغسطس
سنة ١٨٧٩م- وأنزل منها إلى باخرة أقلته إلى الهند، وسارت به إلى بمباي.
ولم تتورع الحكومة عن نشر بلاغ رسمي من إدارة المطبوعات بتاريخ ٨
رمضان سنة ١٢٩٦هـ (٢٦ أغسطس سنة ١٨٧٩) ذكرت فيه نفي السيد بعبارات جارحة ملؤها
الكذب والافتراء، مما لا يجدر بحكومة تشعر بشيء من الكرامة والحياء أن تسف إليه،
فقد نسبت إليه السعي في الأرض بالفساد، ويعلم الله أنه لم يكن يسعى إلا إلى
يقظة الأمة، وتحريرها من ربقة الذل والعبودية، وذكرت عنه أنه رئيس "جمعية
سرية" من الشبان ذوي الطيش مجتمعة على فساد الدين والدنيا! وحذرت الناس من
الاتصال بهذه الجمعية! ومن المؤلم حقا أن يتقرر نفي جمال الدين ويصدر مثل هذا
البلاغ من حكومة يرأسها الخديوي توفيق باشا، وهو على ما نعلم من سابق تقديره
للسيد! ومن وزرائها محمود باشا سامي البارودي وزير الأوقاف وقتئذ، وقد كان من أصدق
مريديه وأنصاره!
فتأمل كيف يتنكر الأنصار والأصدقاء لأستاذهم، وإلى أي حد يضيع الوفاء
بين الناس!
ولا ندري كيف أساغ البارودي
نفي السيد جمال الدين واشترك في احتمال تبعته، وإذا لم يكن موافقا على هذا العمل
المنكر؛ فلم لم يستقل من الوزارة احتجاجا واستنكارا؟!).
وما ذكره المؤرخ الرافعي هنا عن تأسيس جمال جمعية "العروة
الوثقى" في مصر قبل نفيه منها؛ ذكره عنه كاتبه المخزومي وأن جمال الدين قد
شارك في تأسيس جمعية "العروة الوثقى" السرية في مصر، وليس في باريس، وهي
التي انتدبته للذهاب إلى باريس للقيام بمهام كثيرة منها إصدار المجلة.
وقد اكتشفت بريطانيا وجود الجمعية في مصر، وربما عرفت أهدافها،
فأخرجته إلى الهند، وهو ما أكده المخزومي بقوله عن الأفغاني بعد نفيه، وانتهاء
ثورة عرابي: (ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد شاء، فاختار الذهاب إلى أوروبا، وأول
مدينة صعد إليها مدينة لندرا [لندن]، أقام بها أياما قلائل، ثم انتقل إلى باريز
[باريس]، وأقام بها ما يزيد على ثلاث سنوات، طلب فوافاه في أثنائها صديقه الأستاذ
العلامة الشيخ محمد عبده، وكانت في مصر جمعية وطنية تألفت من خيار القوم، اسمها
"جمعية العروة الوثقى" فكلفته أن ينشئ جريدة تدعو المسلمين إلى
الوحدة الإسلامية تحت لواء الخلافة العظمى، وكلف صديقه الأستاذ المشار إليه،
أن يقوم على تحريرها..).
فقد تأسست جمعية "العروة الوثقى" في مصر، كحركة مقاومة
وتحرير وتحرر، قبل نفي الأفغاني منها، وقبل ثورة عرابي، وكانت مهمتها الرئيسة هي
تعزيز الوحدة والجامعة الإسلامية تحت لواء الخلافة، وتحرير العالم الإسلامي من
الاستعمار الغربي!
وكان لجمال وللجمعية اليد الطولى في خلع الخديوي إسماعيل، وهو موافق
لسياسة الخلافة بإسطنبول تجاه إسماعيل بعد أن خرج عن طاعتها، وأراد انتزاع ولايتها
على مصر.
وقد خشي الخديوي توفيق أن يحدث له ما حدث لأبيه إن هو خالف هذا التوجه
الذي كان يسعى إليه الأفغاني وجمعيته، ومن ورائه السلطان العثماني، وهو تعزيز
ولاية الخلافة العثمانية على مصر، ومنع ارتباطها بالدول الأوربية، وتقرير حق الشعب
المصري في الشورى والحياة النيابية الدستورية، لضمان منع الخديوي من أن يقرر وحده
مصير مصر ويرهنه للمحتل البريطاني كما فعل ملوك الهند بالمسلمين فيها، وكما فعل
الأمير الأفغاني شير علي، للحفاظ على عروشهم!
وقد كان للقنصل البريطاني بالقاهرة الدور الأبرز في نفي الأفغاني،
الذي صدر بقرار من مجلس النظار [الوزراء] برئاسة الخديوي توفيق نفسه، مما يؤكد أن
وجود الأفغاني في مصر آنذاك لم يكن وجود لاجئ أجنبي، يستطيع ناظر الداخلية إخراجه
منها دون قرار من مجلس الوزراء، بل كان وجوده وجود مواطن عثماني في بلده، ويقف
وراءه السلطان العثماني نفسه! فاضطر الخديوي لتبرير النفي قانونيا بتهمة الفساد في
الأرض، وتشكيل جمعية سرية، وهي الجمعية نفسها التي كان البارودي أحد أعضائها أو من
أنصارها، بل كان الخديوي نفسه أحد المؤمنين بأهدافها حين كان وليا للعهد، وعاهد
جمال على الإصلاح!
ولم يتوقف عمل الجمعية بعد نفي جمال إلى الهند مخفورا ليظل تحت
الرقابة البريطانية، بل استمر نشاطها وكان لها دور بارز في الثورة الشعبية في
القاهرة سنة ١٨٨١م، كما قال الرافعي عن جمال بعد نفيه: (على أن روحه ومبادئه
وتعاليمه تركت أثرها في المجتمع المصري، وبقيت النفوس ثائرة تتطلع إلى إصلاح نظام
الحكم، وإقامته على دعائم الحرية والشورى، فجمال الدين هو من الوجهة الروحية
والفكرية أبو الثورة العرابية، وكثير من أقطابها هم من تلاميذه أو مريديه، وحسبك
أن خطيب الثورة العرابية عبد الله نديم كان تلميذا له، وسامي البارودي رئيس وزارة
الثورة كان من أصدقائه ومريديه، والشيخ محمد عبده هو تلميذه الأكبر، والثورة في
ذاتها هي استمرار للحركة السياسية التي كان لجمال الدين الفضل الكبير في ظهورها
على عهد إسماعيل، ولو بقي في مصر حين نشوب الثورة لكان جائزا أن يمدها بآرائه
الحكيمة، وتجاربه الرشيدة، فلا يغلب عليها الخطل والشطط، ولكن شاءت الأقدار،
والدسائس الإنجليزية، أن ينفى السيد من مصر، وهي أحوج ما تكون إلى الانتفاع
بحكمته، وصدق نظره في الأمور، وأقام جمال بحيدر أباد الدكن، وهناك كتب رسالته
في "الرد على الدهريين"، وألزمته الحكومة البريطانية بالبقاء في
الهند حتى انقضى أمر الثورة العرابية).
وبعد القضاء على ثورة عرابي في مصر سنة ١٨٨٢م، رفعت بريطانيا الحظر
والإقامة الجبرية عن جمال الدين في الهند، وأذنت له في السفر، فذهب إلى لندن،
ومنها إلى باريس، ومن هناك سيستكمل عمل جمعيته السرية "العروة الوثقى"
ويصدر مجلتها، ويتابع أنشطة أعضائها، حيث كانت كل مجموعة تضم ثلاثة أعضاء، وكانت المجلة
هي وسيلة جذب الأعضاء الجدد، وضمهم إلى التنظيم، ومراسلة أعضائها، والدعوة إلى
مشروعها، وطلب الدعم لها، كما جاء في رسالة خاصة من الشيخ محمد عبده لأحد أعضائها،
كما في رسائله: (وكتب إلى أحد أمراء المسلمين في بعض الأقطار، عند تأسيس جمعية
العروة الوثقى:
لوندرا في ٢٢ يوليو سنة ١٨٨٤م/ ۲۸ رمضان سنة ١٣٠١هـ
سيدي الأمير الخطير سعادتلو أفندم حضرتلري:
السلام على نفسك الزاكية، وهمتك العالية، وأفكارك السامية، إنني عهدت
فيك مالا أتوسمه في سواك، ولهذا وجهت إليك روحي في هذه الأسطر تندب همتك، لما هو
من أحكام ذمتك، لا أنبئك بما فرض الدين، ففي علمك به أصدق الأنباء، ولا أنبهك لما
غفلت عنه عين سواك، فإني أجل نظرك عن الإغفاء، ولا أعرفك بما أوجب الوطن في صراحة
نسبك، وعلو حسبك، ما يلهمك الإحاطة بحقوقه، ولا أذكرك بما نسي غيرك، ففي شهامتك
أنفع الذكرى!
ساق اليقين "جماعة" من المسلمين إلى السعي في خير هذه الملة
المغلوبة، واعتصموا بالله، وليس على الله بعزيز أن ينجح سعيهم، يسعون في إرجاع
الوحدة الملّية [الملة الدين]، وتنبيه الحاسة الدينية، ليمكن للملة أن تتقي
الضيم، وتخلص من الذل، ولهم في هذا السعي طرق عديدة:
منها ما ندبونا إليه، وقد علمت
خبره، ولله الحمد على ظهور ثمرته في أقطار كثيرة، أفلا ترى من الواجب أن يكون
لهمتك نفحة في مساعدتهم، وتعضيدهم في سعيهم؟ أنت تعلم أن الأعمال العظيمة في هذا
الزمان وفي كل زمان تحتاج إلى التضافر في الأفكار، والتعاون في النفقات، كل بما
يقدره الله عليه، ولست أخشى أن أقول لك إنك سيد القادرين على الأمرين، لا يخطر على
بالي أن يمنعك من الدخول فيما دخلوا فيه يأس، كيف وأنت مؤمن! والمؤمن لا ييأس، وقد
رأيت العالم، وقرأت التاريخ؟ وشهدت مساعي الأوربيين، ووقفت على حقيقة لا يكابر
فيها أحد!
إن الكثير من القليل، والكبير
من الصغير، وإن النجاح مقرون بالأمل، والثبات في العمل، فان لم يكن يقيننا بالله
كافيا في حياة آمالنا، إنه يكفينا النظر في شؤون أعدائنا، وهم لا يمتازون عنا في
شيء من خواص الخلقة، وغاية ما عندهم أنهم لا يحقرون عملا، ولا يقطعون أملا، ولا
يأخذ أحدهم رهبة في أداء ما يوجبه عليه دينه أو وطنه!
لا أتوهم خيبة في سعيي إلى همتك، ولا تقصيرًا منك في القيام بخدمة
ملتك، بعد ما رأيت ما نزل بها، واستطلعت ما سيطرأ عليها، والله لا يضيع أجر
العاملين، إنني اليوم في لندرا [لندن]، دعيت إليها مرارًا فتمنعت، وبعد الإلحاح
أتيت، والمأمول أن يكون في الأمر خير.
الرجل الذي نالت مصر في عهده ما نالها [الخديوي إسماعيل]، يحاول الآن
أن يعود إليها، ولا أظن أن هذا يوافق مصلحة مصر، وأحب أن أقف على رأيكم فيه،
فإن جزءًا من عملي في لوندرا متعلق بالسؤال عنه، والمخابرة تكون بالعنوان
الآتي: إلى باريس ومنها يصل إلي.
سيدي الأستاذ [جمال] يهديكم
أزكى السلام،
وسلامي عليكم وعلى من تحبون، والله يحفظكم).
ففي هذه الرسالة بيان لطبيعة مهمة الشيخ محمد عبده في باريس، التي
انتدب إليها من جمعية "العروة الوثقى"، فهي لا تقتصر على إصدار المجلة،
بل تتعداه إلى متابعة الأحداث السياسية التي تجري، وتحليلها، وإطلاع الجمعية
عليها، ومعرفة رأي أعضائها، والتواصل مع المسئولين في أوربا لعرض وجهة نظرهم
كزعماء يدافعون عن شعوبهم.
كما تمددت الجمعية في كل بلدان العالم الإسلامي، بعد صدور المجلة في
باريس، ووجدت قبولا شعبيا عاما، فانضم إليها العلماء والأمراء من المشرق والمغرب،
ومنهم الأمير عبدالقادر الجزائري ورجاله، والسنوسي وآله، وكان الرئيس الأعلى -
حكميا إن لم يكن فعيلا - هو السلطان عبدالحميد نفسه، بحكم كونه خليفة المسلمين،
التي جعلت المجلة أحد أهم أهدافها الدعوة إلى طاعته وتعزيز خلافته، وعدها من أركان
الدين، وقد تأكدت بعد ذلك ببيعة السيد جمال الدين للسلطان، كما أخبر هو عن نفسه،
حيث يقول: (أما ما رأيته من يقظة السلطان، وشدة حذره، وإعداده العدة اللازمة
لإبطال مكايد أوروبا، وحسن نواياه، واستعداده للنهوض بالدولة، الذي فيه نهضة
المسلمين عموما، فقد دفعني إلى مد يدي له فبايعته بالخلافة والملك عالما علم
اليقين، أن الممالك الإسلامية في الشرق لا تسلم من شراك أوروبا، ولا من السعي وراء
إضعافها وتجزأتها وفي الأخير ازدرادها، واحدة بعد الأخرى؛ إلا بيقظة وانتباه
عمومي، وانضواء تحت راية الخليفة الأعظم).
وقد استمر جمال الدين بعد ذلك يدعو إلى بيعة السلطان عبدالحميد، ويرى
لزوم طاعته، حيث خطب بمحضر السلطان عبدالحميد والخديوي عباس في قصر يلدز حين زار
الخديوي إسطنبول سنة ١٨٩٣م، وشدد جمال في خطبته على أمر الخلافة، كما قال كاتبه
المخزومي: (وفد على الأستانة سمو الخديوي عباس حلمي الثاني، وشهرة جمال الدين في
مصر بالغة مبلغا عظيما، وزادها خطابه على إخواننا المصريين الذين جاءوا معه، وقد
دعاهم جلالة السلطان لحديقة يلديز، فوقف جمال الدين خطيبا واستهل خطابه بقوله: أحسنتم
صنعا إذ أتيتم لزيارة خليفتكم، جامع شتات الممالك الإسلامية، منقذ تراث
الشرقيين، من اغتيال المغتالين، وشره الطامعين..إلخ
وكله حث على الارتباط بمقام الخلافة، وتحريض على النهضة، وتعريض
بالمخاطر الحائمة حول الممالك الإسلامية ببلاغته المعروفة، وتلك الطلاقة الخاصة به).
فقد ظل جمال وفيا للقضية التي هاجر وجاهد في سبيلها، وعاش ومات من
أجلها، وهي وحدة الأمة، والجامعة الإسلامية تحت ظل الخلافة العثمانية، فكانت هي
قضيته في مصر، ثم في باريس، ثم في إيران، وروسيا، ولندن، ثم في إسطنبول!
وهي مفتاح لفهم كل الأحداث السرية التي شارك فيها، والمخاطر التي
خاضها، والأقطار التي جابها، والمنظمات التي اخترقها، والجمعيات التي أسسها، حتى
انتهى به المطاف- بعد سبع وعشرين سنة- في إسطنبول ليتوفى فيها سنة ١٨٩٧م، بعد أن
انطلق منها بمشروعه سنة ١٨٧١م!
مكانة جمال عند السلطان عبدالحميد وكيد أعدائه به:
ولهذا نفى تلميذه عبدالقادر المغربي ما ذكره كاتبه المخزومي في
خاطراته من أن جمال استأذن السلطان بإقالته عن بيعته له؛ لأن السلطان تأخر في
تنفيذ طلبه وشفاعته لأحد المصريين بالترقية وزيادة الراتب!
فقال المغربي: (وكان للسيد جمال الدين جرأة ودالة على السلطان لم تعهد
لغيره! وحدثني صديق صادق من أدباء دمشق سمع من المرحوم مصطفى باشا القنواتي أنه
كان للسيد جمال الدين صديق يعز عليه من المصريين، فالتمس السيد من السلطان رتبة وزيادة
في الراتب لهذا الصديق، فوعده السلطان بذلك، ومضت أيام على هذا الوعد. فكتب إليه
يستنجزه وعده، فلم يأت الكتاب بنتيجة أيضًا. فاحتد جمال الدين، وكان حديد المزاج
حتى قال فيه الشيخ محمد عبده: وطالما هدمت الحدة ما بنته الفطنة!
واستأذن السيد على السلطان فأذن له، فدخل عليه ووقف أمامه منتصبًا على
رجليه، وقد بدت عليه آثار الانفعال، وقال بصوت متهدج: أمير المؤمنين كسر قلبي!
أمير المؤمنين كسر قلبي!
فلاطفه السلطان، وهدأ خاطره، وسأله عن الأمر الذي أزعج باله؟ فلما
أخبره به قال: إن هذا أمر طفيف ما كان ينبغي أن تغتاظ من أجله إلى هذا الحد!
ثم أمر بالرتبة وزيادة الراتب للمصري حسب طلب السيد، ولما خرج جمال
الدين من هذه المقابلة ناوله الحاجب كيسًا فيه خمسمائة ليرة عثمانية ذهبًا، وقد
ذكر هذه الحادثة بعض من ترجم للسيد جمال الدين [يعني المخزومي] وقال إن السلطان
لما رأى انفعال جمال الدين وسأله عن سببه أجابه السيد قائلا: إنما أتيتك لأستميح
جلالتك أن تقيلني من بيعتي لك لأني رجعت عنها!
وقد استبعد محدثي بالحديث هذه الرواية كل البعد! وأن يكون جمال الدين ممن تبلغ به الحدة إلى هذا الحد! وإنما الخبر
الحق ما قاله القنواتي باشا، الذي ربما كان سمعه من لفظ عزت باشا العابد في
الأستانة، وكان لا يفارق مجلسه، كما كان عزت باشا لا يفارق مجلس السلطان).
وقد روى هذا الخبر المخزومي وذكر طلب جمال إقالته البيعة من السلطان
عبد الحميد: (فانتفض السلطان واهتز لهذا النبأ وقال: يا سيد! هل افتكرت بما تقول؟
قال: نعم! بايعتك بالخلافة! والخليفة لا يصلح أن يكون غير صادق الوعد،
بيد جلالتك الحل والعقد، وبإمكانك أن لا تعد، وإذا وعدت وجب عليك الوفاء، وقد
رجوتك بالأمر الفلاني ووعدت بأنك تمضيه، ولم تفعل؟ عند ذلك سكن غيظ السلطان، وبهت
برهة مطرقا يهز برأسه، يمينا وشمالا، ثم قال: سبحان الله يا حضرة السيد، إن أمرا
طفيفا مثل هذا، يحملك أن تهجم على نقض بيعتي لأجله؟! أما كان يحسن بفضلك أن تلتمس
لي عذرا بكثرة مشاغل السلطنة، وتذكرني قبل نقض البيعة؟ سامحكم الله وأحسن جزاءك!
ثم أصدر إرادته حالا، بما طلب جمال الدين، وآنسه كثيرا وباسطه.
قال جمال الدين: الحق يقال أنني شعرت بتسرعي، وعرفت خطأي، كما أنني
عرفت للرجل كبير فضله وسعة صدره.
وعند خروجه تقدم الحاجب من جمال الدين وناوله كيسا من المخمل الأحمر
فيه دنانير، فتردد جمال الدين، وقال: يا حضرة البيك، إن نعم السلطان من قصر، وفرش،
وخدم، وحشم، ومركبة، لم تترك مجالا لمثل هذا المال.
قال القرين [الحاجب]: يا حضرة السيد! عطاء السلطان لا يرده إنسان،
فأتانا جمال الدين بالكيس، وقص علينا ما جرى..).
وما أخبر به القنواتي هو الأقرب للصحة والمعقول المعهود من حال جمال
ووفور عقله، فهو أكمل عقلا، وأجل قدرا، من أن يسخف حتى يصدر منه مثل هذا السفه
بنقض البيعة لمثل هذا الأمر التافه، وهو الذي نذر نفسه وحياته من أجل الخلافة،
وكان يعظم شأنها أشد تعظيم، ويرى بأنها كفالة الله للمؤمنين، وركن الدين العظيم!
كما في رده على عبدالله نديم حين تمنى لو أخبر جمال السلطان بحقيقة
الشيخ أبي الهدى الصيادي الذي وشى بجمال عند السلطان، وأثار الإشاعات عنه بأنه
تواطأ مع الخديوي عباس حين زار إسطنبول، فلم يصدقه السلطان، قال المخزومي: (في
أثناء هذا القصص، كان المرحوم السيد عبدالله نديم حاضرا في الخلوة، التي كان جمال
الدين يسميها الجلوة:
فقال [نديم]: ليتك عندما صرح السلطان بأن هذا الفساد صنع فلان [أبي
الهدى] ذكرت له دسائسه، واستكتابه الأغرار، وتغنيه بهذين البيتين:
هي الخلافة أرجوها وترجوني *** فقد تربع فيها من هو دوني
يا غوث يا جد قد آن الأوان لنا *** فأين وعدكم في خان شيخوني
فغضب عند ذلك جمال الدين، وانتهر القائل، وقال: أعوذ بالله أن أكون من
المنافقين! أو أن أفعل ما أنكره على الغير! أو أن أكون همازا مشاء بنميم!
ما هذا الهذيان في هذا
الزمان؟ وفي أي مقام جليل، خطير هم يتلاعبون؟ خلافة عظمى، وإمامة كبرى!
لقد هزلت حتى بدا من هزالها *** كلاها وحتى سامها كل مفلس
الخلافة كفالة لله في خلقه، فأين أحلام أولئك العجزة من مقام الإمامة!
والخلافة وما تتطلبه من الشروط والصفات أين؟!
الخديوي بظروفه، وما أحاق وأحاط بمصره، هو عندي أعجز من السلطان عن
تصريف أمور الخلافة، والقيام بأعبائها على ما يلزمها من مزايا وشروط أهمها
الاستقلال..
أين الولاية الخاصة لأمير المؤمنين اليوم في ممالك الإسلام؟ وأين
المؤمنون المتلفون حول الخليفة؟ وأين الحرية المطلقة للخليفة في تصريفها على وجه
الشريعة؟ أو السير على سيرة الراشدين؟ وأين القوة التي يدفع بها إذلال، أو
استعمار، أو استعباد المسلمين في بلادهم، وممالكهم، وديارهم؟ وأين؟! وأين؟!
فلا حول ولا قوة إلا بالله.
ثم قال: أما الرجل، ويعني به السيد أبو الهدى الصيادي فهو خير عربي صحب
السلطان، وقد درأ شرا، واستدر ما استطاع من الخير لقومه، وفي الرجل هزة هاشمية،
وخلق كريم، وهمم وشمم، لا ينبغي أن يناله طعن الطاعنين، ولا أدل على فضل الرجل من
قياسه مع غيره من العرب الذين انسلوا إلى السلطان، ودخلوا في خدمته، وبضدها تتميز
الأشياء، رحم الله الجميع).
هذا رأي جمال الدين في الشيخ أبي الهدى الصيادي الحلبي الصوفي، الذي
كان من خاصة رجال السلطان، بينما كان أبو الهدى ممن كان يشيع قالة السوء عن جمال
الدين ويشي به إلى السلطان، حتى بعد وفاته، كما قال عنه السيد رشيد: (وقد بالغ
الشيخ أبو الهدى في عداوته والكيد له حتى كان يسعى في إيذاء من يذكره بخير أينما
كان من بلاد الدولة! وكان يطعن في نسبه ودينه! كما هي عادته فيمن يستاء منهم، فإنه
يجردهم من اللباس الذي فصله وخاطه لنفسه، ولمن يرضي عنهم من أنصاره!
وقد كتب إلي في ٢٩ رجب سنة ١٣١٦هـ كتابا قال فيه: إني أرى جريدتك
[المنار] طافية بشقاشق المتأفغن جمال الدين الملفقة! وقد تدرجت به الى الحسينية
التي كان يزعمها زورا! وقد ثبت في دوائر الدولة رسميا أنه ما زنداني من أجلاف
الشيعة! وهو مارق من الدين كما مرق السهم من الرمية، وكذلك قال الشيخ أبو الهدى في
إمام الصوفية الشيخ عبدالقادر الجيلي الذي هو من أشهر الشرفاء، في كتب لفقها
بأسماء الأموات والأحياء، ولا ندري في أي دوائر الدولة يسجل شتم الناس فنصدق خبر
أبي الهدى! كذلك كان شأنه في الأستانة في آخر أيامه بمساعي أبي الهدى إلى أن توفاه
الله إليه).
وقد بلغ من مكانة جمال عند السلطان عبدالحميد أنه أراد أن يوليه مشيخة
الإسلام، ليشاركه في مهمة الإصلاح الذي يرجوه، فقال له: (كلفتك يا حضرة السيد أن
تقبل مشيخة الإسلام فتصلحها، فأبيت واعتذرت، إذ طلبت أن تعمل عملا أساسيا، فتغير
معه الشكل الخاص، وهذا مما لا يسمح به الزمن مع غوائله، فعذرتك بعدم القبول،
فاعذرني إذا لم أقدم على التغيير بسرعة لا تتناسب مع الزمان والمكان).
وظل جمال طوال تلك المدة التي قضاها في إسطنبول بعد استدعاء السلطان
له سنة ١٨٩٢م حتى توفي سنة ١٨٩٧م معززا مكرما، يعلم، ويعظ، ويأمر بالمعروف، كما
قال تلميذه المخزومي الذي لزمه حتى وفاته: (مكث جمال الدين في الأستانة، زهاء
أربعة أعوام، لم تمر منها دقيقة إلا وأفاد فيها، وأرشد، ووعظ، وحذر، وأنذر، وأدى
الأمانة حقها، حتى داهمه داء السرطان في فكه الأسفل، وعملت له ثلاث عمليات جراحية،
بيد أشهر الأطباء ولم تنجح، فمات رحمه الله في ٧ شوال سنة ١٣١٤ هـ، ٩ مارس ۱۸۹۷م.
