بسم الله الرحمن الرحيم
الأحكام الفقهية لنوازل الثورة الليبية
فتوى
في وجوب جهاد الثورة المضادة ودفع عدوان تنظيم الدولة على مجاهدي ليبيا وسوريا..
أ.د. حاكم المطيري
الأمين العام لمؤتمر الأمة
23 ربيع الأول 1437هـ - 3 يناير 2016م

لتنزيل الفتوى بصيغة PDF
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
فضيلة الشيخ د. حاكم المطيري..
نحن من ثوار ليبيا فتح الله لنا وأزحنا القذافي، وحاول بعض الثوار الدخول في مؤسسات الدولة الجديدة، فخالفهم بعض الإخوة وحملوهم ما لم يحتملوا، وجاء مشروع حفتر فقاومه الجميع دون استثناء، ومع الأيام طلبت بعض المجموعات أن لا يدخل معها إلا من تبرأ وتاب من ثورته وتجربته السابقة بحجة أنهم شاركوا الدولة التي لم تحكم بما أنزل الله، فهل لصاحب هذا القول مستند شرعي؟
علما أن كل الثوار متفقون على وجوب الحكم بما أنزل الله والله المستعان..
وما هو مفهوم دفع الصايل، وهل مقاومة الثورات المضادة يدخل في هذا الباب؟ وهل دفعنا له بالقتال يوجب علينا أن نكون تحت جماعة بعينها؟ أم أنه واجب على الأمة أن تدفعه وهل يشترط شرط في ذلك؟
الجواب:
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
وفتح الله عليكم وثبتكم ونصركم..
وهذه الأسئلة سبق أن أجبت عن بعضها في رسالة (الأجوبة الفقهية الدستورية على الأسئلة الليبية والسورية)، وبعضها في رسالة (الإعلام بأحكام الجهاد ونوازله في الشام)..
وسأجيب عما ليس فيهما، وأحيل عليهما، فأقول وبالله التوفيق..
أولا: جهاد السلطة الجائرة واجب شرعا إذا قدرت الأمة على ذلك سواء بالكلمة أو بالقوة، كما في صحيح مسلم رقم ٥٠ من حديث ابن مسعود: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون، وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، ولفظه في صحيح ابن حبان رقم ١٧٧: (سيكون أمراء من بعدي يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يقولون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، لا إيمان بعده)، وفي صحيح الحاكم: (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر)، وفي السنن (لتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطرا)..
وأوضح صور جور السلطة هو استحلالها قتل النفوس المعصومة، وأخذ الأموال بغير وجه حق، فهنا يجب دفع عدوانها وبغيها، لعموم قوله تعالى: {وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ. إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ}، وعموم قوله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي}، ومما يوجب الجهاد أيضا: إخراج الناس من أرضهم وتهجيرهم، وفتنتهم في دينهم، كما قال تعالى: {قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، فمن تركوا جهاد الظالمين الذين أخرجوهم من ديارهم وأبنائهم فقد ظلموا أنفسهم وصاروا ظالمين بتركهم القتال الذي شرعه الله لهم وأوجبه عليهم، قال ابن جرير الطبري في تفسيره: (وأما قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}، يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ}، يقول: أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد... {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}، يعني: والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه)، وهذه الآية وإن كانت قد وردت في قصة بني إسرائيل، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والحكم هنا واحد في وجوب الجهاد عند وجود أسبابه ومنها الإخراج من الوطن والأهل، كما فعلت قريش بالمسلمين، وفي القصة تحذير للمؤمنين أن يتركوا جهاد من أوجب الله جهاده خوفا من القتل والقتال، ولهذا خاطب الله المؤمنين: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ... إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّين وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَاركُمْ}، فجعل الله الإخراج من الديار كالفتنة في الدين، وقتل النفس بغير حق، وكلها يوجب الجهاد في سبيل الله، ولهذا أوجب الله الجهاد في سبيله لنصرة المستضعفين، كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ}، قال الزهري: (في سبيل الله وسبيل المستضعفين)..
فسبيل الله وسبيل المستضعفين واحد، وكلمة الله جاءت لإقامة العدل والقسط بين الخلق...
وقال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} والفتنة الظلم والعدوان على المستضعفين...
ولا فرق في ذلك بين وقوع هذه الجرائم من السلطة الجائرة أو السلطة الكافرة، ولا فرق بين جهاد الجائر وجهاد الكافر، من هذه الحيثية؛ لعموم النصوص، في دفع الظلم والبغي والعدوان من كل من صدر منه شيء من ذلك، على النفس أو الدين أو المال، كما جاء في الصحيحين في فريضة الزكاة التي كتبها النبي ﷺ للمسلمين: (هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله ﷺ على المسلمين، والتي أمر الله بها رسوله، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط)، فنهى عن أن يدفع المسلمون للسلطة الشرعية ما زاد عن الزكاة بغير وجه حق، وفي صحيح مسلم حديث رقم ١٤٠ عن أبي هريرة: (جاء رجل إلى رسول الله ﷺ، فقال: يا رسول الله، أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله» قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد»، قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار»)، فأمره النبي ﷺ بالقتال دفاعا عن ماله، ولم يستفصل عن الآخذ وهل هو السلطان أم غير السلطان، وعدم الاستفصال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال، كما قرره الإمام الشافعي في الرسالة في أصول الفقه، وعليه فلا فرق في ذلك بين السلطة وغيرها، إذ حديث فريضة الزكاة هو في شأن السلطة إذا أرادت أخذ أكثر من الزكاة الواجبة، ولهذا أخرج مسلم في صحيحه حديث رقم ١٤١ احتجاج عبدالله بن عمرو - بهذا الحديث المتواتر - على وجوب قتال أمير الطائف عنبسة بن أبي سفيان حين أراد الاعتداء على حديقته الوهط، فقد جاء في الحديث: (لما كان بين عبدالله بن عمرو وبين عنبسة بن أبي سفيان ما كان، تيسروا للقتال، فركب خالد بن العاص إلى عبد الله بن عمرو، فوعظه خالد، فقال عبد الله بن عمرو: أما علمت أن رسول الله ﷺ قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد»)، وقد روى الحديث مطولا عبد الرزاق في المصنف بإسناد صحيح - على شرط البخاري ومسلم حديث رقم ١٨٥٦٦ - (أرسل معاوية إلى عامل له أن يأخذ الوهط، فبلغ ذلك عبد الله بن عمرو فلبس سلاحه هو ومواليه وغلمته، وقال: إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من قتل دون ماله مظلوما , فهو شهيد» فكتب الأمير إلى معاوية أن قد تيسر للقتال , وقال إني سمعت رسول الله ﷺ يقول: «من قتل دون ماله فهو شهيد» فكتب معاوية: أن خل بينه وبين ماله)!
وفي الحديث الآخر الصحيح عن سعيد بن زيد عن النبي ﷺ: (من قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قاتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد)، وفي مسند أحمد رقم ٢٧٨٠ عن ابن عباس بإسناد صحيح: (من قتل دون مظلمته فهو شهيد)..
ورى مثله النسائي رقم ٤٠٩٦ عن سويد بن مقرن عن النبي ﷺ، ونحوه عن سعد بن أبي وقاص عند الطبراني..
فالحديث متواتر تواترا قطعيا في مشروعية ووجوب دفع الإنسان العدوان عن نفسه وماله وعرضه ودينه وأهله، سواء اعتدى عليه مسلم أو كافر، وسواء كان المعتدي عليه دولة وسلطة، أو فردا، أو جماعة.
وهذا مذهب أكثر الفقهاء كأبي حنيفة ومالك والظاهرية، وكل من يرى وجوب أو جواز الخروج على أئمة الجور، في عدم التفريق بين السلطة وغيرها..
قال ابن حزم ١٢/ ٢٨٥: (فهذا رسول الله ﷺ يأمر من سئل ماله بغير حق أن لا يعطيه، وأمر أن يقاتل دونه فيَقتل مصيبا سديدا، أو يُقتل بريئا شهيدا، ولم يخص - عليه السلام - مالا من مال، وهذا أبو بكر الصديق، وعبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - يريان السلطان في ذلك وغير السلطان سواء)..
ومثل ذلك بل أشد وجوب دفع عدوان الفرق الخارجية التي تستحل قتل أهل الإسلام تدينا، بما لا يحل القتال عليه، وتحكم على من خالفها بالردة فيما اختلف فيه فقهاء أهل الإسلام، كما يفعل تنظيم الدولة في سوريا وليبيا، وقتاله للمجاهدين الذين يخالفونه في الاجتهاد، ليحمل الأمة على رأيه واجتهاده، فحكمه حكم الصائل، بل حكم الفرق الخارجية، التي تستحل دماء أهل الإسلام بالرأي تبتدعه وتوالي عليه وتقاتل الأمة لأجله، كادعاء الخلافة ووجوب الطاعة لمن بايعوه، وكفر من خالفهم، وأحسن أحوالهم - إن لم يكن وراءهم العدو نفسه - أنهم يقاتلون على الملك، الذي رأى أكثر الصحابة أن القتال عليه قتال فتنة، فاعتزلوا القتال مع علي رضي الله عنه وهو خليفة راشد اختاره الصحابة بالرضا، ومع ذلك لم يروا له طاعة عليهم في قتال من خرجوا عن طاعته، فكيف بحال من يقاتلون الأمة ويستحلون دماءها بدعوى طاعة خليفة موهوم لا حقيقة لخلافته ولا سلطان له، وهو في أحسن أحواله متغلب بالقوة لا طاعة له على من تغلب عليهم فضلا عمن لا سلطان له عليهم أصلا! وقد قال عمر في صحيح البخاري: (من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا) وفي رواية أخرى: (فاقتلوه)!
