بقلم أ.د. حــاكم المـطـيري
26 جمادى الآخرة 1435هـ
26 إبريل 2014 م
الوسطيون الجدد وفتنة الخروج على ولي الأمر:
يكمل الكاتب إبراهيم السكران نقده لكتاب (الحرية أو الطوفان) فيقول:
(وأما من جهة التأصيل الكلي لقضايا (الفقه السياسي السني) فالكتاب فيه ثغرات كبيرة جدًا، من أمثال: التعسف في حمل دلالة بعض الأدلة، والتغييب التام لنصوص الطاعة الوفيرة في الصحيحين (لأنه ليس لديه جواب عنها ففضل تحاشيها)، وإهدار الاعتبارات الشرعية التي حملت أئمة أهل السنة على ذم الخروج المسلح: كعمل الصحابة مع المتغلبين، وقاعدة موازنة المصالح والمفاسد، وإشارات النصوص إلى التغلب.
وعلى أية حال... فخير مثال على التأثر بالميول السياسية هو كتاب حاكم نفسه، فميوله الثورية الأممية قادته بشكل واضح إلى تغييب نصوص رئيسية في موضوع الطاعة، والتعسف في حمل نصوص أخرى، وهو ضحية لرد فعل حاد تجاه الطرح المشوه لنصوص الطاعة.
ومن عجائب هذا الكتاب – أعني كتاب الحرية أو الطوفان - أنه يضخ من خلاله وعلى طول فقراته كمية هائلة من مبررات وحيثيات "الخروج المسلح"، ثم يتظاهر ببرود مكشوف بأنه لا يرى الخروج المسلح! وأتذكر أنني قرأت قديمًا لأستاذه د. النفيسي رسالة صغيرة في تعزيز شرعية الخروج المسلح) انتهى كلامه بحروفه!
فالكاتب إبراهيم السكران يدعي - قبل الثورة - بأن كتاب (الحرية أو الطوفان) من حيث التأصيل الكلي لقضايا الفقه (السياسي السني) فيه ثغرات كبيرة! ثم لم يستطع أن يجد ثغرة واحدة إلا الثغرة التي افتتن فيها هو والوسطيون الجدد وهي قضية (إمامة المتغلب)، ووجوب (طاعته)، وحرمة (الخروج عليه)!
وليس (المتغلب) الذي يتحدث عنه السكران هو (المتغلب) الذي يتحدث عنه فقهاء الأمة قديما، بل هو (متغلب) بقوة العدو الصليبي وشوكته وجيوشه!
وأهل السنة عنده وسلف الأمة لا يدخل فيهم الحسين بن علي ولا عبد الله بن الزبير ولا سعيد بن جبير ولا مالك ولا أبو حنيفة ...الخ
فلما جاء الله بالثورة العربية - أدامها الله - فإذا السكران يبحث عن كتاب يستعين به على كتابة مقاله (مفاتيح السياسة الشرعية)، ليجيب عن موقفه وموقف فئته من حق الأمة في الثورة على الطغاة من منظور سني، فلم يجد إلا كتاب (الحرية أو الطوفان)، وكتاب (تحرير الإنسان)، فاستل وانتزع - كما الإمام المتغلب بالقوة - أحسن ما في الكتابين من مباحث محررة بأدلتها ووجه الاستدلال بها، مما لا يوجد إلا فيهما - كتحرير نظرية عقد البيعة وطبيعته، وتحرير معنى الشورى وأنها حق الأمة أصلا في اختيار الإمام، وليس فقط استشارة الإمام للأمة وهل هي واجبة أم لا، وهل هي ملزمة أم معلمة، وكلام ابن تيمية في اشتراط بيعة الجمهور وأنها لا تنعقد بالواحد والاثنين - ولم يترك إبراهيم السكران حين (تغلب بالقوة واقتحم) تحفة جميلة في كتاب الحرية، ولا رخامة حسنة المنظر، ولا حجرا منحوتا، ولا مشكاة فيها مصباح، إلا سطا عليها، ولم يترك زاوية من زوايا الكتاب إلا أحاطها بشبك وسور - فليس السكران بأقل شأنا من ولاة الأمر وشبوكهم - ليؤثث السكران داره الجديدة بها - وكما تقول العرب من عزَّ بزَّ - ولم يشر في مقاله (مفاتيح السياسة الشرعية) ولو إشارة إلى كتاب الحرية، حتى لا يعرف أحد مصدر هذا الأثاث الجميل ومن أين اشتراه وجاء به! والذي كان يحذر منه السكران الشباب قبل الثورة!
