الأربعون المتواترة في
فضائل إسطنبول الفاخرة
جزء حديثي
تصنيف
أ.د. حاكم المطيري
بين يدي الموضوع:
الحمد لله الواحد الأحد، الملك الصمد، القائل:
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ
عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾[1]، ظهورا بالقوة والبيان،
والحق والإيمان، والفتح للبلدان؛ حتى يعلو الإسلام علوًّا حقيقيًّا على كل عواصم
الأديان.
وصلى الله وسلم على نبيه محمد الهادي البشير،
والسراج المنير؛ الذي بشّر أمته بالفتح، وملك الأرض، وظهور دينها على كل الأديان،
فقال ﷺ: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا
يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين؛ بعز عزيز يعز الله به
الإسلام، وبذل ذليل يذل الله به الكفر)[2]، وقال ﷺ: (إن الله زوى لي الأرض؛
فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها)[3].
فأظهره الله وأظهر دينه ظهورا عظيما بفتح مكة
عاصمة مشركي العرب الدينية في حياة نبيه ﷺ، ثم بفتح القدس عاصمة
أهل الكتابين الدينية، وبفتح مدائن المجوس في عهد الخليفة الراشد عمر حتى لم يبق
لهم راية إلا خضعت لراية الإسلام وحكمه وسلطانه، ثم بفتح باميان مدينة البوذية
الدينية في أفغانستان في عهد الخليفة الراشد عثمان، ثم ما زال وعد الله يتحقق تباعا
في كل عصر ليظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون؛ حتى تحقق في القرن التاسع
الهجري - على فترة من ضعف الأمة - فتح الفتوح الذي ادّخره الله للأمة في آخر
عصورها؛ بعد ضعفها وانهيارها وغزو التتار المغول لها، فجاء فتح القسطنطينية عاصمة
الإمبراطورية النصرانية البيزنطية الأرثوذكسية -وهي أول عاصمة مسيحية بناها قسطنطين أول إمبراطور
مسيحي- بعد ثمانية قرون من أول محاولة للصحابة لفتحها للفوز بالبشارة، وهو الفتح الذي
ادخره الله لمحمد الفاتح، والذي طالما طمحت له النفوس، وتشوّقته القلوب، حيث كانت القسطنطينية حين بشر بفتحها
النبي ﷺ عاصمة الدنيا كلها؛ ليؤكد صدق وعد الله ورسوله
بظهور دينه على الدين كله ولو كره المشركون، ولو كذب بوعده الكافرون، وبقي بعده
الفتح العظيم لروما عاصمة الصليبية الكاثوليكية، وهو مما تواترت به النصوص
النبوية؛ ليكمل ظهور الإسلام على كل عواصم الأديان العالمية!
فصلّى الله وسلم عليه ما ذكر الله الذاكرون، وما
شكر لنعمه التي لا تحصى الشاكرون؛ وبعد..
فهذا جزء حديثي فريد في موضوعه؛ جمعت فيه فضائل
إسلامبول (القسطنطينية)، والأخبار التي بشّرت بفتحها، وتواترت في فضلها، وفضل
أميرها وجيشها وأرضها؛ حتى أنه لم يرد في البشارات النبوية والأخبار المصطفوية
البشارة بفتح بلد أكثر مما ورد في فتحها، حتى ذكرت الأحاديث كل محطات الفتح
الرئيسية، وذكرت صور الفتح العسكري الأول، والسلمي الثاني، والنهائي قبل قيام
الساعة؛ وذلك لعظيم شأن هذه المدينة في العالم، وما يحدثه فتحها من تحول دولي عادة
كل مرة؛ وهو ما تحقق حين فتحها محمد الفاتح؛ فجدد الله به روح الإسلام وأمته من
جديد، وبعثه من هدأته، واستيقظ من غفوته، حتى عُدّ فتحه لها بداية العصور الحديثة،
وانتهاء العصور الوسيطة، فقد دخل الإسلام أوربا من بابها، واجتمع للخلافة
العثمانية شرف الولاية على قارات العالم القديمة الثلاث: آسيا وأفريقيا وأوربا،
وهو ما لم يجتمع لغيرهم من خلفاء الإسلام؛ ليتحقق فيهم وعد الله الذي لا يخلف وعده
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾[4]!