وفي صحيح الحاكم - بإسناد على شرط الشيخين - رقم ٢٦٦٧: (قال مروان بن الحكم لأيمن بن خريم: ألا تخرج فتقاتل معنا؟ فقال: إن أبي وعمي شهدا بدرا، وإنهما عهدا إليّ أن لا أقاتل أحدا يقول: لا إله إلا الله، فإن أنت جئتني ببراءة من النار، قاتلت معك، قال: فاخرج عنا، قال: فخرج وهو يقول:
ولست بقـاتل رجـلا يصلي *** على سلطـان آخر من قــــريـشِ
له سلطـــــانه وعليّ إثمي *** مـــــعـاذ الله من جـــهل وطيـشِ
أأقتل مسلما في غير جرم *** فليس بنافعي ما عشـت عيشي)!
ومعلوم أن الأمة وشعوبها إنما ثارت على الطغاة من أجل استعادة حريتها لتختار من يحكمها بالرضا والشورى، فقيام تنظيم الدولة بممارسة ما مارسه القذافي وبشار من قتال الشعب ليفرض سلطانه عليهم جبرا وقهرا يوجب قتاله شرعا كما وجب قتال القذافي وبشار، ولا ينفع تنظيم الدولة التذرع لهذه الغاية باسم الخلافة والشريعة إذ هذا الفعل نفسه هو خروج عن الشريعة وأحكامها، فيحرم شرعا الافتئات على الأمة بشأن الخلافة بلا شورى ولا رضا، وأشد منه قتالها للمسلمين واستباحة دمائهم تحت ذريعة الخلافة، وكل ذلك يوجب جهاد الدفع لهذه الطائفة الباغية على الأمة وحقوقها ودمائها وأموالها بغير حق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى ٢٨/ ٣١٩: (ويجوز للمظلومين الذين تراد أموالهم قتال المحاربين بإجماع المسلمين، ولا يجب أن يبذل لهم من المال لا قليل ولا كثير إذا أمكن قتالهم، قال النبي ﷺ (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمته فهو شهيد)، وهذا الذي تسميه الفقهاء " الصائل " وهو الظالم بلا تأويل ولا ولاية، فإذا كان مطلوبه المال جاز دفعه بما يمكن فإذا لم يندفع إلا القتال قوتل..).
وقال في جامع المسائل ٤/ ٢٣١: (وأما إذا كانت فتنة بين المسلمين، مثل أن يقتتل رجلان أو طائفتان على ملك أو رئاسة، أو على أهواء بينهم، كأهواء القبائل والموالي الذين ينتسب كل طائفة إلى رئيس أعتقهم، فيقاتلون على رئاسة سيدهم، وأهواء أهل المدائن الذين يتعصب كل طائفة لأهل مدينتهم، وأهواء أهل المذاهب والطرائق كالفقهاء الذين يتعصب كل قوم لحزبهم ويقتتلون، كما كان يجري في بلاد الأعاجم، ونحو ذلك، فهذا قتال الفتنة ينهى عنه هؤلاء وهؤلاء، وقد قال النبي - ﷺ -: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار"، قالوا: يا رسول الله! هذا القاتل، فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه"، وفي الصحيح أنه قال: "من قتل تحت راية عمية يغضب لعصبة ويدعو لعصبة فليس منا - أو قال: - هو في النار").
وقال في الفتاوى ٢٨/ ٥٤٠: (ودفع ضرر العدو المفسد للدين والدنيا الذي لا يندفع إلا بذلك أولى، وإذا كانت السنة والإجماع متفقين على أن الصائل المسلم إذا لم يندفع صوله إلا بالقتل قتل، وإن كان المال الذي يأخذه قيراطا من دينار، كما قال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: "من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد، ومن قتل دون حرمه فهو شهيد" فكيف بقتال هؤلاء الخارجين عن شرائع الإسلام المحاربين لله ورسوله الذين صولهم وبغيهم أقل ما فيهم! فإن قتال المعتدين الصائلين ثابت بالسنة والإجماع).
والحاصل أن ما قامت به الأمة وشعوبها من الثورة على الطغاة في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن، وإسقاطها لهم، هو من الجهاد في سبيل الله، سواء خرجت عليهم دفاعا عن دينها، أو عن أرضها، ودمائها، وأموالها، بعد أن بلغ الطغيان حدا لا تستقيم معه حياة الشعوب، فمن أمرها بالتوبة من هذا الجهاد، فقد أمرها بنقيض ما أمرها الله به ورسوله من الجهاد في سبيله!
وليس لمثل هؤلاء الطغاة ولاية شرعية أصلا توجب لهم الطاعة، بل حالهم شر من حال الدولة العبيدية في مصر الذي أوجب العلماء آنذاك جهادها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية ٤/ ٤٧٧: (بل أبلغ من هذا أنه ولله الحمد لم يكن من الخلفاء الذين لهم ولاية عامة من خلفاء بني أمية وبني العباس أحد يتهم بالزندقة والنفاق، وبنو أمية لم ينسب أحد منهم إلى الزندقة والنفاق، وإن كان قد ينسب الرجل منهم إلى نوع من البدعة أو نوع من الظلم... وإنما كان المعروفون بالزندقة والنفاق بني عبيد القداح الذين كانوا بمصر والمغرب، وكانوا يدعون أنهم علويون وإنما كانوا من ذرية الكفار؟ فهؤلاء قد اتفق أهل العلم على رميهم بالزندقة والنفاق، وكذلك رمي بالزندقة والنفاق قوم من ملوك النواحي، من بني بويه وغير بني بويه؛ فأما خليفة عام الولاية في الإسلام فقد طهر الله المسلمين أن يكون ولي أمرهم زنديقا منافقا، فهذا مما ينبغي أن يعلم ويعرف فإنه نافع في هذا الباب)، فلا تكون لمثل هؤلاء ممن ظهر نفاقه أو زندقته ولاية على أهل الإسلام، ولا يتصور جواز ذلك والله يقول لرسوله {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ}!
ثانيا: تولي بعض المجاهدين الوزارة في حكومة ما بعد الثورة بقصد الإصلاح أمر مشروع، وهو يتردد بين الوجوب والاستحباب، بل لو تولى المسلم الوزارة في بلد غير إسلامي أصلا بقصد الإصلاح لكان عمله ذلك جائزا، كما في قصة يوسف مع ملك مصر {قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}، قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٢٨/ ٦٨: (وكذلك يوسف كان نائبا لفرعون مصر، وهو وقومه مشركون، وفعل من العدل والخير ما قدر عليه، ودعاهم إلى الإيمان بحسب الإمكان)..
وكذا كان حال النجاشي في الحبشة بعد إيمانه، فقد عدل فيهم وأصلح قدر استطاعته، كما قال ابن تيمية ١٩/ ٢١٨: (والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها، فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سم على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها)..
فلم يفرق شيخ الإسلام ابن تيمية في الحكم بين تولي يوسف الوزارة تحت حكم ملك مصر الكافر، وبين بقاء النجاشي في عهد النبي ﷺ في حكم قومه، حيث أسلم سنة ٦ للبعثة وبقي ملكا على الحبشة حتى توفي وصلى عليه النبي سنة ٩ للهجرة، وظلت الحبشة دار كفر، وقد أقره النبي ﷺ على ذلك، وكذا حال عمر بن عبد العزيز الذي اجتهد في الإصلاح وتوفي قبل إكماله، وكذا من تولى ولاية تحت حكم التتار، واجتهد بإقامة ما استطاع من العدل، فكل هؤلاء فعلوا جميعا الواجب المشروع في حقهم، والمقدور لهم، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها...
ومن كفّرهم لتوليهم مثل هذه الولايات - كالملك والوزارة والقضاء مع اجتهادهم في تحري الحق والعدل - فقد خالف الكتاب والسنة وقول عامة فقهاء الأمة وأئمة أهل السنة قديما وحديثا، فتولي الولايات قد يكون واجبا أو مستحبا بحسب المصلحة الشرعية التي تتحقق فيها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٢٠/ ٥٦: (ثم الولاية وإن كانت جائزة أو مستحبة أو واجبة، فقد يكون في حق الرجل المعين غيرها أوجب، أو أحب فيقدم حينئذ خير الخيرين وجوبا تارة واستحبابا أخرى، ومن هذا الباب تولي يوسف الصديق على خزائن الأرض لملك مصر، بل ومسألته أن يجعله على خزائن الأرض، وكان هو وقومه كفارا، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءَكُم بِهِ} الآية، وقال تعالى عنه: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ }، {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ} الآية، ومعلوم أنه مع كفرهم لا بد أن يكون لهم عادة وسنة في قبض الأموال وصرفها على حاشية الملك وأهل بيته وجنده ورعيته، ولا تكون تلك جارية على سنة الأنبياء وعدلهم، ولم يكن يوسف يمكنه أن يفعل كل ما يريد وهو ما يراه من دين الله، فإن القوم لم يستجيبوا له، لكن فعل الممكن من العدل والإحسان ونال بالسلطان من إكرام المؤمنين من أهل بيته ما لم يكن يمكن أن يناله بدون ذلك، وهذا كله داخل في قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فإذا ازدحم واجبان لا يمكن جمعهما فقدم أوكدهما لم يكن الآخر في هذه الحال واجبا، ولم يكن تاركه لأجل فعل الأوكد تارك واجب في الحقيقة، وكذلك إذا اجتمع محرمان لا يمكن ترك أعظمهما إلا بفعل أدناهما لم يكن فعل الأدنى في هذه الحال محرما في الحقيقة، وإن سمي ذلك ترك واجب وسمي هذا فعل محرم باعتبار الإطلاق لم يضر، ويقال في مثل هذا ترك الواجب لعذر وفعل المحرم للمصلحة الراجحة أو للضرورة؛ أو لدفع ما هو أحرم) انتهى كلامه رحمه الله..
