بقلم أ.د. حــاكم المـطـيري
1 رجب 1435هـ
30 إبريل 2014 م
الأنظمة الوراثية والخطاب المبدل:
جاء الإسلام بالشورى كنظام حياة للمجتمع الإسلامي بمكة {وَأَمْرهمْ شُورَى بَيْنهمْ}، وبالخلافة كنظام سياسي للدولة في المدينة بعد عهد النبوة، كما قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} ...
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث متواترة تواترا معنويا معالم هذا النظام السياسي الذي جاء به القرآن فقال: (تكون النبوة... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة... ثم يكون ملكا عاضا، ثم يكون ملكا جبريا... ثم تكون خلافة على منهاج النبوة).[1]
وقال: (تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).[2]
وقال كما في الصحيحين: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء فيكثرون، فأوفوا بيعة الأول فالأول).[3]
وقال: (إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الثاني منهما).[4]
وأجمع الصحابة كما في صحيح البخاري على ما قاله عبد الرحمن بن عوف حين بايع عثمان فقال عبد الرحمن: (أبايعك على سنة الله وسنة رسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس: المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون). [5]
وهذا هو ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كما قال تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} ...
وقد نقل ابن حزم إجماع الأمة وأهل الإسلام كافة على أن الإمامة لا يجوز فيها التوارث. [6]
فليس في الإسلام ملوك ولا ملكيات ولا أنظمة وراثية، ولا دول وطنية قطرية تفرق الأمة الواحدة، وإنما خلافة وخلفاء واستخلاف، وأمة واحدة، وإمامة واحدة، وما وراء ذلك إلا جاهلية وكسروية وقيصرية!
وكما بيّن النبي صلى الله عليه وسلم طبيعة النظام السياسي الإسلامي، وحدد معالمه - وأنه خلافة تقوم على الشورى والرضا، ووحدة الأمة والسلطة، والرشد السياسي في إدارة شئون الأمة بعد النبوة - فقد حذر كذلك من المحدثات التي تخالف هديه وهدي الخلافة الراشدة من بعده، وحدد ملامح تلك المحدثات فقال في الحديث: (ثم يكون ملكا عاضا، ثم يكون ملكا جبريا)!
وعن أبي عبيدة بن الجراح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أول هذه الأمة نبوة ورحمة، ثم خلافة ورحمة، ثم ملكا عضوضا، وفيه رحمة، ثم جبروت تضرب فيها الرقاب، وتقطع فيها الأيدي والأرجل، وتؤخذ فيها الأموال). [7]
وفي رواية: (أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك أعفر - وهو المختلط - ثم ملك وجبروت، يستحل فيها الخمر والحرير).
وفي رواية: (إن أول دينكم بدأ نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملكا وجبرية يستحل فيها الدم).
وفي حديث عن أنس رض الله عنه موقوفا عليه وله حكم الرفع قال: (إنها ستكون ملوك، ثم جبابرة، ثم الطواغيت). [8]
وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم الموقف من هذه المحدثات عند وقوعها كما في حديث حذيفة في الصحيحين حيث سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا كنا في جاهلية وشر فأتانا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم!
قلت: وهل بعد ذلك الشر من خير؟ قال: نعم! وفيه دخن.
قلت: وما دخنه يا رسول الله؟
قال: قوم يهدون بغير هديي ويستنون بغير سنتي تعرف منهم وتنكر!
قلت: وهل بعد ذلك الخير من شر؟ قال: نعم!
دعاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها.
قيل صفهم لنا يا رسول الله قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا.
قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟
قال: الزم جماعة المسلمين وإمامهم.
قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟
قال: اعتزل تلك الفرق كلها). [9]
وفي رواية أبي داود: (فإن كان لله تعالى خليفة في الأرض فضرب ظهرك وأخذ مالك فأطعه، وإلا فمت وأنت عاض بجذل شجرة).
وفي رواية أحمد: (قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم تكون دعاة الضلالة، قال: فإن رأيت يومئذ خليفة الله في الأرض فالزمه، وإن نهك جسمك وأخذ مالك، فإن لم تره فاهرب في الأرض ولو إن تموت وأنت عاض بجذل شجرة). [10]
قال في الفتح: (وقوله هم من جلدتنا أي من قومنا ومن أهل لساننا وملتنا، وفيه إشارة إلى أنهم من العرب ... فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام، قال البيضاوي: المعنى إذا لم يكن في الأرض خليفة، فعليك بالعزلة والصبر على تحمل شدة الزمان...). [11]
فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم لزوم الخلافة كنظام سياسي (إن كان لله في الأرض خليفة فالزمه)، ولزوم الإمامة والأمة الواحدة (الزم جماعة المسلمين وإمامهم) - هي العصمة والنجاة من الفتن والمحدثات السياسية العامة، والنجاة من الدعاة والطغاة على أبواب جهنم من أطاعهم قذفوه فيها، وهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا!
وكذلك بشر النبي صلى الله عليه وسلم بعودتها بعد تلك المحدثات والفتن خلافة راشدة على منهاج النبوة فقال: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة)!
ولوضوح هذه الأصول العظيمة من أصول الإسلام - وهي الخلافة، ووحدة الأمة، ووحدة الإمامة، ووحدة الدار والأحكام - أجمع عليها الصحابة وسلف الأمة والأئمة من أهل السنة قاطبة، ونقلوا الإجماع عليها في كتب الأصول والفروع والعقائد كما فصلت القول فيها في كتاب (أهل السنة والجماعة والأصول السياسية)!
فالخلافة نظام سياسي له أصوله وقواعده وأحكامه، وهو رئاسة عامة على الأمة أو على أكثرها، تعبر عن النيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إدارة شئون الأمة بعد النبوة، وهي تقوم على وحدة الأمة، ووحدة الإمامة والسلطة، ووحدة الدار والدولة، ووحدة المرجعية وهي الكتاب والسنة.
وليست الخلافة مجرد رجل يختاره المسلمون أو بعضهم رئيسا عليهم!
وهذا هو السبب في نفي وجود الإمامة الشرعية حال وقوع الفتن والافتراق في الأمة، ونفي وجود البيعة لأحد، كما قال ابن عمر: (والله لا أبذل بيعتي في فرقة ولا أمنعها من جماعة)، ولهذا فسر الإمام أحمد حديث: (من مات وليس في عنقه بيعة)، بأنها الخلافة والإمامة العامة، فقال لمن سأله عن المراد بهذا الحديث: (ذاك الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول هذا هو الإمام)، كما دل عليه حديث حذيفة: (فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام) أي: واحد، قال: (فاعتزل تلك الفرق)، واعتزل أئمتها ودعاتها!