كما توعّد من أعرض وتولّى بالاستبدال؛ وهو وعيد
عام للمؤمنين في كل زمان ومكان إذا تولوا عن أمر الله استبدل غيرهم، فكانوا خيرا
منهم؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ
ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴾[5]، قال القرطبي في تفسيره[6]: (وفي الآية تخويف
وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورئاسة؛ فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما
فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره).
ولم يشرف أحد بالخلافة بعد العرب وقريش كما شرف
بها الخلفاء العثمانيون؛ حتى لم ينازعهم فيها أحد أربعة قرون؛ وهو ما لم يحدث مثله
في تاريخ الإسلام!
فتحقق وعد الله لهم بأوضح صوره تحققًا جليًّا لا
يكابر فيه إلا جاحد لفضل الله على الناس ﴿ أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا
آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ﴾[7]؛ وذلك حين ضعف العرب
وتوّلوا عن الجهاد وتخلّوا عنه؛ فحلّت بهم سنّة الاستبدال ﴿إِلاَّ تَنفِرُواْ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير﴾[8]؛ فأتى الله بالترك
وخصّهم بهذا الشرف العظيم؛ فسادوا العالم بالإسلام، ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم ﴾[9]؛ وهو ما تحقق للترك فعلا
مدة أربعة قرون من تاريخ الإسلام بالخلافة، وقبله مدة قرنين بالسلطنة، لم يتوقفوا
عن القيام بالجهاد في سبيل الله وسبيل المستضعفين من الرجال والنساء والولدان!
حتى إذا تولّى الترك عنه كما تولّى العرب قبلهم،
وتخلّوا عن هذا الشرف الباذخ بالقومية الطورانية؛ ذهبت ريحهم وزالت خلافتهم!
لقد كان سقوط القسطنطينية هذه المدينة العظيمة في
الحرب العالمية الأولى أمام جيوش الحملة الصليبية البريطانية الفرنسية الروسية
نهاية الخلافة الإسلامية، وانتهاء استخلاف الله للمؤمنين في الأرض، ودخول الأمة
كلها عصر الاستضعاف والاغتراب الثاني؛ كما أخبر النبي ﷺ كما في الحديث الصحيح
المتواتر معنىً: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ؛ فطوبى للغرباء) كما في
صحيح مسلم، وفي رواية: (إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ، وهو يأرز بين
المسجدين، كما تأرز الحية في جحرها).
وسيكون الفتح الثاني لها سلما بالتكبير - كما بشر
به النبي ﷺ - واستعادة المسلمين لها من جديد، وتحريرها من
قبضة الحملة الصليبية: تحوّلًا عالميًّا مرة أخرى؛ وهو ما تعيش الأمة اليوم
إرهاصاته، وتخطو في بداياته، بعد تحرر الشعب التركي من النفوذ الغربي؛ لتستعيد
الأمة ظهورها الثاني، واستخلاف الله لها في الأرض بالجهاد في سبيل الله كما وعدها
الله مرة أخرى؛ حتى تفتح روما!
ومن قرأ تاريخ العالم ودوله وحروبه وطغيان الإنسان
بطبعه ﴿ كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى ﴾[10]، وشاهد ما جرى من طغيان
الجاهلية الوثنية العالمية في الحرب العالمية الأولى ثم الثانية، ثم ما تلاها من
حروب وحشية همجية؛ سواء شيوعية حمراء، أو رأسمالية صفراء، استخدمت فيها أوربا
وأمريكا القنابل النووية، وقتلت الملايين؛ حتى تجاوز القتلى مئة مليون إنسان، وما
جرى بعده في حرب فيتنام وأفغانستان، وما يجري اليوم في أرض الإسلام، وما تتعرض له
شعوبه من ظلم وعدوان، يشنّه عليها طغاة العالم "المتحضر" -بزعمهم-
بجيوشهم وطيرانهم على شعوبها الضعيفة المظلومة، والفقيرة المكلومة؛ ليقتلوا
ويهجّروا الملايين من المسلمين المستضعفين؛ في أفغانستان والعراق والشام وفلسطين؛
علم كم كان وجود الخلافة الإسلامية رحمة بالأمة وشعوبها؛ بل رحمة بالعالم كله،
وعلم حكمة الله من تشريع الجهاد في سبيله، وإيجابه على المؤمنين، وجعله ذروة سنام
الإسلام؛ كما في الحديث الصحيح عند الترمذي عن معاذ رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (رأس الأمر
الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد)؛ رحمة بالإنسان ليدفع عن نفسه طغيان
أخيه الإنسان؛ كما قال تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ
يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا
وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا.
الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ
يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاء الشَّيْطَانِ﴾[11]، وقال تعالى:﴿وَلَوْلاَ
دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ﴾[12]، وكما قال تعالى:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ
لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُون﴾[13]!
ولقد كان الإسلام عزيزا منيعا بالجهاد في سبيل
الله رحمة بالعالمين؛ لمنع الطغاة المجرمين من الإفساد في الأرض؛ كما قال الله
عنهم: ﴿وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ﴾[14]، وقال عنهم: ﴿كُلَّمَا
أَوْقَدُواْ نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ
فَسَادًا ﴾[15]!
فلما تخلّى المسلمون عن هذه الفريضة الربانية
-بدعوى الالتزام بقيم الحضارة الإنسانية والمعاهدات الدولية- ذهبت ريحهم، وزالت
دولتهم، وغزاهم عدوهم، واحتل أرضهم، ودنس قدسهم، ونهب ثروتهم؛ فهو يغزوهم ولا
يغزون، ويقاتلهم ولا يدفعون؛ خضوعا منهم لقرارات الشرعية الدولية المزعومة التي
يفرضها عليهم عدوهم!
ولقد كان مجد الإسلام منذ كان بالجهاد في سبيل
الله في عهد النبوة، والخلافة الراشدة، ثم الأموية، وصدر العباسية؛ حتى إذا ظهرت
الفرق الباطنية، وتحوّلت إلى قوى سياسية ووصلت إلى السلطة في القرن الرابع الهجري،
وتخلت الدولة عن الجهاد، ضعفت الخلافة، واحتلّ العدو أرض الإسلام؛ حتى إذا نهض
بالجهاد يوسف بن تاشفين في المغرب، ومحمود زنكي وصلاح الدين في المشرق؛ استعادت
الأمة وحدتها وسيادتها، وحررت القدس والمسجد الأقصى، وكذا حين اجتاح المغول المشرق
الإسلامي؛ نهض المماليك الأتراك في مصر بقيادة قطز والظاهر بيبرس والمنصور والناصر
بالجهاد في سبيل الله حتى حرروها وحموها بالجهاد، وكذا نهض العثمانيون بالجهاد في
سبيل الله؛ فأعادوا للإسلام دولته، وللحق صولته؛ حتى لا يعرف في الخلفاء أكثر
جهادا منهم بأنفسهم، ولا يكاد يعرف فيهم خليفة لم يجاهد بنفسه، أو يخض جيشه
الجهاد في سبيل الله؛ حتى فتحوا القسطنطينية، وأسقطوا الإمبراطورية البيزنطية التي
طالما هددت العالم الإسلامي بحملاتها الصليبية!
حتى إذا سقطت خلافتهم حلّ بالأمة ما حلّ بها من
قبل في القرن الخامس والسابع من ضعف وذل وهوان!
ولقد تحدث مؤرخ الإسلام ابن كثير عن ارتباط مجد
الإسلام بالجهاد؛ فقال: (فكانت سوق الجهاد قائمة في بني أمية، ليس لهم شغل إلا
ذلك، قد علت كلمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وبرها وبحرها، وقد أذلوا الكفر
وأهله، وامتلأت قلوب المشركين من المسلمين رعبا، لا يتوجه المسلمون إلى قطر من
الأقطار إلا أخذوه، وكان في عساكرهم وجيوشهم في الغزو الصالحون والأولياء والعلماء
من كبار التابعين، في كل جيش منهم شرذمة عظيمة ينصر الله بهم دينه. فقتيبة بن مسلم
يفتح في بلاد الترك، حتى وصل إلى تخوم الصين، وأرسل إلى ملكه يدعوه، فخاف منه
وأرسل له هدايا وتحفا وأموالا كثيرة هدية، وبعث يستعطفه مع قوته وكثرة جنده، بحيث
إن ملوك تلك النواحي كلها تؤدى إليه الخراج خوفا منه... ومسلمة بن عبد الملك بن
مروان وابن أمير المؤمنين الوليد يفتحون في بلاد الروم ويجاهدون بعساكر الشام حتى
وصلوا إلى القسطنطينية، وبنى بها مسلمة جامعا يعبد الله فيه، وامتلأت قلوب الفرنج
منهم رعبا.