نعم كان لفقد جمال الدين في الأستانة رنة حزن وأسف في قلب كل فاضل،
وقد مشى في جنازته العلماء، والوزراء، والأكابر، والأفاضل، ودفن في مقبرة في محلة
ماشقة.
وقد رثاه شقيقي المرحوم مصطفى المخزومي بهذه الأبيات ارتجالا:
جمال الدين أردته المنون *** فعم الخطب فالدنيا أنين
إمام بالعلوم ولا خلاف *** وفي شرع الأمين هو الأمين
هو العلم الذي عمرت بذكرى *** فضائله المحافل والحصون).
وكان جمال طول مدة عيشه في إسطنبول في ضيافة السلطان عبدالحميد يتوافد
عليه علماء العالم الإسلامي وزعماؤه، لا يمنعون منه، كما أخبر بذلك تلميذه أحمد
لطفي السيد حيث قال: (في اليوم التالي لسفر إسماعيل صدقي باشا وكان ذلك في صيف سنة
١٨٩٣م مررت بأحد مقاهي الأستانة، فلقيت فيها بعض المصريين، وفيهم سعد زغلول بك
باشا، وكان وقتئذ قاضيا بالاستئناف، والشيخ علي يوسف، وحفني بك ناصف، وقد تأهبوا
لزيارة السيد جمال الدين الأفغاني، فصحبتهم إلى منزله، وكنت أعرف طرفا من حياته،
ولكني لم أكن قد اجتمعت به من قبل، وكان قد ذاع صيته في الشرق الإسلامي كمصلح
ديني، وفيلسوف جليل، وسياسي خطير، ونزل مصر سنة ١٨٧١م، وأقام بها حتى أواخر سنة
١٨٧٩، وعلى يديه نبغت طائفة من العلماء، وكبار الكتاب في القطر المصري، وقد رحل
إلى الهند وإيران والعراق وأوربا، ثم أقام في أواخر حياته بالأستانة، فنزل ضيفا
على السلطان عبد الحميد في منزل يدعى المسافر خانة موفور العيش، ووسائل الاطمئنان،
وقد قوبل من العلماء ورجال السياسة الأتراك بالحفاوة والإكرام، وكان يخرج عصر
كل يوم للرياضة والنزهة في أطراف المدينة على عربة سلطانية خاصة.
ولما ذهبت إليه مع إخواني، ألفيته رجلًا مهيب الطلعة، قوي الشخصية، لا
نظير له بين أهل عصره في علمه وذكائه وألمعيته، وكان أبيض اللون، ربعة، ممتلئ
البنية، أسود العينين، نافذ اللحظ، خفيف العارضين، مسترسل الشعر، جذاب المنظر،
يلبس عمامةً وجبة وسراويل على زي علماء الأستانة.
وأظهر ما رأيته فيه سعة الاطلاع، وقوة الحجة والإقناع، فكان يستوي في
مجلسه الطالب مثلي وأساتذته الحاضرون.
وفي اليوم التالي ذكرت لسعد زغلول رغبتي في التلمذة على السيد جمال
الدين، وسألته عن السبيل التي أسلكها لأكون تلميذا له، فأجاب سعد: اذهب اليه،
واطلب منه ذلك.
فقصدت إليه، فما كدت أقبل
عليه حتى قام لتحيتي كالمعتاد، فقلت له: أنا لست زائرا، ولكني تلميذ، فسر رحمه
الله بذلك، وأخذ علي عهدا بأن ألازمه طول إقامتي بالأستانة، وقد فعلت.
وأهم ما أظن أني انتفعت به من السيد جمال الدين في تلك المدة أنه وسع
في نفسي آفاق التفكير، وهداني إلى أن المرء لا يستطيع أن يربي نفسه إلا إذا حاسبها
آخر كل يوم على ما قدمت من عمل، وما لفظت من قول، وما خطر لها من خاطر.
وكان جمال الدين ميالًا للسياسة يتحدث عنها كثيرا، وكأنه يريد أن يقيم
في الشرق دولة تضارع إنجلترا في الغرب.
وكان رحمه الله شديد النقمة على الإنجليز؛ لسياستهم في البلاد
الإسلامية، وهدمهم لدول الإسلام، ولما وجده من اعتداءاتهم عليه، وإخراجهم له من الهند، ودسهم له في
مصر حتى أخرج منها في عهد الخديو توفيق، وهو الذي كان يتمتع في عهد الخديوي
إسماعيل بكرم الضيافة المصرية، وكان يجرى له راتب شهري، وقد روى لي قصة سعيه
الحثيث في ذلك العهد للإفراج عن لطيف سليم باشا ومن معه من الحبس حينما قاموا
بالثورة العسكرية في مدة الوزارة المختلطة.
وكان رحمه الله يقدر تلميذه الشيخ محمد عبده، وإذا ذكر اسمه في مجلسه
أعرب عن احترامه له، وتقديره لذكائه وعلمه، وكان يعيب على المصريين تخاذلهم
وتفرقتهم ونزاعهم وسط ما يلم بهم من الحوادث الجسام، ويردد قوله: اتفق المصريون
على ألا يتفقوا).
محاولة إفساد العلاقة بين السلطان عبدالحميد وجمال الدين:
وكل ما سبق ذكره عن حال جمال الدين في إسطنبول في ضيافة السلطان
عبدالحميد -الذي تواتر في مذكرات كثير من العلماء والزعماء على اختلاف مذاهبهم
السياسية، ومشاربهم الفكرية- ينفي الأكاذيب التي روجها أعداؤهما عنهما، وادعاء حبس
السلطان له في إسطنبول، والتضييق عليه، ومنع الناس منه! وادعاء أنه إيراني شيعي!
بينما السلطان عبدالحميد يعرض عليه مشيخة الإسلام، ويدنيه، ويستشيره،
ويخلو به، ويطلعه على أسراره كما سيأتي بيانه!
ولهذا فما دس في مذكرات السلطان عبدالحميد عليه ظاهر الوضع، منكر
المتن، لفظا ومعنى، حيث جاء فيها: (جمال الدين الأفغاني وقعت في يدي خطة أعدها في
وزارة الخارجية الإنجليزية مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني، وإنجليزي يدعى بلنت
قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك، واقترحا على الإنجليز إعلان الشريف حسين
أمير مكة خليفة على المسلمين! كنت أعرف جمال الدين الأفغاني عن قرب، كان في مصر،
وكان رجلًا خطرًا، اقترح علي ذات مرة، وهو يدعي المهدية أن يثير جميع مسلمي آسيا
الوسطى، وكنت أعرف أنه غير قادر على هذا، وكان رجل الإنجليز، ومن المحتمل جدًا أن
يكون الإنجليز قد أعدوا هذا الرجل لاختباري، رفضت فورًا، فاتحد بلنت. استدعيته إلى
إستانبول عن طريق أبي الهدى الصيادي الحلبي، الذي كان يلقى الاحترام في كل البلاد
العربية. قام بالتوسط في هذا كل من منيف باشا، حامي الأفغاني القديم، والأديب
الشاعر عبد الحق حامد. جاء جمال الدين الأفغاني إلى إستانبول، ولم أسمح له مرة
أخرى بالخروج منها).
ومما يلاحظ على هذا النص المختلق:
١- اختلاف أسلوبه غير المعهود عن أسلوب السلطان المهذب في باقي
مذكراته وخواطره، ومنافاته للأدب الراقي المشهود له به، فقد تحدث السلطان في
خاطراته عن ألد أعدائه وممن اتهمهم بقتل عمه عبدالعزيز، فلم تصدر منه كلمة نابية
بحق أحد منهم، فكيف يصف فيلسوفا حكيما وعالما مسلما مهما خالفه في الرأي بأنه مهرج
وعميل للإنجليز!
٢- وكيف يستضيف السلطان جمال الدين خمس سنين حتى توفي عنده بإسطنبول،
وكان يجلس معه بالساعات، ويسر له بأسراره، ثم يقول عنه بأنه كان يدعي المهدية،
وأنه رجل خطير، وأن الإنجليز كانوا وراءه!
٣- لم يذكر أحد قط عن جمال أنه ادعى المهدية، فكيف يدعيها في إسطنبول
وفي آخر حياته، ولا يفتري عليه هذه الفرية إلا السلطان عبدالحميد!
٤- ثم كيف يصف السلطان جمال الدين بأنه مهرج، وهو الذي شهد له أصدقاؤه
وأعداؤه من الشرقيين والغربيين بأنه حكيم، فيلسوف، سياسي، عالم، خطيب، وموقظ نهضة
الشرق! فهذا مما يزري بالسلطان نفسه لو صح!
وكيف يسمح السلطان لضيوفه كالخديوي عباس باللقاء بهذا المهرج العميل
وزيارته، والاستماع إلى خطبته في قصره!
٥- ثم -وهو أوضح دليل على تزوير هذه الفقرة وإقحامها في مذكرات
السلطان- كيف يضع جمال خطة مع الإنجليز لاختيار الشريف حسين أمير مكة خليفة على
المسلمين، بينما توفي جمال سنة ١٨٩٧م وذلك قبل عشر سنين من تولي الشريف حسين إمارة
مكة سنة ١٩٠٨م؟!
٦- ومتى اطلع السلطان على هذه الوثيقة واكتشف هذه الحقيقة؟ وهو الذي
أصدر بنفسه فرمان الشريف حسين ليكون أميرا على مكة، الذي وعده بالوقوف معه ضد
خصومه الاتحاديين! وقد عُزل السلطان عبدالحميد بعدها مباشرة وبعد خمسة أشهر فقط!
فلا يتصور أن يعثر السلطان على الوثيقة قبل تولية الشريف حسين سنة
١٩٠٨م ثم يوليه إمارة مكة! وإلا كان هو المسئول عن تنفيذ خطة بريطانيا هذه! فلم
يبق إلا أنه اطلع عليها بعد توليته وهي فترة قصيرة إذ صدر فرمان تولية الحسين في
نوفمبر ١٩٠٨، وعزل السلطان في إبريل ١٩٠٩م، فلا يتصور أنه وفي خمسة أشهر عثر على
هذه الوثيقة الخطيرة، في الوقت الذي كان السلطان فيه تحت إقامة جبرية، وكان الحكم
في هذه المدة للاتحاديين منذ العمل بالدستور في يوليو ١٩٠٨م!
كل ذلك يؤكد بأنه نص مختلق مقحم!
لقد نشرت خاطرات السلطان بعد وفاته في بعض الصحف التركية كمقالات،
يتصرف فيها الصحفيون بالتعليق والاختصار والتصرف، وتوقف نشرها، ولم تكمل، ولم تحقق
على أصل محفوظ، بل جمع ما نشر منها لاحقا ككتاب، بينما هي خواطر متفرقة مبثوثة في
الصحف كمقالات، دخلها من التعليق الصحفي والتبديل بالنص الأصلي، ما لا يؤمن معه
مثل هذا الوضع الذي يتعارض تماما مع الحقائق التاريخية القطعية في أن جمال الدين
كان في ضيافة السلطان، وكان الزعماء والعلماء يزورنه ويأتون إليه من كل مكان،
ويرون من إكرام السلطان له وإجلاله -حتى تواتر ذلك عنه- ما لا يتصور معه أن يكون
جمال مهرجا جاسوسا في نظر عبدالحميد!
وقد تعرض جمال للشائعات والأكاذيب في حياته وبعد وفاته، فلم يؤثر ذلك
في مكانته عند السلطان، حتى لو فرض أنه حدث بينهما جفوة لحدة في جمال، ويأسه من
السلطان في آخر حياته أن يقوم بما كان يقترحه عليه -لمواجهة الأخطار التي تهدد
العالم الإسلامي- فلا يصل الأمر إلى اتهام السلطان نفسه له بأنه جاسوس خطير، يخطط لتحويل
الخلافة إلى العرب، ويكون المصدر مجرد تقرير بريطاني مسرب بقصد ضرب العلاقة بين
الرجلين على فرض صحة القصة كلها!
ومما يؤكد عدم صحة هذا الخبر ما نشرته مجلة المؤيد المصرية التي
يرأسها مصطفى كامل، وهي من الصحف المؤيدة للخلافة العثمانية والجامعة الإسلامية عن
خبر مرض جمال الدين ثم وفاته، وذلك في عددها الصادر في ٥ شوال سنة ١٣١٤هـ / ٩ مارس سنة ١٨٧٩ وجاء فيه ما نصه: (علمنا
من أخبار الأستانة العلية أن صحة حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ السيد جمال الدين
الأفغاني في غاية الاعتلال شفاه الله وعافاه، وقد انقطع حضرته عن الكلام بالمرة
إثر العملية الجراحية الثانية التي عملت له أخيرا، فقطع فيها جزء من لسانه، واستأصل
الفك الأسفل. وجلالة مولانا السلطان قد كلف جملة من أطبائه الخصوصيين بعيادته
على التناوب، ويرسل للاستفسار عن صحته كل وقت رسلا، وكثيرا ما يتوجه عطوفتالو عزت
بك العابد من قبل الحضرة السلطانية لعيادته فيجد فضيلة السيد من هذه العناية
ما يخفف آلامه، لطف الله به).
ثم جاء في العدد الذي صدر في ١٠ شوال و ١٥ مارس ما نصه:
(إنا لله وإنا إليه راجعون:
نعت إلينا أخبار الأستانة العلمية المغفور له الأستاذ الفاضل
والفيلسوف الشهير السيد جمال الدين الأفغاني، توفي رحمه الله في الساعة ٧ و ١٣
دقيقة من صباح يوم الثلاثاء الماضي خامس شوال / ۹ مارس الماضي حيث كان يعوده كثير من الحاشية، والخدم الذين خصصهم له
مولانا السلطان الأعظم في منزله بيشكطاش، ولما حضرته الوفاة كان في خدمته كذلك
حضرة جورج أفندي كوتشي أحد موظفي محافظة مصر سابقا، حيث يقيم معه من مدة، وهو الذي
نعاه إلى المابين الهمايوني فصدرت الإرادة الشاهانية إلى سعادة حسن باشا ضابط
بشكطاش أن يعد جنازته، ويشيعها بالاحتفال اللائق. وبلغ الخبر جماعة من حضرات
العلماء الأعلام، فبادروا إلى منزل الفقيد كما بادر إليه كثيرون من رجال الدولة،
وبينهم سعادة سهل باشا نجل دولتلو فضل باشا العلوي، وحضرة علي بك راغب المصري من
ضباط البحرية العثمانية، وقد شيعت جنازته بالاحتفال اللائق، حيث دفنت جثته في
قرافة "شيخلر مزار لفي" أي مقبرة المشايخ، ولقد أسف جلالة السلطان عليه
شديد الأسف، كما حزن عليه أصدقاؤه، وكبار المابين الهمايوني، الذين كانوا
يعرفون فضله، ويقدرونه حق قدره، وجاء خبر وفاة الأستاذ الفقيد رحمه الله أمس
تلغرافيا على حضرة الفاضل إبراهيم أفندي اللقاني، فأبلغنا إياه، ولكن كان ذلك بعد
ما طبع أكثر الجريدة.
ثم جاءنا كتاب خصوصي من الأستانة العلية مساء أمس يفصل الخبر بما
تقدم، ولا شك أن وفاة هذا العالم العظيم محزن جميع العارفين بفضله، وما كان منفردا
به من قوة الحجة والعارضة في الكتابة والخطابة، مع التضلع الرائد من العلوم
العقلية والنقلية، وسعة الاطلاع في المعارف الحديثة، فنحن نعزي أنفسنا وكل أصدقائه
وتلامذته على وفاته ونسأل الله تعالى له الرحمة والرضوان).
وهذا نعي رسمي من الباب العالي نشرته مجلة المؤيد التي برأسها مصطفى
كامل، وكانت تحسب على السلطان عبدالحميد نفسه، وهذا هو رأي السلطان الرسمي في جمال
الدين.
وكذا نعاه الأديب اللغوي إبراهيم اليازجي في مجلة البيان أول إبريل
سنة ١٨٧٩م فقال في نعيه:
(هذا جمال الدين أمسى نازلا *** جدثا تضمن منه أي دفينِ
قدرٌ به عم البكاء على امرئ *** فقدت به الدنيا جمال الدينِ
نعت إلينا أنباء الأستانة إنسان عين الفضائل والكمال، ومجمع أشعة الحكمة
بل قطب دائرة العلوم على الإجمال، رحلة البلغاء، وقدوة العارفين، وقاضي علوم
الدنيا والدين، السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني المشهور، فرع الأرومة الزكية،
وسليل الحسب القائم من منصب السؤدد في الذروة العلية، فكان لمنعاه يوم اشتد وقعه
على القلوب والمحاجر، وطال في وصفه أنين الاقلام فأمدتها بالدمع عيون المحابر،
وكيف لا وهو خطيب الشرق الذي رن في الخافقين صدى خطابه، وإمامه الذي انبثقت أنوار
اليقين من سناء محرابه، وأستاذ علومه الذي ما فتئت الحكمة تتدقق بين فؤاده ولسانه،
وتطلع شموس البلاغة من بين خاطره وبيانه، وتجري مناهل العرفان بين أقلامه و
بنانه..
وقدم الأستانة سنة ١٨٩٢م فتلقاه السلطان بتعطفاته وإحسانه، وأجرى عليه
زرقا واسعا، وكان كثيرًا ما يدعوه، ويخلو به في أغراض سياسية ليس من شأن
هذه المجلة التعرض لها، ولا لغيرها مما اتفق له من الحوادث مدة إقامته
بالأستانة..).
وما ذكره إبراهيم اليازجي في مجلة البيان عن رعاية السلطان له،
وإكرامه، ومجالسته له ومشاورته، هو الحقيقة التاريخية التي تواترت عنه، وعرفها
القاصي والداني، والعلماء والزعماء، ولا يمكن معارضتها بأخبار شاذة لم تسمع عنه
إلا بعد وفاته!
وكذا نعته جريدة المقطم المصرية المدعومة من الإنجليز واللورد كرومر،
حيث جاء فيها في عددها بتاريخ ١٥ مارس ما نصه: (بلغنا نعي العلامة الشهير، الغني
عن الوصف والتعريف، السيد جمال الدين الأفغاني بعد صدور جانب من المقطم يوم السبت
فذكرناه في الجانب الآخر.
وما ذاع هذا النبأ في أطراف العاصمة حتى جل الخطب على كل أديب، واشتد
الأسى على كل من عرف فضل رجل طبق صيته المشارق والمغارب، وكان منارًا للحرية
والعرفان في كل مكان احتله، وتعلقت به افئدة النجباء والأذكياء في كل بلاد أقام
بها، ووقعت تعاليمه وآراؤه في نفوس الأدباء وقعًا عجيبًا، حتى إنك تراهم في كل جهة
من جهات المشرق يتحدثون في مجالسهم بمواهبه، ويتناقلون أقواله، فقدْ فقدَ الشرق به
عالما يهتدى بعلمه، وركنا يعتمد عليه، وداعيا إلى الحرية يقتدى به في الدعوة
إليها، ومقداما لا يهاب كبيرًا في المجاهرة بضميره، ولا يراعي أميرا في ما ليس من
رأيه، ولسنا ندعي في هذه العجالة إيفاءه حقا من حقوقه المتعددة في عالم الأدب
والعلم والحرية، على أنا سننشر ترجمته مفصلة في المقتطف.
وكانت وفاته رحمه الله يوم الثلاثاء في التاسع من هذا الشهر بداء
السرطان، فراح مأسوفا عليه، مبكيا من جميع تلامذته ومريديه، واحتفل بمأتمه في
الأستانة احتفالا يليق بمقامه، ومكارم الحضرة السلطانية.
فنعزي جميع أنصار الحرية،
ومحبي العلوم والفضائل عن فقده، ونسأل الله الرحمة والرضوان، ولهم طول البقاء من
بعده).
ثم عادت المقطم بتاريخ ١٨ مارس لتنشر خبرا مناقضا تماما لخبرها الأول،
ولأخبار الصحف كلها، بقصد التشهير بالباب العالي والسلطان عبدالحميد، جاء فيه: (كتب
إلينا صديق يوثق بروايته تفصيل وفاة المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، وهو يخالف
ما نشر من هذا القبيل قال: رأى الطبيب هرون صباح الثلاثاء في ٩ الجاري أن ساعة
وفاة السيد قد دنت، فقصد جرجي أفندي كونجي صديقه الأمين وأيقظه من نومه قائلا أدرك
السيد فقد حضرته منيته، وقد تركته وهو يحاضر، فأسرع جرجي أفندي إلى منزله فوجده في
حالة النزع، وليس عنده غير خادمه، فلما رآه أمسك بيده وكلما اشتدت عليه الحشرجة
حول عينيه إليه، كأنه يرتاح لوقوع عينيه على عينيه، ثم أسلم الروح في الساعة
السابعة والدقيقة ١٣ من صباح ذلك اليوم فأبلغ جرجي أفندي المابين خبر وفاته في
الحال، فجاء بعض الأطباء وشاهدوه ثم أثبتوا للمابين وفاته، فصدرت الإرادة إلى حسن
باشا ضابط بشكطاش بضبط أوراقه وسائر تركته، وحضر حسن باشا ومعه بعض البوليس وبعض
الجواسيس ودققوا في البحث والتفتيش، وضبطوا كل ما كان باقيا عنده! وفي الساعة
العاشرة مروا بدفن الجنازة في مقبرة بجهة نشان طاش اسمها "شيخلر مزار لفي"،
فأرسل جرجي أفندي إلى أصدقائه يخبرهم وفاته، فلم يحضر أحد منهم غير سهل باشا ابن
فضل باشا الملاباري وعلي قبودان راغب المصري، ثم حمله أربعة من حمالي الأستانة على
أكتافهم وسار بعض رجال البوليس حولهم يخفرونهم! ودفن كما يدفن أقل أنسان في بلاد
آل عثمان! وبقي السيد رحمه الله خمسة أشهر يقاسي ألم السرطان وعذابه وقطع السلطان
عنه راتبه منذ زمان! فاشتدت عليه الحاجة والفاقة في مرضه ورجال المابين يشيعون أن
السلطان يفيض عليه النعم ويغمره بالإحسان! هذا وا أسفاه ما يعامل به الفضلاء إذا
قضوا نحبهم في دار السعادة).
ولا يخفى ما في هذا الخبر من تدليس وتناقض بقصد التشهير بالخلافة
العثمانية كما يريد كرومر!
وقد وجدت هذه الأكاذيب رواجا بعد ذلك في ظل ثقافة الزيف الصليبية، حتى
عبر عنها أوضح تعبير لويس عوض في دراسته عن جمال بعنوان "الإيراني الغامض في
مصر"، فأعاد إنتاج صورة مشوهة للأفغاني لا تمت للواقع بأدنى صلة، وهي الصورة
التي تريد رسمها له دوائر الاستخبارات الغربية ودولها الوظيفية العربية حتى لا تقوم
لفكرة "الجامعة الإسلامية" التي طالما دعا لها قائمة بتحطيم شخصية أشهر
دعاتها وإعدامه ثقافيا!
وهذا يفسر مدى اتساع الفجوة الخطيرة ما بين ثقافة عصر الخلافة التي
كان يُنظر فيها لجمال الدين نظرة إجلال وإكبار، من عامة علماء الأمة وزعمائها -إلا
من بعض حاسديه ومخالفيه- وثقافة الزيف بعد سقوط الخلافة العثمانية، التي تعبر عن
الدول الوظيفية والحملة الصليبية التي اعتبرت رائد حركة المقاومة السيد جمال الدين
ألد أعدائها، وخطرا يهدد وجودها، فأعادت إنتاج الحكم عليه، والموقف منه فكريا
وشعبيا، خلال حرب إعلامية مسعورة مستمرة لم تقف حتى اليوم، فأصبح جمال فجأة شيعيا
ماسونيا، حتى لا يكاد يسمع به الجيل الجديد أو يقرأ له! بعد أن كان ملء السمع
والبصر، وموقظ الشرق، ورائد نهضته المعاصرة في نظر علماء الأمة وكتابها على اختلاف
مذاهبهم، وتنوع مشاربهم، كأمير البيان شكيب أرسلان الذي كان من أشد أنصار الخلافة
العثمانية وأخلص رجالها، والشيخ محمد عبده، ورشيد رضا، وابن باديس، وحسن البنا،
والعقاد، ومالك بن نبي، وعبد الرحمن الرافعي، وأحمد شاكر، وسعد زغلول، ولطفي
السيد، وجرجي زيدان، وإبراهيم اليازجي، وغيرهم!
إعجاب جمال الدين بالسلطان عبدالحميد وطاعته له:
لقد كان السلطان عبدالحميد
يسر إلى جمال الدين ما لا يسره إلى غيره ثقة به، حتى لم يكن أحد يدل على السلطان
كإدلاله عليه، لما بينهما من العهد والميثاق، والتوافق الفكري والنفسي، كما قال
كاتبه المخزومي: (أما الإكرام لجمال الدين، والاحتفاء به، والإقبال عليه، من قبل
جلالة السلطان عبد الحميد فكان عظيما، وقد أكثر من الاجتماع به إثر وصوله ساعات في
كل يوم وليلة، فلخص السيد تلك الاجتماعات، وما دار فيها من الأحاديث بقوله:
إن السلطان عبد الحميد، لو وزن مع أربعة من نوابغ رجال العصر لرجحهم
ذكاء ودهاء وسياسة، خصوصا في تسخير جليسه، ولا عجب إذا رأيناه يذلل ما يقام لملكه
من الصعاب من دول الغرب، ويخرج المناوئ له من حضرته راضيا عنه، وعن سيرته وسيره،
مقتنعا بحجته، سواء في ذلك الملك والأمير، والوزير والسفير، ولكن يا للأسف! إن عيب
الكبير كبير، والجبن من أكبر عيوب الملوك!