فلما جاءت آخر الحملات الصليبية في حربها العالمية الأولى، وأسقطت الخلافة على ما كان فيها من دخن وضعف في آخر عهودها - واحتل الصليبيون أقاليمها، وفرقوا وحدتها، وأقصوا شريعتها، وطمسوا هوية شعوبها، بإقامة دويلاتهم الوطنية التي فرضوا حدودها وأنظمتها وقوانينها منذ سايكس بيكو، وجعلوها تحت حمايتهم، وضمنوا تبعيتها العسكرية والسياسية والاقتصادية لهم - ظل المسلمون يجاهدونهم ويقاومون احتلالهم ويتطلعون إلى عودة الخلافة من جديد، وعدوا هذا الواقع حالة طارئة مؤقتة غير شرعية ولا مشروعة، ستزول يوما ما حين تتحرر الأمة وشعوبها من الاحتلال الأجنبي، ومن أنظمته الوظيفية، ومن الجبابرة والطغاة والدعاة (على أبواب جهنم)!
فلما جاءت الثورة العربية وبدأت الأمة في ساحات الثورة الفكرية تحاول استعادة هويتها وخطابها السياسي الإسلامي على الصعيد الثقافي، وعاد الحديث من جديد عن الخلافة أشد ما يكون منذ عقود، مما دفع جورج بوش الثاني إلى إعلان حرب صليبية جديدة، وإلى تصريحه المشهور بأنه يجب أن: (يواجه الغرب خطر عودة الأصولية في العالم الإسلامي وتطلعها لعودة الخلافة من إندونيسيا إلى حدود اسبانيا)، وهو ما دعا إليه أيضا توني بلير قبل أسبوع تحت شعار مكافحة الإرهاب! فإذا الوسطيون الجدد يروجون خطاب علي عبد الرازق حول الدولة في الإسلام، وعدم ضرورتها - كما قال السقاف - وحول الخلافة وعدم وجوبها وأهميتها!
وحاول إبراهيم السكران في (مفاتيح السياسة الشرعية) تشريع الواقع الذي تشكل في أحضان الحملة الصليبية العاشرة المعاصرة باسم السنة والسلفية!
وبلغ الأمر به حدا لا أعرف أن أحدا سبقه إليه في إضفاء الشرعية على الملكية الوراثية القائمة اليوم كنظام إسلامي سائغ أو مشروع!
حيث يقول: (وأما بالنسبة لجنس (الملكية) هل هي مذمومة شرعاً مطلقاً؟ فالذي رأيته هو اختلاف الآثار في ذلك، فجاءت (الملكية) في نصوص كثيرة في سياق الذم، منها قوله تعالى (قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا)[النمل:34]. وقوله تعالى (كَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا)[الكهف:79].
وفي الصحيح أن ذي عمرو قال لجرير (يا جرير إن بك علي كرامة، وإني مخبرك خبرا: إنكم معشر العرب، لن تزالوا بخير ما كنتم إذا هلك أمير تأمرتم في آخر، فإذا كانت بالسيف كانوا ملوكا، يغضبون غضب الملوك ويرضون رضا الملوك)[البخاري:4359].
ومنها حديث سفينه الشهير في السنن (الخلافة في أمتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك)، وصححه الأئمة، وهو يوحي بذم الملك ومخالفته لسنن الخلافة على منهاج النبوة.
وتعليق الصحابي الجليل سفينة حيث قال له سعيد بن جهمان إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم؟ فقال سفينة (كذب بنو الزرقاء، بل هم ملوك من شر الملوك) [الترمذي:2226].
فهذه الآثار ونحوها تدل على ذم جنس مفهوم (الملكية)، وأما النصوص التي جاء فيها ذكر (الملكية) في سياق المشروعية فالحقيقة أن أكثرها دلالةً قوله تعالى:
(يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) [المائدة:20] ولو كان الملك مذموماً في جنسه لما كان نعمة يمتن بها على قوم موسى.
وقول الله (فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) [النساء:54] ولو كان الملك مذموماً في جنسه لما كان نعمة يمتن بها على آل ابراهيم.
وقول الله (وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص:35] ولو كان الملك مذموماً لما سأله نبي الله.
وقول الله (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [البقرة:246]. ولو كان الملك مذموماً لما سألوه نبيهم.
وقول الله (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا) [البقرة:247]. ولو كان الملك مذموماً لما استجاب الله طلبهم.
(رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ) [يوسف:101] ولو كان الملك مذموماً لما كان محل شكر، فلا يشكر الله على معصية.
وجاءت أحاديث ذُكِر فيها الملك في سياق المشروعية أشهرها حديث (الملك والرحمة) وقد قال عنه الهيثمي أنه رجال ثقات، وللألباني بحث في السلسلة الصحيحة في تصحيحه، ولذلك كان ابن تيمية يرى أن معاوية ينطبق عليه حديث (الملك والرحمة) كما يقول ابن تيمية:
(واتفق العلماء على أن معاوية أفضل ملوك هذه الأمة، فإن الأربعة قبله كانوا خلفاء نبوة، وهو أول الملوك، كان ملكه ملكاً ورحمة، كما جاء في الحديث "يكون الملك نبوة ورحمة، ثم تكون خلافة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية، ثم ملك عضوض"، وكان في ملكه من الرحمة والحلم ونفع المسلمين ما يعلم أنه كان خيرا من ملك غيره) [الفتاوى:4/478]).
ثم مضي السكران في كشف الغاية من كلامه هذا - قبل أن يفهم كلام شيخ الإسلام ابن تيمية، وما الذي عناه بالملك هنا، وهو ملك الخلافة، كما قال ابن تيمية نفسه عن حفيد معاوية رضي الله عنه: (معاوية بن يزيد بن معاوية الذي تولى الخلافة مدة قصيرة ثم مات، ولم يعهد إلى أحد، وكان فيه دين وصلاح)[12] - حيث يصل إلى مراده وهو شرعنة الأنظمة الملكية الوراثية اليوم، التي لا علاقة لها أصلا بالخلافة، وكونها نيابة عن النبي صلى الله عليه وسلم!
ولم يستطع أن يجرؤ السكران على التصريح، فجاء بها على لسان كاتب ماركسي شيوعي!
حيث يقول السكران: (فهيمنة الشريعة وتطبيقها (بمعناها الشامل) شديد الحضور في تفكير الفقهاء وهم يتحدثون عن السياسة الشرعية، ونصوص الفقهاء كثيرة في هذا الصدد، ولكني سأخرج الآن عن المدونة التراثية، وسأنقل نصاً لشاهدٍ من الخارج، فيه طرافة في كيفية قراءته لرؤية الفقهاء للدولة المسلمة، وهو المفكر الماركسي المعروف عبدالله العروي، حيث يقول في دراسته عن مفهوم الدولة:
(لنفتح كتاب ابن تيمية "السياسة الشرعية"، فأول ما يلفت نظرنا هو أن المؤلف لا يتكلم عن الخلافة، بقدر ما يهتم بشيء واحد، هو تطبيق الشرع، يعني بالدولة الإسلامية "دولة الشرع" ولا شيء سواها، إن الفقيه هو بالتعريف: من يتوق إلى تطبيق الشرع على الواقع) [مفهوم الدولة:101].