فإذا كان الأمر كذلك في تولي الولاية في بلد غير إسلامي، فمن باب أولى توليها في بلد إسلامي مثل ليبيا، خاصة وأن الوثيقة الدستورية بعد الثورة قد نص فيها على أن الشريعة فوق الدستور، وأن كل ما خالفها يكون باطلا، وقد أفتى علماء ليبيا كالشيخ الفقيه المفتي صادق الغرياني بجواز ذلك.
فمن كفّر من دخل في حكومة الثورة، ومن تولى الولاية فيها، فقد كفّر من قام بالواجب أو المستحب، أو على أقل الأحوال بالجائز، أو بالمختلف فيه بين الفقهاء، ومن كفّر بما لا يوجب كفر فاعله، فقد خالف الكتاب والسنة كما في الصحيحين: (من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما)..
ثالثا: ثم إن الإصلاح المطلوب من حكومة الثورة منوط بالإمكان والاستطاعة، فقد أفسد الطغاة والاحتلال الذي فرضهم أحوال المجتمعات العربية فسادا عريضا لا يمكن إصلاحه بفترة وجيزة، كما قال النبي شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، ومعلوم شرعا وعقلا بأن إقامة أحكام الله يراعى فيها عند إقامتها العلم بها، والقدرة على تنفيذها، ولا فرق بين التدرج بها في عهد النبوة، والتدرج بها بعد ذلك في عصور تعطلها وشيوع الجاهلية، إذ المعنى والحكمة التي راعاها الشارع ابتداء نزولها هو أن العرب كانوا آنذاك حديثي عهد بجاهلية، فاقتضت حكمة الشارع التدرج في إقامة الأحكام فيهم بيانا وعلما وعملا، وكذا يجب مراعاة هذه الحكمة التشريعية في كل عصر تتعطل فيه أحكام الإسلام، كمثل هذا العصر الذي فقد المسلمون الشوكة فيه من جهة حتى أكرههم العدو المحتل على ترك الحكم بالإسلام وشرائعه بغير اختيارهم، ومن جهة أخرى شيوع الجاهلية فيما بينهم، وقلة الفقه في سياسة الأمة بأحكام الإسلام بعد مئة عام من غربة الإسلام في أرضه!
قال ابن تيمية ٢٠/ ٥٩: (والحجة على العباد إنما تقوم بشيئين: بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين أو حصل العجز عن بعضه: كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل، كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو مجموعهما كان بيانه لما جاء به الرسول شيئا فشيئا، بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، ولم تأت الشريعة جملة، كما يقال: إذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع، فكذلك المجدد لدينه والمحيي لسنته لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها، وكذلك التائب من الذنوب؛ والمتعلم والمسترشد لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله، إلى وقت الإمكان، كما عفا الرسول عما عفا عنه إلى وقت بيانه، ولا يكون ذلك من باب إقرار المحرمات وترك الأمر بالواجبات، لأن الوجوب والتحريم مشروط بإمكان العلم والعمل، وقد فرضنا انتفاء هذا الشرط، فتدبر هذا الأصل فإنه نافع. ومن هنا يتبين سقوط كثير من هذه الأشياء وإن كانت واجبة أو محرمة في الأصل، لعدم إمكان البلاغ الذي تقوم به حجة الله في الوجوب أو التحريم، فإن العجز مسقط للأمر والنهي، وإن كان واجبا في الأصل والله أعلم، ومما يدخل في هذه الأمور الاجتهادية علما وعملا أن ما قاله العالم أو الأمير أو فعله باجتهاد أو تقليد فإذا لم ير العالم الآخر والأمير الآخر مثل رأي الأول فإنه لا يأمر به ،أو لا يأمر إلا بما يراه مصلحة، ولا ينهى عنه إذ ليس له أن ينهى غيره عن اتباع اجتهاده، ولا أن يوجب عليه اتباعه، فهذه الأمور في حقه من الأعمال المعفوة، لا يأمر بها ولا ينهى عنها، بل هي بين الإباحة والعفو، وهذا باب واسع جدا فتدبره)!
فلم يفرق شيخ الإسلام ابن تيمية هنا في التدرج بين عهد النبوة والعهود التي بعدها إذا اندرست معالم الشريعة، ولم يفرق في وجوب التدرج بين العالم الذي يعلم الناس دينهم شيئا فشيئا، والأمير الذي يسوسهم بأحكام الإسلام شيئا فشيئا، بحسب القدرة والإمكان من جهة، والاستعداد للعمل والتنفيذ من جهة أخرى،
فكل من تولى الحكم أو الولاية في أي بلد إسلامي أو غير إسلامي، بلا ظلم للخلق، ولا فساد في الأرض، واجتهد بإقامة العدل المقدور له، فلا يؤاخذ على ما عجز عنه.
وقد أسلم النجاشي ملك الحبشة وكتم إيمانه ولم يستطع الحكم بالإسلام وشرائعه، وعدل بين قومه وسع طاقته، فلم يُكلف ما لا يستطيع، وصلى عليه النبي ﷺ.
وإقرار النبي ﷺ للنجاشي على بقائه في ملك الحبشة يحكم فيهم بالعدل المقدور له ويتقي الله ما استطاع دليل على مشروعية فعله لمن كان كمثله، قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى [١٩/ ٢١٨- ٢١٩]: (والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن؛ فإن قومه لا يقرونه على ذلك وكثيرا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيا بل وإماما وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك بل هناك من يمنعه ذلك ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سم على ذلك. فالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها).
وقد أثنى النبي ﷺ على النجاشي قبل إسلامه لعدله، وأمر أصحابه بالهجرة إليه، وأثنى عليه بعد إسلامه وبعد وفاته وصلى عليه صلاة الغائب ووصفه بالأخ الصالح، كما في الصحيحين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (النجاشي وإن كان ملك النصارى فلم يطعه قومه في الدخول في الإسلام ، بل إنما دخل معه نفر منهم ، ولهذا لما مات لم يكن هناك أحد يصلي عليه ، فصلى عليه النبي ﷺ بالمدينة ، خرج بالمسلمين إلى المصلى فصفهم صفوفا وصلى عليه ، وأخبرهم بموته يوم مات ، وقال ﷺ: "إن أخا لكم صالحا من أهل الحبشة مات") منهاج السنة النبوية [٥/ ١١٢].
وقال ابن القيم في تفسير قوله تعالى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ... }: (هؤلاء كانوا يكتمون إيمانهم في قومهم ولا يتمكنون من إظهاره، ومن هؤلاء مؤمن آل فرعون الذي كان يكتم إيمانه، ومن هؤلاء النجاشي الذي صلى عليه رسول الله ﷺ فإنه كان ملك نصارى الحبشة وكان في الباطن مؤمنا، وقد قيل: إنه وأمثاله الذين عناهم الله عز وجل بقوله ﷻ: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}) اجتماع الجيوش الإسلامية [٢/ ٧٧].
وإقامة أحكام الله في الأرض واجب على أهل الإسلام في حال الاستخلاف، وما عجزوا عنه وقت الاستضعاف فلا إثم عليهم إذا عدلوا؛ قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى [٣٥/ ٢٥]: (تسقط سائر الواجبات مع العجز كحال النجاشي لما أسلم وعجز عن إظهار ذلك في قومه؛ بل حال يوسف الصديق تشبه ذلك من بعض الوجوه...).
رابعا: وهذا يقتضي ممن تصدى للإمامة والسياسة والحكم أن يعرف أحكام الله وما سنه رسوله ﷺ حتى لا يحكم بجور ولا باطل، كما أمر بذلك ﷺ: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)، وقال ﷺ: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، فالواجب على علماء الإسلام ودعاته في كل بلد، وعلى أهل الصلاح والفضل القيام بالواجب الشرعي، والجمع بين الجهاد وقيادة الأمة في مواجهة الطاغوت من جهة، والعلم بأحكام الكتاب والسنة في باب سياسة الأمة بالعدل والقسط، فإنه ما لم يكن هناك معرفة علمية عميقة وفقه بأصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، فلا يمكن قيادة الأمة بهداية الكتاب ونور السنة، ولا يمكن تحقيق المقاربة بين الخطاب الإسلامي والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الحالي، الذي أفسده الطغاة فسادا ليس من السهل إصلاحه، إلا لمن أوتي فهما في أصول الخطاب السياسي الراشدي وكلياته ومقاصده، وفهما في الواقع السياسي ومشكلاته وتعقيداته، فمن أخذ الكتاب بقوة العلم، وتصدى للواقع بقوة الإرادة والحزم، كان أحرى بالتوفيق والسداد..
وإن أسعد علماء هذا العصر ومصلحيه حظا من أحيا سنن النبوة في الحكم وسياسة الأمة، وهو من التجديد في الدين، كما في الحديث الصحيح: (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها)، والمقصود بالسنة هنا سننه في الإمامة، وهي التي عطف عليها سنن الخلفاء الراشدين: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وإياكم ومحدثات الأمور)، وهي المقصودة بحديث: (يكون أمراء لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي) أي سننه في باب الإمارة والحكم والإمامة، وهي تلك المحدثات التي أخبر بها النبي ﷺ على سبيل التحذير منها، كما في حديث: (ثم يكون ملكا عضوضا ثم ملكا جبريا) (ثم يكون الطواغيت)، ثم بشر بعدها بعودتها خلافة على نهج النبوة!