ومحمد بن القاسم ابن أخي الحجاج يجاهد في بلاد
الهند ويفتح مدنها في طائفة من جيش العراق وغيرهم.
وموسى بن نصير يجاهد في بلاد المغرب ويفتح مدنها
وأقاليمها في جيوش الديار المصرية وغيرهم.
وكل هذه النواحي إنما دخل أهلها في الإسلام وتركوا
عبادة الأوثان.
وقبل ذلك قد كان الصحابة في زمن عمر وعثمان فتحوا
غالب هذه النواحي ودخلوا في مبانيها، بعد هذه الأقاليم الكبار، مثل: الشام ومصر
والعراق واليمن وأوائل بلاد الترك، ودخلوا إلى ما وراء النهر وأوائل بلاد المغرب،
وأوائل بلاد الهند.
فكان سوق الجهاد قائما في القرن الأول من بعد
الهجرة إلى انقضاء دولة بني أمية، وفي أثناء خلافة بني العباس مثل أيام المنصور
وأولاده، والرشيد وأولاده، في بلاد الروم والترك والهند.
وقد فتح محمود سبكتكين وولده في أيام ملكهم بلادا
كثيرة من بلاد الهند، ولما دخل طائفة ممن هرب من بني أمية إلى بلاد المغرب
وتملكوها أقاموا سوق الجهاد في الفرنج بها.
ثم لما بطل الجهاد من هذه المواضع رجع العدو إليها
فأخذ منها بلادا كثيرة، وضعف الإسلام فيها، ثم لما استولت دولة الفاطميين على
الديار المصرية والشامية، وضعف الإسلام وقلّ ناصروه، وجاء الفرنج فأخذوا غالب بلاد
الشام حتى أخذوا بيت المقدس وغيره من البلاد الشامية، فأقام الله سبحانه بني أيوب
مع نور الدين، فاستلبوها من أيديهم وطردوهم عنه، فلله الحمد والمنة)[16]انتهى كلامه.
وكيف لو عاش ابن كثير رحمه الله ورأى السلطنة
والخلافة العثمانية وجهادها وفتوحها في أوربا، وطول مدتها، وكيف خصّها الله بفضل
الجهاد وقيامها به بما لم يقع مثله للدول الإسلامية من بعد الخلافة الراشدة!
فعسى أن يكون هذا الجزء في بيان ما ورد من
الأحاديث في فضل فتح اسطنبول وفضائلهم؛ مما ادخر الله لهم من صالح أعمالهم؛ موعظة
وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد!
وقد شاء الله أن أصنّف هذا الجزء قدرا ليلة ١ محرم
سنة ١٤٤٠ للهجرة بلا قصد في تحرّي هذا التاريخ؛ وهو أول يوم لي في تفرغي العلمي
لمدة سنة في إسطنبول حرسها الله!
وقد صنّف أئمة الحديث في فضائل المدن التي وردت
الأحاديث في فضائلها؛ كالمدينة ومكة والقدس والشام واليمن ومصر، ولم أقف على من
جمع ما ورد في فضائل إسطنبول (القسطنطينية) مع كثرة ما ورد فيها؛ فرأيت أن أجمع
هذا الجزء الحديثي من أربعين حديثا في فضائلها بين صحيح وحسن وحسن لغيره؛ وهو حد
التواتر الروائي عند عامة أهل الحديث؛ بل الراجح عندهم أن ما رواه عشرة هو من
المتواتر، مع أن البشارة بفتح القسطنطينية وفضل فاتحها ومن شارك في فتحها من
المتواتر القطعي من حيث العلم والمعرفة العامة بين الصحابة ومن بعدهم؛ وهو ما جعل
الخلفاء والأمراء يتنافسون على فتحها، وإنما البحث هنا في المتواتر من حيث الرواية
لا من حيث العلم عند غير أهل الحديث!