هذا المفكر الماركسي لم تخطيء عينه شدة حضور "تطبيق الشريعة" في تفكير فقهاء الإسلام)!
انتهى كلام إبراهيم السكران!
إنها الخلافة إذا!
فهذه هي التي تؤرق السكران ومن وراءه!
وهي التي جعلته يتندر من د حاكم ويشنع عليه، لأنه يكثر الحديث عن خطر دول سايكس بيكو الوظيفية، حيث يقول: (الأستاذ الفاضل د. حاكم المطيري بكل اختصار وتركيز "ثائر أممي" ، هذا الوصف المركب يختصر كل ما يريده د حاكم، فمشروعه كله يقوم على أمرين لا ثالث لهما، أولهما: إشعال وتأجيج الثورة في نفوس الناس على النظم السياسية الفاسدة!
وثانيهما: التنديد والاستنكار للحدود السياسية بين الدول القطرية العربية، ولذلك لا يكاد يجلس مجلساَ إلا تحدث عن اتفاقية "سايكس بيكو" بمرارة تكاد تعقد لسانه)!
فالكاتب الماركسي عبد الله العروي وجد بأن موضوع الخلافة لم يكن يشكل أهمية عند ابن تيمية في كتابه (السياسة الشرعية) بقدر ما يهمه موضوع الشريعة نفسها!
ووجد إبراهيم السكران ضالته التي لم يجرؤ عليها قبله إلا علي عبد الرازق في كتابه (أصول الحكم في الإسلام)، والذي قرر فيه عدم شرعية الخلافة أصلا كنظام سياسي، وأنه يعبر عن مرحلة تاريخية واحتياجاتها أكثر من تعبيره عن الإسلام وأحكامه!
ثم تدور السنون فإذا الاحتلال الصليبي يفرض هذه الرؤية، فصار الخطاب المبدل الذي طرحه علي عبد الرازق هو الذي يشكل واقع دويلات الحملة الصليبية العاشرة المعاصرة وباسم السنة والسلفية!
ما الذي يريد أن يصل إليه إبراهيم السكران من هذا التأصيل؟
إنه يريد أن يقول بأن الملكيات التي فرضتها الحملة الصليبية في المنطقة العربية - في مصر والعراق وسوريا والأردن وجزيرة العرب - بعد إسقاط الخلافة ملكيات سائغة شرعا، أو لها وجه من المشروعية!
وأن الخلافة - كما اكتشف ذلك العروي الماركسي عند ابن تيمية - ليست بأهمية الشريعة نفسها!
فالمهم أن نحكم بالشريعة في ظل أي نظام سياسي!
وكأن الشريعة لم تجعل الخلافة من أصول أحكامها، وأن إقامتها من إقامة الشريعة نفسها!
ولم يعلم الكاتب إبراهيم السكران وقبله العروي أن رسالة (السياسة الشرعية) بحث من مباحث كتب (الأحكام السلطانية)، فلم يقصد شيخ الإسلام ابن تيمية أصلا التأليف هنا في (الأحكام السلطانية)، ليتحدث عن الخلافة وشروطها ومسئولياتها، وإنما اقتصر على ما يجب على الولاة من مسئوليات، وهذا ما نص عليه في مقدمة رسالته هذه حيث يقول: (فهذه رسالة مختصرة فيها جوامع من السياسة الإلهية والإبانة النبوية، لا يستغني عنها الراعي والرعية اقتضاها من أوجب الله نصحه من ولاة الأمور..).[13]
وهذا الموقف من الخلافة يكاد يكون من أبرز انحرافات هذه المدرسة عقائديا وفقهيا، وهو الذي يفسر موقفهم من الدولة في الإسلام وعدم ضرورتها - كما قال السقاف من قبل - فقد يقوم الإسلام كاملا بلا دولة، كما حصل للأنبياء من قبل! وحتى لا يكاد يوجد في ثقافة هذه المدرسة حديث عن الخلافة ووجوب بعثها وعودتها ولو على المستوى النظري العلمي، فضلا عن الممارسة السياسية والجهادية!
فهذه القضية بالذات تكاد تكون من المحظورات في ثقافة هذه المدرسة!
ثم لم ينته السكران عند هذا الحد، بل ذهب إلى ما هو أبعد، إذ يواجهه إشكالية أخرى، وهي عدم حكم هذه الملكيات بالشريعة في عامة أحوالها السياسية والاقتصادية والتشريعية، أو لو كانت الملكيات لا تحكم أصلا بالشرع فما الموقف؟
وهنا يقرر السكران في الخاتمة بأنه حتى وإن لم تحكم بالشريعة، فالواجب عدم الخروج على هذه الملكيات، حبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباعا له حيث يقول: (يجب أن نحاول الإصلاح السياسي من الداخل، وتكثير العدل الشرعي، وتخفيف الظلم؛ دون أن نخسر علاقتنا بحبيبنا محمد - صلى الله عليه وسلم - فماذا تساوي صناديق الاقتراع في العالم كله إذا أسأنا بنصف كلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
يجب بناء حاجز نفسي عظيم بين هؤلاء المتهورين وبين نصوص (الطاعة والصبر ومنع الخروج)، يجب أن لا تكون هذه الأحاديث كلأ مباحاً يُستهتر بها ونحن نشاهد، فأين الغيرة والحمية لرسول الله؟! انتشار الاستبداد والأثرة والمظالم السياسية ليس مبرراً بتاتاً لهذه الإساءات المتكررة لحديث رسول الله، بالله عليك تأمل هذه الآيات وانظر مقام رسول الله... كيف يعرف المؤمن أن نصوص (الصبر، والطاعة لولاة الأمور بالمعروف، ومنع الخروج المسلح فيما دون الكفر البواح) كلها قطعية متواترة عن رسول الله، يجزم القلب بأن رسول الله قالها، ونطق بها، ثم يتهور المرء بمثل هذه العبارات في انتقاص هذه النصوص؟! لا أدري والله كيف يطاوعه قلبه ويستخف بها وهو يعلم أن رسول الله نطق بها؟ يسيء لك المتغلب فتقتص من نبيك؟!) انتهى كلام السكران!
وهنا يتجنب السكران مناقشة من يرفضون هذا الواقع السياسي طاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، واتباعا لأمره، وتعظيما لشرعه، وإحياء لسنته وسنن الخلفاء الراشدين من بعده، وهم الخصم الرئيسي له ولتنظيراته، ثم يذهب بدلا من ذلك ليفتح جبهة أخرى، ويهاجم من يردون - بزعمه - أحاديث السمع والطاعة ويسخرون منها، ويتظاهر السكران - ليستدر عواطف القراء - بأن الدافع لكل ما يقرره لصالح الطغاة من أباطيل، هو حب النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه، حيث يغيظه أن يرى من يرد أحاديثه في (الطاعة وتحريم الخروج) من المتهورين!