ثم قال: رأيت من السلطان ارتياحا لقبول كلما ذكرته له من محاسن الحكم
الدستوري، وأن الإسلام، أول من عمل به في سلطانه -أي الحكم الشوري- وذلك عملا بحكم
النص (وأمرهم شورى بينهم﴾ [الشورى: ۳۸].
قال: ورأيته يعلم دقائق الأمور السياسية ومرامي الدول الغربية، وهو
معد لكل هوة تطرأ على الملك، مخرجا وسلما.
وأعظم ما أدهشني، ما أعده من خفي الوسائل، وأمضى العوامل، كي لا تتفق
أوروبا على عمل خطير في الممالك العثمانية، ويريها عيانا محسوسا أن تجزئة السلطنة
العثمانية، لا يمكن إلا بخراب يعم الممالك الأوروبية بأسرها.
وهكذا كانت يقظته لدول البلقان الصغيرة التي أحدثتها أوروبا، أحبولة
لتضعضع بها السلطنة العثمانية، وتتذرع بها للتدخل في الشئون؛ لتقتطع من أجزاء
المملكة، جزءا بعد آخر، وكلما حاولت أوروبا أن تجمع كلمة دول البلقان، للخروج على
الدولة بحرب، كان السلطان يسارع، بدهائه العجيب لحل عقد ما ربطوه، وتفريق ما جمعوه
من كلمة وكيد).
وهذه العلاقة بين جمال الدين الأفغاني والسلطان عبدالحميد مع كونها
تنم عن ثقة مطلقة بينهما، وعن محبة وإجلال كبيرين من كل منهما للآخر، وعن أخوة
فكرية وروحية ورسالة مشتركة يؤمنان بها جميعا، وجاهدا في سبيلها معا عشرين سنة -
لتحقيق "الجامعة الإسلامية"،
وتعزيز نفوذ الخلافة العثمانية - هي كذلك علاقة مرؤس برئيسه، ينفذ له أمره،
ويسمع له ويطيع، كما حين أرسل إليه السلطان وهو في لندن سنة ١٨٩٢م يهاجم شاه إيران
في مجلة "ضياء الخافقين" يأمره بالعودة إلى إسطنبول، ثم بالكف عن التعرض
للشاه، كما قال رشيد رضا: (إلى أن طلبه السلطان عبدالحميد إلى الأستانة، وكلمه في
الكف عن الطعن في الشاه. قال [جمال]: أخبرني أفندينا [السلطان عبدالحميد] أن سفير
العجم قصده ثلاث مرات، قال فحجبته في المرتين الأوليين، ثم أذنت له، فطلب مني أن
آمرك بالكف عن التعرض للشاه بسوء، فأنا الآن أطلب منك الإعراض عن شاه العجم! فقلت
حينئذ: امتثالا لأمر خليفة العصر قد عفوت عن شاه! فقال مولانا أمير
المؤمنين حينئذ: يحق أن يخاف منك شاه العجم خوفا عظيما)
فالسلطان هنا يأمر، والأفغاني ينفذ امتثالا لأمر مولاه "خليفة العصر"،
هذا مع ما عرف عن جمال الدين واشتهر من علو الهمة، وشرف النفس والنسب، ونفوذ
الكلمة، حتى أنه (كان يخاطب الملوك والمستبدين خطاب الأقران، بل يهدد بعضهم، ويمن
على بعض، فيقول للسلطان عبدالحميد إني لأجل أمرك قد عفوت عن شاه إيران!).
وحتى بعد أن أوقفت فرنسا وبضغط بريطاني صدور مجلة "العروة
الوثقى" - سنة ١٨٨٤م حيث باتت خطرا يهدد وجود الاستعمار في كل مكان بما فيه
الاستعمار الفرنسي، إذ كانت أعدادها الأخيرة أكثر وضوحا، وأشد تصريحا، في دعوة
الأمة وشعوبها كلها إلى الثورة وجهاد الاحتلال كله - ذهب جمال الدين إلى إيران، في
مهمة أخرى، ثم نفي منها، ثم ذهب إلى لندن، وكتب مقالاته في مجلة "ضياء
الخافقين"، التي صدرت سنة ١٨٩٢م وكان خطابه فيها أيضا كخطابه في "العروة
الوثقى" في دعوته إلى تعزيز الخلافة العثمانية، وتمجيد السلطان عبدالحميد، ما
يرجح أن تكون جمعية "العروة الوثقى" وراء إصدار "ضياء
الخافقين" في لندن أو تمويلها، للغرض نفسه، حتى كأنما هي في بعض مقالاتها
الناطق الرسمي باسم السلطان عبد الحميد!
حيث جاء فيها -وبأسلوب محرر العروة الوثقى نفسه- وهي تتحدث عن التفاهم
الروسي الفرنسي تجاه الوجود البريطاني في مصر: (أما توجه المسيو جيرس إلى باريس
فهو وإن كان ظاهره يدل على أن القصد منه إحكام الولاء بين روسيا وفرنسا، وإبداء
الشكر لفرنسا على ما أظهرته من الهمة والمساعدة، إلا أننا علمنا من بعض الأخبار
الحقيقية أنه حصلت المذاكرة بشأن الأعمال التي تتخذها حكومة إنجلترا ليرسخ بها
قدمها في مصر، واستقر الرأى على فتح الكلام في المسألة المصرية بصورة جدية، حتى
إذا تيسر إخراج الإنجليز من مصر قويت كلمة فرنسا، واستظهرت روسيا على إنجلترا، وأمكن
بهذه الواسطة ضم الدولة العلية [الخلافة العثمانية] إلى الاتحاد الثنائي، فتقوى
شوكته، ويعتز جانبه، وتتحقق له الغلبة والفوز على الشق الآخر، فقد تبين أن قوة
الحزبين أصبحت متوازية متكافئة، وثبت أن الظفر والنصر لا يقتربان إلا بالحزب الذي
يتماوج بين جيوشه اللواء العثماني! وهذا هو السبب الذي اضطر جميع الدول
الأوروبية إلى المسابقة في التهافت على محبة الدولة العلية، والتزلف إليها، وحمل
رئيس هيئة الاتحاد الثلاثي وغيره من أكابر الرؤساء، وأعاظم الحكماء، وفطاحل رجال
السياسة في الكون أن يجعلوا دار السلطنة العثمانية محطا لرحالهم، وكعبة لآمالهم،
فهم يعدونها بالمنافع الجمة والفوائد العظيمة، وكل منهم يخطبها للقرب من حكومته
والاتحاد مع دولته، ولكن فات على الجميع أن جلالة السلطان عبد الحميد يعلم أن هذا
التزلف لم يكن إلا لقصد الاستظهار والاعتزاز بقوة دولته العلية، فهو لا يصغي إلى
تلك المواعيد، ولا يغتر بزخارف الأقوال؛ ولذلك لا يحيد عن جادة الحيادة، والتخلي
عن الميل والانحياز إلى جهة مخصوصة، بل يعامل الجميع على نسق واحد من المساواة في
كافة الأمور والشئون، ولا يعتمد في كل حال إلا على الحكمة وملازمة السكون حرصا على
منفعة دولته، وتأملا في العواقب وحفظا للسلم العام، ولا يتصور أن جلالته يستعين
بفرنسا على إنجلترا في حل المسألة المصرية وإخراج الإنجليز من مصر؛ لأنه خبير
بأحوال الجمهورية الفرنساوية، لا يخفى على حكمته ما يكنه ضميرها من سوء النية متى
خرج الإنجليز بواسطتها، ولا يقال إنه يغفل طرفه عن مصر، وإنما هو ينتظر في
أمرها حلول الوقت الذي يمكن جلالته من حل إشكال المسألة على وجه يوافق مصلحة
الدولة العلية.
هذه خطة السياسة المتخذة لدى الدولة العلية ولا ريب في أنها أحكم
سياسة، تضمن حسن الحال، وشرف المكانة، وجليل الفوائد في الاستقبال، وعلى هذا
يحق للدولة العثمانية أن تفتخر بوجود زمام أمورها في يد جلالة السلطان عبد الحميد
الثاني، فهو الذي أنقذها بهمته العلية وتدابيره الصائبة من وهدة السقوط، وجدد
مجدها، وأعاد عزها، ولا شك أنها ستصل في عهد خلافته العظمى إلى أعظم ما كانت عليه
في أيام أجداده الكرام، فإن الحال دليل الاستقبال).
وهذا كله يؤكد بأن نشاط الجمعية لم يتوقف بعد إغلاق مجلتها في باريس،
بل عاودت نشاطها في لندن تحت اسم آخر، وكانت العلاقات قد تبدلت في مصر، واستعاد
الاقتصاد المصري عافيته وقدرته على سداد ديون بريطانيا وفرنسا، وبدأت السلطة
تستعيد نفوذها، وبدا للخلافة العثمانية أن المحافظة على الحال الراهنة في مصر إلى
أن تستكمل قوتها حتى تخرج بريطانيا بالضغط والوسائل الدبلوماسية في الوقت المناسب،
أفضل من فتح الطريق لفرنسا وروسيا للصراع عليها، كما جاء فيها: (إن الدولة العلية
هي صاحبة الحق المقدس في مصر، ولها السيادة عليها، وإننا إذا نظرنا بعين الإنصاف
إلى الحالة الحاضرة نرى أن نفوذ الدولة لم ينقص شيئا عما كان عليه في الزمن
السالف، فإنه بعد أن افتتحها السلطان سليم كانت مصر في يد المماليك في حالة الفوضى
يعيثون فيها فسادا كيف شاءوا ولا تنال الدولة من منافعها شيئا سوى ما يتيسر للوالي
الذي يرسل في كل سنة ما جمعه من بقية ما في أيدي المماليك، إلى أن تولاها محمد علي
فمال في سياسته إلى اتباع إشارات فرنسا وقبول نصائحها، وحاولت أن تستعمل قوته
ونفوذه في نوال أغراضها من تأليف دولة عربية، فافتتح لأجل ذلك البلاد الشامية
والحجازية والسودانية، وكاد الأمر يتم وتنسلخ مصر وما والاها من حوزة الدولة
العثمانية، لولا أنه قد تأسس في سياسة الإنجليز ومنافعها منذ القديم وجوب المحافظة
على الدولة العلية، وتأييد سلطتها، فاستدرك الأمر ودفع الخطب وخرجت مصر من تلك
الحوادث مستقلة استقلالًا داخليا، وانحصرت حكومتها في عائلة محمد علي وذريته بعد
أن لم يتمكن من الاستقلال التام، لكن بقي مبدأ الاستقلال كامنا في النفس تنتظر
لأجله الفرص.
ولم تزل الولاة من بعده
يتوارثونه كابرا عن كابر دائبين في السعي للحصول عليه لحد أيام الخديو السابق
[إسماعيل]، فكان هو أشدهم تمسكا بهذا المبدأ، وأنهضهم عزيمة لقضائه، وأعظمهم تلهفا
للوصول إليه، فلم يمض يوم من أيام ولايته إلا وهو يشتغل لأجله حتى أثقل مصر بالديون
لتكاليف تجهيزاته لهذا الأمر، وخفض نفوذ الدولة [العثمانية] في مصر بما كان يرفعه
من سطوة الأجنبي، وهم مرارا أن يجاهر بما أضمره ودبره، لكن الظروف لم تساعده على
ذاك، وارتبكت عليه موارد صوره ومصادرها حتى خلع من منصبه.
هذا حال نفوذ الدولة العلية في مصر سابقا، كانت سلطتها مهددة في كل
حين بالزوال، معرضة في كل آن للاضمحلال، أما الآن فإنها أثبت قدما، وأقوى دعامة،
والكل يعترفون بها، لا يخشى عليها من انحلال وأحكام الفرامين، ولم ينقض منها حرف،
ولم تخترق لها حرمة، والسلطة الدينية والسياسية مؤيدة، ولها الآن مندوب سياسي في
مصر مطلع على ما كبر وصغر في داخلية البلاد، إذا وجد ما يخل بشأن الدولة فلا يسكت
عنه، فسلطة الدولة اليوم في مصر أحسن مما كانت عليه في السابق).
وهذا الأسلوب الكتابي هو نفسه أسلوب جمال الدين ومحمد عبده -الذي عاد
لمصر بعد إغلاق مجلة "العروة الوثقى"- واطلع على الحال التي تحسنت في
مصر خلال غيابه عنها، ورأى المصلحة حينها في الاستقرار، واستكمال النهضة الإدارية
والصناعية والزراعية والاستفادة من الوجود البريطاني، وعدم تعريض مصر للخطر مرة
أخرى وتحويلها إلى ساحة حرب بين الدول الأوربية، إلى أن تستعيد الخلافة العثمانية
صاحبة السيادة السياسية والقانونية كامل قوتها.
فظل خطاب جمال الدين -أو خطاب الجمعية- كما هو إلا أنه جعل قضيته
الرئيسة في "ضياء الخافقين" تحرير إيران من الاستبداد والاحتلال، كما
كان تحرير مصر القضية الرئيسة في "العروة الوثقى"!
وهي المهمة التي سيُنتدب لها جمال أيضا في إيران، وسيفعل فيها ما فعله
بمصر، وسيحدث فيها حركة فكرية ونهضة وثورة، تنتهي بقتل الشاه، كما انتهى عمله من
مصر بخلع الخديوي إسماعيل، كما سيأتي بيانه!
دور مجلة "العروة الوثقى" في بعث النهضة المعاصرة:
لقد كانت مجلة "العروة
الوثقى" آنذاك مع قصر مدتها وقلة أعدادها ملهمة العقل الإسلامي، وموقظته من
سباته، وباعثته بعد موته، ومفتتحة عصر نهضته الفكرية، كما عبر عن ذلك كل من تأثر
بخطابها، كما قال الشيخ رشيد رضا: (ثم إنني رأيت في محفوظات والدي بعض نسخ
الجريدة، فكان كل عدد منها كسلك من الكهرباء اتصل بي فأحدث في نفسي من الهزة
والانفعال، والحرارة و الاشتعال، ما قذف بي من طور إلى طور، ومن حال إلى حال، وقد
سبق لي وصف تأثير الجريدة في نفسي بوجه الإجمال، وإنما كان الأثر الأعظم لتلك المقالات
الاصلاحية الإسلامية، ويليه تأثير المقالات السياسية في المسألة المصرية، والذي
علمته من نفسي بالخُبر، ومن غيري بالخَبر، ومن التاريخ: أنه لم يوجد لكلام عربي في
هذا العصر، ولا في قرون قبله بعض ما كان لها من إصابة موقع الوجدان من القلب،
والإقناع من العقل، ولا حد للبلاغة إلا هذا، وكأن هذا التأثير هو الذي أوحى إلى
صديقنا الامير شكيب أرسلان قوله في مدح السيد جمال الدين الذي أفاض الله تعالى
حكمها على جنانه:
ومعان لو أوحيت لجماد *** هزه الشوق نحوها والغرام
حيرت كل ذي حصاة إلى أن *** قيل لا شك أنها إلهام
وقوله في كلام الشيخ محمد عبده الذي أبرزها بأجمل الحلي والحلل من
بيانه:
كلام إذا ألقيته في جماعة *** غدا منك مثل اللؤلؤ الرطب ينسق
عليه من النور الإلهي مسحة *** تكاد على أرجائه تتألق
كذلك كان تأثيرها في نفس كل من كان يطلع عليها، وناهيك بالمطلعين
عليها في زمن صدورها، ذلك بأنها قد تجلت فيها تلك الأفكار "الجمالية"
السامية، بتلك العبارات "العبدية" العالية، وجمعت بين الحكمة وفصل
الخطاب، والإخلاص في تحري الحق، ومخاطبة القلب للقلب، فلا غرو أن يكون لها ما علمنا
من عجيب التأثير، الذي لم يعهد له بعد ما كان من تأثير القرآن في العصر الأول
نظير، وإنما كان تأثيرها مستمدًا من تأثير القرآن، فهي قد أحيت تدبره والجهاد به،
والدعوة إليه والدعوة به، والمعاني الاجتماعية والسياسية من تفسيره، فكان قارئها
يشعر بالروح العلوي الذي كان يفيض من نوره على ذينك القمرين النيرين، وينعكس من
فلكهما على العالم الإسلامي فيحدث فيه من قوة التأثير ما كان يجزم أهل الرأي في
الأقطار المختلفة بأنه سيحدث ثورة إسلامية قريبة في العالم يعقبه انقلاب عظيم في
الشرق!
سمعت أستاذنا الشيخ حسينا الجسر عالم سورية الوحيد في الجمع بين
العلوم الإسلامية، ومعرفة حالة العصر السياسية والمدنية يقول: ما كان أحد يشك في
أن جريدة العروة الوثقى ستحدث انقلابا عظيما في العالم الإسلامي لو طال عليها
الزمان!
وسمعت محمد بك علي المؤيد يقول: كنت في بغداد في عهد صدور
"العروة الوثقى"، وكانت ترسل إلى الزعيم العربي الأكبر في العراق السيد
سلمان الكيلاني نقيب السادة الأشراف، وكان يقول: كلما جاء عدد منها يوشك أن تقع
ثورة من تأثير هذه الجريدة قبل أن يجيء العدد الذي بعد هذا).
ويكاد يجمع المؤرخون على أن "العروة الوثقى" كانت وحدها
آنذاك صوت الأمة، ونبض ضميرها، وحاديها نحو الحرية، وكان جمال هو رائدها، نفخ فيها
من روحه فأحيا منها ما كان ميتا، وأوقظ من كان نائما، وذكّر من كان ناسيا، فكان
ذلك بداية نهضتها، كما قال المؤرخ الرافعي: (ذكرى جمال الدين الأفغاني خالدة تتجدد
في النفوس كباعث نهضة الشرق، إذا ذكر الزعماء والمصلحون في الشرق كان هو رائدهم،
وكان في طليعتهم، نهض والناس نيام، فكانت دعوته أول نداء دوى في الآفاق، أهاب
بالأمم الشرقية أن تتحد وتتعاون، وتحارب الاستعمار، وتقاومه وتحذر أساليبه
ومكايده، وأن تتخلص من النظم الاستبدادية الداخلية التي درج عليها الملوك
والرؤساء، وتحرر العقول والعقائد من نزعات الجمود والركود، وتنطلق الى آفاق الحرية
والعلم، واليقظة والرقي، فكانت دعوته التي عاش عليها ومات من أجلها بداية النهضات
التي شملت أقطارا عديدة، جابها وغرس فيها أفكاره ومبادئه، وكانت مبعث الحركات
القومية التي ظهرت في أرجاء الشرق حينا بعد حين، خلال القرن التاسع عشر والقرن
العشرين.
ظل الشرق قرونا وأجيالا رازحا تحت نير الجمود الفكري والتأخر العلمي،
والاستعباد السياسي، وبقي في سبات عميق، إلى أن قيض الله له الحكيم الأفغاني جمال
الدين، فنفخ فيه روح اليقظة والحياة، وأهاب بالنفوس أن تنهض وتتحرك، وبالعقول أن
تستيقظ، وبالأمم والجماعات أن تتطلع إلى الحرية فكانت رسالته إلى الشرق مبعث نهضته
الحديثة.
وإذا أردنا أن نتبين في كلمة عامة فضل جمال الدين، ومدى الرسالة التي
أداها، فلنذكر أنه كان في حياته مصلحا دينيا، وفيلسوفا حكيما، وزعيما سياسيا، فجمع
بين الزعامات الروحية، والفكرية، والسياسية، واضطلع بهما معا، فأدى من الناحية الدينية مهمة الإصلاح والتجديد التي أدى مثلها
مارتان لوثير للمسيحية، وأهاب بالأمم الاسلامية أن تفهم الإسلام على حقيقته، وترجع
الى مبادئه الصحيحة، وفطرته الأولى، وتطهره من الأوهام والخرافات التي أفضت الى
تأخر المسلمين.
ومن الناحية الفكرية؛ أدى المهمة التي قام بها في أوروبا فلاسفة الفكر
أمثال چان چاك روسو، ومونتسكيو وغيرهما، فعمل على إنارة البصائر، وتوجيه الأفكار
إلى البحث عن الحقائق، وتحرير العقول من قيود الجمود والتفكير!
ومن الوجهة السياسية؛ استنهض الهمم، واستثار في النفوس روح العزة
والكرامة، والتطلع الى الحرية، وغرس بذور الحركات الوطنية في مختلف البلاد
الشرقية، ومحاربة الاستعمار.
وقام بمثل العمل الذي اضطلع به زعماء النهضات السياسية في الغرب،
كواشنطون، وجاريبلدي، ومازيني، وكوشت وغيرهم.
فالذي يجمع بين هذه المهام الجليلة، ويضطلع بها معا، في عهد اشتد فيه
ظلام الجهالة، وتفرقت الكلمة، وعز النصير، وتشعبت الأهواء، يجب أن يتسامي في قوة
النفس والفكر، والوجدان، إلى مراتب العبقرية..).
هذا وكل فكرة كانت في "العروة الوثقى" هي للسيد جمال الدين
ليس لمحمد عبده منها شيء، وكل عبارة هي للشيخ محمد عبده، ليس للسيد منها شيء،
فالأفكار للسيد، والبيان للشيخ، كما أخبر بذلك محمدُ عبده الأميرَ شكيب أرسلان.
وقد بدأت المجلة تصرح أكثر وأكثر عن دعوتها ومن يقف وراءها كما جاء في
مقال "إنجلترا وزلزال السودان":(كنا على يقين ولا نزال عليه، أن الذات
الشاهانية [السلطان عبدالحميد] وهي الأب الأكبر لعموم المسلمين، وهي الكافلة
للشريعة، الحافظة للدين، هي أجدر الناس بالالتفات إلى حركة الأعداء في البلاد
الإسلامية، وهي لا تألوا جهدا في تعويق سيرهم، وإحباط أعمالهم، ولا يمكن أن يطمئن
للسلطان قلب وهو يرى أن أمة عظيمة من أخلص الأمم في الولاء له والخضوع لشوكته سقطت
تحت السلطة الأجنبية، وأنه لحرج الصدر من أعمال الحكومة الإنجليزية وعدوانها على
الحقوق العثمانية والإسلامية..).
وقد دعت المجلة صراحة الخلافة العثمانية إلى استعادة أقاليمها التي
احتلتها بريطانيا، وعللت ذلك بحب المسلمين للسلطان عبدالحميد، واعترافهم بأنه صاحب
السلطة الأعلى عليهم، فجاء فيها الدعوة إلى: (أن يشتد العثمانيون ويأخذوا بالحزم
وقوة العزم في صيانة حقوقهم بأي وسيلة كانت، وربما نراه واقعا؛ فإن العقلاء منهم
لا يغفلون عن حاجة الإنجليز لمسالمتهم؛ لأن الإنجليز يحكمون على خمسين مليونا
من المسلمين، جميعهم يعترفون بحقوق السلطان، ويجيبون داعيه إذا دعا، وهم له أطوع
من الترك أنفسهم، والحذاق من العثمانيين وإن كانوا يرون أن إنجلترا لا تعامل
الدولة [العثمانية] إلا بالتهديد والإرهاب، وجعلت هذا طريقا لنيل أغراضها منها،
إلا أنهم يعلمون أن من المحال على إنجلترا أن تشهر على الدولة حربا، فإن سياسيي
بريطانيا وهم أشد الناس خبرة بدقائق الأمور فضلًا عن جلائلها، لا يخفى عليهم ما
تكنه قلوب الهنديين من محبة صاحب السلطة الإسلامية [السلطان عبدالحميد]، بل هم
على يقين بأنهم لو جهروا بالحرب للعثمانيين لتقوضت سلطتهم في الهند لأول وهلة، لا
على المسلمين خاصة ولكن يتبعهم الوثنيون، وهذا ظاهر عند كل إنجليزي وإن خفي على
بعض العثمانيين ورام ستره عن باقيهم..).
ولا يتصور أن تتصدى الجمعية والمجلة لهذا الأمر العظيم، وتتحدث باسم
السلطان، وعن سياسته دون علمه ورضاه ودعمه، وهو نفسه الذي كان يراهن على هذه
الدعوة لحماية الخلافة العثمانية وتعزيز نفوذها السياسي وتحرير العالم الإسلامي!
فالجمعية عبر مجلتها تؤمن بأن الخلافة وتعزيزها من أصول الإسلام،
وأركانه العظام، وقد جاء فيها في مقال "الوحدة الإسلامية": (الاتفاق
والتضافر على تعزيز الولاية الإسلامية [الخلافة]، من أشد أركان الديانة المحمدية،
والاعتقاد به من أوليات العقائد عند المسلمين، لا يحتاجون فيه إلى أستاذ يعلم، ولا
كتاب يثبت، ولا رسائل تنشر!
إن رعاة المسلمين فضلًا عمن علاهم تتصاعد زفراتهم، وتفيض أعينهم من
الدمع حزنا وبكاء على ما أصاب ملتهم من تفرق الآراء وتضارب الأهواء، ولولا وجود
الغواة من الأمراء، ذوي المطامع في السلطة بينهم، لاجتمع شرقيهم بغربيهم، وشماليهم
بجنوبيهم، ولبى جميعهم نداء واحدا.
إن المسلمين لا يحتاجون في صيانة حقوقهم، إلا إلى تنبه أفكارهم لمعرفة
ما به يكون الدفاع، واتفاق آرائهم على القيام به عند لزومه، وارتباط قلوبهم الناشئ
عن إحساس بما يطرأ على الملة من الأخطار).