والتفريق بين الأمرين (التواتر العلمي والتواتر
الروائي) لا يكاد يفقهه اليوم أحد من أهل العلم بالحديث -إلا من رحم الله- فضلا عن
غيرهم!
ولا يشترط في المتواتر الروائي عند أهل الحديث صحة
الإسناد، وإنما يشترط له كثرة العدد مع إفادة العلم؛ كما قال الحافظ ابن حجر: (لأن
الهيئة الاجتماعية لها أثر ألا ترى أن خبر المتواتر يفيد القطع مع أنا لو نظرنا
إلى آحاده لم يفد ذلك، فإذا كان ما لا يفيد القطع بانفراده يفيده عند الانضمام
فأولى أن يفيد الانضمام الانتقال من درجة الضعف إلى درجة القوة... فإن المتواتر لا
يشترط في أخباره العدالة)[17].
وهو ما لم يتنبه له بعض من تصدى للحكم على
الأحاديث من المعاصرين، حتى ضعّفوا بالنظر الجزئي للأسانيد؛ ما يوجب النظر الكلي
تصحيحه؛ بل ضعّفوا من الأحاديث ما لم يسبقهم أحد إلى تضعيفه من قبل!
وما ورد في شأن القسطنطينية وفتحها وفضلها، متواتر
تواترا معنويا؛ بالأحاديث الصحيحة فضلا عن الحسنة والمقبولة، مع أن الصحيح في حد
المتواتر الذي يفيد العلم هو ما زاد عن المشهور -وهو ما رواه ثلاثة فأكثر ما لم
يبلغ حد المتواتر- وأفاد العلم؛ وهذا يصدق على ما رواه أربعة فأكثر وأفاد العلم،
وقد استعمل الشافعي التواتر بهذا المعنى في كتابه "الأم"؛ كما حررته في
بحثي (دفاع ثان عن ابن حبان) المنشور في مجلة المشكاة سنة ١٤١٤هـ- ١٩٩٤م.
كما لا يشترط في المتواتر الروائي على الصحيح أن
يكون كله مرفوعا إلى النبي ﷺ؛ بل يضم الموقوف فيه عن الصحابة إلى المرفوع في
إفادة المجموع العلم القطعي بثبوته عن الشارع؛ كما قال الإمام أحمد عن المسح على
الخفين: (ليس في قلبي من المسح شيء، فيه أربعون حديثا عن أصحاب رسول الله ﷺ ما رفعوا إلى النبي ﷺ وما وقفوا)[18].
ومن لطيف ما وقع لي في هذا التصنيف أني أردته جزءا
أربعينيًّا، ولم يكن يخطر على البال أن يكمل أربعين حديثا مرفوعا مقبولا، وقلت:
سأكمله بالآثار عن التابعين، فما زلت أجمع ما ورد من الأخبار ولا أعدها؛ حتى لم
يبق حديث على شرط هذه الرسالة إلا جمعته في مسودتها، ثم ما زلت أحذف منها وأحررها؛
حتى إذا كانت المراجعة الأخيرة، وأخذت أرقمها من جديد ولا أعرف كم سيكون ما بقي
منها بعد التمحيص؛ فإذا آخر حديث منها هو الأربعون تماما بلا زيادة ولا نقص!
وقد رتبتها على الأبواب واختصرتها، وعلقت عليها في
حاشيتها؛ لحاجتها إلى الشرح الذي يفسرها، إذ أحاديث الفتن من أهم أبواب الدين،
التي قلّت العناية بها عند المتأخرين، مع عظيم عناية النبي ﷺ ببيانها، حتى كانت أطول
خطبه ﷺ في الفتن وأخبار المستقبل، وتحديد طبيعة كل فتنة،
والمخرج من كل فتنة؛ وهو من كمال هدايته ﷺ للمؤمنين، وشفقته عليهم،
ورحمة الله بهم!
كما في الصحيحين عن حذيفة رضي الله عنه: (لقد
خطبنا النبي ﷺ خطبة، ما ترك فيها شيئا إلى قيام الساعة إلا
ذكره، علمه من علمه، وجهله من جهله، إن كنت لأرى الشيء قد نسيت، فأعرف ما يعرف
الرجل إذا غاب عنه فرآه فعرفه).