ولا يغيظه في المقابل الذين يحاربون دينه وشريعته وأمته من الطغاة المجرمين والجبابرة الظالمين!
هل الأزمة هي مع هذه الفئة التي حصر السكران حديثه عنها، في الوقت الذي يريد أن تصل رسالته - من خلال الهجوم على فئة لا يمكن الدفاع عنها وهم من يسخرون بأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي توجب السمع والطاعة وتحرم الخروج - في الرد على من يحتجون عليه بالكتاب والسنة في رد هذا الباطل الذي يروجه السكران باسم السنة والسلفية، لتبرير واقع سياسي فرضته الحملة الصليبية!
والإجابة عن هذه الشبه من وجوه:
الوجه الأول:
كل الآيات التي ذكرها السكران في مدح الملك هنا هي في شأن ملوك أنبياء بني إسرائيل، وقد تقرر بالنص والإجماع أن شريعة النبي محمد صلى الله عليه وسلم نسخت كل الشرائع التي قبلها، ولا يقبل من شرعهم إلا ما ثبت في شرعنا، ولم يعارضه في شرعنا شيء من الأحكام، وهذا عند من يقول بأصل: (شرع من قبلنا شرع لنا بشرطين أن يثبت في شرعنا، وألا يرد في شرعنا ما يعارضه)!
ويؤكد ذلك الحديث النبوي في الصحيحين: (كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، فقالوا وماذا يكون يا رسول الله؟ قال: خلفاء فيكثرون فأوفوا بيعة الأول فالأول).
فالذي كان يسوس بني إسرائيل هم أنبياؤهم وهم ملوكهم بوحي من الله، ليحكموا فيهم بشرعه وعدله، وأما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو خاتم الأنبياء ولا نبي بعده يسوس أمته، وإنما الخلفاء الذين يسوسونهم، والذين يختارهم المسلمون بالشورى والرضا، كما قال تعالى {وأمرهم شورى بينهم}...
وقد عقدت فصلا كاملا في كتاب (تحرير الإنسان) لنقض هذه الشبهة بعنوان:
(كشف الشبهات وبيان الآيات المتشابهات) وقد جاء فيه:
(وربما تمسك أنصار الخطاب السلطاني لرد الخطاب القرآني بالمتشابهات من الآيات كقوله تعالى {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} [14]، لبيان مشروعية وجود الملوك، وأن الله هو الذي وهبهم الملك!
ولا دليل في ذلك على مشروعية ادعاء الملوك للملك، بل هذا كقوله تعالى: {يَبْسُط الرِّزْق لِمَنْ يَشَاء وَيَقْدِر}[15]، وقوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ }. [16]
فالله يرزق الخلق جميعا، سواء منهم البر والفاجر، والمؤمن والكافر، وسواء حصل لهم ذلك بأسباب الحلال أو الحرام، فالله يؤتي رزقه من يشاء، ولا يكون في ذلك حجة على مشروعية ما كسبه الظالم من مال لا يحل له، بل هو ابتلاء من الله، واستدراج للعبد، وقد قال سبحانه في شأن قارون: {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَىٰ فَبَغَىٰ عَلَيْهِمْ ۖ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ...قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي ...فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْض}. [17]
فالله هو الذي آتاه المال والثروة، وإن كان قارون قد كسب هذا المال بأسباب الحرام، كذلك يؤتي الله الملك من يشاء، ولا حجة فيه لملوك الأرض، إذ منهم من يؤتيه الله الملك بالحق والعدل، كالأنبياء الذين جعلهم الله خلفاء وملوكا بالحق، ليحكموا بين الناس بالعدل، كداود، وسليمان، كما قال تعالى: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}. [18]
وقال تعالى أيضا عنه: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. [19]
ومن الملوك من يؤتيه الله الملك وهو ظالم لنفسه، بالسيطرة والقهر للناس، ليبتليه ويبتلي به، كحال فرعون والنمرود، كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ}. [20]
فكل ملك في الأرض تملك بإذن من الله - كحال ملوك بني إسرائيل الأنبياء، كداود، وسليمان، ومن ملك من بعدهم على شريعتهم، أو ملك بوحي من أنبيائه ورسله، كما هو حال طالوت: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا}. [21]
وكما هو حال خلفاء المسلمين، الذين تختارهم الأمة بالشورى والرضا، وفق شريعة المصطفى - فهو خليفة وملك بالحق، وكل من لم يكن كذلك من ملوك الأرض، فهو ملك باطل، غاصب للملك، جبار في الأرض، ظالم للخلق، كما قال تعالى لنبيه إبراهيم: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ}. [22]
قال ابن كثير في تفسيره للآية: (قال سفيان بن عيينة لا يكون الظالم إماما... وقال ابن خويز منداد: الظالم لا يكون خليفة، ولا حاكما). [23]
ولهذا جاءت الشريعة المحمدية بالخلافة، وإبطال الملك كله بجميع صوره الفرعونية، والقيصرية، والكسروية، فالأرض لله، والملك لله، والطاعة لله، والأمر لله، والسيادة لله، والخلق لله، ليس لهم رب غيره، ولا ملك سواه.
بل إن توحيد العبادة لله يتعارض مع الدينونة للملوك، كما في لسان العرب: (العبادة في اللغة الطاعة مع الخضوع، وكل من دان لملك فهو عابد له)، ومنه قول الملأ من قوم فرعون: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلنَا وَقَوْمهمَا لَنَا عَابِدُونَ} ...) ا هـ.
والفرق بين الطاعة للخلفاء والطاعة للملوك، أن الطاعة للخلفاء تكون عن شورى ورضا واختيار بلا إكراه ولا إجبار، وتبعا لطاعة الله ورسوله، واتباعا لشريعته، بينما طاعة الملوك تكون جبرا وقهرا على أساس الاستحقاق المزعوم لهم على الناس بطاعتهم والخضوع لهم ولقوتهم وسطوتهم وجبروتهم، واتباعا لأهوائهم وشهواتهم، وهذا هو التأله والألوهية في لغة العرب، كما في قول فرعون لموسى {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} ...
وهذا بخلاف ملك النبوة، كملك داود وسليمان، فإنه بوحي من الله، دون إجبار وقهر، ليحكم بحكم الله، كما قال تعالى {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ}...