وإن الواجب على أهل العلم في هذه النوازل الدعوة إلى بعث الخطاب السياسي القرآني والنبوي والراشدي، وما جاء به من العدل والحرية والحق، والقسط والرحمة بالخلق، كما قال تعالى: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ}، وقال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}..
فالواجب معرفة القسط وإحياء سنن النبوة والحكم الراشد حسب الإمكان بالعلم بها وتعليمها، والدعوة إليها بالحكمة والموعظة الحسنة، والتبشير بها وبعودتها من جديد، ثم عرضها على الأمة كمشروع سياسي للحكم الراشد، وقد اجتهدت في جمع تلك الأصول والسنن في كتاب (الحرية أو الطوفان)، وكتاب (تحرير الإنسان وتجريد الطغيان..دراسة في أصول الخطاب القرآني والنبوي والراشدي)، وكتاب (الفرقان بين حقائق الإيمان وأباطيل الشرك والطغيان)، وكتاب (نحو وعي سياسي راشد)، وكتاب (السنن النبوية في الأحكام السياسية)، وكتاب (الأربعون النبوية في الأحكام السياسية)، ورسالة (من الحكومة الراشدة إلى الخلافة الراشدة) وغيرها من الدراسات في هذا الباب..
قال الشيخ السعدي رحمه الله في القواعد الحسان ص ١٠٨: (ومن الآيات الجامعة في السياسة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} [النساء: ٥٨] والآية التي بعدها.
فالأمانات يدخل فيها أشياء كثيرة، من أجلها: الولايات الكبيرة والصغيرة والمتوسطة، الدينية والدنيوية. فقد أمر الله أن تؤدى الأمانات إلى أهلها بأن يجعل فيها الأكفاء لها، وكل ولاية لها أكفاء مخصوصون. فهذا الطريق الذي أمر الله به في الولايات من أصلح الطرق لصلاح جميع الأحوال، فإن صلاح الأمور بصلاح المتولين والرؤساء فيها والمدبرين لها والعاملين عليها، فيجب تولية الأمثل فالأمثل: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين}.
فصلاح المتولين للولايات الكبرى والصغرى عنوان صلاح الأمة وضده بضده.
ثم أرشدهم الله إلى الحكم بين الناس بالعدل الذي ما قامت السماوات والأرض إلا به، فالعدل قوام الأمور وروحها، وبفقده تفسد الأمور كلها ويختل الميزان لكل شيء.
والحكم بالعدل من لازمه معرفة العدل في كل أمر من الأمور، فإن فهمت الأمة حقيقة العدل وعرفت حدوده وضعت كل شيء في موضعه، وكان المتولون للولايات هم الكمّل من الرجال والأكفاء للأعمال فجرت تدابيرهم وأفعالهم على العدل والسداد، متجنبين للظلم والفساد، ترقت الأمة وصلحت أحوالها، وتمام ذلك في الآية الأخرى التي أمر الله فيها بطاعة ولاة الأمور بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، فهل يوجد أكمل وأغنى من هذه السياسة الحكيمة الرشيدة التي عواقبها أحمد العواقب؟
ومن الآيات المتعلقة بالسياسة الشرعية: جميع الآيات التي شرع الله فيها الحدود على الجرائم، العقوبات على المتجرئين على حقوقه وحقوق عباده وهي في غاية العدالة والحسن وردع المجرمين والنكال والتخويف لأهل الشر والفساد، وتطهير المجتمع من فسادهم، وتنقيته من جرائمهم صيانة لدماء الخلق وأموالهم وأعراضهم.
والآيات التي فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكلم بالحق مع من كان وفي أي حال من الأحوال.
وكذلك ما فيها من النهي عن الظلم فيه إرشاد لإعطاء الناس الحرية النافعة التي معناها التكلم بالحق، والدعوة إلى الصالح للأمة، وفي الأمور التي لا محظور فيها، كما أن الحدود والعقوبات والنهي عن الكلام القبيح والفعل القبيح فيها رد الحرية الزائفة الكاذبة الباطلة التي يتشدق بها الحمقى والسفهاء الذي عموا وصموا، فلا يرون ما حل بأمم الغرب من الدمار من ثمرات هذه الحرية الفاجرة الخاسرة. إن ميزان الحرية الصحيحة النافعة هو ما أرشد إليه القرآن والنبي ﷺ.
وأما إطلاق عنان الجهل والظلم والأقوال الضارة المحللة للأخلاق، فإن من أكبر أسباب الشر والفساد، المؤدية إلى الفوضى المحضة وانحلال الأخلاق التي هي قوام كل أمة.
فنتائج الحرية الصحيحة أحسن النتائج، ونتائج الحرية الفاسدة أقبح النتائج، فالشارع فتح الباب للأولى، وأغلقه عن الثانية، تحصيلا للمصالح ودفعا للمضار والمفاسد) انتهى كلام السعدي.
وهو يؤكد ضرورة العمل السياسي والإصلاح وإقامة العدل واختيار الأكفاء الأمناء وتحقيق الحرية الصحيحة التي جاء بها الإسلام... إلخ
ولا شك بأن العلم بسنن الرشد في باب الحكم وسياسة الأمة لن يكون كافيا وحده، ما لم يصبح ذلك مشروعا سياسيا يؤمن به ويحمله سياسيون عمريون محنكون، ومصلحون مخلصون، يعرفون الواقع والممكن لهم فيه، والسنن وأصولها وفروعها، والأحق منها بالتقديم، على نحو يجمع الأمة ولا يفرقها، ويقيم ما أمكن من العدل، ويبطل ما أمكن من الجور، بحسب المقدور، فقد قطع الطاغوت شوطا في كل بلد في تغريب الأمة وتضليلها وإفساد واقعها، وقد قال عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لوالده الخليفة الراشد عمر – كما في رواية أحمد في الزهد بإسناد صحيح - (يا أبت ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فوالله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك! قال يا بني إني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل فأؤخر ذلك حتى أخرج منه طمعا من طمع الدنيا، فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه).
وفي رواية المروزي في كتاب السنة: (يا أمير المؤمنين ألا تمضي كتاب الله وسنة نبيه؟ والله ما أبالي أن تغلي بي وبك القدور! فقال له يا بني إني أروض الناس رياضة الصعب أخرج الباب من السنة فأضع الباب من الطمع! فإن نفروا للسنة سكنوا للطمع! ولو عمرت خمسن سنة لظننت أني لا أبلغ فيهم كل الذي أريد، فإن أعش أبلغ حاجتي، وإن مت فالله أعلم بنيتي).
وعند أبي نعيم في الحلية: (يا أمير المؤمنين ما أنت قائل لربك غدا إذا سألك فقال: رأيت بدعة فلم تمتها، أو سنة لم تحيها؟ فقال: له يا بني أشيء حملتكه الرعية إلى، أم رأي رأيته من قبل نفسك؟ قال: لا والله ولكن رأي رأيته من قبل نفسي، وعرفت أنك مسئول فما أنت قائل؟ فقال له أبوه: رحمك الله وجزاك من ولد خيرا، فوالله إني لأرجو أن تكون من الأعوان على الخير! يا بني إن قومك قد شدوا هذا الأمر عقدة عقدة وعروة عروة، ومتى ما أريد مكابرتهم على انتزاع ما في أيديهم لم آمن أن يفتقوا علي فتقا تكثر فيه الدماء، والله لزوال الدنيا أهون من أن يهراق في سبي محجمة من دم، أو ما ترضى أن لا يأتي على أبيك يوم من أيام الدنيا إلا وهو يميت فيه بدعة ويحيى فيه سنة، حتى يحكم الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الحاكمين).
وفي رواية أخرى عند أبي نعيم في الحلية قال له: (ما يمنعك أن تنفذ لرأيك في هذا الأمر؟ فوالله ما كنت أبالي أن تغلى بي وبك القدور في إنفاذ الأمر! فقال عمر إني أروض الناس رياضة الصعب، فان أبقاني الله مضيت لرأيي، وإن عجلت علي منيتي فقد علم الله نيتي، إني أخاف إن بادهت الناس بالتي تقول أن يلجئوني إلى السيف، ولا خير في خير لا يجيء إلا بالسيف).
فهذا ما قاله الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز في القرن الثاني، في شأن إحياء سنن العدل والرشد في الحكم وسياسة الأمة، وإبطال الجور في هذا الباب، فكيف بأحوال الأمة اليوم!
ولهذا فالواجب الإصلاح السياسي بحسب الإمكان، كما في قول النبي شعيب: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}، قال الشيخ السعدي في تفسيره لها، والفوائد التي تستفاد منها: (ومنها: أن وظيفة الرسل وسنتهم وملتهم، إرادة الإصلاح بحسب القدرة والإمكان، فيأتون بتحصيل المصالح وتكميلها، أو بتحصيل ما يقدر عليه منها، وبدفع المفاسد وتقليلها، ويراعون المصالح العامة على المصالح الخاصة، وحقيقة المصلحة، هي التي تصلح بها أحوال العباد، وتستقيم بها أمورهم الدينية والدنيوية، ومنها: أن من قام بما يقدر عليه من الإصلاح، لم يكن ملوما ولا مذموما في عدم فعله ما لا يقدر عليه، فعلى العبد أن يقيم من الإصلاح في نفسه، وفي غيره، ما يقدر عليه) انتهى كلام السعدي.
ولهذا لم يتوقف النبي ﷺ والصحابة رضي الله عنهم وهم في مكة عن الدعوة إلى كل عدل وخير وبر، ومن ذلك قصة الأراشي - كما في السيرة - وكان رجلا غريبا عن مكة، وكان له عند أبي جهل حق، فرفض أن يرد عليه حقه، فجاء يشتكي لقريش فأشاروا عليه أن يذهب للنبي ﷺ، فلما جاءه مشى معه ﷺ حتى ضرب باب دار أبي جهل وهو (فرعون هذه الأمة) كما في الحديث، وقال له: أعط الرجل حقه! فارتعد منه أبو جهل ودفع إليه حقه!