وقد حاولت المجلة حين ذكرت الجمعية والداعمين لها -في أول عدد صدر
منها- الاقتصار على ذكر أهل الهند ومصر، حيث يوجد الاحتلال البريطاني العدو الأول
المستهدف لها، فيُتوهم لأول وهلة أن مؤسسيها هم أهل الهند ومصر، ومن حقهم الدفاع
عنهما ضد الاحتلال البريطاني، غير أنها ما لبثت أن نطقت ولمّا تكاد تفصح في العدد
السابع في شهر مايو سنة ١٨٨٤م في مقالة "القضاء والقدر" فأشارت إلى
الداعم الحقيقي دون تصريح فقالت: (فانظر إلى العثمانيين الذين نهضوا بعد تلك
الصدمات القوية -حروب التر والحروب الصليبية- وساقوا الجيوش إلى أرجاء العالم،
واتسعت لهم ميادين الفتوحات، ودوخوا البلاد، وأرغموا أنوف الملوك، ودانت لسلطانهم
الدول الإفرنجية، حتى كان السلطان العثماني يلقب بين الدول بالسلطان الأكبر! ثم
ارجع البصر تجد هزة في نفوسهم، وحركة في طباعهم أحدثها فيهم ما توعدتهم به الحوادث
الأخيرة من رداءة العاقبة، وسوء المنقلب، حركة سرت في أفكار ذوي البصيرة منهم
في أغلب الأنحاء شرقا وغربا، وتألفت من خيارهم عصبات للحق كتبت على نفسها نصرة
العدل والشرع، والسعي بغاية الجهد لبث أفكارها، وجمع الكلمة المتفرقة، وضم الأشتات
المتبددة، وجعلوا من أصغر أعمالهم نشر "جريدة عربية"، لتصل بما يكتب
فيها بين المتباعدين منهم، وتنقل إليهم بعض ما يضمره الأجانب لهم، وإنا نرى عدد
"الجمعية" الصالحة يزداد يوما بعد يوم، نسأل الله تعالى نجاح أعمالها،
وتأييد مقصدها الحق، ورجاؤنا من كرمه أن يترتب على حسن سعيها أثر مفيد للشرقيين
عموما وللمسلمين خصوصا).
فالعثمانيون على اختلاف قومياتهم دعاة "الجامعة الإسلامية"
هم من يقف وراء "جمعية العروة الوثقى"، وهم من أسس مجلتها لتخاطب أعضاءها
في كل مكان باللغة العربية لغة القرآن، ولغة جميع المسلمين، وهي أقل أعمالهم، وهم
من انتدب جمال ومحمد عبده لهذه المهمة في باريس!
ولهذا لم يستطع الشيخ محمد رشيد رضا بعد خمسين سنة نشر آخر هذا المقال
في كتابه "تاريخ الإمام" تحاشيا لمنع الرقابة الإنجليزية آنذاك في مصر،
إلا إنه صرح بما لم تصرح به "العروة الوثقى" حيث قال بعد أن ذكر أول
المقال وعنوانه وتاريخ نشره: (وختم المقالة بما ظهر من بوادر الرجاء في عودة
المسلمين إلى ما كانوا عليها عندما كانت تلك العقائد الإسلامية سليمة من مخالطة
البدع لها، وطروء الوهن والزلزال عليها، واستدل على ذلك بازدياد أنصار
"جمعية العروة الوثقى" يوما بعد يوم، وقال بعد الدعاء لها: ورجاؤنا
من كرمه أن يترتب على حسن سعيها أثر مفيد للشرقيين عموما والمسلمين خصوصًا).
فصرح رشيد رضا بأن المراد بالجمعية الصالحة -في هذا المقال- التي
أقامها العثمانيون الأتراك وغيرهم هي نفسها "جمعية العروة الوثقى"!
وهو ما ستؤكده بعد ذلك كل مقالاتها التي عبرت عن توجه الخلافة
العثمانية والسلطان عبدالحميد خاصة التي تتفق مع رؤية جمال الدين لفكرة الوحدة
والنهضة الإسلامية!
وقد أخطأ سيد خسرو المعلق على هذه العبارة في تحقيقه لخاطرات جمال
الدين ص ٢٩٩ خطأ بينًا حين قال بأن جمال الدين قصد بقوله: (الجمعية الصالحة) رجال
"تركيا الفتاة"! فلم تكن هناك
جمعية لتركيا الفتاة آنذاك سنة ١٨٨٤م، ولا كانت هناك مجلة لحركة "تركيا
الفتاة" باللغة العربية تنقل أخبار العالم الإسلامي، وتخاطب أتباعها من
خلالها، والتي يزداد عدد أتباعها يوما بعد يوم!
بل الصواب ما ذكره رشيد رضا وأن المراد "جمعية العروة
الوثقى".
أسس دعوة
مجلة "العروة الوثقى":
وقد كانت دعوة المجلة قائمة على أسس راسخة كان لها أكبر الأثر في فكر
عصر النهضة الإسلامية المعاصرة وهي:
الأساس الأول: تجديد الدين
والعودة إليه كما كان عليه النبي ﷺ والخلفاء الراشدون، قبل أن تقع الفتن وتفترق المذاهب، وأن الخلافة
وأحكامها هي من الشرع الإلهي في كلياتها وجزئياتها، حيث جاء فيها: (لأن الدين
الإسلامي لم تكن أصوله قاصرة على دعوة الخلق إلى الحق، وملاحظة أحوال النفوس من
جهة كونها روحانية مطلوبة من هذا العالم الأدنى إلى عالم أعلى، بل هي كما كانت
كافلة لهذا، جاءت وافية بوضع حدود المعاملات بين العباد، وبيان الحقوق كليها
وجزئيها، وتحديد السلطة الوازعة التي تقوم بتنفيذ المشروعات، وإقامة الحدود وتعيين
شروطها، حتى لا يكون القابض على زمامها إلا من أشد الناس خضوعا لها، ولن ينالها
بوراثة ولا امتياز في جنس أو قبيلة أو قوة بدنية وثروة مالية، وإنما تنالها
بالوقوف عند أحكام الشريعة والقدرة على تنفيذها ورضاء الأمة، فيكون وازع المسلمين
في الحقيقة شريعتهم المقدسة الإلهية التي لا تميز بين جنس وجنس، واجتماع آراء
الأمة، وليس للوازع أدنى امتياز عنهم، إلا بكونه أحرصهم على حفظ الشريعة والدفاع
عنها).
والإسلام الذي تدعو إليه المجلة هو الإسلام كما جاء في الكتاب، والسنة
الصحيحة، وما كان عليه الخلفاء الراشدون، والسلف الصالحون، قبل ظهور البدع
والمحدثات والانحرافات، حيث جاء فيها تحذيرا من عقيدة الجبر والتواكل وترك العمل
والجهاد: (فنعم الاعتقاد الذي يطهر النفوس الإنسانية من رذيلة الجبن، وهو أول عائق
للمتدنس به عن بلوغ كماله في طبقته أيًّا كانت، نعم إننا لا ننكر أن هذه العقيدة
قد خالطها في نفوس بعض العامة من المسلمين شوائب من عقيدة الجبر، وربما كان هذا
سببا في رزيئتهم ببعض المصائب التي أخذتهم بها الحوادث في الأعصر الأخيرة، ورجاؤنا
في الراسخين من علماء العصر أن يسعوا جهدهم في تخليص هذه العقيدة الشريفة [عقيدة
الإيمان بالقضاء والقدر] من بعض ما طرأ عليها من لواحق البدع، ويذكروا العامة بسنن
السلف الصالح وما كانوا يعملون، وينشروا بينهم ما أثبته أئمتنا رضي الله عنهم
كالشيخ الغزالي وأمثاله من أن التوكل والركون إلى القضاء إنما طلبه الشرع منا في
العمل، لا في البطالة والكسل، وما أمرنا الله أن نهمل فروضنا، وننبذ ما أوجب
علينا، بحجة التوكل عليه، فتلك حجة المارقين عن الدين، الحائدين عن الصراط
المستقيم، ولا يرتاب أحد من أهل الدين الإسلامي في أن الدفاع عن الملة في هذه
الأوقات صار من الفروض العينية على كل مؤمن مكلف، وليس بين المسلمين وبين الالتفات
إلى عقائدهم الحقة التي تجمع كلمتهم، وترد إليهم عزيمتهم، وتنهض غيرتهم لاسترداد
شأنهم الأول؛ إلا دعوة خير من علمائهم، وإن جميع ذلك موكول إلى ذمتهم).
موقف جمال الدين ومحمد عبده من البدع والشركيات:
وكان جمال الدين ينعي على
المسلمين ما هم عليه من محدثات تخالف التوحيد، كما روى عنه تلميذه عبدالقادر
المغربي: (فإذا ذكرت كلمة التوحيد مثلا، قال: إن الناس لو فهموا معناها لما
استعانوا إلا بالله، ولما طلبوا المدد إلا من الله. وإذا ذكر التصوف قال: أنا لا
أفهم معنى لقولهم: الفناء في الله! وإنما الفناء يكون في خلق الله، ومعنى الفناء
فيهم تعليمهم، وتنبيههم إلى وسائل سعادتهم وما فيه خيرهم).
وكان محمد عبده يرى ما يقع في المولد وثنية وعبادة للموتى، ينافي
حقيقة التوحيد، كما حكى عنه السيد رشيد قوله: (قلت له إنني مررت بطنطا فرأيت في
مسجد السيد البدوي ما لم أر مثله من الطواف بقفص القبر! وطلب الحوائج منه!
فذكر لي أن أحد وجهاء المصريين كان عنده في أثناء مولد السيدة زينب من
هذا الشهر رجب مع جماعة آخرين، فقام الوجيه وقال إنه ذاهب لزيارة السيدة.
قال: فقلت له لم خصصت الزيارة
بهذا اليوم؟ قال: لأنه يوم المولد، وأن هذه الليلة هي الليلة الكبيرة!
قلت: ما هذا المولد؟ أنا لا
أفهم معنى لهذا اللفظ؟! هل يوم المولد أو الليلة الكبيرة من لياليه عبارة عن ليلة
تخرج السيدة فيها للقاء الزائرين؟
قال: ونهيته عن الذهاب؛ فلم
ينته وهمّ بالخروج. فقلت له: إني لست مازحا وإنما أتكلم بالجد، وأقول إن هذا العمل
من أعمال الوثنيين، وإن الإسلام يأباه، كل آيات القرآن في التوحيد تنهي عن هذا
وتذمه، إن الفاتحة التي تقرؤنها كل يوم في صلاتكم مرارًا تنهاكم عن هذا العمل،
تخاطبون الله تعالى فيها بقوله: (إياك نعبد وإياك نستعين) كذبا! فإنكم تستعينون
غيره وتعبدون غيره! ثم إن عملكم هذا متناقض حيث تهدون الفاتحة إلى من تزورونه، إذ
معناه أنه محتاج إليكم، وينتفع بفاتحتكم، ثم تطلبون منه قضاء حوائجكم!).
وهذا هو السبب في اتهام جمال ومحمد عبده بالوهابية! بعد اتهامهما
بالماسونية!
كما قال السيد رشيد رضا في الذب عنهما: (ولكنني رأيت الطعن في حكيمينا
قد ضعف بعد وفاتهما، وما زال يتضاءل حتى خفي أو زال، وأما الثناء عليها، والاعتراف
لها بالإصلاح العام عن علم وإيمان، وبصيرة وإخلاص، فما زال ينمي زرعه، وبخرج شطأه،
حتى استغلظ واستوى على سوقه، وآتى أكله ضعفين، وسيكون أضعاف مضاعفة، فأجمعت كلمة
أهل العلم والرأي الذين يخدمون الإسلام وشعوبه والشرق وحضارته على أن لهما الفضل
الأول في النهضة العلمية، والدينية، والمدنية، والسياسية، بعد هذه المقدمة الوجيزة
أقول قد اشتهر عن علماء مصر أنهم كانوا يطعنون على السيد جمال الدين ثم على الشيخ
محمد عبده بعد اتصاله به، وأخذه عنه، وأشهر من روي عنه ذلك الشيخ عليش المغربي
الأصل كما تقدم.
ومن المعروف أن المغاربة أشد
تعصبًا وحدة في عصبيتهم من المشارقة، وأن المصريين من أشهر المشارقة في التسامح
وسعة الصدر. ولذلك كان جل ما قيل في الحكيمين مما يوسوس به في الآذان، ولم نجد
لأحد من أهل العلم المشهورين كتابا، ولا رسالة تتهمهما بشيء معين معروف عن أحدهما
أو كليهما مخالفًا لأصول الدين.
وأما ما كتب في الجرائد من
الطعن في الأستاذ الإمام فقد
بينا في بحث عداوة أمير البلاد له [الخديوي توفيق] وإغرائه به أنه لم يصدر عن
العلماء بل عن سفهاء الجرائد! وأنه لم يكن لشيء منه قيمة. وقد كان كله من
أسباب ارتفاع قدره، وعظم أمره، كما ذكرته في هذا التاريخ مجملا، وفي المنار
مفصلا… وبعد ذلك سمعنا ببهتان جديد، وهو أن الأستاذ ليس بمارق، ولكنه كان
وهابيا..
إن اتهام كبار المصلحين بالوهابية في بلاد العرب، وبالماسونية في بلاد
الترك، وبالبابية في بلاد العجم، وبالدهرية والمروق في بلاد الروسيا، صار أمرًا
معروفا ومشهورًا جدًا!
وإن تعجب فعجب نعت خيرة رجال
الإسلام بتلك النعوت مثل جمال الدين الأفغاني مع أنهم هم وحدهم المعروفون
بالمدافعة عن الدين الاسلامي، وهم أنفسهم المجتهدون في ترقية بنيه بتربيتهم تربية
صحيحة..
هذا وإن الذين يفترون على جمال الدين الأفغاني بالمروق والوهابية
نراهم لا يألون جهدًا برمي الشيخ محمد عبده بأكثر مما رموه به..).
وقد كانا يريان الوهابية حركة إصلاحية، ويعيبان على محمد علي حربه لها،
حتى اعترض الشيخ محمد عبده سنة ١٩٠٢م على الاحتفال بمرور مئة عام على تولي محمد
علي حكم مصر سنة ١٨٠٢م، كما ذكره رضا: (لما تم في سنة ١٣٢٠ / ۱۹۰۲م
مائة عام لتأسيس محمد علي باشا ملك مصر، وهو مفخرته ومفخرة أسرته بلا نزاع، احتفل
ديوان الأوقاف لذكراه بتزيين المساجد ومآذنها بالأنوار ولا سيما جامع القلعة، حيث
أقيم احتفال ديوان الأوقاف، وجامع الأزهر، حيث أقيم احتفال العلماء، فانتقدت ذلك
بأن المساجد بيوت العبادة الله وحده لا يصح أن تزين للاحتفال بذكرى الملوك
والأمراء المستبدين، ولا يجوز شرعًا أن ينفق في ذلك شيء من مال الأوقاف، وذكرت أن
لمحمد علي ثلاثة أعمال كبيرة كان كل منها موضع خلاف هل كان نافعًا أو ضارًا
بالمسلمين في سياستهم العامة ودينهم:
(١) تأسيس حكومة مدنية بمصر
كانت مقدمة لاحتلال الاجانب لها.
(۲) قتاله للدولة العثمانية بما أظهر به للعالم كله ولدول أوربة خاصة
ضعفها وعجزها وجرأها على التدخل في أمور سياستها، وهي السياج الآمن الأقوى
لاستقلال ملك الإسلام في وجهها، وما زالت بعد ذلك تتدحرج في مهاوي الضعف والانحطاط.
(۳) قتال الوهابية والقضاء على ما نهضوا به من الإصلاح الديني في جزيرة
العرب مهد الإسلام ومعقله.
وكانت الكتابة شديدة ترتب
عليها خوض في الجرائد، ولما رأى الأستاذ الإمام هذا في الجزء الرابع من المجلد
الخامس من المنار، كتب مقالة طويلة في مساوي حكم محمد علي في مصر ومقاصده منه،
نشرتها في الجزء الذي يليه بإمضاء مؤرخ، واتفق أن اطلع الخديو على الأول في يوم
صدور الآخر؛ فأرسل أحمد بك العريس إلى دار الأستاذ الإمام في عين شمس يبلغه شدة
استيائه مما كتبه صاحب المنار، ويقول إنه أشد عليه من كل ما يكتب من الطعن في
سموه؛ لأنه ليس لهم مفخرة غير محمد علي، وقال له إن أفندينا يقول إنه لا يستطيع
أحد إسكات صاحب المنار غيرك، وهذه خدمة لسموه ينتظرها من فضيلتكم، فأجابه الأستاذ
إن المنار جاءني اليوم فرأيت فيه مقالة في الطعن على محمد علي باشا أشد من الأولى
يظهر إن أفندينا لما يطلع عليها، وأنا سأكلم صاحبه وأرجوه بأن لا يعود إلى مثل هذا
مما يسوء أفندينا).
وقد خص جمال الدين القرآن بعناية فائقة في الدعوة إلى تدبره والعمل
به، فكان يقول: (كل مسلم مريض ودواؤه في القرآن، وما على طالب الحكمة إلا أن يتدبر
معانيه، ويعمل بأحكامه، فهل المسلمون اليوم عاملون بما جاءهم به محمد ﷺ، أو مقتدون به كما اقتدى به الأصحاب أو التابعون؟).
وهذه الدعوة إلى العودة إلى أصول الإسلام قبل وجود البدع والمحدثات في
الدين، هي صدى وامتداد لدعوة المجدد الإمام ولي الله الدهلوي في الهند -ومن بعده
الإمام محمد بن عبدالوهاب في نجد، والإمامين الصنعاني والشوكاني في اليمن- التي
عمت العالم الإسلامي، فجاءت "العروة الوثقى" فأضافت عليها من روح العصر
ما جددها وحدثها سياسيا واجتماعيا لتواكب تطور العصر، كما أدركه المؤرخون الذين
رأوا ما بين الدعوتين إلى الإصلاح والتجديد من تشابه، وما أضافته دعوة
"العروة الوثقى" إلى "الجامعة الإسلامية"، حيث: (تختلف الدعوة
إلى الجامعة الإسلامية عن الدعوة الوهابية في الاتجاه، فقد كانت تعاليم الوهابية
دينية خالصة؛ ولكن جمال الدين فلسف تعاليم
الوهابية، وركزها على أسس اجتماعية وسياسية، واتجه بها اتجاهًا دنيويًا، فيه معنى
الإصلاح الاجتماعي والسياسي، وكان جمال الدين يختلف عن السنوسي منهاجًا، فجمال
الدين انكب على السياسة وشئونها، بينما انصرف السنوسي إلى علوم الدين وترقيتها.
كما أن جمال الدين أدرك خطر السيطرة الغربية أكثر من غيره من
المصلحين، فهو يرى أن الغرب مناهض للشرق، والروح الصليبية لم تبرح كامنة في
الصدور، كما كانت في قلب بطرس الناسك، والدول الأوروبية لا تزال تنظر إلى الإسلام
نظرة الحقد والعداء والتعصب الديني الممقوت، وهي تحاول بكل الوسائل القضاء على كل
حركة يحاولها المسلمون للإصلاح والنهضة).
فقد كانت دعوته ودعوة "جمعية العروة الوثقى" إلى تجديد
الدين لا تقل أهمية وأثرا عن دعوته إلى تجديد السياسة، وقد سأله تلميذه عبد القادر
المغربي عن الحاجة إلى الحركة الدينية؟ فقال: (إن حركتنا الدينية هي كناية عن
الاهتمام بقلع ما رسخ في عقول العوام، ومعظم الخواص، من فهم بعض العقائد الدينية.
والنصوص الشرعية على غير وجهها: مثل حملهم نصوص القضاء والقدر على معنى يوجب عليهم
أن لا يتحركوا إلى طلب مجد أو تخلص من ذل!
ومثل فهمهم لبعض الأحاديث
الشريفة الدالة على فساد آخر الزمان، أو قرب انتهائه، فهما يثبط هممهم عن السعي
وراء الإصلاح والنجاح في نظير ذلك مما لا عهد للسلف الصالح به!
فلا بد إذن من بعث القرآن، وبث تعاليمه الصحيحة بين الجمهور، وشرحها
لهم على وجهها الثابت، من حيث يأخذ إلى ما فيه سعادتهم دنيا وأخرى.
ولا بد أيضًا من تهذيب علومنا، وتنقيح مكتبتنا، ووضع مصنفات فيها
قريبة المأخذ سهلة الفهم، فنستعين بتلك الكتب والعلوم التي تضمنتها على الوصول إلى
الرقى والنجاح..).
ومن هذا الباب حاول جمال الدين تقريب كتب المتكلمين وتهذيبها، وتحقيق
الصواب الموافق ما عليه الصدر الأول، كما في حاشيته على شرح الداوني على العقائد
العضدية، وهي أشهر عقائد الأشعرية المتأخرين، وقد قال عنها رشيد رضا -ونسبها لمحمد
عبده، والصحيح أنها لشيخه جمال أملاها عليهم- :(وهي غاية الغايات في علم الكلام،
وتحقيق مسائله، وتحرير الخلاف بين المتكلمين، وبيان ما هو لفظي منه، وما هو حقيقي،
وقد اهتدى في كثير من أبحاثها إلى أن الحق في العقائد هو مذهب السلف، ولكن كثيرًا
من نظريات المتكلمين وتأويلاتهم ظلت ناشبة في ذهنه زمنا طويلا، ولا يزول مثل هذا
إلا رويدا رويدا).
وقد تأثر الشيخ محمد عبده خطا شيخه جمال الدين، في الدعوة إلى الإسلام
كما كان عليه الصدر الأول، بعيدا عن جدل المتكلمين، فكان يرى كما ذكر رشيد: (بأن الإسلام -إسلام القرآن والرسول
الاعظم ﷺ في سيرته، وسنته، وسيرة خلفائه الراشدين، وعلماء الصحابة - رضي الله
عنهم - هو دين الفطرة ودين المستقبل، وأن أمم الحضارة في الغرب سيذوقون من فتن
مدنيتهم ومفاسدها السياسية ما يضطرهم إلى طلب المخرج منها فلا يجدونه إلا في
الإسلام– إسلام القرآن والسنة لا إسلام المتكلمين والفقهاء، وقد صرح بهذا في مواضع
كثيرة نقلنا عنه كثيرًا منها في التفسير وغيره.
كان رأيه في المذاهب وأئمتها عين ما يدل عليه هذان اللفظان، فالمذاهب
هي طرق الاستدلال التي سار عليه أولئك العلماء المستقلون في فهم الكتاب والسنة
وقواعدها واستنباط الأحكام من النصوص بمقتضى معاني اللغة العربية الفصحى في مفرداتها
وجملها وأساليبها وتلك القواعد، وكان يجل الأئمة المجتهدين ويرشد طلاب العلم إلى
اتباعهم في اعتصامهم بالكتاب والسنة اعتمادًا وتخلقا وأدبا وعملا واستدلالا، كما
صرح به في خطبته عند ختام درس المنطق، ويقول إنه لا معنى لاتباع المذهب إلا هذا،
وأما جعل كلام الإمام المجتهد دينًا يتعبد به، فهو ينافي دين الإسلام نفسه، ويدخل
فاعلوه فيما حذر الله منه من فعل أهل الكتاب باتباع رؤسائهم فيما يوجبون عليهم،
ويحلون لهم، ويحرمون عليهم في قوله: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله}).
وكان من أهداف "العروة الوثقى": التقريب بين طوائف
المسلمين، مع العناية بإصلاح عقائدهم باللين والرفق والحكمة، كما ذكر رشيد ما دار
بينه وبين شيخه محمد عبده في شأن البهائية وادعائهم أنهم يريدون إصلاح المذهب
الشيعي، مع إخفائهم حقيقة دعوتهم الباطنية، حتى كشف رشيد رضا له حقيقة مذهبهم: (قال
الأستاذ: أي حاجة إلى هذا البعد عن الحق والصواب وإلى هذا الكلام الذي لا
يعقل! أنا لم أفهم من عباس أفندي شيئا من هذا! وإنما صرح لي أن قيامهم لإصلاح
مذهب الشيعة، وتقريبه إلى مذهب أهل السنة، وفي الحقيقة إن مذهب الشيعة -وذكر
ما لم يأذن لي بنقله عنه في حياته، وأرى الحكمة في ترك التصريح به بعد وفاته،
وإنما أقول إن حكمه عليهم أشد من حكم شيخ الاسلام ابن تيمية- وقال: هم أحوج الفرق
إلى الإصلاح ولكن من الأسف العظيم أن لا يقوم فينا مصلحون إلا ويخرجون عن الاعتدال
إلى مبالغة وغلو لا تنجح معه الدعوة!
الوهابية قاموا بالإصلاح ومذهبهم حسن، لولا الغلو والإفراط. أي حاجة إلى قولهم بهدم قبة النبيﷺ! والقول بكفر جميع المسلمين! والعمل على إخضاعهم بالسيف وإبادتهم!
[قال رشيد: هذا ما كان مشهورًا عنهم في مصر وجميع البلاد العثمانية،
ثم علمنا من كتبهم أن الناس غلوا في الكذب عليهم لإرضاء الدولة العثمانية أكثر من
غلوهم! فهم لم يهدموا القبة المذكورة، ولا قال علماؤهم بكفر جميع المسلمين]!
نعم لا بأس بالمبالغة في
القول والخطابة، لأجل التأثير بالترغيب أو الترهيب والتنفير، لكن ما كل ما يقال
يكتب، ويبنى عليه عمل.
إنني كثيرًا ما أتكلم بكلام في مجلس المذاكرة والخطابة لا أحب أن يكتب
وينقل عني وإنما فائدته التأثير في نفس المخاطب..