وقد خُيّر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون ملكا، أو عبدا نبيا، فاختار عبدا نبيا[24]، فكانت تلك شريعته وسنة لخلفائه وأمته من بعده، وعندما أرسل رسله إلى ملوك الأرض يدعوهم للدخول في الإسلام لم يسمهم بوصف الملك بل قال: (إلى هرقل عظيم الروم)، (إلى كسرى عظيم الفرس)، قال النووي: (ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم (إلى هرقل عظيم الروم)، ولم يقل ملك الروم لأنه لا ملك له، ولا لغيره إلا بحكم دين الإسلام). [25]
وجاء في الحديث: (لا قيل ولا ملك ولا قاهر إلا الله) [26]، فنفى النبي أن يكون هناك قيل - والأقيال هم ملوك حمير في اليمن - ونفى أن يكون هناك ملوك، إلا الله وحده لا شريك له، وفي حديث آخر: (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فوقف ذات ليلة واجتمع عليه أصحابه فقال إن الله أعطاني الليلة الكنزين كنز فارس والروم، وأيدني بالملوك ملوك حمير، ولا ملك إلا لله! يأتون يأخذون من مال الله، ويقاتلون في سبيل الله! قالها ثلاث). [27]
فقرر أن لا ملوك في الإسلام، بل الملك لله وحده، وملوك حمير كغيرهم من المسلمين يقاتلون في سبيل الله، ويأخذون من بيت المال، حالهم حال غيرهم من المسلمين.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح: (أخنع اسم عند الله رجل يسمى ملك الأملاك، لا مالك إلا الله).
وفي رواية: (اشتد غضب الله على)، وفي رواية: (أغيظ رجل على الله يوم القيامة، وأخبثه، رجل كان يسمى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله).
وفي رواية: (أخنى اسم)، قال الراوي: كـ(شاهنشاه). [28]
وليست العلة في التحريم كونه اتصف بلقب ملك الملوك، كما ظنه بعض الرواة، بل العلة هو كون هذه الدعوى الكاذبة محادة لله في اسم من أسمائه، وصفة من صفاته، التي تسمى بها الله، ووصف بها نفسه، بل وأبطل أن يكون له شريك فيها، سواء تسمى أحد من خلقه بملك الملوك، أو باسم الملِك، وإن كان التسمي بملك الملوك أخنع، وأخبث، وأخنى، من التسمي بالملِك، كما تقتضيه صيغة أفعل التفضيل، وقد نص الفقهاء على تحريم الأول أي ملك الملوك، مع أن لفظ أخنع، وأخبث، يدل على أن هناك ما هو أقل خبثا، وأقل خنى، وهو التسمي بالملك، ولهذا جاء في آخر الحديث الصحيح: (لا ملك إلا الله)، وفي رواية: (لا مالك إلا الله)، ولم يقل: (لا ملك للملوك إلا الله)، ليؤكد أن التحريم ليس قاصرا فقط على التسمي بملك الملوك، بل وكذلك لقب الملك، لأنه لا ملك على الحقيقة إلا الله، فالتعليل في آخر الحديث واضح في دلالته على تحريم إطلاق كلا اللفظين ملك الملوك، أو الملك، على أحد من البشر، لما ورد فيهما من الوعيد الشديد، وأن أصحابهما أخنع وأذل وأخنى وأفجر الناس يوم القيامة، ويؤكد ذلك حديث النداء يوم القيامة (أين ملوك الأرض؟ أنا الملك)... ) ا.هـ من تحرير الإنسان مختصرا.
فالاحتجاج بأنبياء بني إسرائيل الملوك والقياس عليهم، احتجاج وقياس باطل، لأنه فاسد الاعتبار، لمصادمته للنص، وعلى فرض عدم وجود النص المعارض، فهو قياس مع الفارق، إذ لا يقاس غير المعصوم على الأنبياء المعصومين!
فما بالك وهو شرع منسوخ أصلا بشريعة النبي الأمي صلى الله عليه وسلم!
ومن يحتج بمشروعية الملك لوجود الملوك من بني إسرائيل، كمن يحتج بمشروعية صناعة التماثيل بصنع داوود النبي لها كما في قوله تعالى: {يعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ۚ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا ۚ وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ}، ولولا أنه جائز جنس صناعة التماثيل لما عدها الله نعمة يستحق الشكر عليها من آل داوود، على حد قول السكران في جنس الملك!
ولكان جنس السجود للبشر جائز كما فعله أخوة يوسف معه كما في قوله تعالى عنه: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ . وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدا}!
فلولا أن جنس السجود مشروع وجائز لما ساغ فعله ليوسف النبي بحضرة أبيه النبي يعقوب!
وبسبب الخلل في التصور لدى السكران وفئته في هذا الباب صاروا يقررون - كما سبق في شبهات السقاف - بأن مهمة الأنبياء هي الدعوة إلى الله وتوحيده والبلاغ، ولم يكلف الله العلماء والدعاة بأكثر من ذلك، لا بإقامة دولة وخلافة، ولا تحكيم شريعة وسياسة، ولا جهاد دفع ولا طلب! ولهذا يأتي النبي يوم القيامة وليس معه أحد!
فانتهوا إلى التفصي من شريعة النبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم - التي شرعت أحكام الخلافة في الأرض، وأحكام الجهاد على هذه الأمة، إلى قيام الساعة، بقول الله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِينًا} - بالاحتجاج بشرائع الأنبياء التي نسختها شريعة نبي الرحمة والملحمة، ونبي الكتاب والسيف!
الوجه الثاني:
أما الأحاديث التي احتج بها على مشروعية الملك فكلها غير صحيحة، كالزيادة في حديث: (خلافة النبوة ثلاثون سنة)، وما ورد فيها: (وسائرهم ملوك)، فأكثر رواة الحديث لم يذكروها، وعلى فرض ثبوتها، فهي مدرجة من كلام الراوي التابعي ومن دونه، وعلى فرض صحتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، فالمراد بالملك فيها ملك الخلافة نفسه، كما قال تعالى عن داوود: {يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}، فأخبر الله أنه جعل داود خليفة، مع قوله في آية أخرى أنه آتاه الملك: {وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}!
وأراد النبي صلى الله عليه وسلم التفريق بين خلافة النبوة الراشدة التي يجب لزوم سننها والاقتداء بها والاهتداء بهديها، وخلافة الملك التي تأتي بعدهم ويقع ما يقع فيها من خلل وجور...
ويدل عليه الحديث الصحيح: (لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة كلهم من قريش).
فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء أيضا، وليسوا ملوكا!
وكما سماهم في الحديث الصحيح الآخر (يكون خلفاء فيكثرون)!
وهي الخلافة العامة التي وقع فيها ما وقع من محدثات في الخطاب المؤول، ولم تخرج بها عن كونها خلافة عامة، ساد بها المسلمون وتحقق لهم بها الاستخلاف والسيادة في الأرض 13 قرنا، حتى إذا سقطت، سقط المسلمون فلم تقم لهم قائمة بعدها إلى اليوم!