فلم يتوقف النبي ﷺ عن نصرة المظلوم وإقامة العدل، بدعوى أنه في مكة، ولا شوكة له فيها، أو أنه لا بد من حكومة إسلامية، أو أن الطاغية لا يؤمر بإصلاح، ولا ينهى عن فساد حتى يؤمن!
وكذا قال ﷺ: (شهدت في بيت عبد الله بن جدعان حلفا - وكان على نصرة المظلوم - لو دعيت إليه في الإسلام لأجبت)!
وهذا يؤكد أن النبي ﷺ ظل على التزامه بهذا الحلف وهو في مكة قبل قيام الدولة في المدينة، وكذا في المدينة بعد قيامها.
والمقصود أن الأمة لا تتعطل عن الإصلاح في كل مجال، وفي كل بلد، حسب استطاعتها، فتدعو إلى العدل، وتأخذ على يد الظالم، وتسعى لتحقيق المساواة، وإصلاح شئون حياتها... إلخ.
فأعظم الإصلاح وأفضل المصلحين من عمل من أجل إقامة (الخلافة الراشدة) في الأمة كلها، ثم من عمل من أجل إقامة (الدولة الراشدة) و (الحكومة الراشدة)، في أي بلد من بلدان المسلمين، ثم من تصدى لتحقيق أي إصلاح ولو جزئي، في أي بلد إسلامي بأي وسيلة مشروعة تحقق الإصلاح سلمية كانت أو ثورية، دستورية كانت أو جماهيرية، بحسب الظرف المحيط به.
ولا يخفى أن الخلافة رئاسة عامة فعلية على الأمة كلها، فلا يمكن أن تقوم في قطر واحد اليوم، لا تتجاوز حدود السلطة الفعلية فيه حدود الدولة القطرية، وشأن الخلافة يخص الأمة كلها، ولا تقوم الخلافة إلا بها أو بأكثر دولها وشعوبها، حال تحررها واتحادها، فلم يعد مقدورا اليوم إلا إقامة دول وحكومات راشدة في كل قطر يتحرر فيه شعبه، وهو الممكن اليوم في ليبيا، حيث تكون السلطة فيه رئاسة خاصة على بعض الأمة في قطر من أقطارها، حتى تعيد الأمة وحدتها وخلافتها في المستقبل.
خامسا: ولا يقتصر ذلك الإصلاح على الأمة في دار الإسلام، بل على الأقلية من المسلمين في غير دار الإسلام الدعوة للإصلاح والعدل، فالواجب على المسلمين في كل بلد، أن يدعوا إلى الإصلاح والعدل والخير والبر، والاستعانة بأقوامهم وعصائبهم وتجمعاتهم على تحقيق الإصلاح، كما قال العلامة عبد الرحمن السعدي في تفسير قوله: {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} وأنه يجوز للمسلمين في غير دار الإسلام أن يؤيدوا قومهم في إقامة أنظمة الحكم الجمهورية الديمقراطية، لما يتحقق لهم فيها من عدل وصلاح، بخلاف أنظمة الحكم المستبدة الدكتاتورية!
قال السعدي في تفسيره: (ومنها: أن الله يدفع عن المؤمنين بأسباب كثيرة، قد يعلمون بعضها, وقد لا يعلمون شيئا منها، وربما دفع عنهم، بسبب قبيلتهم، أو أهل وطنهم الكفار، كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه، وأن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين، لا بأس بالسعي فيها، بل ربما تعين ذلك، لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان، فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة) انتهى كلام العلامة عبد الرحمن السعدي.
وهذا هو السبب في أمر النبي ﷺ بعض أصحابه بالهجرة للحبشة - ولم تكن دار إسلام بل كانت دار سلم وأمن - لما فيها من عدل!
والمقصود أنه إن استطاع المسلمون في بلدانهم إقامة العدل والقسط الذي جاء به الإسلام في ظل خلافة راشدة وأمة واحدة، فهذا هو الأصل الذي يجب على الأمة إقامته، وهو ما بشر بعودته النبي ﷺ، فإن لم يستطيعوا في هذا العصر إلا إقامة دول إسلامية عادلة وحكومات راشدة في أقطارهم، أو في بعض بلدانهم، فهذا هو الواجب على من استطاع ذلك منهم في تلك الأقطار، كما في الحديث الصحيح: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
فإن لم يقدروا لا على خلافة راشدة عامة، ولا على دولة وحكومة راشدة خاصة، بسبب ضعفهم وعجزهم، وقوة عدوهم، واستطاعوا مع غيرهم من أقوامهم إقامة ما يمكن من العدل والقسط في ظل حكومة عادلة، فهذا هو الواجب في حقهم، كما قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى ٦/ ٣٢٢: (فإن الناس لم يتنازعوا في أن عاقبة الظلم وخيمة، وعاقبة العدل كريمة، ولهذا يروى: الله ينصر الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة)!
وقال أيضا في مجموع الفتاوى ٦/ ٣٤٠: (وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم – أي المعاصي والفجور - أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة! ويقال: الدنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظلم والإسلام، وقد قال النبي ﷺ (ليس ذنب أسرع عقوبة من البغي وقطيعة الرحم) فالباغي يصرع في الدنيا وإن كان مغفورا له مرحوما في الآخرة، وذلك أن العدل نظام كل شيء؛ فإذا أقيم أمر الدنيا بعدل قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدل لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة) انتهى كلامه.
ولهذا لم يشكل على علماء الأمة في أوائل القرن الماضي ضرورة الإصلاح بكل وسيلة مشروعة، حتى بعد سقوط الخلافة وزوال الحكم الإسلامي، وقيام الدول القطرية بدساتيرها الحديثة، وقد فرقوا بين حكم الدساتير التي هي عقود تجري علها أحكام العقود، وبطلان الشروط الفاسدة منها، وحكم القوانين الوضعية التي تخالف أحكام الشريعة لكونها أحكاما يلتزم بها القضاة فيحرم العمل بها، وقد كان العلامة القاضي الشرعي والمحدث المجتهد الشيخ المصري أحمد شاكر من أوائل فقهاء الأمة الذين أدركوا الفرق بين الدستور والقانون، وأجاز العمل السياسي البرلماني لتحقيق الإصلاح، حيث يقول عن القوانين الوضعية التي تصادم أحكام الشريعة: (القضاء في الأعراض والأموال والدماء بقانون يخالف شريعة الإسلام، وإلزام أهل الإسلام بالاحتكام إلى غير حكم الله، هذا كفر لا يشك فيه أحد من أهل القبلة)!
بينما يقول في رسالته (الكتاب والسنة يجب أن يكونا مصدر التشريع في مصر) - التي كانت في الأصل محاضرات ألقاها على رجال القانون في مصر - (سيكون السبيل إلى ما نبغي من نصر الشريعة السبيل الدستوري السلمي، أن نبث في الأمة دعوتنا، ونجاهد فيها ونجاهر بها، ثم نصاولكم عليها في الانتخاب، ونحتكم فيها إلى الأمة، فإذا وثقت الأمة بنا، ورضيت عن دعوتنا، واختارت أن تحكم بشريعتها، طاعة لربها، وأرسلت منا نوابها للبرلمان، فسيكون سبيلنا وإياكم أن ترضوا بما يقضي به الدستور، فتلقوا إلينا مقاليد الحكم كما تفعل كل الأحزاب، ثم نفي لقومنا بما وعدناهم به من جعل القوانين كلها مستمدة من الكتاب والسنة..).
فهنا يفرق الشيخ بين التحاكم إلى القوانين الوضعية التي هي كفر بواح وردة جامحة، وقد نص على ذلك في كثير من مؤلفاته، وفي المقابل يدعو إلى الالتزام بالدستور، والاحتكام إلى الشعب المصري، والإصلاح من خلال العمل السياسي السلمي الدستوري، ومن خلال الانتخابات، ودخول البرلمانات؟!
وما ذكره الشيخ أحمد هنا يكاد يوافقه عليه كافة علماء عصره ودعاتهم آنذاك، كالشيخ حسن البنا، وقبلهما رشيد رضا، وشيخ الإسلام مصطفى صبري وغيرهم من المصلحين...
وذلك للفرق الجلي بين القانون الذي هو حكم قد يتعارض مع حكم الشارع فيكون كفرا، والدستور الذي هو عقد ووثيقة سياسية تنظم شئون الدولة، فيصح منها ما وافق الشرع، ويبطل من بنوده وشروطه ما خالف حكم الشارع، فتجري عليه أحكام العقود، ولهذا السبب ولمعرفة العلامة الفقيه القاضي المحدث أحمد شاكر بهذا الفرق قال ما قال في القانون والدستور، وهو ما لم يفقهه المتأخرون!
والمقصود أن مثل هذه النوازل والمشكلات يجب على علماء الأمة التصدي لها، والاجتهاد فيها، ولا تمنع تعقيدات الواقع علماء الأمة من الخوض في غمارها على بصيرة وفقه، وإنما يعتزلها رجلان؛ رجل لم يؤت فهما في هذا الباب فهو يخشى على دينه، فيدع الدنيا يسوسها الطغاة وأهل الباطل بباطلهم، أو رجل آتاه الله فهما فيه ولم يؤت عزيمة وإرادة، كما قال عمر الفاروق: (اللهم إني أشكي عجز التقي الثقة، وجلد الفاجر)!