قلت: إنهم [البهائية] يقولون
بصحة جميع الأديان والكتب الدينية ويدعون جميع أهل الملل إلى دينهم دعوة واحدة
لأجل الجمع وتوحيد كلية البشر به، ويستدلون عند دعوة أهل كل دين بشيء مما في
كتبهم، ولا سيما التوراة والإنجيل والقرآن، وقد ظهر لي أن طريقتهم أحكم من طريقة
الماسون! فإن هؤلاء الماسون رأوا من الحكمة أن لا يفرقوا بين الأديان في الدخول
في جمعيتهم بدعوى أنها لا تمس الأديان، وان كانت غايتها هدم جميع الاديان!
وأما البهائية فيقولون بصحة
كل دين في نفسه، ويستدلون به على دينهم الناسخ لما قبله!
قال الأستاذ: إن التقريب بين الأديان ما جاء به الدين الإسلامي وتلا
قوله تعالى: {قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} إلخ، واستغرب
استدلال القوم على قيام الباب والبهاء بالكتب السماوية. ا.ه
ولما كتبت ملخص هذا الحديث في وقته ختمته بقولي: والحاصل أن الأستاذ
يقول بضرورة الإصلاح، وبغلو المصلحين، ولولا هذا العلو من البابية لكان يحب أن
يساعدهم. أقول: ولم يكن قبل حديثي يعلم عنهم شيئا صحيحًا، والظاهر أنه لم يقرأ ما
نقلته دائرة المعارف العربية عن أستاذه السيد جمال الدين فيهم، على أن ذلك كان قبل
ظهور البهائية، بل كان غشه داهيتهم عباس أفندي بقوله إن قيامهم لم يكن إلا لمقاومة
غلو الشيعة وتقريبهم من السنة. هكذا قال عباس أفندي لشيخنا الشيخ حسين الجسر إذ لقيه
في عكا، وأنا أيضًا لم أكن أعرف حقيقة أمرهم كما ينبغي..).
دور فكر النهضة في ظهور الحركات الإسلامية:
فكانت "العروة الوثقى" حركة إصلاح وتجديد ديني وسياسي، وأصل
الحركة الإسلامية المعاصرة، كما دعا مصطفى كامل محمد عبده أن يستقيل من الإفتاء،
وينشأ مدرسة لتربية علماء الإسلام: (ويومئذ تحنى له الرؤوس تعظيما وإجلالا، ونشهد
له أمام الناس والتاريخ أنه أب "الحركة الإسلامية" المعاصرة الحديثة،
وروح الحياة الملية الجديدة).
وهو ما كان فعلا فإليه وإلى شيخه جمال الدين و"العروة
الوثقى"، ثم "المنار" تعزى كل حركات الإصلاح بعدهم في العالم
الإسلامي، فقد بعثا فيه روحا لم تكن من قبلهما، كما قال رشيد رضا عنهما: (كان
السيد جمال الدين والشيخ محمد عبده من أكبر مظاهر قول النبي ﷺ: "إن الله تعالى يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد
لها دينها"، وقد قال المحققون من العلماء في معنى الحديث إن التجديد لا يكون
لعلم واحد، ولا في عمل واحد، وإن قوله ﷺ: "من يجدد" عام يصدق بالقليل والكثير، فقد يكون في القرن
الواحد مجددون كثيرون، منهم المجدد في علم التفسير، والمجدد في الحديث، وإحياء
السنة، والمجدد في تنقيح علوم الفقه واللغة، ومنهم المجدد في الجهاد في سبيل الله
والدفاع عن الإسلام وتقوية ملكه.
وقد شرع هذان المجددان الحكيمان في مصر بنوعي التجديد السياسي
والعلمي، اللذين يشملان جميع أنواع التجديد الذي اشتدت إليها حاجة الأمة، ثم
اقتصرا على التجديد السياسي في أوربة بمساعدة جمعية "العروة الوثقى"
التي أسساها لهذا الغرض [والصحيح أنهما أسسا الجمعية بمصر للتجديد بمفهومه الشمولي
كما في مبادئها]، وأنشأآ باسمها تلك الجريدة العربية التي هزت العالم الاسلامي
كله هزًا، وكادت تدع الشرق إلى الثورة دعا، فزلزلت الدولة البريطانية زلزالا شديدًا،
وقد تقدم وصف ذلك مؤيدًا بالبراهين والشواهد.
ثم تفارقا فاشتغل كل منها بما خلق ميسرًا له، فكان رأيه تبعًا لميله
واستعداده، وكل منها ضروري لا بد منه الإصلاح والتجديد من طريق السياسة، والإصلاح
والتجديد من طريق التعليم والتربية، وإن شئت قلت تجديد الأمة بإصلاح الدولة،
وتجديد الدولة بإصلاح الأمة، لا بد من كل منها، وكل منها يفضي إلى الآخر، ولكن
الأول أدنى وأسرع، والثاني أثبت وأدوم وقد تقدم شرح عملهما المشترك).
وما ذكره الشيخ رشيد رضا عنهما هنا من الاختلاف في الرأي والافتراق في
الطريقة فيه نظر كبير وأي نظر! فقد كانت وسيلة اتخذاها لعودة محمد عبده إلى مصر،
ليكون في ميدان التغيير الذي أخرجا منه، ولا وسيلة إلا التظاهر بذلك، كما يقتضيه
العمل السري، الذي تعاهدا وأقسما عليه، كونهما أعضاء في جمعية سرية، إذ سيثبت أن
محمدا ظل عضوا فيها بعد ذلك، وليس على ما ذهب إليه السيد محمد رشيد رضا، حتى حاول
تعليل أسبابه، فقال عنهما: (كان بين الرجلين من التشابه الفطري، والتعارف الروحي،
والاستعداد العقلي، ومن التربية الصوفية، واستقلال الفكر في طلب العلم، ومن علو
الأخلاق، ما كان سببًا لاتصال كل منها بالآخر، منذ تلاقيا في خان الخليلي أول
ليلة، ذلك الاتصال الذي عرف به كل منهما قدر الآخر معرفة لم تتفق له مع غيره من كل
من عرفا من المعجبين بهما، والمستفيدين منهما.
وهذا شيء قد عرفه كل من عرفهما، وكان بينهما اختلاف في ثلاثة أشياء هن
سبب اختلافهما في مسألة السياسة التي ذكرناها في مواضع من هذا الكتاب: الأسرة،
والأمة، والحكومة، ويضاف إليها ما تقتضيه من كبر الأمل، وعلو الهمة.
نشأ السيد جمال الدين في أسرة من أشهر بيوت شرف النسب وشرف الحسب، في
عاصمة أمة عزيزة النفس، شديدة البأس [الأفغان]، لم تذل لحاكم، ولا لأجنبي، وهي
تعظم آل البيت النبوي تعظيم العبادة، في حكومة كان ذا مقام كبير في بيت إمارتها،
وركنًا من أركان الزعامة لأحد الوارثين للحكم فيها، وهو الأمير محمد أعظم خان، كما
تقدم بيانه في ترجمته.
ونشأ الشيخ محمد عبده في بيت من بيوت فلاحي مصر في قرية صغيرة، في ظل
حكومة مستبدة، تحتقر الفلاحين وتظلمهم، وقد أصاب أسرته شيء غير قليل من الظلم حتى
هاجر والده عبده خير الله من قرية محلة نصر من مديرية البحيرة إلى مديرية الغربية،
فاحتمى بآل المنشاوي، واعتزوا هم بشجاعته، حتى أن الحكومة طلبته من محمد بك، أو
مصطفى بك المنشاوي، فأنكر وجوده عنده زمنا، حتى إذا ما أتهمته الحكومة بالعبث في
مسألة القرعة العسكرية وحبسته أمكنها أن تقبض على عبده خير الله، وحبسه بتهمة
أخرى.
فلئن كان بيته أوجه بيت في قريته فهو لم يكن من بيوتات الوجاهة في
الأمة، ولا عند الحكومة: وأمته [المصرية] نفسها لم تكن لها عزة، ولا مكانة لدى
حكومتها أيضًا، وما أوتيه من عزة النفس الفطرية، كان دون ما أوتيه السيد جمال
الدين، كما كانت الوراثة والتربية المغذيتان لغريزة السيد في الأفغان، الناهضتان
به إلى الآمال الكبار الحافزتان له إلى مقاومة ظلم الأمراء والملوك وإصلاح الدول
أو إسقاطها، على الضد من الوراثة والتربية المغذيتين لغريزة الشيخ محمد عبده في
مصر.
فبهذه الأسباب الثلاثة كان استعداد السيد الحسيني الأفغاني للعمل
السياسي أقوى من استعداد الشيخ الفلاح المصري، فلما جاء السيد مصر ونفخ من روحه في
هذه الغريزة الشريفة، سار صاحبها معه في كل خطوة خطوها لقلب نظام الحكم الاستبدادي
في مصر، وإقامة نظام نيابي في مكانه، حتى إذا ما نفي السيد من مصر، قال كلمته
المشهورة: إنني تركت لهم الشيخ محمد عبده فهو يتم ما بدأت به.
ولكن الشيخ نفي بعده إلى قريته "محلة نصر" لكيلا يشتغل في
حزبهما الوطني لإتمام العمل السياسي الذي كان توفيق باشا أقسم للسيد أغلظ الأيمان
إذ كان ولي العهد على تنفيذه لبرنامجه في إنشاء الحكومة النيابية، وتعميم المعارف
أتم التنفيذ!
نفي فأطاع الأمر، وإذ لم تمكنه الحياة في الأرياف؛ عاد إلى مصر فكان
يمكث عامة نهاره في دار المرحوم رفاعة بيك يتمتع بكتبه، ويدخل القاهرة في الليل
متنكرًا، ولم يعمل عملا سياسيًا.
ثم اشتغل في وزارة رياض باشا بالإصلاح الداخلي، وتوسل بنفوذه في
المطبوعات إلى إصلاح التعليم في وزارة المعارف، ولما ظهرت بوادر الثورة العرابية؛
كان مقاوما لها وفاقا لميله الغريزي لا خوفا ولا جبنًا، حتى إذا ما استعان الخديو
توفيق باشا، بالأجانب على وطنه؛ طفق يساعد الثورة على علمه بضعف استعدادها، وعدم
أمله بنجاحها، كما تقدم شرحه ونصوص مذاكرته فيه.
ثم لما دعاه السيد بعد نفيه من مصر إلى العمل معه في جمعية
"العروة الوثقى" لتهييج العالم الإسلامي والشرق على الدولة البريطانية،
والسعي لإجلاء الجيوش البريطانية من مصر أو ترك السودان؛ أجابه، وكانت بلاغته في
إبراز أفكار السيد الثورية هي التي أثارت تلك البراكين التي وصفنا تأثيرها في
موضعه. ولما لم يفد كل هذا؛ يئس الشيخ من العمل السياسي الذي كان استعداده له
مستمدًا من روح السيد، ورجع إلى ميله الغريزي، وهو الإصلاح من طريق التربية
والتعليم.. لتحرير العقل، وإعادة هداية الدين، فكان ما كان من عمله في بيروت، ثم
في مصر.
كل هذا كان أمرًا حسنًا في نفسه، ولكنا لم نوافق أستاذنا على تخطئته
لأستاذه بالاشتغال بالسياسة، وعارضناه في أول مرة فاه فيها بتخطئته، قائلين إن
طريقة السيد أسرع من طريقتكم، وكلاهما ضروري.
كان أستاذنا يائسًا من ملوك المسلمين وامرائهم، ورؤسائهم من الباشوات،
وأمثالهم، وزاده يأسًا منهم فشل أستاذه في الإصلاح السياسي من قبلهم، مع اعترافه
له بأنه أعلى منه همة وأشد تأثيرًا، وأن روح كلامه يؤثر في كل من سمعه في كل موضوع
كلمه به؛ لهذا تمنى لو وجه هذه القوة الروحية العليا إلى بعض أولي الفطرة السليمة،
والقلوب النظيفة من الأمة، وأودع فيها ما أوتيه من الحكمة الدينية، والاجتماعية
والأدبية بذلك اللسان الجذاب الخلاب، الذي أوتي فصل الخطاب!
وجوابنا عن هذا أن أستاذنا كان أفصح من أستاذه لسانا وقلما، ولا يقل
عنه في العلم، وإنما هو دونه في قوة التأثير، وقد سلك طريق التربية والتعليم التي
يفضلها، ولكنه لقي من مقاومة أولي السلطان مثل ما لقي أستاذه منهم في طريقته
السياسية، ولم يكن تأثيره في إيقاظ الأمة وإصلاحها أقوى من تأثير أستاذه.
فثبت بهذا أن عمل كل منهما كان ضروريا لا بد منه.
لقد كانت الشعوب الإسلامية كلها مسبوتة لا تحس ولا تشعر بما يمزقها،
ويفرقها، ويعرقها، بل كان الشرق الأدنى والأوسط على اختلاف ملله ونحله في ضلالات حالكة،
لا يبصر ما يحل به، فكان السيد هو الذي نفخ فيه روح الحياة مبتدئا بالأفعان،
فالهند، فمصر، فالترك، فإيران، ولولا جهل ملوك الشرق وتصرف الأجانب في ملوكهم
وأمرائهم تصرف المالك بالمملوك، والراعي بسائمة الأنعام، لأحيا هذه الممالك كلها
حياة طيبة مباركة؛ صارت بها من الدول القوية والأمم العزيزة!).
وما ذكره السيد رضا هنا عن شيخيه تحليل دقيق بليغ أصاب أو كاد يصيب به
كبد الحقيقة، لولا أنه أغفل تماما فرضية أن يكون ذلك كله بتكليف من جمعية
"العروة الوثقى" نفسها! التي انتدبته كما انتدبت شيخه للعمل في باريس،
وإصدار المجلة، ولقاء المسئولين الفرنسيين فيها، والبريطانيين في لندن، لتحقيق
أهداف الجمعية، التي غيرت من أسلوبها بناء على تغير الظروف في مصر آنذاك، وأرادت
أن يكون الشيخ محمد عبده فيها ليتابع تحقيق أهدافها ليس من خارج السلطة، بل من
داخلها، لتعزيز نفوذ الخلافة العثمانية ونفوذ الخديوي، وهو ما تؤكده كل الأحداث
اللاحقة، فلم يجتنب الشيخ محمد عبده السياسة كلية، وإنما ركز على الإصلاح العلمي،
مع حضوره الدائم في كل مجالات الإصلاح، خاصة حين تبوأ منصب الإفتاء، ومع ذلك ظل في
صراع مع السلطة نفسها لتحقيق أهدافه، وهي أهداف الجمعية التي هو عضو فيها، وأقسم
على عدم البوح بأي شيء من أخبارها فضلا عن أسرارها، حتى لم يستطع تلميذه رشيد رضا
وهو أخص تلاميذه من معرفة شيء عنها!
الأساس الثاني: جمع كلمة الأمة بالجامعة الإسلامية
والأساس الثاني
من الأسس التي قامت عليها مجلة العروة الوثقى: جمع كلمة الأمة بالجامعة الإسلامية جمع كلمة الأمة بالجامعة الإسلامية وتعزيز الخلافة العثمانية، حيث
دعت المجلة: (مع هذا كله نقول إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة، كما جاءنا
به نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضا يزول، ولو قام
العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح
القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة، واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يخلف،
لرأيت الحق يسمو، والباطل يسفل، ولرأيت نورا يبهر الأبصار، وأعمالا تحار فيها
الأفكار، وإن الحركة التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام،
تبشرنا بأن الله قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين
جميع الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبا، فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام
بما أوجب الله عليهم، صحت لهم الأوبة، ولصحّت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله
ذو فضل على المؤمنين، فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله، كلمة
المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل
فلن تجد له وليا مرشدا}).
لقد عاش جمال الدين رجل أمة، وداعية ملة، فقد عاش وهمه بعث الأمة
بالإسلام، حتى كانت هي آخر كلماته، وهو على فراش الموت، كما: (روى الشيخ عبد
الرشيد إبرهيم الرحالة الروسي المشهور، قال: دخلت على الشيخ جمال الدين في أخريات
أيام مرضه، فأشار إلى بيده: أن ادن! فدنوت منه. وكان لا يستطيع الكلام، فأخذ قلمًا
وورقة وكتب فيها: تشهد يا الله أن كلام النبي ﷺ قبيل وفاته: "أمتي أمتي". وأنا أقول: "ملتي ملتي"!
قال وبعد نحو ساعتين رجعت إليه، وإذا يقولون توفاه الله).
ولم يقتصر دور جمال الدين ومحمد عبده وجمعية "العروة
الوثقى" على تعزيز الإيمان بالخلافة سياسيا، بل تجاوزه إلى وضع لائحة لتطوير
التعليم، بعد أن رجع محمد عبده من باريس إلى بيروت، حيث كتب سنة ١٣٠٤هـ/ ١٨٨٦م
باللائحة إلى شيخ الإسلام في إسطنبول، فجاء في تاريخ الإمام تحت عنوان "رأيه
في الدولة العثمانية والتعليم فيها" ما يلي:
(قد فصل الأستاذ الإمام رأيه في الدولة، وما يجب عليها من الإصلاح في
لائحة كتبها في بيروت سنة ١٣٠٤هـ ورفعها إلى شيخ الإسلام، وقد بين في هذه اللائحة
الخطر الذي ينذر الدولة إذا لم تبادر إلى إصلاح التعليم باستحواذ الجهل على أكثر
المسلمين، ودخول العلم عليهم من طريق الأجانب وأصحاب المطامع في البلاد، وقد قال
في مقدمتها ما نصه:
إن من له قلب من أهل الدين الاسلامي يرى أن المحافظة على الدولة
العلية العثمانية ثانية العقائد بعد الإيمان بالله ورسوله، فإنها وحدها الحافظة
لسلطان الدين، الكافلة لبقاء حوزته، وليس للدين سلطان في سواها، إنا والحمد لله على هذه العقيدة، عليها نحيا وعليها نموت.
إن للخلافة الإسلامية حصونا
وأسوارًا، وإن أحكم أسوارها ما استحكم في قلوب المؤمنين من الثقة بها، والحمية
للدفاع عنها، ولا معقد للثقة، ولا موقد للحمية في قلوب المسلمين، إلا ما أتاهم من
قبل الدين، ومن ظن أن اسم الوطن، ومصلحة البلاد، وما شاكل ذلك من الألفاظ الطنانة
يقوم مقام الدين في إنهاض الهم، وسوقها إلى الغايات المطلوبة منها، فقد ضل سواء
السبيل!
المسلمون قد تحيف الدهر نفوسهم، وأنحت الأيام على معاقد إيمانهم، ووهت
عرى يقينهم، بما غشيهم من الجهل بأصول دينهم، وقد تبع الضعف فساد في الأخلاق،
وانتكاس في الطبائع، وانحطاط في الأنفس، حتى أصبح الجمهور الأعظم أشبه بالحيوانات
الرتع، غاية همهم أن يعيشوا إلى منقطع أجالهم يأكلون ويشربون ويتناسلون، ويتنافسون
في اللذات البهيمية، وسواء عليهم بعد ذلك أكانت العزة الله ورسوله وخليفته، أو
كانت العزة لسائد عليهم من غيرهم؟
ثم ذكر تدخل الأجانب ومدارسهم وسوء تأثيرها وخطرها على الدولة أو
يتداركها أمير المؤمنين وتدركها قوته.
أما المكاتب والمدارس الإسلامية؛ فقد كانت إما خالية من التعليم الديني
جملة، وإما مشتملة على شيء قليل منه، لا يتجاوز أحكام العبادات على وجه مختصر،
وطريق صوري لا يعدو حفظ العبارات، مع الجهل بالمدلولات، ولهذا رأينا كثيرًا ممن
قرؤا العلوم في المدارس العسكرية وغيرها خلوا من الدين، وجهالا بعقائده، منكبين
على الشهوات، وسفاسف الملذات، لا يخشون الله في سر ولا جهر، ولا يراعون له حكما في
خير ولا شر، وانحط بهم ذلك إلى الكلب في الكسب، والانصباب على طلب التوسعة في
العيش، لا يلاحظون فيه حلالا أو حراما، ولا طيبًا أو خبيثًا، فإذا دعوا إلى الدفاع
عن الملة والدولة ركنوا إلى الراحة، ومالوا إلى الخيانة، وطلبوا لأنفسهم الخلاص
بأية وسيلة.
وبالجملة فإن ضعف العقيدة والجهل بالدين قد شمل المسلمين على اختلاف
طبقاتهم إلا من عصم الله، وهم قليلون؛ ولهذا نراهم يفرون من الخدمة العسكرية،
ويطلبون للتخلص منها أية حيلة، وهي من أهم الفروض الدينية المطلوبة منهم! ونرى
غيرهم من الأمم يتسابقون إلى الانتظام في سلك جنديتهم، مع أنها غير معروفة في
دينهم، بل مضادة لصريح نصوصه، ونرى المسلمين يبخلون بأموالهم إذا دعت الأحوال إلى
مساعدة الدولة، والإنفاق على مصالح الأمة..).
وهذه اللائحة دليل على مدى استفادة محمد عبده من إقامته في باريس،
وزيارته لندن، في مهام لجمعية "العروة الوثقى"، ومنها الاطلاع على مدارس
الدول الأوربية، وطرق التدريس فيها، والاستفادة من تجاربها لتحقيق النهضة في
العالم الإسلامي، ولا يبعد أن تكون هذه اللائحة التي كتبها محمد عبده بتكليف من
شيخه جمال ومن الجمعية.
وكان محمد عبده يرى بأن الخلافة هي آخر ما بقي للمسلمين، وهي آخر
حصونهم، فإذا ذهبت ذهب كل شيء، فكان يقول:(لا يوجد مسلم يريد بالدولة سوءًا، فإنها
سياج في الجملة، وإذا سقطت نبقى نحن المسلمين كاليهود! بل أقل من اليهود، فإن
اليهود عندهم شيء يخافون عليه، ويحفظون به مصالحهم، وجامعتهم وهو المال، ونحن لم
يبق عندنا شيء فقدنا كل شيء).
الأساس الثالث: الوفاء بشروط الإيمان والعمل
والأساس الثالث
من الأسس التي قامت عليها مجلة العروة الوثقى: الوفاء بشرط الإيمان بالله ورسوله، بالجهاد في سبيل الله، والمجاهدة
حق الجهاد لتحقيق الإصلاح وظهور الإسلام على الدين كله، كما وعد الله: (نعم إن دون
ابتلاء الله خلع العادات، وتحمل الصعوبات، وبذل الأموال، وبيع الأرواح، كل خطر فهو
تهلكة ينبغي البعد عنها إلا في الإيمان، فكل تهلكة فيه فهي نجاة، وكل موت في
المحاماة عن الإيمان فهو بقاء أبدي، وكل شقاء في أداء حقوق الإيمان فهو سعادة سرمدية،
المؤمن يبذل ماله فيما يقتضيه إيمانه ولا يخشى الفقر، وإن كان الشيطان يعده الفقر،
ليس في النفقة لأداء حق الإيمان تبذير ولو أتت على كل ما في أيدي المؤمنين، إن
للمؤمنين حياة وراء هذه الحياة، وإن له لذة وراء لذاتها، وإن له سعادة غير ما
يزينه الشيطان من سعادتها، هكذا يرى المؤمن إن كان الإيمان مس قلبه ولو لم يبلغ
العناية من كماله!
إن الفرار من محنة الله في الإيمان مجلبة للخزي الأبدي. إن الفرار من
صدمة جيش الضلال وإن بلغت أقصى ما يتصور موجب للشقاء السرمدي.
لا سعادة إلا بالدين، ودون
حفظ الدين تتطاير الأعناق، إن للإيمان تكاليف شاقة وفرائض صعبة الأداء إلا على
الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى، إن القيام بفرائض الإيمان محفوف بالمخاطر، مكتنف
بالمكاره، كيف لا وأول ما يوجبه الإيمان خروج الإنسان عن نفسه وماله، وشهواته،
ووضع جميع ذلك تحت أوامر ربه، لن يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون الله ورسوله أحب إليه
من نفسه. أول إحساس يلم بنفس المؤمن أنه في هذه الدنيا عابر سبيل إلى دار أخرى خير
من هذه الحياة وأبقى. وأول خطوة يخطوها المؤمن بذل روحه إذا دعاه داعي الإيمان،
ولا داعي أرفع صوتا وأبين حجة من نداء الحق على لسان أنبيائه. لا يقبل الله في
صيانة الإيمان عذرا ولا تعلة ما دامت الرجل تمشي، والعين تنظر، واليد تعمل.
إن امتحان الله للمؤمنين سنة
من سننه).
فهذه الأمة منصورة إلى يوم القيامة كما وعدها الله إن وفت بشرط الله
عليها، وأتت بأسباب النصر، كما جاء في المجلة: (يقول الله: {ولقد كتبنا في الزبور
من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء: ١٠٥]، ويقول: {ولله العزة
ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: ٨]، وقال: {وكان حقا علينا نصر المؤمنين}[الروم:
٤٧]، وقال: {ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا}[الفتح: ۲۸]. هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلا، ولا ينال هذه
الآيات بالتأويل إلا من ضل عن السبيل، ورام تحريف الكلم عن مواضعه، هذا عهده إلى
تلك الأمة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد
لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل لمجدها أمدا، ولا لعزتها حدا.
هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلى، حتى ثبتت
أقدامها على قنن الشامخات، ودكت لعظمتها عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها مرائر
الضاريات).