وما ذكره السكران عن شيخ الإسلام ابن تيمية إنما كان يقصد بالملوك هنا خلفاء الإسلام سوى خلفاء النبوة وهم الخلفاء الراشدين الأربعة لحديث (خلافة النبوة بعدي ثلاثون سنة)، مع كون ابن تيمية نفسه يرى خلافتهم، إذ الخلافة العامة التي جاءت بعد الخلافة الراشدة شابها شيء من الملك، حيث يقول ابن تيمية: (ويجوز تسمية من بعد الخلفاء الراشدين خلفاء، وإن كانوا ملوكا، ولم يكونوا خلفاء الأنبياء، بدليل ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبى هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي وأنه لا نبي بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا فما تأمرنا قال: فوا ببيعة الأول فالأول ثم أعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم)، فقوله (فتكثر) دليل على من سوى الراشدين، فإنهم - أي الخلفاء الراشدين - لم يكونوا كثيرا، وأيضا قوله (فوا ببيعة الأول فالأول) دل على أنهم يختلفون والراشدون لم يختلفوا...
والملك - أي ملك الخلافة - هل هو جائز في الأصل والخلافة - أي خلافة النبوة - مستحبة؟ أم ليس بجائز إلا لحاجة من نقص علم أو نقص قدرة بدونه؟
فنحتج بأنه ليس بجائز في الأصل، بل الواجب خلافة النبوة لقوله صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فكل بدعة ضلالة)، بعد قوله (من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافا كثيرا)، فهذا أمر وتحضيض على لزوم سنة الخلفاء، وأمر بالاستمساك بها، وتحذير من المحدثات المخالفة لها وهذا الأمر منه والنهي دليل بيّن في الوجوب...
ثم اختص من ذلك قوله: (اقتدوا بالذين من بعدي أبى بكر وعمر)، فهذان أمر بالاقتداء بهما، والخلفاء الراشدون أمر بلزوم سنتهم، وفى هذا تخصيص للشيخين من وجهين:
أحدهما: أن السنة ما سنوه للناس، وأما القدوة فيدخل فيها الاقتداء بهما، فيما فعلاه مما لم يجعلوه سنة.
الثاني: أن السنة أضافها إلى الخلفاء، لا إلى كل منهم، فقد يقال إما ذلك فيما اتفقوا عليه دون ما انفرد به بعضهم، وأما القدوة فعين القدوة بهذا وبهذا، وفى هذا الوجه نظر.
ويستفاد من هذا أن ما فعله عثمان وعلي من الاجتهاد الذي سبقهما بما هو أفضل منه أبو بكر وعمر ودلت النصوص وموافقة جمهور الأمة على رجحانه، وكان سببه افتراق الأمة، لا يؤمر بالاقتداء بهما فيه، إذ ليس ذلك من سنة الخلفاء، وذلك أن أبا بكر وعمر ساسا الأمة بالرغبة والرهبة، وسلما من التأويل في الدماء والأموال، وعثمان رضي الله عنه غلب الرغبة وتأول في الأموال، وعلي غلب الرهبة وتأول في الدماء، وأبو بكر وعمر كمل زهدهما في المال والرياسة، وعثمان كمل زهده في الرياسة، وعلى كمل زهده في المال.
وأيضا فكون النبي صلى الله عليه وسلم استاء للملك بعد خلافة النبوة دليل على أنه متضمن ترك بعض الدين الواجب.
وقد يحتج من يجوز الملك - ملك الخلافة - بالنصوص التي منها قوله لمعاوية (إن ملكت فأحسن) ونحو ذلك، وفيه نظر!
ويحتج بأن عمر أقر معاوية لما قدم الشام على ما رآه من أبهة الملك - أي التوسع بالمباحات وترك الزهد - لما ذكر له المصلحة فيه، فإن عمر قال لا آمرك ولا أنهاك!
ويقال في هذا إن عمر لم ينهه، لا أنه أذن له في ذلك، لأن معاوية ذكر وجه الحاجة إلى ذلك، ولم يثق عمر بالحاجة فصار محل اجتهاد في الجملة.
فهذان القولان متوسطان أن يقال الخلافة - أي الراشدة - واجبة وإنما يجوز الخروج عنها بقدر الحاجة، أو إن يقال يجوز قبولها من الملك بما ييسر فعل المقصود بالولاية ولا يعسره، إذ ما يبعد المقصود بدونه لابد من إجازته، وأما ملك فإيجابه أو استحبابه محل اجتهاد.
وهنا طرفان:
أحدهما: من يوجب ذلك - خلافة النبوة - في كل حال وزمان، وعلى كل أحد، ويذم من خرج عن ذلك مطلقا، أو لحاجة، كما هو حال أهل البدع من الخوارج والمعتزلة وطوائف من المتسننة والمتزهدة.
والثاني: من يبيح الملك مطلقا، من غير تقيد بسنة الخلفاء، كما هو فعل الظلمة والإباحية وأفراد المرجئة وهذا تفصيل جيد وسيأتي تمامه...
وذكر أن رجلا سأل أحمد عن الخلافة فقال: كل بيعة كانت بالمدينة فهي خلافة نبوة لنا.
قال القاضي - أبو يعلى - وظاهر هذا أن ما كان بغير المدينة لم يكن خلافة نبوة.
قلت نصوص أحمد على أن الخلافة تمت بعلي كثيرة جدا.
ثم عارض القاضي ذلك بقوله :(الخلافة ثلاثون سنة ثم تصير ملكا).
قال السائل فلما خص الخلافة بعده بثلاثين سنة كان آخرها آخر أيام علي، وإن بعد ذلك يكون ملكا دل على أن ذلك ليس بخلافة؟
فأجاب القاضي بأنه يحتمل أن يكون المراد به الخلافة التي لا يشوبها ملك بعده ثلاثون سنة، وهكذا كانت خلافة الخلفاء الأربعة، ومعاوية قد شابها الملك، وليس هذا قادحا في خلافته، كما أن ملك سليمان لم يقدح في نبوته، وإن كان غيره من الأنبياء فقيرا، قلت فهذا يقتضي أن شوب الخلافة بالملك جائز في شريعتنا، وإن ذلك لا ينافي العدالة، وإن كانت الخلافة المحضة أفضل...).[29]
فهنا يتحدث ابن تيمية عن خلافة النبوة، والخلافة العامة التي حافظت على أصول الخلافة كنظام سياسي، وشابها شيء من الملك، بالتوسع بالمباحات، ووقوع شيء من الجور، أما الملك المحض الذي يخرج عن أصول الخلافة نفسها كنظام سياسي، فهذا كما يقول ابن تيمية: (من يبيح الملك مطلقا، من غير تقيد بسنة الخلفاء، كما هو فعل الظلمة والإباحية والمرجئة)!
فالخلافة نفسها هي سلطة وملك، إلا إنها ملك مشروع مأذون به في الأصل، وهي النظام السياسي الإسلامي الذي لا يعرف المسلمون غيره، وليست ملكا ممنوعا محرما كسلطان ملوك الأرض وجبابرتها، كفرعون والنمرود وورثتهم من الطغاة والجبابرة المعاصرين: (من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)!