سادسا: ثم إن التعددية والتداول السلمي للسلطة كمفهوم سياسي ليس نقيضا للإسلام والإيمان بل نقيض للاستبداد والطغيان، وهو يُبحث في باب فقه الشورى لا باب الردة! والتداول السلمي للسلطة والتعددية السياسية يقابلان الدكتاتورية والاستبداد والاستفراد بالسلطة، فهما كالعدل والظلم، وقد يوجدان في نظام إسلامي أو علماني.
ولا شك بأن النظام الجمهوري الذي يشترك الشعب في اختياره ومحاسبته، خير من حكم الطغاة والجبابرة، وقد قرر العلامة عبدالرحمن السعدي بأن للمسلمين أن يتعاونوا مع قومهم غير المسلمين على إقامة نظام جمهوري عادل إذا تعذر إقامة نظام إسلامي راشد، فجاء في تفسيره (١/ ٣٨٨): (فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار، وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد والشعوب من حقوقهم الدينية والدنيوية، لكان أولى من استسلامهم لدولة تقضي على حقوقهم الدينية والدنيوية، وتحرص على إبادتها، وجعلهم عمَلَةً وخَدَمًا لهم، نعم إن أمكن أن تكون الدولة للمسلمين، وهم الحكام، فهو المتعين، ولكن لعدم إمكان هذه المرتبة، فالمرتبة التي فيها دفع ووقاية للدين والدنيا مقدمة).
والقصد من الاستشهاد بقول السعدي هو أن هذه أحكام اجتهادية فقهية، لا يسوغ الحكم على من اضطر إليها بالردة والشرك، وكلام السعدي واضح في أنه إذا لم يتمكن المسلمون من إقامة نظام إسلامي فلهم التعاون مع قومهم على إقامة نظام عادل ولو تحت ولاية غير المسلمين!
فلا تخرج المسألة من دائرة الفقه والاجتهاد إلى دائرة العقيدة والإسلام والشرك، وإلا لما جاز لهم ذلك حتى في حال عجزهم!
سابعا: ثم إن الواجب شرعا سؤال أهل العلم والفقه، والرجوع إليهم لمعرفة حكم هذه النوازل، كما قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}، {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ}، وقال ﷺ: (من يرد الله به خيرا يفقه في الدين)،
فمن لم يراع الخلاف الفقهي وما ذهب إليه عامة فقهاء العصر، كالشيخ مصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية، والشيخ محمد رشيد رضا، وحسن البنا، وما دعا إليه المحدث أحمد شاكر، وابن باز وابن عثيمين وغيرهم، في شأن الانتخابات والبرلمان والدستور، فقد خرج من دائرة الفقه، وحجر على الأمة واسعا، فإن تجاوز ذلك إلى الحكم على من خالفه بالشرك والكفر، واستحل قتال أهل الإسلام بمثل هذه القضايا الفقهية الاجتهادية والسياسة الشرعية، فقد خرج من دائرة أهل السنة وعامة الأمة، إلى دائرة الفرق الخارجية، التي أوجب الشارع قتالهم إذا صالوا على أهل الإسلام!
ثامنا: أما بخصوص السؤال عن قتال الثورة المضادة، ومن أحق الفصائل بالالتحاق بها في جهادها:
فالصحيح أن قتال الثورة المضادة اليوم التي يقف خلفها عدو الأمة الخارجي ليستعيد سيطرته عليها من جديد هو من باب جهاد الدفع، وقتال دفع الصائل، وهو فرض عين على أهل البلد، وعلى من وراءهم فرض كفاية، فإن عجزوا عن الدفع تعين على الأمة كلها، وفرض العين يستوي فيه الرجال والنساء والكبار والصغار من المكلفين، وعلى كل قادر على القتال، ولا يشترط له أي شرط إلا القدرة، فلا تستأذن المرأة زوجها، ولا الابن والده، ولا المدين غريمه، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى المصرية 4/ 508: (أما قتال الدفع عن الحرمة والدين فواجب إجماعا، فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان)، وقال أيضا: (وإذا دخل العدو بلاد الإسلام فلا ريب أنه يجب دفعه على الأقرب فالأقرب، إذ بلاد الإسلام بمنزلة البلدة الواحدة، وأنه يجب النفير إليها بلا إذن والد ولا غريم).
وفروض الأعيان لا تتفاضل من حيث الوجوب والأجر بجهة دون جهة، إلا بما يكون عليه حال المكلف حين أداء الفرض، فيراعى في ذلك أحوال المكلف نفسه، فحيثما كان أنشط في أداء الفرض وهو هنا الجهاد فذلك أفضل بحقه، والواجب شرعا أن يكون للجميع أمير ورئيس وحكومة تنظم شئونهم في الحرب والسلم، ويحرم شرعا الخروج عن طاعتها، كما قال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، وأجمع الفقهاء بأن أمر الحرب والقتال موكول إليهم، ولا يفتئت أحد على السلطة التي رضي بها المسلمون في بلدهم، إن قامت بمسئوليتها في الجهاد والدفاع عنهم، ولهذا تقرر في أصول أهل السنة والجماعة بأن الجهاد جائز وماض مع كل بر وفاجر، ما دام القتال نفسه مشروعا في حد ذاته، فإذا اختار الشعب حكومة؛ فالواجب الدفاع عنها والقتال معها، فإن لم تكن هناك سلطة ولا حكومة تدافع عنهم، فالواجب على الجميع الدفع عن أنفسهم وحرماتهم كيفما تيسر لهم، وتنظيم صفوفهم وجماعاتهم بحسب الممكن لهم، كما كان حال الأفغان حين استولى عليهم الشيوعيون بدعم من الروس، فنهض لهم كل من استطاع من أهل القوة والحمية بحسب حالهم، كما هي طبيعة الثورات عند اندلاعها، وتختلف ظروف المجاهدين، فمن كان وجوده في القتال مع أهل بلده ومدينته وقبيلته أنشط له في جهاد الدفع فهو أفضل له، كما كان النبي ﷺ يفعل فكان المهاجرون يقاتلون تحت رايتهم، وكان للأنصار رايتهم، وكان للقبائل راياتها كأسلم وغفار... إلخ.
إذ لا فرق في الأجر أن يجاهدوا تحت راية المهاجرين أو راية الأنصار أو رايات قبائلهم، وإنما راعى النبي ﷺ في ذلك أحوالهم وما يصلح لهم؛ لما عرف من ميل كل فريق لطائفته وقبيلته، وما يعتريهم من الحمية لبعضهم حين القتال، وكذلك كان حال جيوش الفتح الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين، وإذا كان ذلك في جهاد الفتح، فمن باب أولى جهاد الدفع، فلا يقال بأن القتال مع هذه الفئة خير من القتال مع تلك الفئة، إذ العبرة بأحوال المجاهدين ونياتهم، كما في الحديث: (الرجل يقاتل حمية، والرجل يقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال من قاتل لتكون كلمة الله هو العليا فهو في سبيل الله)، فالعبرة بالنيات التي في القلوب، والإحسان في الأفعال على الوجه المشروع.
فكل مجاهد يختار من المجموعات والفصائل التي يجد أن وجوده معها أرفق به وأوفق لحاله، سواء في قريته، أو مدينته، أو مع أهل محافظته، أو مع المهاجرين، أو مع أهل مذهبه، أو جماعته، فإن لم يجد البعض إلا القتال وحده، أو لا يصلح له إلا أن يكون وحده جاهد وحده وجهاده صحيح؛ فالمقصود قيامه بالجهاد على الوجه الصحيح بحسب ما يصلح له.
فالمجاهدون جميعا على اختلاف فصائلهم يدخلون في عموم النصوص بلا خلاف، وقتيلهم شهيد بإذن الله، ولا فضل لأحد على أحد، إلا بصدق النية وحسن العمل.
ولا يشترط في جهاد الدفع نية غير نية دفع الظلم عن النفس والأرض والمال والعرض، كما في حديث: (من قاتل دون ماله فقتل فهو شهيد، ومن قاتل دون أهله فقتل فهو شهيد..)، وأما حديث: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) فهذا جواب سؤال عمن يقاتل حمية أو ليرى مكانه وشجاعته، فأجاب النبي ﷺ بأن سبيل الله هو القتال لتكون كلمة الله هي العليا، لا من يقاتل رياءً وحميةً، وليس فيه نفي الجهاد والشهادة عن المظلوم إذا قاتل دفاعا عن نفسه وأهله وأرضه وماله وعرضه، إذ كل ذلك مشروع وحق، وكله يدخل في كلمة الله العليا التي جاءت بالعدل والقسط، ولا شك بأن الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا وليظهر دينه في الأرض هو أشرف الجهاد وأعلاه، ومن ظهور كلمة الله نصرة المستضعفين ورفع الظلم عن المظلومين حتى ولو لم يكونوا مسلمين كما قال تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} فجعل الدفاع عن المستضعفين كالقتال في سبيل الله، ومن القتال في سبيل الله، بخلاف القتال رياء وحمية.
ثامنا: ولا يبطل جهاد الدفع بدعوى أن من يقاتلون يدافعون عن الدنيا ولا يقصدون الدين، إذ جهاد الدفع أصلا مشروع لحفظ الضروريات الخمس وهي النفس والعرض والمال والدين والعقل، فلو لم يستحضر المظلوم نيةً إلا كونه مظلوما ويدفع الظلم عن نفسه فهو مجاهد فإن قتل فهو شهيد.
كما لا يبطل الجهاد بدعوى أن الجهاد يجب أن يكون عن الدين ومن أجله، لا من أجل الأرض والوطن، فهذا قول باطل بالإجماع، إذ لدار الإسلام من الحرمة كما للدين، وإخراج الإنسان من أرضه كقتله وفتنته في دينه، وقد ساوى الله بينهما {لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ}..