الأساس الرابع: الإصلاح السياسي والنهضة الحضارية بالإسلام
ورابع أسس العروة
الوثقى: الدعوة إلى
الإصلاح السياسي والنهضة الحضارية بالإسلام وحده، كما كان الخلفاء الراشدون،
وبالعلماء والمصلحين، لا بالمستغربين ودعاة التمدن والحرية الغربية، ولو التزم بها
الخليفة: (وتجافي عن الاختصاص بمزايا الفخفخة الباطلة، لأمكنه أن يجوز بسطة في
الملك، وعظمة في السلطان، وأن ينال الغاية من رفعة الشأن في الأقطار المعمورة
بأرباب هذا الدين، ولا يتجشم في ذلك أتعابا، ولا يحتاج إلى بذل النفقات، ولا تكثير
الجيوش، ولا مظاهرة الدول العظيمة، ولا مداخلة أعوان التمدن، وأنصار الحرية!
ويستغني عن كل هذا بالسير على نهج الخلفاء الراشدين، والرجوع إلى الأصول الأولى في
الديانة الإسلامية القويمة، ومن سيره هذا تنبعث القوة، وتتجدد لوازم المنعة).
وقد جعل جمال الدين الخلافة الراشدة هي النموذج للحكم الإسلامي سياسيا
وعسكريا وماليا، وعزى أسباب الفتح في عصريهما ودخول الأمم في الإسلام طواعية، إنما
هو بسبب ما أقامه من العدل المطلق، والمثل الصالحة، فيقول: (ثم إذا أخذنا ما تجمع
للخليفة الأول أبي بكر، وللخليفة الثاني عمر الفاروق رضي الله عنهم من الجيوش، وما
بعثوه من المجاهدين، وعلمنا أن مجموع الجيوش الإسلامية في العهدين لم يتجاوز
الأربعين ألفا، وقسنا ما دخل من الممالك في حوزة المسلمين ومن دان بالإسلام، من
قطر الشام، وفلسطين، فحلب، فالعراقين، فمصر، وممالك الفرس وغيرهم، إلى جدران
الصين، تبين وتحقق لنا أن عمل الجهاد بالسيف لم يكن ليذكر في جانب الدعوة بالحكمة،
والأخذ بالعدل المطلق، والمثال الحسن، والقدوة الصالحة، وما فتح من البلدان
والأمصار صلحا أكثر بكثير مما فتح عنوة وحربا).
والنهضة التي كانت تدعو إليها جمعية "العروة الوثقى"
ومجلتها هي النهضة التي تقوم على الإسلام، وتتأسس على قيمه وأحكامه، لا على الغرب
ومفاهيمه ونظمه، كما عبر عن ذلك جمال حين قال له تلميذه المغربي بأن الخلافة
العثمانية آخذت بالتمدن، ولن يمضي ثلاثون سنة حتى تنافس الدولة الأوربية في
نهضتها، (فلم يعجب السيد هذا التفاؤل المرح الذي آنسه في كلامي!
وقال: إننا معشر المسلمين إذا لم يؤسس نهوضنا وتمدننا على قواعد
ديننا، وقرآننا، فلا خير فيه، ولا يمكن التخلص من وصمة انحطاطنا، وتأخرنا إلا عن
هذا الطريق.
فقلت له: ولكن ألا ترى أيها السيد فرقًا بين حالتنا اليوم وحالتنا منذ
ثلاثين سنة من حيث الرقي والأخذ بأسباب العمران مما يصحح لنا القول بأننا قد
تقدمنا تقدمًا ملموسًا؟
فقال: إن ما نراه اليوم من حالة حسنة فينا هو عين التقهقر والانحطاط!
ولمه؟ لأننا في تمدننا هذا مقلدون للأمم الأوربية. وهو تقليد يجرنا بطبيعته إلى
الإعجاب بالأجانب، والاستكانة لهم، والرضى بساطتهم علينا، وبذلك تتحول صبغة الإسلام
التي من شأنها رفع راية السلطة والتغلب، إلى صبغة خمول وضعة واستئناس لحكم الأجنبي.
فقلت: وما هي الطريقة القويمة
التي ترى أن نسلكها شأنها لنتوصل إلى التمدن الصحيح حسب اعتقادك؟
قال: لا بد من حركة دينية..).
ولهذا كان جمال الدين يدعو إلى الاجتهاد، كما اجتهد الأئمة،
والاستنباط من القرآن والسنة الصحيحة والإجماع والقياس، ويشنع على من ينفي جوازه،
ويقول: (أي إمام قال لا ينبغي لأحد من المسلمين بعدي أن يجتهد ليتفقه بالدين؟! أو
أن يهتدي بهدي القرآن، وصحيح الحديث، أو أن يجد ويجتهد لتوسيع مفهومه منهما،
والاستنتاج بالقياس على ما ينطبق على العلوم العصرية وحاجيات الزمان وأحكامه ولا
ينافي جوهر النص؟! إن الله بعث رسولا بلسان قومه العربي ليفهمهم ما يريد إفهامهم،
وليفهموا منه ما يقوله لهم: {وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه} [إبراهيم: 4]،
وقال: {إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون} [يوسف: ٢]، وفي مكان آخر: {إنا
جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون}[الزخرف: 3].
فالقرآن ما أنزل إلا ليفهم، ولكي يعمل الإنسان بعقله لتدبر معانيه
وفهم أحكامه والمراد منها. فمن كان عالما باللسان العربي، وعاقلا، وعارفا بسيرة
السلف، وما كان من طرق الإجماع، وما كان من الأحكام مطبقا على النص مباشرة أو على
وجه القياس، وصحيح الحديث، جاز له النظر في أحكام القرآن، وتمعنها، والتدقيق فيها،
واستنباط الأحكام منها، ومن صحيح الحديث والقياس.
ولا أرتاب بأنه لو فسح في أجل أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد بن حنبل
وعاشوا إلى اليوم، لداموا مجدين مجتهدين يستنبطون لكل قضية حكما من القرآن
والحديث، وكلما زاد تعمقهم وتمعنهم، ازدادوا فهما وتدقيقا.
نعم أولئك الفحول من الأئمة، ورجال الأمة، اجتهدوا وأحسنوا جزاهم الله
عن الأمة خيرا، ولكن لا يصح أن نعتقد أنهم أحاطوا بكل أسرار القرآن، أو تمكنوا من
تدوينها في كتبهم! والحقيقة أنهم مع ما وصلنا من علمهم الباهر، وتحقيقهم
واجتهادهم، إن هو بالنسبة إلى ما حواه القرآن من العلوم، والحديث الصحيح من السنن
والتوضيح، إلا كقطرة من بحر، أو ثانية من دهر، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء من
عباده، وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون).
الأساس الخامس: تحريض الأمة وشعوبها على الجهاد ومقاومة الاحتلال وتحرير أرضها:
فقد جعلت الجمعية ومجلتها هذه القضية قضيتها المركزية، ومن ذلك
التحريض على بريطانيا والدعوة إلى الثورة عليها، وتحرير مصر والسودان والهند،
وتحرير باقي بلدان المسلمين من الاحتلال الأوربي عامة، حتى لا يكاد يخلو عدد من
أعدادها من الدعوة إلى استنقاذ مصر، كما قال جمال الدين بعد ذلك في آخر أيامه: (وعزة
الحق! إن ما كتبته عن حق مصر، وما استنهضت من الهمم، وما حذرت به من سوء المصير،
لو تلي على الأموات لتحركت أرواحهم، ولرفرفت على أجداثهم، ولأحدثت لأعدائهم أحلاما
مزعجة، ومراء مريعة، كاد أن لا يخلو سطر من "العروة الوثقى" إلا وفيه
ذكر مصر، ولا براهين وأدلة على ظلم الإنجليز إلا ويتمثل في مصر، ولا خوف من شر
مستطير يفكك أجزاء السلطنة العثمانية إلا ونراه من التهاون في أمر مصر! ذلك لأن
جرح مصر كان ولم يزل له في جسم الأمة الإسلامية والعرب عموما نغولا، وبعروقها
اتصالا).
ولهذا دعت الخلافة العثمانية
إلى المبادرة لمواجهة بريطانيا في مصر، قبل أن يستفحل أمرها، وترسخ أقدامها، ويطول
أمدها، فجاء في المجلة تحت عنوان "الباب العالي والإنجليز": (يهتم
المسلمون في كل أرض بأمر ما يجري في مصر، بل تذهب نفوسهم حسرات كلما رأوا أو سمعوا
أن جنديا أجنبيا يجول في نواحيها مقاتلًا أو حاميًا، وليس شأن مصر عندهم كغيرها من
البلاد؛ فإنها بهرة الإسلام، وباب الحرمين الشريفين، فكل نازلة بها ترزأ الدين
وتصدع من أركانه، والمسلمون في قلقهم هذا ينظرون إلى الدولة العثمانية، ويقلبون
وجوههم في سماء سلطتها الحسية والمعنوية يرجون منها عزمة ثابتة تنقذ بها الأراضي
المصرية من تبوء الأعداء، ويحفظ بها شرف المسلمين ومكانتهم بين الأمم، وتصان بها
ولاية الإسلام من السقوط في حبائل هذه الدولة الداهية دولة الإنجليز
التي أخذت على نفسها أن تبيد ولاية هذا الدين وتحول حابله على نابله، هذا
فضلا عما يراه كل مسلم من أن عزة الدولة العثمانية، وشوكتها ليست إلا بسلامة
ملكتها على مصر، فإن قضى فيها الأمر لغيرها
والعياذ بالله؛ أصبحت حقوق
العثمانيين في جميع ممالكهم معرضة للخطر..
ولا ريب في أن الإهانة التي
تمس الدولة العثمانية تنال جميع المسلمين في الشرق والغرب، فإن كل مسلم -وله الحق-
يعد هذه الدولة دولته ولو تباعدت الأقطار. إن الهنديين إلى اليوم وما بعد اليوم
يباهون بها، ويحسبون أنفسهم في عداد الأمم التي لم تذهب سلطنتها، ويعتقدون أن لهم
سلطانا قويا في الدولة العثمانية، بل يرون أن خلاصهم من قيد الرق الإنجليزي لا بد
أن يكون يوما ما بسعيها، وقد أظهرت أيام الحرب الأخيرة آثار لحمتهم معها باللحمة
الملية بما لم يبق ريبة لمرتاب في شدة صلتهم بها).
وقالت أيضا: (إن العثمانيين ينظرون إلى دولة الإنجليز كما ينظرون إلى
دولة الروس مع ملاحظة أن دولة إنجلترا تحكم على مائتين وخمسين مليونا من النفوس،
فيظنون لهذا النظر أن معارضة هذه الدولة ربما تجلب الضرر، وليتهم مدوا أنظارهم إلى
ما وراء ذلك ليتبين لهم قوتها العسكرية، وماذا يمكنها أن تسوق من الجنود إلى
ميادين القتال، ويتضح لهم أن هذه الملايين الكثيرة لا اعتداد بها في قوة دولة
إنجلترا، فإنما هي في الحقيقة قوة لأعدائها عليها، وهي [أي الملايين من المسلمين]
في ارتقاب الفرص لخلع طاعتها، فمتى ارتكبت دولة إنجلترا بالحرب مع دولة أخري رأيت
مائتين وخمسين مليونا تقاتل عساكر الإنجليز، خصوصا خمسين مليونا من المسلمين في
حكومة إنجلترا يعدون الدولة العثمانية قبلة لهم، وملاذا يلجأون إليه، وهم
[الإنجليز] أول قوم حربيين في البلاد الهندية.
ليت العثمانيين يعلمون أن دولة إنجلترا إنما تستميل المسلمين في الهند
بكونها حليفة الدولة العثمانية ونصيرة لها ومدافعة عن حقوقها!
أما والله لو علم العثمانيون
ما لهم من السلطة المعنوية على رعايا الإنجليز واستعملوا تلك السلطة استعمال
العقلاء لما تجرعوا مرارة الصبر على تحكمات الإنجليز وحيفهم في أعمالهم، وتعديهم
على حقوق السلطان في مثل المسألة المصرية التي هي في الحقيقة أهم مسألة عثمانية أو
إسلامية).
وكانت الجمعية ومجلتها تنقل أخبار الصحف الأوربية لتصل إلى المسلمين
في كل مكان، ليكونوا على بصيرة من أمرهم، وكيف يديرون حربهم مع هذه الدول التي
غزتهم واحتلت بلدانهم، كما جاء في مقال بعنوان "الباب العالي" قالت فيه:
(روت جريدة الديلي نيوز خبرا يسر كل مسلم يهمه نجاح الدولة العثمانية ويرى عزته في
عزتها، وذلك أن الباب العالي يأبى أن يرى جيشا إنجليزيا يحتل مصر، ويرغب إذا اشتد
العصيان أن يفوض الأمر إلى الخديوي الذي يتبع نصائح الدولة العلية صاحبة السلطة
الشرعية عليه، وكل شرط يرمي إلى جعل مصر تحت حماية أجنبية فليس عند الباب العالي
في موضع القبول؛ لأنه يكون تمهيدا لإضعاف سلطة السلطان على تلك البلاد، ويمكن أن
يقبل الاتفاق الفرنسي الإنجليزي في غير هذين الأمرين: الاحتلال الإنجليزي،
والحماية الأجنبية.
وورد في رسالة من مراسل جريدة نوقل بريس ليبر الفرنسية مناقشة جرت
بينه وبين أحد السياسيين الروس نقلتها جريدة التان، جاء فيها أن دولة الروس ستقاوم
دولة بريطانيا في مطامعها، وتؤيد الدولة العثمانية في مطالبها؛ رعاية لمصالحها
المرتبطة بمصالح العثمانيين في المسألة المصرية، وفي الاتفاق المنعقد بين دولتي
فرنسا وإنجلترا).
ودعت الخلافة إلى اغتنام فرصة المؤتمر الذي دعت إليه لندن بخصوص مصر،
فجاء في المجلة تحت عنوان "فرصة يجب أن لا تضيع": (نشرت الدعوات، وطلبت
الدول العظام لعقد مؤتمر في لندن بعد مفاوضات طويلة بين حكومتي فرنسا وإنجلترا،
ماذا كان المؤتمر؟ وماذا نوت الحكومة الإنجليزية بالدعوة إليه؟ وماذا كانت تقصد الدول
من وجود نوابها فيه؟ وأية غاية كان يطلبها خِرّيت [حاذق] السياسة اللورد بسمارك؟
انعقد المؤتمر ثم صار عقيما، وبقيت تلك المقاصد مكنونة في صدور أربابها، كانت
حكومة إنجلترا تطمح للاستيلاء على مصر باسم أمير مصري! وحالت دون مطمحها المصاعب
أزمانا حتى سنحت لها الفرصة المشئومة بتشويه وجه الحركة العرابية، فتيسر لها بتلك
الحركة إرضاء الدول، واستئذان الدولة العثمانية بالتداخل في توقيفها، فسهل لها
دخول مصر على نية أن لا تخرج، وهل يمج الظمآن بارد الزلال من فيه!! ظنت أنها ملكت
أرض مصر).
وقد دعت الجمعية ومجلتها خديوي مصر توفيق باشا إلى الدفاع عن سلطانه
وشعبه ووطنه، أو الموت شهيدا دون مصر، فقالت: (يتوكأ الإنجليز على توفيق باشا في
حركتهم بمصر، ويتخذونه آلة لتخريب بلاده وهدم ملكه، وما يكون من شر ينسبونه إليه،
وما عساه يوجد من خير يصلون نسبته بهم، ويردونه إلى أنفسهم، وفيما بين ذلك يبغضون
إليه الولاية الإسلامية [الخلافة العثمانية]، ويحببون إليه إغفال الأصول الدينية
[السمع والطاعة للخليفة]. وهو يميل معهم ويمدهم في مقاصدهم ويطوع البلاد لهم بما
بقي له من السلطة الصورية كما يتظاهر بالتدين والمحافظة على الصلوات! فإن كان
باطنه يطابق ظاهره، وكان معتقدا بدين الإسلام، فعليه أن يتنحى عن الأمر ويترك
الملك لمن يستطيع إنقاذه مما هو فيه فتبرأ ذمته من العار الذي يلحقه ويلحق بيت
محمد علي من تصرفه، فإن لم يكن هذا فعليه أن يجهر بعقيدته، ويقاوم الإنجليز بما في
جهده، ويموت شهيدا في سبيل دينه ووطنه، وإلا فليس يغني عنه من الله شيئا أن يظهر
عند أهل خاصته وحاشيته أنه ناقم على الإنجليز كاره لوجودهم في بلاد مصر ويود لو
يخرجون كما أنبأتنا به الأخبار الخصوصية من القطر المصري. إذا تمادى توفيق باشا في
سيره الملتوي فعلى المصريين أن لا يقعوا صيدا في يد الإنجليز بهذه الحبالة البالية
وهذا الفخ الواهن، ولينظروا في شئونهم وما توجه عليهم فروض دينهم، وإلا فما الله
بغافل عنهم).
وكذا وقفت جمعية العروة الوثقى ومجلتها مع ثورة المهدي في السودان:
وقد دعت المجلة الأمة إلى الوقوف مع السيد محمد بن أحمد المهدي في
ثورته وقتاله لبريطانيا، للحيلولة دونها احتلالها السودان بعد أن احتلت مصر وقضت
على ثورة أحمد عرابي، وقد وقف السلطان عبدالحميد مع ثورة المهدي في بدايتها، كما
وقف مع ثورة أحمد عرابي، وكانت العروة الوثقى صوت المهدي، مع رفضها دعوى المهدية،
فقد وقفت مع ثورته الشعبية، فجاء في مقال (إنجلترا وزلزال السودان): (نقلت الجرائد
الإنجليزية: أن الألسن تلهج في مدينة دونقلا وفيما بين الجيوش الإنجليزية بقدوم
جيش محمد أحمد، والحديث مستفيض في جميع المعسكرات بأنه زاحف إليهم بجيشين أحدهما
يأتي من الصحراء والآخر على شطوط النيل، وأنهم لا بد أن يلاقوا منه صدمة شديدة لا
قبل لهم باحتمالها، وقد استولى بذلك الاضطراب والتشويش على أفكار العساكر خصوصا
عساكر مدير دونقلا خوفا وفزعا. ولكن لما أيقنوا به واطمأنوا إليه من أن السلطان
راض عن أعمال محمد أحمد بل صدرت منه التنبيهات إلى جميع المؤمنين في تلك الأطراف
بأن يتجنبوا محاربة هذا القائم وأن يعتبروا الإنجليز في منزلة العدو الألد
ويقاوموهم مقاومة الآيسين. ا.هـ.
كنا نعلم أن جميع المسلمين وعموم الوطنيين يرون من فروض ذمتهم السعي
في معاكسة سير الإنجليز، وإقامة الموانع في طريقهم بقدر الطاقة والإمكان قياما بما
يوجبه الدين والوطن ولا يحتاجون في الانبعاث لهذا العمل الشريف إلى أمر سلطاني،
فإن الشريعة الإلهية والنواميس الطبيعية في كل ملة وكل قطر من أقطار الأرض تطالب
كل شخص بصيانة وطنه، والذود عن حوزته، وتبيح الموت دونه بل توجبه في مدافعة
الباغين عليه، وتدعو كل ذي عقل لأخذ الحذر من حيل المحتالين..).
كما حذرت المجلة من الخدعة البريطانية لإنقاذ القائد جوردن الذي حاصره
المهدي في السودان، فأرادت بريطانيا من الخلافة العثمانية بحكم ولايتها الشرعية
على السودان أن ترسل بجيش للقضاء على المهدي، فحذرت المجلة من خطورة هذه الخطوة، فقالت
تحت عنوان "خديعة جديدة": (أقبل الإنجليز أيام الحركة السابقة على بعض
المصريين وزخرفوا لهم الأماني وزينوا لهم المواعيد، حتى استعملوها لتذليل المصاعب
بين أيديهم، لدخول مصر والاستقرار فيها بعساكرهم، وتم لهم ما أرادوا، ثم قلبوا لهم
ظهر المجن تحت أستار الحجج والتعللات، وقبضوا على زمام الحكومة المصرية يصرفونها
كيف يشاءون! ولما أرادت الدولة العثمانية بما لها من الحق القانوني على تلك البلاد
أن تتولى حل المسألة التي كان يعبر عنها بالعسكرية، وأن ترسل بعض جيوشها لإقرار
الراحة في بلادها طبقا لرغبة رعاياها؛ مانعها الإنجليز وكفوا يدها عن العمل
وسبقوها إليه بدون حق شرعي ولا أصل سياسي ولا رغبة عامة من أهالي القطر المصري،
واليوم عند اشتداد الخطب على الجنرال چوردون الإنجليزي وعجز حكومته عن إنقاذه،
وتوقيف حركة محمد أحمد [المهدي] ألجأتهم الضرورة إلى الرجوع لما نبهنا عليه مرارًا
من أن هذه الفتن لا يطفئ شعلتها رذاذ السياسة الإنجليزية، تمنوا لو تتداخل الدولة
العثمانية ببعض عساكرها في السودان لتنقذ الجنرال چوردون وتأخذ بناصية محمد أحمد
وتبدد شمل أحزابه، هكذا رأى الجنرال في هذه الأيام أن أنجع الوسائل لحل المشكلات
تحسين جيش عثماني وسوقه إلى تلك الأقطار، فكتب إلى صديقه صامويل بيكر يرغب إليه أن
يتقدم لأرباب الثروة في إنجلترا وأمريكا ويحملهم على بذل مائتي ألف جنيه ليعرضوها
على السلطان العثماني حتى ينفقها على ألفين أو ثلاثة آلاف من العساكر التركية،
ويسيرها إلى نواحي بربر وشندي، ويكون بهذا إنهاء المسألة السودانية وهدم سلطة محمد
أحمد، وقال إنه مما يعود نفعه على السلطان أيضا!
يريد الجنرال أن يخدع العثمانيين بتمثيل منافعهم، كما خدع أمثاله بعض
المصريين وحاشاهم أن ينخدعوا لمثل هذه التخيلات الوهمية، ومن العار عليهم أن
يقبلوا ما يتكففه الجنرال چوردون من صدقات أهل الثروة في بلاده للنفقة على
عساكرهم، وأشد العار أن يذهبوا بجيوشهم لتدويخ بلادهم وإخضاعها لسلطة الإنجليز
والعساكر الإنجليزية حالة بحصون مصر، نعم لو أذعن الإنجليز بما للدولة العثمانية من الحق وتركوا لها
بلادها وفوضوا إليها إعادة الراحة فيها وإهماد فتنة السودان، فلا تخال الدولة
تتأخر عن القيام بما يفوض إليها بل هو ما تتمناه وتسعى إليه، ولعل الحوادث تلجئ
دولة بريطانيا إلى مثل ما لجأ إليه چوردون فتسلم الأمر لمالكه، ما ذلك على الله
بعزيز).
وكانت المجلة تضرب بالأفغان
المثل في جهادهم وثباتهم، وتحض المصريين على الاقتداء بهم، كما قالت: (هذه قبائل
الأفغان عندما انحلت ثقتها بأميرها، وصار الأمر إلى الأمة قامت كل عشيرة، بل كل
فرد للدفاع عن نفسه، بعدما تمكنت عساكر الإنجليز في قلاعهم وحصونهم، واستولت على
قاعدة ملكهم، وفتكوا بالعساكر الإنجليزية وهزموا قواتها وأجلوها عن بلادهم، وهي
ستون ألقا من الجيوش المنتظمة، المسلحة بأحدث الأسلحة، واضطر الإنجليز أن يتركوا
تلك البلاد لأهلها).
وقالت: (دخلت الحكومة الإنجليزية أرض الأفغان بستين ألف عسكري،
واستولت على المدن وكاد قدمها يرسخ في البلاد، فلما قام الأهالي من كل صقع،
والتحمت المقاتل في جميع أنحاء أفغانستان، عجز الستون ألفا عن الوقوف موقف الدفاع،
واضطرت حكومة إنجلترا بعد تسلطها سنتين، وبعد صرف ثلاثين مليون جنيه إسترليني أن
تطلب الأمير عبدالرحمن خان من روسيا بعدما أقام عند الروسيين اثني عشرة سنة معززا
مكرما، وأن تقدم له أربعة ملايين من الجنيهات لينفقها في إدارة بلاده وتركت له
البلاد وولت.
حكومة الإنجليز إنما تخضع للضرورة، وللضرورة أحكام، فعلى قبائل العرب
في مصر وشمائخها [ومشائخها]، أن يتذكروا شهامتهم العربية، وحميتهم الدينية،
ويقتدوا بالأفغانيين لينقذوا بلادهم من أيدي أعدائهم الأجانب الذين لو تمكنوا في
البلاد لمحقوهم وأذلوهم، وليس من الفتنة أن ندعوهم إلى طلب الحقوق والدفاع عن
الدين والوطن..
وعلى المصريين عموما
والفلاحين خصوصا أن يجمعوا أمرهم على أن يمنعوا الحكومة كل ما تطلب منهم، وأن
يرفعوا أصواتهم بنداء واحد قائلين لا نطيع إلا حاكما وطنيا مسلما نافذ الكلمة حازم
الرأي قادرا على إدارة البلاد بقوة وطنية، وليستصرخوا في ذلك، جميع الدول ويبرهنوا
على قدرتهم، ويقيموا الأدلة على أن مصلحة الدائنين، لا يمكن حفظها إلا بإجابة
طلبهم، فإن فعلوا هذا وجدوا لهم من الدول أنصارا، بل ومن الجنس الإنجليزي نفسه!!
على الدولة العثمانية أن تتذكر أنه لولا فرمانها بعصيان عرابي لما سهل
للإنجليز أن يدخلوا أرض مصر، ولا أصابوا هذه الغنيمة باردة، فلتنظر إلى قوتها
ونفوذها، وتلاحظ أن الحل على من عقد، والعقد على من حل. ولا تنس أن مصر حبكة
الممالك العثمانية كما بينا مرارا، ولا تغفل من النمسا وشرهها، وروسيا وطمعها،
وفرنسا وآمالها..