الوجه الثالث:
أن مصطلح الخلافة من المصطلحات الإسلامية التي لم يعرفها العرب في جاهليتهم، وإنما كانوا يعرفون لفظ الملك، والأمير، أما الخلافة والخليفة، فهي ألفاظ شرعية قرآنية ونبوية، كما قال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}.[30]
وهذا استخلاف عام للجنس والنوع الإنساني، في استعمار الأرض.
وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ}. [31]
وهذا استخلاف خاص للمجتمع الإيماني ليقيم حكم الله والقسط الذي أنزله في كتابه، ونزله على رسوله، وقال تعالى عن داود: {يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ}.[32]
فالغاية من الخلافة كنظام سياسي هو إقامة الحق والحكم بالعدل، كما قال ابن خلدون: (وأحكام السياسة إنما تطلع على مصالح الدنيا فقط {يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا}، ومقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم وآخرتهم، وكان هذا الحكم لأهل الشريعة وهم الأنبياء ومن قام فيه مقامهم وهم الخلفاء، فقد تبين لك من ذلك معنى الخلافة، وأن الملك الطبيعي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار، والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها، إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به). [33]
ولفظ الخلافة لفظ قرآني ونبوي شائع في الخطاب النبوي شيوعا متواترا، كما جاء في أحاديث، منها حديث: (ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) [34] ، وحديث: (الخلافة بعدي ثلاثون)، وفي رواية: (خلافة النبوة ثلاثون سنة). [35]
وسُمي الخليفة خليفة، لكونه يخلف النبي صلى الله عليه وسلم في سياسة الأمة، وإقامة الملة، والخلافة هي إمارة المؤمنين، والقيام بسياسة شئون الدولة، وإقامة أحكام الدين، وقد عرف الماوردي الخلافة، والإمامة في الإسلام فقال: (الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين، وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع). [36]
كما عرف ابن عقيل الحنبلي السياسة الشرعية بأنها: (كل فعل يكون الناس معه أقرب إلى الصلاح وإن لم ينزل به الكتاب ولا جاء به الرسول).
والخليفة والخلافة ألفاظ لا دلالة فيها على ملك أو استحقاق أو قهر، ولا تفيد أي من هذه المعاني التي جاء الخطاب السياسي الإسلامي لتعطيلها، وإبطالها، ولهذا جاء بأسماء شرعية جديدة موافقة في دلالاتها لمضمون الخطاب القرآني وأصوله وهداياته، ولم يستخدم الشارع لفظ الملك، الذي يفيد معنى التملك وحق التصرف في الدولة والأمة، ولا لفظ السلطان الذي يفيد معنى القوة والقهر والجبر، وإنما استخدم ألفاظا لا دلالة فيها على شيء من ذلك وهي:
أولا: لفظ الخلافة والخليفة وهو الذي يخلف من سبقه.
ثانيا: لفظ الإمامة والإمام، وهو الذي يتقدم للقيادة، كإمامة الإمام للمصلين.
قال ابن خلدون عن نظام الخلافة: (إنه نيابة عن صاحب الشريعة في حفظ الدين وسياسة الدنيا به، وتسمى خلافة وإمامة، والقائم به خليفة وإماما، فأما تسميته إماما فتشبيها بإمام الصلاة في أتباعه والاقتداء به، ولهذا يقال الإمامة الكبرى، وأما تسميته خليفة فلكونه يخلف النبي في أمته فيقال خليفة بإطلاق وخليفة رسول الله). [37]
ثالثا: لفظ الإمارة، والأمير الذي هو ذو الأمر والشأن، وفيه معنى المشاورة، قال في لسان العرب:(الأمير: ذو الأمر...والائتمار والاستئمار: المشاورة، والتآمر التشاور، وآمره في أمره ووامره واستأمره شاوره، وآمرته في الأمر مؤامرة إذا شاورته، وكل من فزعت إلى مشاورته ومؤامرته فهو أميرك، ومنه الحديث: (آمروا النساء في أنفسهن)أي شاوروهن، ومنه الحديث(البكر تستأذن، والثيب تستأمر)... والأمير: القائد، وأولوا الأمر الرؤساء وأهل العلم... وقوله تعالى: (إن الملأ يأتمرون بك) أي: يتشاورون في أمرك، وتآمروا على الأمر وائتمروا: تماروا وأجمعوا آراءهم)أهـ.
فأمير المؤمنين هو قائدهم الذي يشاورهم في أمورهم، ويشير عليهم، ويشيرون عليه، ويستشيرونه ويستشيرهم في كل أمورهم وشئونهم، كما قال تعالى: {وَأَمْرهمْ شُورَى بَيْنهمْ}، وهو الذي يختارونه بعد تشاور وإجماع رأي، وكما قال عمر: (الإمارة شورى بين المسلمين).
وكل هذه الألفاظ ليس فيها معنى الملك، أو الاستبداد، أو الاستحقاق، أو القهر والجبر، فعبرت عن أصول الخطاب السياسي القرآني والنبوي أحسن تعبير، وجاءت بأوضح بيان لمضامينه وغاياته ومقاصده.
الوجه الرابع:
وقد قرر الخطاب القرآني والنبوي أنه لا يكون للمؤمنين إلا خليفة واحد، إذ وجود خليفتين وإمامين في وقت واحد، يناقض أصول الخطاب التي أوجبت الجماعة والائتلاف، وحرمت تحريما قاطعا الافتراق والاختلاف، الذي هو من حال أهل الجاهلية، ومن سننهم، بينما جاء الإسلام بالوحدة والتوحيد والاجتماع، كما قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}.
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[38]:
(نصب إمامين في الأرض أو أكثر لا يجوز، لقوله صلى الله عليه وسلم (من جاءكم وأمركم جميع، يريد أن يفرق بينكم، فاقتلوه كائنا من كان)، وهذا قول الجمهور، وحكى الإجماع عليه غير واحد منهم إمام الحرمين...) ا هـ.
وقال النووي في شرح حديث (سيكون خلفاء فيكثرون): (اتفق العلماء أنه لا يجوز أن يعقد لخليفتين، في عصر واحد، سواء اتسعت دار الإسلام أم لا، وقال إمام الحرمين في كتابه الإرشاد: قال أصحابنا: لا يجوز عقدها لشخصين، وعندي أنه لا يجوز عقدها لاثنين في صقع واحد، وهذا مجمع عليه، فإن بعد ما بين الإمامين، وتخللت بينهما شسوع فللاحتمال فيه مجال، وهو خارج من القواطع).
واستدرك عليه النووي هذه العبارة الأخيرة وحكم ببطلان تعدد الخلفاء حتى وإن تباعدت الديار بقوله:(وهو قول فاسد، مخالف لما عليه السلف والخلف، وظواهر الأحاديث).
وقال ابن حزم في بيان بطلان تعدد الأئمة: (اتفق من ذكرنا ممن يرى فرض الإمامة على أنه لا يجوز كون إمامين في وقت واحد في العالم، ولا يجوز إلا إمام واحد، إلا محمد بن كرام السجستاني وأبا الصباح السمرقندي وأصحابهما فإنهم أجازوا كون إمامين وأكثر في وقت واحد..