ولهذا أجمع العلماء على أنه إذا احتل العدو شيئا من دار الإسلام وجب النفير إليه وجهاده وبذل النفوس والأموال لتحريرها، ولدفعه عن أرض الإسلام، إذ الأرض هي محل الاستخلاف للمؤمنين، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا}، فلا ظهور للدين والأمن دون وجود الأرض التي يتحقق فيها الاستخلاف والأمن للمسلمين.
والمقصود بأن الجهاد واجب دفاعا عن الدين وعن الدنيا التي لا يقوم الدين أصلا إلا بها.
فكل مقاتل اليوم في ثورة الأمة على الطغاة مجاهد في {سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ} سواء كان يدافع عن نفسه أو ماله أو عرضه أو أرضه أو دينه أو قومه، أو يقاتل لإقامة حكم إسلامي ولتكون كلمة الله هي العليا وهو أعلاها وأشرفها.
تاسعا: وجائز اتخاذ الراية واللواء من أي لون وشكل، كعلم الاستقلال ونحوه، ولا خلاف بين الفقهاء على استحباب اتخاذ الفصائل والكتائب المجاهدة رايات تميزها عن غيرها وتعرف بها، فقد جاء في الحديث الصحيح في البخاري في غزوة فتح مكة قول العباس للزبير: (هاهنا أمرك النبي ﷺ أن تركز الراية)، قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري في شرحه للحديث: (قال المهلب: وفي حديث الزبير أن الراية لا تركز إلا بإذن الإمام، لأنها علامة على مكانه فلا يتصرف فيها إلا بأمره، وفي هذه الأحاديث استحباب اتخاذ الألوية في الحرب، وأن اللواء يكون مع الأمير أو من يقيمه لذلك عند الحرب ، وقد تقدم حديث أنس " أخذ الراية زيد بن حارثة فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب").
ففي هذه الأحاديث وغيرها استحباب اتخاذ الراية واللواء في الحرب، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية ذلك واستحبابه، وليس ذلك واجبا بلا خلاف، ولم يقل أحد من أهل العلم بوجوب اتخاذ الرايات، ولا يؤثر عدم وجود راية أو لواء في صحة الجهاد، لا في جهاد الطلب، فضلا عن جهاد الدفع، فلو جاهد الإنسان وحده لكان جهاده صحيحا، وكذا لو جاهدت مجموعة في سبيل الله دون أن يكون لها راية فجهادها صحيح.
والفرق بين اللواء والراية هو أن اللواء يكون بين يدي الإمام والأمير العام للجيش، بينما الراية تكون للفصائل والكتائب، فاللواء لها واحد، والرايات قد تتعدد بعدد الفصائل.
كما لا خلاف في جواز أن تكون الراية أو اللواء بأي لون أو شكل كان، فقد جاءت أحاديث عدة في لون راية النبي ﷺ فتارة سوداء واللواء أبيض، وتارة نمرة سوداء فيها خطوط بيضاء، كما في سنن الترمذي: (كانت راية النبي ﷺ سوداء، ولواؤه أبيض)، وتارة صفراء كما في سنن أبي داود (رأيت راية رسول الله ﷺ صفراء).
قال ابن القيم في زاد المعاد (ففيها: استحباب عقد الألوية والرايات للجيش، واستحباب كون اللواء أبيض، وجواز كون الراية سوداء من غير كراهة).
وجاء في البحر الرائق في فقه الحنفية: (وينبغي أن تكون ألوية المسلمين بيضاء، والرايات سوداء، واللواء للإمام، والرايات للقواد، وينبغي أن يتخذ لكل قوم شعارا حتى إذا ضل رجل عن رايته نادى بشعاره، وليس ذلك بواجب، والشعار العلامة، والخيار إلى إمام المسلمين إلا أنه ينبغي له أن يختار كلمة دالة على ظفرهم بالعدو بطريق التفاؤل، ويكره للغزاة اتخاذ الأجراس في دار الحرب؛ لأنه يدلهم على المسلمين أما في بلاد الإسلام فلا بأس به، ولا بأس بهذه الطبول التي تضرب في الحرب لاجتماع الناس واستعدادهم للقتال؛ لأنها ليست بطبلة لهو، وينبغي أن يكون أمير الجيش بصيرا بأمر الحرب...).
وجاء في كتاب مطالب أولي النهى في فقه الحنابلة: (ويعقد لهم الألوية البيض، وهي : العصابة تعقد على قناة ونحوها) ، قال صاحب " المطالع " : اللواء راية لا يحملها إلا صاحب جيش الحرب، أو صاحب دعوة الجيش)، قال ابن عباس (كانت راية رسول الله ﷺ سوداء، ولواؤه أبيض) رواه الترمذي، وعن جابر أن النبي ﷺ (دخل مكة ولواؤه أبيض) رواه أبو داود، وظاهر "المقنع " وصرح في " المحرر " أنها تكون بأي لون شاء لاختلاف الروايات (و) يعقد لهم (الرايات وهي : أعلام مربعة ويغاير ألوانها، ليعرف كل قوم رايتهم) ، لقوله ﷺ للعباس حين أسلم أبو سفيان : (احبسه على الوادي حتى تمر به جنود الله فيراها، قال : فحبسته حيث أمرني رسول الله ﷺ ومرت به القبائل على راياتها))
وقال الماوردي في كتابه الحاوي في فقه الشافعية ٨/ ١١٦٨: (وأما الشعار، فهي العلامة التي يتميز بها كل قوم من غيرهم في مسيرهم وفي حروبهم، حتى لا يختلطوا بغيرهم ولا يختلط بهم غيرهم، فيكون ذلك أبلغ في تضافرهم لما روي أن النبي ﷺ جعل للمهاجرين شعارا، وللأنصار شعارا. ويتخذون علامة من ثلاثة أوجه:
أحدها: الراية التي يتبعونها ويسيرون إلى الحروب تحتها فتكون راية كل قوم مخالفة لراية غيرهم.
والثاني: ما يعلمون به في حروبهم، فيعلم كل قوم بخرقة ذات لون من أسود، أو أحمر، أو أصفر، أو أخضر، تكون إما عصابة على رءوسهم، وإما مشدودة في أوساطهم.
والثالث: النداء الذي يتعارفون به فيقول كل فريق منهم يا آل كذا، أو يا آل فلان، أو كلمة إذا تلاقوا تعارفوا بها ليجتمعوا إذا افترقوا ويتناصروا إذا أرهبوا، فهذا كله وإن كان سياسة ولم يكن فقها فهو من أبلغ الأمور في مصالح الجيش وأحفظها للسير الشرعية).
قال الحافظ ابن حجر في الفتح عن حديث نافع بن جبير وقول العباس للزبير: (ههنا أمرك النبي ﷺ أن تركز الراية).
وقال الشوكاني في نيل الأوطار: (قوله: (راية النبي ﷺ سوداء ولواؤه أبيض) اللواء بكسر اللام والمد هو الراية ويسمى أيضا العلم، وكان الأصل أن يمسكها رئيس الجيش ثم صارت تحمل على رأسه، كذا في الفتح، وقال أبو بكر بن العربي: اللواء غير الراية، فاللواء ما يعقد في طرف الرمح ويلوى عليه، والراية ما يعقد فيه ويترك حتى تصفقه الرياح، وقيل : اللواء دون الراية، وقيل اللواء : العلم الضخم، والعلم : علامة لمحل الأمير يدور معه حيث دار، والراية يتولاها صاحب الحرب، وجنح الترمذي إلى التفرقة فترجم الألوية وأورد حديث جابر المتقدم، ثم ترجم الرايات وأورد حديث البراء المتقدم أيضا، قوله : (من نمرة) هي ثوب حبرة، قال في القاموس: النمرة بالضم النكتة من أي لون كان، والأنمر: ما فيه نمرة بيضاء وأخرى سوداء، ثم قال : والنمرة : الحبرة، وشملة فيها خطوط بيض).
وقال المباركفوري في تحفة الأحوذي شرح الترمذي: ((باب ما جاء في الألوية) .. قوله : (كانت راية النبي ﷺ سوداء) قال ابن الملك : أي ما غالب لونه أسود بحيث يرى من البعيد أسود لا أنه خالص السواد يعني لما سبق أنها كانت من نمرة، (ولواؤه أبيض) وروى أبو داود من طريق سماك عن رجل من قومه عن آخر منهم : رأيت راية رسول الله ﷺ صفراء، ويجمع بينه وبين أحاديث الباب باختلاف الأوقات) .
وعليه فلا حرج شرعا من اتخاذ أعلام البلدان رايات للحرب، كعلم الاستقلال في ليبيا، ورايات الثورة، والعلم السوري للجيش الحر، للتمييز بينه وبين علم النظام المجرم وعصابته، وقد تحقق في علم الثورة من المصلحة ما ليس لغيره من جهة أنه صار علم الشعب الثائر كله على اختلاف أطيافه فهو أكثر تمييزا للثورة وأوضح شعاراتها، وهو المقصود أصلا من اتخاذ الأعلام للتمييز والتعارف وإثارة الحمية كما نص عليه الفقهاء من أي لون وبأي شكل، وكلها من باب السياسة الشرعية كما نص عليه الماوردي في الحاوي.
وقد ميز خالد بن الوليد يوم اليمامة (المهاجرين من الأنصار من الأعراب، وجعل كل بني أب تحت رايتهم، يقاتلون تحتها، حتى يعرف الناس من أين يؤتون).