لو تحرك العثمانيين لرأوا عونا من جميع المسلمين خصوصا وقد حصلت كدورة
بين إمارة الأفغان وحكومة الإنجليز.
بل نكرر ما قلناه مرارا من أن
نفوذ العثمانيين في الهند يمنع الإنجليز من الجهر بعداوتهم البتة. فهذه فرصة
الإقدام فإن ولت الفرصة فربما يصعب التلافي، ولا يبقى إلا الندم، حيث لا ينفع
الندم، وفق الله الدولة العثمانية إلى ما فيه خيرها وخير المسلمين، وبصرها بالرشد
وكفاها شرور المفسدين).
وكذلك حرضت الجمعية ومجلتها الخلافة العثمانية على الاصطدام بالمحتل
البريطاني، وتحرير أقاليمها التي أخذتها منها في شمال أفريقيا والسودان والصومال،
حتى لا يكاد يخلو عدد من أعدادها من هذا التحريض، ومن ذلك قولها: (نعم هذا وقت
يتسنى للدولة العثمانية أن تتفق مع سائر الدول لصون مصالحها، ولا يخطر ببال عثماني
أن ينال خيرا بالاتفاق مع الإنجليز، إن حكومة بريطانيا ما عاهدت عهدا إلا ونقضته،
بعدما جنت ثمرته، فربحها في العهود خاص بها، لا يشركها فيه غيرها، لم يخف على
الدولة العثمانية أن الإنجليز تصرفوا في الأراضي المصرية تصرف المالكين بلا
مشورتها، وهبوا قسما عظيما من السودان الشرقي للحبشة! وأثاروا حربا صليبية بين
الحبشيين ومسلمي السودان، نزعوا إلى الاستيلاء على زيلع، وهرر، وبربر، هل كان شيء
من هذا بإذن الباب العالي؟ فعلى أي وجه تثق الدولة بإنجلترا، بعدما جربت من غدرها
ما جربت ورأت من عدوانها ما رأت؟ لو تساهلت الدولة مع الإنجليز في مسألة مصر
فسنسمع عن قريب بأمور في الحجاز، وسوريا، واليمن، وبغداد، وكلها من دسائس
الإنجليز، أما لو أقدم العثمانيون بعزيمة ثابتة وأقبلوا على شأنهم في مصر، مع
هيجان الأفغانيين وانفراد إنجلترا عن سائر الدول، لوجدوا لهم أنصارا من جميع
المسلمين في الشرق، ومن المصريين والسودانيين، ولأرغموا الإنجليز، واسترجعوا ما
فقدوه من، واسترجعوا ما فقدوه من المكانة أيام حرب روسيا، ولأعادوا عزتهم الأولى.
هكذا ينبغي أن يساق الجيش العثماني لصدمة الإنجليز لا لخدمتهم! فإن لم
تفعل الدولة العثمانية، فعلى الدنيا العفا وعلى الإسلام السلام!!
وليعلم المصريون من الفلاحين والعرب أن الإنجليز لا يقصدون إلا
استعبادهم، واستخدامهم كما يستخدم الأرقاء، وأول نير للذل يوضع على أعناق أمرائهم
[الخديوي فاروق]، فعليهم ألا يكونوا آلة في تمكين العدو من رقابهم، وأن لا يكون
بعضهم فخا لصيد باقيهم، لعمر الله إنا لفي عجب من الذين يحفظون القلاع في السودان
[مع بريطانيا]، ومن المصريين الذين يحفظون لمقاتلة السودانيين، هل يعلمون أي أمة
يخدمون؟! بلى إن حامية كسلا حافظت عليها حتى تسلمها للحبشة، وإن حماة القلاع في
السودان يحفظونها حتى يسلموها لقواد الإنجليز إن استطاعوا، نعم كنا نحب أن نرى هذه
الشهامة من العساكر المصرية [حين دخلت السودان للقتال مع بريطانيا]، لكن إذا لم
يكونوا في تصرف دولة أجنبية، أما اليوم فثباتهم هو العار بعينه، والله لا أظن شخصا
في قلبه ذرة من الإيمان تسمح له نفسه بهذا العمل، فإن لم يسعوا في إخراج عدوهم من
ديارهم، والظن بهم أن يسعوا، فلا أقل أن يكفوا عن مساعدته في تملكها. ألا يعلم
المصريون أن حركة خفيفة منهم في معارضة الإنجليز في هذا الوقت تجلب تدخل الدول
وتكون سببا لإنقاذهم من هذا العدو الذي لا يكتفي بأكل لحومهم حتى يهشم من عظامهم؟
فليعلموا ذلك وليعملوا، والله لا يضيع أجر العاملين).
وحين أرادت بريطانيا منع الحج من مصر والهند حتى لا تصل أخبار ثورة
المهدي في السودان للحجاج وتصل إلى كل المسلمين؛ دعت الجمعية والمجلة الخلافة
للمبادرة واغتنام الفرصة، فقالت: (تريد دولة إنجلترا أن تصد المسلمين عن حج بيت
الله الحرام في هذا العام، وربما فيما بعده حتى لا تصل أخبار محمد أحمد وتورط
الإنجليز في مقاومته إلى مسامع الهنديين، ولكن سيحمل هذه الأخبار إلى تلك الأقطار
حجاج الأفغانيين والبلوشيين الذين يسلكون إلى الحج طريق البصرة والكويت، بل
يبلغونها على وجه أبلغ مما لو سمعوها بآذانهم.
هذا تأييد إلهي للدولة العثمانية فعليها أن تنهض بعزيمة صادقة وجأش
ثابت وهمة تليق بمكانتها في القلوب، وعلى السلطان العثماني أن يتذكر أنه خلف
لأولئك الأسلاف العظام الذين ما أضاعوا حقا، ولا أهملوا فرضا، ويقتضي من الإنجليز
حقه، ويسترد مصر من أيديهم، ويطهرها من جراثيم الفساد، ولا يقنع بما دون الحق، ولا
يدع لهم فيها شأنا إلا بما يساوون فيه غيرهم من الدول، ولا تفوتن العثمانيين فرصة
هذا الارتباك الذي سقط فيه الإنجليز كما فات الإيرانيين الانتفاع بثورة الهند في
الأيام الماضية لتأخر خبر الثورة عنهم وإلا لكانوا أوقعوا بالإنجليز، ونالوا
الغاية من ضرهم، على العثمانيين أن يتلافوا الأمر قبل أن يشب الإنجليز حربا صليبية
بين الحبش والمسلمين على نفقة الحكومة المصرية، ليس للدولة العثمانية أن تتهاون في
مطالبها، أو تتحاشى الدفاع عن حقوقها الثابتة، ولا أن تخشى في ذلك تهويل الإنجليز
وجلبتهم، فإن كثيرا من الدول على اختلاف مقاصدها السياسية يوافقونها على تخليص مصر
من مخالب الإنجليز كما دلت عليه منشورات الجرائد ورواياتها عن مقاصد السياسيين من
كل دولة..).
وقد كانت جمعية العروة الوثقى ومجلتها تؤمن بأن هذا الدين قائم على
الجهاد في سبيل الله وطلب الغلب، وفتح الأرض؛ لإقامة الحق، كما قال: (الديانة
الإسلامية وضع أساسها على طلب الغلب، والشوكة، والافتتاح، والعزة، ورفض كل قانون
يخالف شريعتها، ونبذ كل سلطة لا يكون القائم بها صاحب الولاية على تنفيذ أحكامها،
فالناظر في أصول هذه الديانة ومن يقرأ سورة من كتابها المنزل يحكم حكما لا ريب فيه
بأن المعتقدين بها لا بد أن يكونوا أول ملة حربية في العالم، وأن يسبقوا جميع
الملل إلى اختراع الآلات القاتلة، وإتقان العلوم العسكرية، والتبحر فيما يلزمها من
الفنون كالطبيعة والكيمياء وجر الأثقال والهندسة وغيرها، ومن تأمل في آية {وأعدوا
لهم ما استطعتم من قوة} [الأنفال: ٦٠]، أيقن أن من صبغ بهذا الدين فقد صبغ بحب
الغلبة، وطلب كل وسيلة إلى ما يسهل له سبيلها، والسعي إليها بقدر الطاقة البشرية،
فضلًا عن الاعتصام بالمنعة، والامتناع من تغلب غيره عليه).
ولذلك كله ترى "العروة الوثقى" أنه يحرم تحريما قطعيا على
الأمة مسالمة عدوها، أو ترك بلد من بلدانها يستولي عليه، إذ يجب عليهم جميعا
القيام بواجب النصرة: (المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله
بالمحافظة على ما يدخل في ولايتهم من البلدان. وكلهم مأمور بذلك لا فرق بين قريبهم
وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه، وهو فرض عين على كل واحد
منهم إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم كان على الجميع أعظم الآثام، ومن فروضهم في
سبيل الحماية وحفظ الولاية، بذل الأموال والأرواح وركوب كل صعب، واقتحام كل خطب،
ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم في حال من الأحوال ينالوا الولاية خاصة لهم
من دون غيرهم، وبالغت الشريعة في طلب السيادة منهم على من يخالفهم إلى حد لو عجز
المسلم عن التملص من سلطة غيره، لوجبت عليه الهجرة من دار حربه، وهذه قواعد مثبتة
في الشريعة الإسلامية يعرفها أهل الحق، ولا يغير منها تأويلات أهل الأهواء وأعوان
الشهوات في كل زمان).
وقد نعت المجلة على المسلمين في بلوشستان تخليهم عن نصرة الأفغان،
وتخلي الأفغان عن نصرة إخوانهم في إيران، والعدو يجوس خلال ديارهم، ويحتل أرضهم،
ويسلب السيادة منهم: (المسلمون يحس كل واحد منهم بهاتف يهتف من بين جنبيه يذكره
بما تطالبه به الشريعة، وما يفرض عليه الإيمان، وهو هاتف الحق الذي بقي له من
إلهامات دينه، ومع كل هذا نرى أهل هذا الدين في هذه الأيام بعضهم في غفلة عما يلم
بالبعض الآخر، ولا يألمون لما يألم له بعضهم فأهل بلوچستان كانوا يرون حركات
الإنجليز في أفغانستان على مواقع أنظارهم، ولا يجيش لهم جأش، ولم تكن لهم نعرة على
إخوانهم، والأفغانيون كانوا يشهدون تداخل الإنجليز في بلاد فارس ولا يضجرون ولا
يتململون، وإن جنود الإنجليز تضرب في الأراضي المصرية ذهابا وإيابا وتقتل وتفتك،
ولا ترى نجدة في نفوس إخوانهم المشرفين على مجاري دمائهم، بل السامعين لخريرها من
حلاقيمهم، الذين أحمرت أحداقهم من مشاهدها بين أيديهم وتحت أرجلهم وعن شمائلهم!).
وقد أخذت المجلة على عاتقها التحذير من الوطنية والقومية التي روجتها
فرنسا وبريطانيا والمحافل الماسونية في العالم الإسلامي كله بديلا عن العصبية
الإسلامية، ووصمت كل من يروجها بالزندقة، كما جاء فيها: (نعم إن الإفرنج تأكد
لديهم أن أقوى رابطة بين المسلمين إنما هي في الرابطة الدينية، وأدركوا أن قوتهم
لا تكون إلا بالعصبية الاعتقادية، ولأولئك الإفرنج مطامع في ديار المسلمين
وأوطانهم، فتوجهت عنايتهم إلى بث هذه الأفكار الساقطة بين أرباب الديانة
الإسلامية، وزينوا لهم هجر هذه الصلة المقدسة وفصم حبالها، لينقضوا بذلك بناء
الملة الإسلامية، ويمزقوها شيعا وأحزابا، فإنهم علموا كما علمنا، وعلم العقلاء
أجمعون أن المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلا في دينهم واعتقادهم، وتسنى للمفسدين
نجاح في بعض الأقطار الإسلامية، وتبعهم بعض الغفل من المسلمين جهلًا وتقليدا
فساعدوهم على التنفير من العصبية الدينية بعدما فقدوها ولم يستبدلوا بها رابطة
الجنس التي يبالغون في تعظيمها واحترامها حمقا منهم وسفاهة، فمثلهم كمثل من هدم
بيته قبل إن يهيئ لنفسه مسكنا سواه، فاضطر للإقامة بالعراء معرضًا لفواعل الجو وما
تصول به على حياته.
ومن هذا ما سلك الإنجليز في الهند لما أحسوا بالعراء بخيال السلطنة
يطوف على أفكار المسلمين منهم لقرب عهدها بهم وفي دينهم ما يبعثهم على الحركة إلى
استرداد ما سلب منهم، وأرشدهم البحث في طبائع الملل إلى أن حياة المسلمين قائمة
على الوصلة الدينية، وما دام الاعتقاد المحمدي والعصبة الملية سائدة فيهم فلا تؤمن
بعثتهم إلى طلب حقوقهم، فاستهووا طائفة ممن يتسمون بسمة الإسلام، ويلبسون لباس
المسلمين، وفي صدورهم غل ونفاق وفي قلوبهم زيغ وزندقة، وهم المعروفون في البلاد
الهندية بالنيجرية أي الدهريين؛ فاتخذهم
الإنجليز أعوانا لهم على فساد عقائد المسلمين، وتوهين علائق التعصب الديني ليطفئوا
بذلك نار حميتهم ويخمدوا ثائرة غيرتهم، ويبددوا جمعهم، ويمزقوا شملهم، وساعدوا تلك
الطائفة على إنشاء مدرسة كبيرة في (عليكر) ونشر جريدة لبث هذه الأباطيل بين
الهنديين حتى يعم الضعف في العقائد، وترث أطناب الصلات بين المسلمين؛ فيستريح
الإنجليز في التسلط عليهم، وتطمئن قلوبهم من جهتهم كما اطمأنت من جهة غيرهم، وغر
أولئك الغفل المتزندقين أن رجال دولة بريطانيا يظهرون لهم رعاية صورية، ويدنونهم
من بعض الوظائف الخسيسة (تعس من يبيع ملته بلقمة، وذمته برذال العيش).
هذا أسلوب من السياسة الأوروبية أجادت الدول اختباره وجنت ثماره،
فأخذت به الشرقيين لتنال مطامعها فيهم، فكثير من تلك الدول نصبت الحبائل في البلاد
العثمانية والمصرية وغيرها من الممالك الإسلامية، ولم تعدم صيدا من الأمراء
والمنتسبين إلى العلم والمدنية الجديدة، واستعملتهم آلة في بلوغ مقاصدها من
بلادهم، وليس عجبنا من الدهريين والزنادقة ممن يتسترون بلباس الإسلام أن يميلوا مع
هذه الأهواء الباطلة، ولكنا نعجب من أن بعضا من سذج المسلمين مع بقائهم على
عقائدهم وثباتهم في إيمانهم يسفكون الكلام في ذم التعصب الديني، ويهجرون في رمي
المتعصبين بالخشونة، والبعد عن معدات المدنية الحاضرة..)!
ولهذا السبب حذرت جمعية العروة الوثقى ومجلتها من خطورة دعوة السيد
السير أحمد خان، وعدته أشد خطرا على الأمة ودينها من المحتل البريطاني نفسه، لما
يؤدي إليه خطابه من المسالمة وترك المقاومة، والتعايش مع الاحتلال الغربي باسم
الإسلام، كما جاء في هجومها عليه في إحدى مقالاتها: (هذا هو المجد الذي ناله أحمد
خان ثمنا لدينه ووطنه! فهو كما قال صديق نواب حسن خان ملك بهوبال صاحب التصانيف
المشهورة: أن أحمد خان دجال آخر الزمان!
نعم ساعده حكام الإنجليز على استخدام بعض من يقدمهم، لكن لا في
الحكومة الإنجليزية الهندية، ولا على الخزينة الإنجليزية وإنما يلزم الحاكم أحد
النواب الباقين على صورة استقلالهم أن يوظفوهم في بعض الوظائف الدانية.
راق هذا المشرب في أعين الحكام الإنجليز وابتهجوا به وظنوه موصلا إلى
غايتهم من محو الدين الإسلامي من البلاد الهندية، هؤلاء الدهريون [العلمانيون]
ساروا جيشا للحكومة الإنجليزية في الهند يسلمون سيوفهم لقطع رقاب المسلمين! لكن مع
البكاء عليهم والصباح بهم، إنا لا نقتلكم إلا شفقة عليكم، ورحمة بكم، وطلبا
لإصلاحكم ورفاهة عيشتكم!
ورأى الإنجليز أن هذه أقرب الوسائل لنيل المقصود من ضعف الإسلام والمسلمين.
كان التلميذ الأرشد لأحمد خان والوزير الأول والمدير له في جميع شئونه
رجلا اسمه سميع الله خان.
سميع الله خان هو أعظم الدهريين دهاء، وأشدهم اجتهادا في تضليل
المسلمين، وأدقهم حيلة، وأقواهم مكرا، في إيجاد الوسائل لتفريق شمل المؤمنين،
وتمكين الحكومة الإنجليزية في أرض الهند، يقوم هذا الخادع خطيبا في محافل
المسلمين فتسبق دموعه كلامه، ويأتي بغاية ما عنده من الفصاحة لهدم أركان الديانة
الإسلامية، وإبطال عقائدها الأصلية، ويتجرأ على حضرة الألوهية، ويطعن في
الرسالة وصاحبها، كل ذلك وهو ينتحب كأنما يرثي الدين وأهله!
إذا دخل في بلد من بلدان لأداء هذه الخدمة واظب أياما على دخول
المساجد، وحضور المحافل الدينية، واستدرج الناس بعذب الكلام، ولطف الوعد، وجذبهم
إليه من حيث لا يشعرون، فإذا اجتمع عليه بعض من الناس اغترارا بطلاوة ظاهره، بدأ
في دعوتهم إلى مشربه الكدر (خلع الدين)!
هذا العدو المبين للإسلام والمسلمين قد نال بمساعيه هذه وظيفة قاض (في
الشريعة الإنجليزية) في بلدة (أكره) وهي بلدة لا تزيد عن دسوق في مديرية الغربية!
قالت جريدة التايمس بعدما مدحت سميع الله خان بكل ما يمدح به: إن هذه
الوظيفة (قاضي في بلد صغير) هي أعلى وظيفة ينالها هندي وطني!
أيحتاج لإثبات العدالة الإنجليزية إلى شاهد أكبر من هذا!
نورث بروك اللورد الإنجليزي الذي أشرنا إلى طرف من تاريخه في الهند في
العدد الماضي، عرف سميع الله خان حق المعرفة عندما كان حكمدارا في الهند، ووقف على
أنه أصدق الناس في خدمة الإنجليز وأقدرهم على أدائها.
ولهذا طلبه ذلك اللورد ليكون كاتم سره في مصر ليستعمله في تنفير
المصريين من الدولة العثمانية، وفي إقناع المصريين بأن حكومة إنجلترا تريد بهم
خيرًا، ويستخدمه في استمالة قلوب العلماء؛ لأنه واحد منهم (على دعواه) وقد يكون من
نيته أن يدخل الجوامع، ويعظ ويخطب، ويروي عن عدل الإنجليز ما لا صحة له وما تكذبه
المشاهدة!
ولكن رجاءنا في نباهة المصريين، وصدق عقائدهم الدينية، وشدة ارتباطهم
بالدولة العثمانية أن لا ينخدعوا لهذا الراكس الهندي (الراكس بلسان السنسكريت
الشيطان المريد)، لا نجح الله له مقصدا، ولا أناله مبتغى).
ولم يتصور أصحاب "العروة الوثقى" والشيخ محمد عبده محرر هذا
المقال بأن مذهب المسالمة والدعوة إلى الوطنية والقومية سيتمدد إلى مصر، ومنه إلى
العالم العربي، وسيكون أكبر دعاته هم بعض تلاميذه وتلاميذ شيخه جمال الدين
الأفغاني، حتى باتت أحزاب الإسلام السياسي اليوم كلها تؤمن به، وتدعو إليه، وتقاتل
مع الحملة الصليبية ونظامها الدولي لترسيخه باسم التسامح والاعتدال والديمقراطية
والحرية! ليصبح السير أحمد خان في قبره هو ملهم الحركة الإسلامية اليوم، وإمامها
الأول، من حيث يظن أتباعها بأنهم امتداد لحركة الأفغاني وحسن البنا وسيد قطب!
وهذه الدعوة إلى العصبية الإسلامية وهي المعروفة شرعا بأصل الولاء
والبراء بين المسلمين، لا تنافي حقوق أهل ذمتهم من أهل الأديان الأخرى، بما أوجب
الله لهم من حقوق المجاورة والمواطنة في دار الإسلام، حيث دعت المجلة الاعتصام
بالأخوة الإسلامية الإيمانية والمحافظة على الرابطة الإنسانية: (واعتصموا بحبال
الرابطة الدينية التي هي أحكم رابطة اجتمع فيها العربي بالتركي، والفارسي بالهندي،
والمصري بالمغربي، وقامت لهم مقام الرابطة النسبية، حتى إن الرجل منهم ليألم لما
يصيب أخاه من عاديات الدهر وإن تناءت دياره، وتقاصت أقطاره.
هذه صلة من أمتن الصلات ساقها الله إليكم، وفيها عزتكم، ومنعتكم،
وسلطانكم، وسيادتكم، فلا توهنوها، ولكن عليكم في رعايتها أن تخضعوا لسطوة العدل،
فالعدل أساس الكون وبه قوامه، ولا نجاح لقوم يزدرون العدل بينهم، وعليكم أن تتقوا
الله وتلزموا أوامره في حفظ الذمم، ومعرفة الحقوق لأربابها، وحسن المعاملة، وإحكام
الألفة في المنافع الوطنية بينكم وبين أبناء أوطانكم وجيرانكم من أرباب الأديان
المختلفة، فإن مصالحكم لا تقوم إلا بمصالحهم، كما لا تقوم مصالحهم إلا بمصالحكم،
وعليكم أن لا تجعلوا عصبة الدين وسيلة للعدوان، وذريعة لانتهاك الحقوق، فإن دينكم
ينهاكم عن ذلك ويوعدكم عليه بأشد العقاب.
هذا ولا تجعلوا عصبيتكم قاصرة على مجرد ميل بعضكم لبعض، بل تضافروا
بها على مباراة الأمم في القوة والمنعة والشوكة والسلطان ومنافستهم في اكتساب
العلوم النافعة والفضائل والكمالات الإنسانية.
اجعلوا عصبيتكم سبيلا لتوحيد كلمتكم، واجتماع شملكم، وأخذ كل منكم بيد
أخيه ليرفعه من هوة النقص إلى ذروة الكمال {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا
على الإثم والعدوان}).
والمجلة وإن ذكرت العلل، وأشارت إلى مواطن الخلل، التي أدت إلى ضعفها
وسقوطها إلا أنها تدرك مكامن القوة في الأمة، وإمكان نهضتها من كبوتها، واستعادة
سيادتها، فقال: (إلا أن المسلمين لم يزالوا على أصول الفضائل الموروثة عن أسلافهم،
ولهم حسن الإذعان بما جاء به شرعهم، وكتاب الله متلو على ألسنتهم، وسنة نبيهم
يتناقلونها رواية ودراية، وسير الخلفاء الراشدين والسلف الصالح مرسومة على صفحات
نفوس الخاصة منهم، فليس ما طرأ على بعضهم من الغفلة عن متابعة الشرع وما تسبب عنه
من الضعف في القوة إلا عرضا لا يبقى وحالًا لا يدوم).
والتاريخ الإسلامي وفتوحاته في نظر المجلة هو تاريخ الإسلام نفسه، وهو
تحقق وعد الله للمسلمين بالاستخلاف، ومعجزة النبي ﷺ التي بشر بها كما بشر القرآن، وليس كما نظر إليها دعاة المسالمة بأن
الفتوحات انحراف عن الإسلام وهداياته، وأنها من أجل السلطة والثروة كما افتراه
المستشرقون وأشربه عقول المستغربين!
فجاء في المجلة تحت عنوان "الوحدة الإسلامية" عن عظمة سلطان
المسلمين واتساع حضارتهم: (وما بين ذلك أمصار تتزاحم فيها أقدام العلماء في الحكمة
والطب والهيئة والهندسة وسائر العلوم العقلية، هذا فضلًا عن العلوم الشرعية التي
كانت عامة في جميع طبقات الملة. كان خليفتهم العباسي ينطق بالكلمة فيخضع لها فغفور
[ملك] الصين، وترتعد منها فرائص أعظم الملوك في أوروبا. ومن ملوكهم في قرونهم
المتوسطة مثل محمود الغزنوي، وملكشاه السلجوقي، وصلاح الدين الأيوبي، وكان منهم في
المشرق مثل تيمور الكوركان، وفي الغرب السلطان محمد الفاتح، والسلطان سليم
والسلطان سليمان العثماني، أولئك رجال قضوا ولم يطو الزمان ذكرهم ولم يمح أثرهم.
كانت لأساطيل المسلمين سلطة لا تبارى في البحر الأبيض، والأحمر، والمحيط الهندي،
ولها الكلمة العليا في تلك البحار إلى زمان غير بعيد، كان مخالفوهم يدينون لملكوت
فضلهم، كما يذلون لسلطان غلبهم).
وقد نعت المجلة على أمراء المسلمين ما هم فيه من لهو وعبث والعدو
يتربص بهم، ويحتل بلدانهم، ويذل شعوبهم، حين (ضلت عنهم غايات المجد المؤثل، وقنعوا
بألقاب الإمارة وأسماء السلطنة وما يتبع هذه الأسماء من مظاهر الفخفخة، وأطوار
النفخة، ونعومة العيش مدة من الزمان، واختاروا موالاة الأجنبي عنهم، المخالف لهم
في الدين والجنس، ولجأوا للاستنصار به، وطلب المعونة منه على أبناء ملتهم، استبقاء
لهذا الشبح البالي، والنعيم الزائل.