قال أبو محمد بن حزم: وكل هذا لا حجة لهم فيه، فواجب رد ما تنازعوا فيه إلى ما افترض الله عز وجل الرد إليه عند التنازع إذ يقول الله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، فنظرنا في ذلك فوجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال: (إذا بويع لإمامين فاقتلوا الآخر منهما)، وقال تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفو}، وقال تعالى: {ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم}، فحرم الله عز وجل التفرق والتنازع، وإذا كان إمامان فقد حصل التفرق المحرم، فوجد التنازع ووقعت المعصية لله تعالى، وقلنا ما لا يحل لنا، وأما من طريق النظر والمصلحة فلو جاز أن يكون فيه إمامان لجاز أن يكون فيه ثلاثة وأربعة وأكثر، فإن منع من ذلك مانع كان متحكما بلا برهان ومدعيا بلا دليل وهذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد، وإن جاز ذلك زاد الأمر حتى يكون في كل مدينة إمام أو في كل قرية إمام أو يكون كل أحد خليفة في منزله، وهذا هو الفساد المحض وهلاك الدين والدنيا). [39]
ولم يفرق إبراهيم السكران بين الواقع غير المشروع، وسبل إصلاحه والتعامل معه وفق أحكام الضرورات الطارئة، والتأصيل والتشريع له، حين أصبح ككثير ممن باتوا أسرى اللحظة التاريخية الراهنة، وظنوا أن التاريخ توقف، ولم يدركوا أن التاريخ أبو المفاجآت، فقد تفاجأ العالم كله في القرن الماضي باكتساح الأنظمة الشيوعية فجأة لنصف الكرة الأرضية، ثم تفاجأ بسقوط الاتحاد السوفيتي فجأة بعد أن كاد يصبح القطب الأوحد، ثم انحساره، ثم تفاجأ بوحدة أوربا التي خاضت حربين عالميتين فإذا هي تتجاوز ذلك مع اختلاف قومياتها وأديانها، وتتجه نحو الوحدة والاتحاد والدستور الأوربي، والبرلمان الأوربي، والعملة الموحدة...الخ
فليس المسلمون وهم ألف مليون وأكثر بأقل قدرة على استعادة حريتهم ونهضتهم ووحدتهم وخلافتهم وشريعتهم، غير أن ذلك لا يمكن له أن يتحقق ما لم يسبقه وعي بهذه الخلافة وأصولها وأحكامها، ووجوب بعثها من جديد على أصولها الراشدة، كما بشر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي مهمة العلماء والدعاة والمصلحين، فأول الدعوة الكلمة والفكرة!
فثبت بكل ما سبق بطلان دعوى إبراهيم السكران عن الملكية وجوازها، وقد فصلت القول في موضوع الخلافة في كتاب (الخلافة أحكامها وأيامها)، بما يكشف زيف الثقافة المعاصرة حولها...
وما زلنا مع السكران وشبهاته حول الحرية فما زال للحديث بقية!
[1] أحمد في المسند 4/273، والطيالسي في مسنده 438، وهو حديث حسن صحيح الإسناد، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، ح رقم (5).
[2] رواه أبو داود ح رقم (4607) ، والترمذي ح رقم (2678) ، وابن ماجه ح رقم (42) ، وقال الترمذي: (حسن صحيح).
[3] رواه البخاري ح رقم 3455، ومسلم ح رقم 1842.
[4] رواه مسلم ح رقم 1853.
[5] صحيح البخاري مع الفتح 13/194 ح 7207.
[6] الفصل 4/167.
[7] رواه الدرامي في السنن ح 2101، والبزار ح 1282، من حديث مكحول عن أبي ثعلبة الخشني عن أبي عبيدة، ورجاله ثقات غير أن فيه إرسالا، فلم يسمع مكحول من أبي ثعلبة، وقال الحافظ ابن حجر في الإمتاع ص 28 حديث حسن. ورواه نعيم بن حماد في الفتن ح 235 عن يحيى بن سعيد العطار عن أيوب عن قتادة عن أبي ثعلبة به، والعطار ضعيف، ورواه نعيم أيضا ح 233 من طريق عبد الرحمن بن جبير عن أبي عبيدة، وهو مرسل.
[8] ابن أبي شيبة في المصنف رقم 30565 و37193 بإسناد صحيح، وشمر بن عطية الراوي عن أنس ذكره ابن سعد في طبقاته في الطبقة الثالثة من أهل الكوفة، وقد توفي في حدود سنة 120 هـ، فالراجح سماعه من أنس الذي تأخرت وفاته إلى ما بعد 90 هـ، خاصة أنه لم يعرف بتدليس، فعنعنته عن أنس محمولة على السماع، وقد صحح ابن حبان والحاكم حديث الأعمش عن شمر، وروى شعبة عن الأعمش عن شمر حديثا، وهو لا يروي عن الأعمش إلا ما صرح فيه بالسماع، فثبت سماع الأعمش من شمر، والحديث موقوف له حكم المرفوع.
[9]صحيح البخاري ح 6673، وصحيح مسلم ح 1847، وسنن أبي داود ح 4246، وأحمد في المسند 5/ 386.
[10] سنن أبي داود ح 4244، وأحمد في المسند 5/ 403 بإسناد حسن.
[11] فتح الباري 6/36.
[12] جامع المسائل لابن تيمية (4 / 155)
[13] السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية - (1 / 11)
[14] آل عمران 26.
[15] الإسراء 30.
[16] الشورى 42.
[17] القصص 76.
[18] البقرة 251.
[19] ص 26.
[20] البقرة 258.
[21] البقرة 247.
[22] البقرة 124.
[23] تفسير ابن كثير 1/227.
([24] رواه النسائي في السنن الكبرى 4/171، والبيهقي 7/49، وله شاهد في مصنف عبد الرزاق 3/183.
[25] انظر شرح النووي لصحيح مسلم ح رقم 1773.
[26] رواه أحمد في المسند 4/387 بإسنادين أحدهما صحيح، والطبراني في الكبير 20/98 من حديث عمرو بن عبسة.
[27] رواه عبد الرزاق في المصنف 11/48، وعنه أحمد في المسند 5/272 من حديث الخثعمي بإسناد مقبول.
[28] رواه البخاري ح 6205، ومسلم ح 2143.
[29] (35 / 20 - 27)
[30] البقرة 30.
[31] النور 55.
[32] سورة ص 26.
[33] مقدمة ابن خلدون 1/237.
[34] رواه أحمد في المسند 4/273، وهو صحيح الإسناد. وانظر السلسلة الصحيحة ح (5).
[35] رواه أبو ادود في السنن ح4646.
[36] الأحكام السلطانية ص 5.
[37] مقدمة ابن خلدون 1/239.
[38] البقرة 30.
[39] الفصل في الملل والنحل 4/74.