وفي صحيح البخاري عن عمر رضي الله عنه، قال: (قام
فينا النبي ﷺ مقاما، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة
منازلهم، وأهل النار منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه).
وفي صحيح مسلم عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري
رضي الله عنه؛ قال: (صلى بنا رسول الله ﷺ الفجر، وصعد المنبر
فخطبنا حتى حضرت الظهر، فنزل فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل
فصلى، ثم صعد المنبر، فخطبنا حتى غربت الشمس، فأخبرنا بما كان وبما هو كائن.
فأعلمنا أحفظنا).
وفي المسند عن المغيرة بن شعبة بإسناد حسن؛ قال:
(قام فينا رسول الله ﷺ مقاما، فأخبرنا بما يكون في أمته إلى يوم
القيامة، وعاه من وعاه، ونسيه من نسيه).
وقد كان عمر رضي الله عنه يسأل عن هذه الفتن؛ كما
في صحيح مسلم عن حذيفة رضي الله عنه، قال: (كنا عند عمر، فقال: أيكم سمع رسول الله
ﷺ يذكر الفتن؟ فقال قوم: نحن سمعناه، فقال: لعلكم
تعنون فتنة الرجل في أهله وجاره؟ قالوا: أجل، قال: تلك تكفرها الصلاة والصيام
والصدقة، ولكن أيكم سمع النبي ﷺ يذكر التي تموج موج
البحر؟ قال حذيفة: فأسكت القوم، فقلت: أنا، قال: أنت لله أبوك، قال حذيفة: سمعت
رسول الله ﷺ يقول: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا،
فأي قلب أشربها، نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكت فيه نكتة بيضاء، حتى
تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض،
والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا، ولا ينكر منكرا، إلا ما أشرب من
هواه، قال حذيفة: وحدثته: أن بينك وبينها بابا مغلقا يوشك أن يكسر، قال عمر: أكسرا
لا أبا لك؟ فلو أنه فتح لعله كان يعاد، قلت: لا بل يكسر، وحدثته أن ذلك الباب رجل
يقتل أو يموت حديثا ليس بالأغاليط)!
هذا ولأحاديث الفتن والملاحم فقه دقيق، وتأويل
رقيق، لا يحسنه إلا من آتاه الله فهما في كتابه وهداياته وسننه القدرية في الخلق،
ومعرفة بتاريخ الأمة وواقعها السياسي عميق، وفيها من الإشارات ما يستبطن الأحداث
العظيمة بألفاظ وجيزة؛ فهي كالمفاتيح لها، فإذا كانت أحكام الله وهداياته الشرعية
-في غالبها- ظاهرة المعاني تؤخذ من ألفاظ النصوص بشكل مباشر عادة، فإن أحكامه
وهداياته القدرية خفيّة المعاني غالبا تحتاج إلى تدبر وإعمال عقل، وغوص في
بواطنها؛ لأنها كالرؤى التي تستشرف المستقبل من وراء حجب الغيب، تحتاج إلى
التأويل، وتقوم على الإشارة والتلويح، حتى إذا وقعت في عالم الشهادة؛ ظهرت فاستوى
في العلم بها العالم والجاهل!
ومما وقع من اضطراب في هذا الباب ما وقع في شأن فتح
القسطنطينية من خلط، وتصوّر أن فتحها يكون مرة واحدة فقط! حتى قيل: بأنها لم تُفتح
بعد! وقيل: بل فُتحت زمن الصحابة! وقيل: سيكون فتحها قبل قيام الساعة فقط! وحتى
نفى الجاهلون والخرّاصون أن يكون الأمير الذي بشّر به النبي ﷺ هو محمد الفاتح حسدا من
عند أنفسهم وبغيا بعدما جاءهم العلم به! مع ظهور فتحها على يديه ظهورا بيّنا كظهور
فتح النبي ﷺ مكة، وفتح عمر القدس، وحتى جعل كنسيتها العظمى
"أيا صوفيا" مسجدا؛ لتصبح بعده عاصمة الخلافة الإسلامية ولمدة أربعة
قرون من استخلاف الله للمسلمين في الأرض!