عاشرا: وليس هذه الرايات هي الراية العمية التي جاء النهي عنها، كما في حديث: (من قاتل تحت راية عمية فمات مات ميتة جاهلية) وفي رواية: (راية عمياء)، فالمراد بالراية العمية هنا هي القضية العمياء والدعوة الجاهلية، والقتال غير المشروع، سواء اتخذ المقاتلون فيه راية أو لم يتخذوا، وسواء اتخذوا علم الثورة أو علما موسوما بشعار التوحيد، فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما، فلو رفع المجاهدون شعار التوحيد في قتال محرم غير مشروع كالاقتتال فيما بينهم حمية وعصبية، فإنه يدخل في عموم النص: (من قاتل تحت راية عمية)، ولا يغير من الحكم شيئا أن يرفع فيها راية التوحيد، بل قد تكون الحرمة أشد من جهة التغرير بالناس واتخاذ راية التوحيد في قتال محرم وظلم وعدوان ينافي شعار التوحيد الذي جاء بالعدل والقسط، كما في الحديث الصحيح حين بعث النبي ﷺ معاذ بن جبل لليمن فقال له: (فليكن أول ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله... واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب)، فجعل غاية التوحيد العدل ورفع الظلم، وقد سئل أحمد بن حنبل عمّن قُتل في عميّة (قال: الأمر الأعمى العصبية لا يستبين ما وجهه، وقال إسحاق: إنما معنى هذا في تحارب القوم وقتل بعضهم بعضًا، يقول من قتل فيها كان هالكا).
قال النووي: (قالوا هي الأمر الأعمى لا يستبين وجهه، كذا قاله أحمد بن حنبل والجمهور، قال إسحاق بن راهويه هذا كتقاتل القوم للعصبية).
وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم ١/ ٧٣: (وسمى الراية عمياء لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدرى وجهه، فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال كهذا).
وقال أيضا: (هو الذي يقاتل لأجل العصبية والرياسة، لا في سبيل الله كأهل الأهواء مثل قيس ويمن).
فالراية العمية كناية عن القضية والدعوة التي يقع القتال بسببها ويقاتل الناس من أجلها بلا بصيرة وبلا وجه حق، كما يفعل أهل العصبية الجاهلية، حيث يتداعون لرايات قبائلهم حين تتقاتل دون سؤال عن الأمر الذين وقع القتال بسببه كما قال الجاهلي:
قوم إذا الشر أبدى ناجـذيه لهم *** طـاروا إليه زرافـات ووحدانا
لا يسألون أخـــــاهم حين يندبهم *** في النائبات على ما قـال برهانا
والمقصود أن الراية العمية هي كل دعوة أو قضية تداعى الناس للقتال بسببها بغير وجه حق، سواء كان التداعي تحت رايات، أو بلا رايات ولا شعارات، وسواء كانت الرايات موسومة بشعارات التوحيد أو بغيرها من الأعلام، فالحكم في التحريم واحد، كما لو تداعوا للقتال غير المشروع بالأسماء الشرعية الشريفة كالمهاجرين والأنصار، فإنه يكون قتال (راية عمية)!
فلا تتغير الأحكام بتغير الأسماء والأعلام، والأسماء والأعلام لا تغير شيئا من الأحكام، فلو تقاتل فصيلان قتال فتنة وعصبية أحدهما باسم شرعي ككتيبة المهاجرين أو كتيبة الأنصار أو المجاهدين، والآخر باسم عرفي ككتائب الثورة والجيش الحر ونحوها، لما جاز نصرة أحدهما على الآخر بمجرد الاسم أو الشعار، حتى يعرف من الظالم فيمنع من الظلم، ومن المظلوم فيؤخذ الحق لها، من أي الطرفين كان.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط ٢/ ٧٠: (وروى مسلم من حديث أبي الزبير عن جابر رضي الله عنه قال: اقتتل غلامان غلام من المهاجرين وغلام من الأنصار فنادى المهاجري يا للمهاجرين! ونادى الأنصاري يا للأنصار! فخرج رسول الله ﷺ فقال: (ما هذا أدعوى الجاهلية؟ قالوا: لا يا رسول الله إلا أن غلامين اقتتلا فكسع أحدهما الآخر فقال: (لا بأس لينصر الرجل أخاه ظالما أو مظلوما إن كان ظالما فلينهه فإنه له نصر وإن كان مظلوما فلينصره).
فهذان الاسمان المهاجرون والأنصار اسمان شرعيان جاء بهما الكتاب والسنة، وسماهما الله بهما كما سمانا المسلمين من قبل، وانتساب الرجل إلى المهاجرين والأنصار انتساب حسن محمود عند الله وعند رسوله، ليس من المباح الذي يقصد به التعريف فقط كالانتساب إلى القبائل والأمصار، ولا من المكروه أو المحرم كالانتساب إلى ما يفضي إلى بدعة أو معصية أخرى، ثم مع هذا لما دعا كل واحد منهما طائفته منتصرا بها أنكر النبي ﷺ ذلك، وسماها دعوى الجاهلية حتى قيل له إن الداعي بها إنما هما غلامان لم يصدر ذلك من الجماعة، فأمر بمنع الظالم وإعانة المظلوم، ليبين النبي ﷺ أن المحذور من ذلك إنما هو تعصب الرجل لطائفته مطلقا فعل أهل الجاهلية، فأما نصرها بالحق من غير عدوان فحسن واجب أو مستحب .
ومثل هذا ما روى أبو داود وابن ماجة عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما العصبية؟ قال: (أن تعين قومك على الظلم).
وعن سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي قال خطبنا رسول الله ﷺ فقال: (خيركم المدافع عن عشيرته ما لم يأثم) رواه أبو داود.
وروى أبو داود أيضا عن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال (ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية).
وروى أبو داود أيضا عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: (من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي ردي فهو ينزع بذنبه).
فإذا كان هذا التداعي في الأسماء وفي هذا الانتساب الذي يحبه الله ورسوله، فكيف بالتعصب مطلقا والتداعي للنسب والإضافات التي هي إما مباحة أو مكروهة؟!
وذلك أن الانتساب إلى الاسم الشرعي أحسن من الانتساب إلى غيره، ألا ترى إلى ما رواه أبو داود من حديث أبي عقبة وكان مولى من أهل فارس، قال: شهدت مع رسول الله ﷺ أحدا فضربت رجلا من المشركين، فقلت: خذها مني وأنا الغلام الفارسي، فالتفت إلي رسول الله ﷺ فقال: (هلا قلت خذها مني وأنا الغلام الأنصاري).
حضه رسول الله ﷺ على الانتساب إلى الأنصار، وإن كان بالولاء وكان إظهار هذا أحب إليه من الانتساب إلى فارس بالصراحة، وهي نسبة حق ليست محرمة.
ويشبه والله أعلم أن يكون من حكمة ذلك أن النفس تحامي عن الجهة التي تنتسب إليها، وكلما كان ذلك لله كان خيرا للمرء.
فقد دلت هذه الأحاديث على أن إضافة الأمر إلى الجاهلية يقتضي ذمه والنهي عنه، وذلك يقتضي المنع من كل أمور الجاهلية مطلقا، ومثل هذا ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمن تقي أو فاجر شقي، أنتم بنو آدم وآدم من تراب، ليدعن رجال فخرهم بأقوام إنما هم فحم من فحم جهنم، أو ليكونن أهون على الله من الجعلان التي تدفع بآنفها النتن) رواه أبو داود وغيره وهو صحيح.
فأضاف العبية والفخر إلى الجاهلية يذمهما بذلك، وذلك يقتضي ذمهما بكونهما مضافين إلى الجاهلية، وذلك يقتضي ذم كل الأمور المضافة إلى الجاهلية.
ومثله ما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ أنه قال: (من خرج من الطاعة وفارق الجماعة فمات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عمياء يغضب لعصبية، أو يدعو إلى عصبية، أو ينصر عصبية، فقتل قتل قتلة جاهلية، ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها، ولا يتحاشى من مؤمنها، ولا يفي لذي عهدها فليس مني ولست منه).
فذكر ﷺ في هذا الحديث الأقسام الثلاثة التي يعقد لها الفقهاء باب قتال أهل القبلة من البغاة والعداة وأهل العصبية:
فالقسم الأول: الخارجون عن طاعة السلطان، فنهى عن نفس الخروج عن الطاعة والجماعة، وبين أنه إن مات ولا طاعة عليه لإمام مات ميتة جاهلية، فإن أهل الجاهلية من العرب ونحوهم لم يكونوا يطيعون أميرا عاما على ما هو معروف من سيرتهم.
ثم ذكر الذي يقاتل تعصبا لقومه أو أهل بلده ونحو ذلك، وسمى الراية عمياء لأنه الأمر الأعمى الذي لا يدري وجهه فكذلك قتال العصبية يكون عن غير علم بجواز قتال هذا.
وجعل قتلة المقتول قتلة جاهلية سواء غضب بقلبه أو دعا بلسانه أو ضرب بيده، وقد فسر ذلك فيما رواه مسلم أيضا عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (ليأتين على الناس زمان لا يدري القاتل في أي شيء قتل ولا يدري المقتول على أي شيء قتل، فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهرج القاتل والمقتول في النار) انتهى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية مطولا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مواضيع ذات صلة:
الأجوبة الفقهية الدستورية على الأسئلة الليبية والسورية
الإعلام بأحكام الجهاد ونوازله في الشام
(الحرية أو الطوفان)
(تحرير الإنسان وتجريد الطغيان..دراسة في أصول الخطاب القرآني والنبوي والراشدي)
كتاب (الفرقان بين حقائق الإيمان وأباطيل الشرك والطغيان)
كتاب (نحو وعي سياسي راشد)
وكتاب (السنن النبوية في الأحكام السياسية)
كتاب (الأربعون النبوية في الأحكام السياسية)
رسالة (من الحكومة الراشدة إلى الخلافة الراشدة)
مكتبة الشيخ أ.د. حاكم المطيري