هذا الذي أباد مسلمي الأندلس، وهدم أركان السلطنة التيمورية في الهند،
ومحا أطلالها، وعلى رسومها شيد الإنجليز ملكهم بتلك الديار!
هكذا تلاعبت أهواء السفهاء بالممالك الإسلامية ودهورتها أمانيهم
الكاذبة في مهاوي الضعف والوهن،
قبح ما صنعوا! وبئس ما كانوا يعملون، أولئك اللاهون بلذاتهم، العاكفون
على شهواتهم، هم الذين بددوا شمل الملة، وأضاعوا شأنها، وأوقفوا سير العلوم فيها،
وأوجبوا الفترة في الأعمال النافعة، من صناعة وتجارة وزراعة بما غلوا من أيدي
بنيها.
ألا قاتل الله الحرص على الدنيا والتهالك على الخسائس، ما أشد ضررهما
وما أسوأ أثرهما، نبذوا كلام الله خلف ظهورهم، وجحدوا فرضا من أعظم فروضه،
فاختلفوا والعدو على أبوابهم، وكان من الواجب عليهم أن يتحدوا في الكلمة الجامعة،
حتى يدفعوا غارة الأباعد عنهم، ثم لهم أن يعودوا لشئونهم، ماذا أفادتهم المغالاة
في الطمع والمنافسة في السفاسف؟ أفادتهم حسرة دائمة في الحياة، وشقاء أبديا بعد
الممات، وسوء ذكر لا تمحوه الأيام. أما وعزة الحق، وسر العدل، لو ترك المسلمون
وأنفسهم بما هم عليه من العقائد مع رعاية العلماء العاملين منهم، لتعارفت أرواحهم
وائتلفت آحادهم، ولكن وا أسفا تخللهم أولئك المفسدون الذين يرون كل السعادة في لقب
أمير أو ملك ولو على قرية لا أمر فيها ولا نهي. هؤلاء الذين حولوا أوجه المسلمين
عما ولاهم الله وخرجوا على ملوكهم وخلفائهم، حتى تناكرت الوجوه وتباينت الرغائب).
وإنما تعرض المجلة بخديوي مصر خاصة إسماعيل الذي أقام حفلا دعا له
ملوك أوربا ووزرائها، وأثقل مصر بالديون، وساءت علاقته بالخلافة العثمانية وخرج عن
طاعتها، حتى أصبحت مصر تحت نفوذ بريطانيا وفرنسا، فلما خلع وجيء بابنه توفيق آثر
الاستعانة ببريطانيا لمواجهة ثورة شعبه الذي كان يريد العدل والإصلاح مع بقاء
حكمه!
عمل الجمعية والمجلة السياسي في أوربا:
ولم تقتصر جمعية العروة الوثقى على إصدار المجلة، بل كانت تسعى لشرح
قضايا الشعوب الإسلامية وما تتعرض له من عدوان على الساسة في أوربا للتأثير على
سياساتهم، وقد سافر جمال الدين من باريس إلى لندن للقاء المسئولين، والبحث معهم في
قضية السودان، كما قال المخزومي: (ثم ظهرت حادثة المهدي السوداني، محمد أحمد، وأخذ
أمره في الاستفحال، واتسع منه لإنجلترا مجال المداخلة في شئون مصر، بحجة قمع ثورة
المهدي السوداني، فكتب جمال الدين في العروة مقالات يحذر بها الإنجليز ويلفت نظر
كبير وزرائهم إذ ذاك المستر غلادستون إلى سوء مصير الجنرال غوردون، واستحالة نجاح
مقصد الإنجليز بتلك الوسيلة وأمثالها، وأثبت ذلك بحجج قاطعة وبراهين ساطعة. وسيأتي
ذكر ذلك تحت عنوان "عبرة وذكرى".
وقد ثابر جمال الدين على الكتابة في مسألة السودان معددا خطيئات
بريطانيا ووزرائها، مفندا لأقوال اللورد غرانفيل، وحجج المستر غلادستون، ومبينا
مسيء المصير، من انتهاج تلك السياسة في مصر والسودان، كاشفا مساتير السياسة مما
أقام أكابر رجال السياسة في العالم وأقعدهم، واضطربت لها أندية لندرا خاصة. فاضطر اللورد ساليسبوري، وشرشل، أن
يستدعيا جمال الدين ليسألاه رأيه في المهدي، وظهوره إذ ذاك، فشخص إلى لندن واجتمع
بهما، وهناك أفاض بتوضيح الغوامض، وأطلعهما على مواقع الخطأ في سياسة إنجلترا
خصوصا نحو دول الإسلام في الشرق، وما تتبعه في مصر، كل ذلك بحجج قاطعة ولهجة شديدة
ملؤها الإخلاص.
وبعد أخذ ورد، اختصر اللورد ساليسبوري الحديث، ورام تقريب البعيد،
فقال لجمال الدين: إن بريطانيا تعلم مقدرتك، ونحن نقدر رأيك قدره، ونحب أن نسير مع
حكومات الإسلام بمودة وولاء، على قدر ما تسمح لنا به الظروف والأحوال، لذلك تصورنا
أن نرسلك إلى السودان بصفة سلطان عليه، فتستأصل جذور فتنة المهدي، وتمهد السبيل
لإصلاحات بريطانيا فيه؟
فقال جمال الدين: تكليف غريب! وسفه في السياسة ما بعده سفه! اسمح لي
يا حضرة اللورد أن أسألك هل تملكون السودان حتى تريدوا أن تبعثوا إليه بسلطان؟
مصر للمصريين، والسودان جزء متمم لها وصاحب الحق، الخليفة الأعظم
جلالة السلطان حي يرزق، ولديه من الجيش المادي والمعنوي، ما يتذلل معهما كل صعب
وفتنة في الكون الإسلامي وأجزاء ممالكه!
إن الإصلاح وما تنويه بريطانيا من عمله وطرق إدخاله وما تبحث له من
الوسائل، فعلى سبيل الاستطراد والتطفل، ألفت نظرها ونظر كبير رجالها حضرة اللورد
إلى أيرلندا وما تعانيه من ضروب البلاء فيما تنشده لنفسها من طلب الاستقلال؛
ليتسنى لها معه الإصلاح الحقيقي لبلادهم، فلماذا لا تجيبون سؤالهم، وتصلحون أمرهم،
وهم أقرب إليكم من حبل الوريد وبينكم وبينهم من الجامعات [الروابط والعلاقات] ما
هو معدوم لكم في مصر والسودان، وغيرهما من ممالك الشرق؟!
فبهت عند ذلك اللورد ساليسبوري بهتة رجل فوجئ بصدمة لم تكن في حسبانه،
ولم يحر جوابا، إذ كان ينتظر من جمال الدين سجود الشكر لسلطان أتاه بدون تعب،
ومنصب انتصب له بلا نصب! فقال للسيد كلمات: معناها سننظر في الأمر، وودعه بقوله:
مصحوب بالسلامة!
خرج جمال الدين من تلك الملاقاة وأكبر رجال وزارة إنجلترا - ساليسبوري
- على غاية النفرة من سياسته.
أما الجرائد الإنجليزية فأكثرها اهتم لنظرية جمال الدين ومباحثه،
خصوصا من كان مواليا، لقضية الأيرلنديين، من الإنجليز الأحرار.
وبالإجمال ما خرج من لندرا إلا وأنديتها السياسية في شيء من الهرج.
ثم عاد إلى فرنسا وكانت
العقبات التي أقامتها الحكومة الإنجليزية ضد "العروة الوثقى"، قد بلغت
مبلغها من الشدة فسدت في وجهها الأبواب، واشتدت في عقاب من يذكرها.
وبالإجمال فقد ظفرت بريطانيا العظمى! بعد أن صرفت كل همها وهممها في
تعطيلها، أن انحجبت "العروة الوثقى" عن الظهور، ولكنها حفظت في الصدور،
وما غرسته في الأذهان أخذ ينمو على مهل، في معظم بلاد الشرق وتبدو ثماره، على
التدريج.
كانت مدة إقامة جمال الدين في باريز ثلاث سنوات ونيف، منها ما قضاه في
نشر "العروة الوثقى"، ومنها ما نشر فيها تلك المقالات الرائعة في أمهات
جرائدها باحثة عن سياسة روسيا، وإنجلترا، والدولة العلية، ومصر.
ومن أبحاثه تلك الأبحاث الفلسفية وأهمها، ما جرى له من المباحث مع
الفيلسوف الفرنساوي رينان "في العلم والإسلام وحقيقة القرآن والعمران"
وستأتي براهين تلك المباحث في أقوال جمال الدين الآتية، أما رينان فقد شهد له بصحة
العلم، وقوة الحجة، ورجع عن كثير من آرائه في أن الإسلام والقرآن مانعان للحضارة
والعمران، وأن ما يرى في المسلمين من الانحطاط والتقهقر، إن هو إلا من سوء فهم أهل
الجمود من رؤساء أهل الدين لحكمته.
كانت مدة إقامة جمال الدين في فرنسا محفوفة بالتجلة والإعظام من أكثر
علمائها، وفلاسفتها، وقد أحلوه من مقام العلم والحكمة مكانا عليا).
وكذا انتدبت الجمعية الشيخ محمد عبده في مهمة سياسية إلى لندن، هي
أشبه بعمل استخباراتي للبحث والتحري، وجمع المعلومات، ومعرف كيف تدار وتجري الأمور
عن كثب، كما ذكرته المجلة حيث جاء فيها: (رأينا أن يذهب الشيخ محمد عبده المحرر
الأول لهذه الجريدة إلى لندن إجابة لدعوة من يرجى منهم الخير لملتنا، ومن يؤمل
فيهم صدق النية، في رعاية مصالح المسلمين من رجال السياسة الإنجليزية، وليستكشف
مناصب الفخاخ السياسية التي ما مرت قدم شرقي إلا سقطت منها فيما يعسر الخلاص منه،
وليسبر أغوار المطامع الإنجليزية التي لا يدرك منتهاها، تلك المطامع التي بعدما
التهمت ثلث المسكونة وطوقت كرة الأرض بالفتح والاستملاك لم تزل في مد لا جزر معه!
ولا يزال رجال حكومة بريطانيا في نهم شديد لابتلاع ممالك العالم،
وكلما أساغوا قطرا طلبوا إليه آخر، وليستطلع خفايا المقاصد من أثناء الأفكار وغضون
الأقوال، وليقف على الطرق المألوفة بين أولئك السياسيين في التلوين، ويتبين كيف
يتمكنون من إبراز محاسن الأعمال في صفات رديئة يستنكرها كل ناظر إليها، وإظهار
السيئات في ألوان بهجة تسر الناظرين! حتى يمكن بعد ذلك وضع ميزان قسط يتميز به
الزيف من النضار الخالص، كيلا يغتر الجاهل، ولا يزل العالم.
لاقى محرر الجريدة [الشيخ محمد عبده] كثيرا من رجال السياسة
الإنجليزية، وأنفذ الناس رأيا فيها، وقد جرت بينه وبينهم محادثات طويلة في الأحوال
المصرية، ومن محادثاته التمهيدية ما نشر في بعض الجرائد الإنجليزية كجريدة
"البال مال چازيت" وجريدة "التروت"، التي يحررها النائب
الشهير مستر لاپوشير، وجريدة "التايمس"، وسيذكر شيء مما جرى بينه وبين
بعض الأكابر من رجال الحكومة مما يستفيد منه الشرقيون عموما، والمصريون خصوصا،
وستأتي جريدتنا على بعض ما استنبطه من فحوى أقوالهم وأدركه من مرامي أفكارهم.
أما الآن فنأتي على جملة واحدة من محادثة طويلة كانت بينه وبين اللورد
"هر تنكتون" وزير الحربية الإنجليزية، ليأخذ كل مصري منها حظه، ويصيب كل
شرقي سهمه، ويقف جميعهم على مواقع الشرقيين من أنظار الحكومة الإنجليزية.
سأل اللورد هر تنكتون وزير الحربية الإنجليزية: ألا يرضي المصريون أن
يكونوا في أمن وراحة تحت سلطة الحكومة الإنجليزية؟ وألا يرون حكومتنا خيرا لهم من
حكومة الأتراك، وفلان باشا وفلان باشا؟
فأجاب الشيخ محرر جريدتنا: كلا إن المصريين قوم عرب، وكلهم مسلمون إلا
قليلا، وفيهم من محبي أوطانهم مثل ما في الشعب الإنجليزي، فلا يخطر ببال أحد منهم
الميل إلى الخضوع لسلطة من يخالفه في الدين والجنس، ولا يصح لحضرة اللورد وهو على
علم بطبائع الأمم أن يتصور هذا الميل في المصريين!
فقال الوزير: هل تنكر أن الجهالة عامة في أقطار مصر، وأن الكافة لا
تفرق بين الحاكم الأجنبي والحاكم الوطني، وأن ما ذكرته من النفرة من سلطة الأجانب
إنما يكون في الأمم المهذبة؟
فاحتد الشيخ حدة تليق بمسلم لا يتهاون في أداء ما فرضه الدين، وأوجبته
حقوق الشريعة، وقال: أولا إن النفرة من ولاية الأجنبي ونبذ الطبع لسلطته مما أودع
في فطرة البشر، وليس بمحتاج للدرس والمطالعة، وهو شعور إنساني ظهرت قوته في أشد
الأمم توحشا كقبائل الزولو الذين لم تنسوا ما كابدتموه منهم في الدفاع عن أوطانهم.
وثانيا: أن المسلمين مهما كانوا وعلى أية درجة وجدوا لا يصلون من
الجهل إلى الدرجة التي يتصورها الوزير، فإن الأميين منهم، ومن يقرءون ولا يكتبون،
لا يفوتهم العلم بضروريات الدين، ومن أجلاها ومن أظهرها عندهم أن لا يدينوا
لمخالفيهم فيه، وأن لهم في الخطب الجمعية ومواعظ الوعاظ في مساجدهم ما يقوم مقام
العلوم الابتدائية، وأن جميع ما يتلقونه من النصائح الدينية يحذرهم من الخضوع لمن
لا يوافقهم ويحدث فيهم من الإحساسات الشريفة الإنسانية ما لا ينحطون معه عن سائر
الأمم خصوصا المصريين الذين ينطقون باللسان العربي، ويفهمون دقائق ما أودع في ذلك
اللسان وهو لسان دينهم.
وثالثا: أن أرض مصر من زمن
محمد علي قد انتشرت فيها العلوم والآداب الجديدة على نحو ما هو موجود في بلاد
أوروبا، وأخذ كل مصري نصيبا منها على قدره، ولا تخلو قرية من القرى الصغيرة من أن
يكون فيها قارئون كاتبون، والأخبار العمومية توصلها إليهم الجرائد العربية، ومن لم
يقرأ يستنبئ الأخبار من القارئين، فبهذا أضافوا إلى الشعور الطبيعي والتقليد
الديني محبة وطنية منشؤها التهذيب العمومي قوي بها الميلان الأولان، ولا أظنهم
يخالفون في ذلك سائر الأمم).
استمرار الشيخ محمد عبده في جمعية العروة الوثقى:
وقد كان مع الشيخ محمد عبده في زيارته هذه إلى لندن المترجم الإيراني
ميرزا محمد باقر، وكان قد عرف السيد جمال في ميناء بو شهر على الخليج حين جاء جمال
إيران مهاجرا من أفغانستان يريد الحج، كما قال رشيد: (لما كان المجددان الكبيران
-حكيم الشرق والإسلام السيد جمال الدين، والأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده- في
باريس يصدران جريدة "العروة الوثقى" أرسل إليها بطاقة الاستئذان رجل
اسمه ميرزا محمد باقر، قال إنه يعرف السيد معرفة شخصية، قال السيد: أنا لا أعرف
رجلا بهذا الاسم! وأذن له، فدخل فإذا هو رجل قد عرفه في ثغر (بوشهر) في الخليج
الفارسي، إذ جاءه السيد مع جماعة من الأفغان، في طريقهم إلى الحجاز، وكان اسمه
ميرزا يوحنا، وهو إيراني تنصر وصار داعية للنصرانية هنالك، مع جمعية المبشرين وقد
دعا السيد ورفاقه إلى النصرانية، فطفق السيد يجادله فبدرت منه كلمة طعن في النبي ﷺ فأمر السيد من معه من الأفغانيين بضربه فضربوه حتى خرج يزحف على
استه، كما حدث السيد عنه مرارًا، ثم عرفوا بيته فأرادوا إحراقه عليه فحيل بينهم
وبين ذلك ثم سافروا، فلما دخل على السيد في باريس عرفه وبادر هو إلى ذكر ما كان من
أمر تنصره، ثم عودته إلى الإسلام، ورجوعه إلى لقبه الأول باقر! وكان يعرف أيضا
باسم إبراهيم جان المطر! وأخبر السيد بأنه كفر عن ذنبه الأول فصار داعية للإسلام!
وعرض عليه استعداده لخدمته في إدارة العروة الوثقى! فكان يترجم لها ما يهمه من
الجرائد الإنكليزية.
ولما ذهب الأستاذ الإمام إلى لوندرة [لندن] للسعي لدى ساستها
ومحادثتهم في مسألة مصر والسودان، كان ميرزا باقر هو المترجم بينه وبين كبار رجال
الإنكليز الذين قابلهم وتكلم معهم، وكان يفترص هذه الأحاديث لدعوتهم إلى الإسلام
فيقول له الأستاذ الإمام دع هذا الآن إلى أن نفرغ مما نحن فيه).
وسواء كان محمد باقر صادقا فيما ادعاه من عودته إلى الإسلام أو كان
جاسوسا بريطانيا أو فرنسيا، فقد جرى بعد ذلك إيقاف مجلة "العروة الوثقى"
ولما تكمل عامها الأول، بعد أن كاد بركان العالم الإسلامي يتفجر حمما من خطابها
الثوري، وسرعان ما حاصرت فرنسا المجلة، وهو ما سينعكس على عمل الجمعية، وعلى عمل
كل من جمال الدين ومحمد عبده!
وقد اكتشف الشيخ محمد عبده لاحقا حقيقة مترجم لهم تبين أنه جاسوس،
وأبعده عن شيخه، وحذر منه أصحابه، كما جاء في رسالة له كتبها إلى بعض أعضاء
الجمعية السرية، وفيها ما يؤكد أن محمد عبده ظل عضوا سريا في الجمعية حتى بعد
عودته من باريس، كما أوردها رشيد في تاريخه: (وكتب إلى بعض أعضاء الجمعية في بعض
الأقطار الاسلامية: بسم الله الرحمن الرحيم
{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون اليهم
بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق}، ذلك الذي وفد إليكم من القسم الذي سماه
رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافق العليم اللسان، وهو جاسوس للحكومة القائمة
في دياركم [ربما إيران] فاحذروه، ولكن ليكن حذركم حذر الحكماء، لا يتبين منه علمكم
بحاله، وتحفظوا منه كل التحفظ، وإياكم ومكاشفته بشيء مما أنتم عليه، فلقد وجدته
يدنو من السيد أيام إقامته بباريس، ويسعه من السيد لين جانبه، وحاجته إلى ترجمان
في بعض شؤونه، فلما كثر اجتماعي به تبينت فساده، فأقصيته من السيد، وباعدته عنه،
وبعد أن كان يترجم لنا بعض الأخبار في بداية اشتغالنا بنشر آراء
"العروة" طردته استعاذة من خبث سريرته، فتعوذوا منه تعوذكم من الشيطان،
حتى يفرق الله بينكم وبينه!
نعم إنني طلبت منكم نسخة المبادئ إن لم تريدوا اعتمادها، وهذا ما
يوجبه علي عهدي الذي أنا فيه!
وأما عدم ثقة الشيخ بهمة من ذكرتم فمما له الحق فيه، وهكذا أمر هذه
الامة في جميع أقطارها، ولهذا احتجنا إلى معاناة الاضمار، ومقاساة الأسرار،
والاستخفاء بما أمر الله أن يعلن ويظهر، غير أن القليل ممن يكون على الشرط كثير،
وقد صرحت تلك المبادئ بأن الرشد والنصيحة العامة من الواجبات على القائمين بأمر
الحق، لتستعد النفوس، وتتهيأ العقول!
وليس في هذا حرج على
المتعاطي، ولكن أهل العقد وهم بمنزلة القوة العاقلة في البدن لا بد أن يكونوا على
الشروط المعروفة عند أصحاب الرابطة.
فسلموا على الشيخ سلاما طيبا، وأكدوا له أنني لم أقصد في بياني السابق
شيئا مما أوهمته العبارة، وأنني أعيذ نفسي من توجيه اللائمة على من دون منزلة
الشيخ من أهل الايمان الصحيح، وأعود الى تحذيركم من الجاسوس الجديد، فلا يتسقطكم
بظاهره إلى علم شيء من سرائركم، والله يتولى رعايتكم والسلام).
وهذه الرسالة أوضح دليل على التزام الشيخ محمد عبده، بجمعية
"العروة الوثقى" السرية، وبالعهد والميثاق الذي أخذ على أهلها، وبالعمل
السري الذي اتفقوا على المحافظة عليه، مما يؤكد أن عودته إلى مصر وتركه باريس، ليس
لخلاف بينه وبين شيخه، بل سياسة جديدة من الجمعية، تجاه تطور الأحداث في مصر،
والحاجة إلى العمل داخلها لصالح مشروع الجمعية، وكان لا بد للعودة إلى مصر من
التظاهر بقطع العلاقة بجمال وإشاعة شيء من هذا كما تقتضيه السياسة!
وهذا التوجه الجديد للجمعية كان بعد حوار طويل بين جمال والشيخ محمد
عبده، بعد إغلاق المجلة في باريس، وضرورة أن يكون للجمعية اهتمام بالإصلاح الديني
والتربوي، لا يؤثر عليه الإصلاح السياسي، وهو ما انتدبت له الجمعية محمد عبده
ليقوم به في مصر، ليبقى جمال على خطه في الإصلاح السياسي والفكري!
وعزم الشيخ محمد عبده على العودة لمصر والتفرغ للإصلاح في مجال
التربية والتعليم، دون أن يتخلى عن الجمعية وعهدها وميثاقها، بعد أن انتهت مدة
الحكم القضائي بنفيه من مصر، كما قال رشيد رضا: (حكم عليه بالنفي من القطر المصري
وملحقاته مدة ثلاث سنين، وكان في ١٣ صفر سنة ١٣٠٠ ھ (الموافق ٢٤دسمبر سنة 1882)
ومقتضى هذا أن مدة نفيه قد انتهت في أوائل سنة 1303 ھ - آخر سنة ١٨٨٥م وكان في
أثناء ذلك في بيروت مجدًا في عمله، طائرًا في جو أمله، وكان أول أمله تربية نشء
جديد في المدرسة السلطانية، يوجه المستعدين منهم إلى ما كان ينويه من إصلاح الأمة
الإسلامية، وقد كان في آخر عهده مع السيد جمال الدين في أوربة، قد ضعف أمله في
نجاح سياسة السيد، ولا سيما بعد الاضطرار إلى تعطيل جريدة "العروة
الوثقى" وتخاذل المسلمين دون مساعدتهما الواجبة، فقال للسيد أرى أن نترك
السياسة، ونذهب إلى مجهل من مجاهل الارض، لا يعرفنا فيه أحد، نختار من أهله عشرة
غلمان أو أكثر من الاذكياء السليمي الفطرة، فنربيهم على منهجنا، ونوجه وجوههم إلى
مقصدنا، فإذا أتيح لكل واحد منهم تربية عشرة آخرين لا تمضي بضع سنين أخرى إلا
ولدينا مائة قائد من قواد الجهاد في سبيل الإصلاح، ومن أمثال هؤلاء يرجى الفلاح،
فقال له السيد: إنما أنت مثبط، نحن قد شرعنا في العمل، ولا بد من المضي فيه ما دمنا
نرى له منفذا. أو ما هذه خلاصته من قوله.
ثم إنه كان يرجو من وجوده في بلاد الدولة العثمانية أن يتمكن من إقناع
أولي الأمر فيها بما يجب عليها من إصلاح التربية والتعليم في المدارس بحسب رأيه،
وأن يكون له عمل في ذلك إذا هم اقتنعوا بما بسطه لهم من وسائله [لائحة تطوير
التعليم التي أرسلها لإسطنبول]، ولما طال الأمد ولم يستجب لدعوته أحد، واقتنع بأن
الدولة العثمانية غارقة في بحار جهلها، عاد إلى وطنه وهو يعلم أن الخديو توفيق
باشا غضبان عليه، كاره له، وأن الإنكليز أصحاب النفوذ الأعلى في البلاد قد ذاقوا
من مرارة قلمه، وصلوا من نار عصبيته الملية والوطنية ما لم يعهدوا له نظيرا في
الطعن فيهم، وإثارة العالم الإسلامي والشرقي عليهم، ولكنه هو الشجاع الذي لا
يعرف الخوف إلا من الله عز وجل.
عاد الى مصر في سنة ١٣٠٦ ولا أذكر الشهر الذي عاد فيه، فتلقاه أصدقاؤه
ومريدوه بالإجلال، والسرور والاستبشار، إلا الجبناء منهم فإنهم تجاهلوا وجوده..).
هذا في الوقت الذي استعد
جمال الدين -بتكليف من جمعية "العروة الوثقى" التي أقسم أعضاؤها على
الشورى والالتزام برأي الأكثرية- لخوض معركة سياسية كبرى في إيران، التي بدأت
بريطانيا ترتيباتها للسيطرة عليها كما فعلت في الهند وأفغانستان، بتواطؤ مع الشاه،
وسيفجر فيها جمال كما فعل في مصر ثورة الحرية، ويبعث فيها نهضة فكرية، وما زال
للحديث بقية.