وكل ذلك الخلط بسبب قصور الفقه في باب الفتن من
جهة، وخفاء إشارات أخبارها من جهة أخرى، وشيوع الأهواء فيمن تصدى لبيانها؛ ومن
ذلك: الاضطراب في شأن الدجّال، وتصوّر أنه فقط الذي يخرج في قبل قيام الساعة، مع
أن النبي ﷺ أخبر عن ظهور ثلاثين دجالا بعده، وعن غزو المسلمين
الدجال وفتحهم له كما في صحيح مسلم؛ عن النبي ﷺ قال: (تغزون جزيرة العرب
فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون
الدجال فيفتحه الله، قال: فقال نافع: يا جابر، لا نرى الدجال يخرج، حتى تفتح
الروم).
فدلّ على أن الدجال أمة من الأمم تغزى وتفتح كفارس
والروم!
وقد فصّلت فيه القول في غير هذا المحل، وسيأتي في
حاشية هذا الجزء ما يزيده بيانا.
كما أن الأخبار الموقوفة على الصحابة في هذا الباب
لها حكم الرفع؛ إذ لا يُقال مثلها في الرأي؛ لأنها من أخبار الغيب المستقبلي؛ بشرط
أن لا يكون الراوي ممن عرف عنه الأخذ من أهل الكتاب، إلا أن يكون ما رواه موقوفا
له شاهد مرفوع مقبول؛ ولهذا لم أورد من الموقوف هنا إلا ما له شاهد مرفوع من حيث
الجملة؛ بما يرجح أنه مسموع لهم عن النبي ﷺ، كما أن من مرجحات صدق
هذه الأخبار وقوعها بعد عصر رواتها، وبعد تصنيف الكتب التي روتها؛ مما يؤكد أنها
من البشارات والنبوءات الصادقة.
وقد اقتصرت على عزو الأحاديث عزوا مختصرا إلى
الصحيحين أو أحدهما إن وجد فيهما، أو الكتب التسعة أو أحدها إن وجد فيها، مع
الاكتفاء بحكم الأئمة على صحتها وحسنها؛ كالترمذي، وابن خزيمة في صحيحه، وابن حبان
في صحيحه، والحاكم في صحيحه، والذهبي عليه، والهيثمي، وابن حجر، والسيوطي،
والمناوي، وما لم أجد لهم عليه حكم اجتهدت في الحكم عليه متحريًّا قواعد أهل
الحديث.
وقد أوردت في هذا الجزء من الآثار ما ليس على شرط
الكتاب من باب الشرح للأحاديث النبوية المرفوعة الصحيحة والحسنة.
وربما أعدت الحديث، ورقمته رقما جديدا بالنظر
لزيادة في إسناده أو لفظه تقتضي ذلك مع قلته.
هذا وقد قدّمت لهذا الجزء بمقدمة عن النبوءات
المستقبلية، وكيف نزّلها الأئمة على حوادث عصرهم؛ بلا إرجاء ولا تعطيل. ثم أردفت
بالتبويب المختصر لهذه الأربعين؛ بما يفهم منه معانيها، وينبئ عن تأويلها
ومراميها؛ حتى ييسر الله شرحها، وبيان فقهها، على نحو مبسوط، وقد ذكرت بعضه في
الحاشية.
وأروي كل ما في هذا الجزء بأسانيدي إلى مصادرها من
أمهات كتب السنة؛ كما في ثبتي (إتحاف الثقات بأسانيد الأثبات).
وقد أجزت كل من زار إسطنبول - حرسها الله - من
أهلها وغيرهم؛ ممن عاصرني، إجازة خاصة برواية هذا الجزء عني، بأسانيدي المذكورة في
ثبت (الإتحاف) بالشروط المعتبرة عند أهل الفن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
تنزيل الكتاب
ــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] التوبة:33
[2] كما رويناه في مسند أحمد
وصحيح الحاكم.
[3] صحيح مسلم.
[4] النور:55
[5] محمد:38
[6] ٥/ ٤٠٩
[7] النساء:54
[8] التوبة
[9] محمد:38
[10] العلق:6
[11] سورة النساء.
[12] البقرة:251
[13] البقرة:216
[14] البقرة:217
[15] المائدة:64
[16] "البداية والنهاية" ٩/ ٨٧
[17] النكت على ابن الصلاح ١/ ٣٢٢
[18] المغني ١/ ٢٠٦