ومع ذلك كله وبعد أن اكتملت دار إبراهيم السكران بأحجارها المنحوتة، وتحفها المبثوثة، وأركانها المجلوبة - طبعا بالتغلب كما هو حال الأنظمة العربية الملكية والعسكرية - فإذا هي دار على شفا جرف هار، تنهار عند أول هزة، لأن الأساس لم يبن على أصل ثابت مكين!
فبعد أن قرر السكران كل حقوق الأمة واعترف بها - بعد الثورة العربية - في مقاله (مفاتيح السياسة الشرعية)، إذا هو يشرعن الأنظمة الملكية، ويقف عند بابها، ويتمسح بأعتابها، ولا يجيب عن السؤال الأهم من تقرير حقوق الأمة، ألا وهو كيف تفرض الأمة حقوقها وكيف تحميها من الاستبداد؟
لقد وجد السكران نفسه أنه قد مضى في مقالته تلك - التي كتبها بعد الثورة - في طريق من سماهم قبل الثورة بالتنويريين، حذو القذة بالقذة، ولم يتبق له ما يحفظ له (سلفيته السعودية) إلا:
1- تحديد الموقف من الملكية ذاتها، كنظام يقوم على التغلب، ويتناقض مع الشورى والرضا!
2- وإلا تحديد الموقف من الثورة نفسها، كحق للأمة وشعوبها، حين لا تجد سبيلا إلى الإصلاح إلا الثورة!
3- وإلا تحديد موقفه من الخطاب الراشدي وهل يجب شرعا الالتزام به أم لا!
فأدرك إبراهيم السكران أنه إن قرر هذه القضايا الثلاث، كما قررها كتاب (الحرية أو الطوفان)، فقد آمن إبراهيم السكران، بما كفر به قبل الثورة العربية، حين حذر من كتب د حاكم وفكره! وهذا ما لا يليق بكاتب كبير، أعده قومه للتحرير والتنظير، والدفاع والتبرير، عن (السلفية السعودية)!
والإجابة عن هذه الشبه من وجوه:
الوجه الأول: ظهر جليا من كتابات السكران عموما، وما كتبه هنا على وجه الخصوص، أن قضية (طاعة ولي الأمر)، وقضية (التغلب)، وقضية (تحريم الخروج على السلطة)، تشكل حجر الأساس وقطب الرحى في فكر السكران السياسي!
ففي الوقت الذي يجعل قضية الخروج على السلطة أم القضايا السياسية، عليها يوالي وعليها يعادي، وهي أم القوادح العقائدية التي يخرج بها خصومه من أهل السنة والجماعة، لا يرى في المقابل خروج السلطة عن قطعيات الشريعة، كإباحة الربا الذي آذن الله بالحرب على أهله - وهو أصل النظام الاقتصادي الرأسمالي اليهودي الذي أرسل الله موسى وعيسى بتحريمه كما في قوله تعالى في شأن بني إسرائيل وسبب سخطه عليهم ولعنه لهم {وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} - قادحا في الاعتراف بالسلطة، أو بشرعيتها السياسية، كما ذكرنا عنه في الصوارم 14!
ولم يفرق السكران بين:
- الخروج الواجب الذي أجمع عليه الأئمة وسلف الأمة حال كفر الإمام أو ظهور الكفر البواح كما في الصحيحين (إلا أن تروا كفرا بواحا)!
- والخروج المحرم الذي أجمع عليه سلف الأمة والأئمة، وهو الخروج على الإمام العدل كما في الحديث (من نزع يدا من طاعة فلا حجة له)!
- أو الخروج في الفتن لتفريق الأمة كما في الصحيح (من خرج على أمتي وهم جميع يريد أن يفرق جماعتهم فاقتلوه)!
- والخروج المختلف فيه بين الأئمة وسلف الأمة وهو الخروج على الإمام الجائر، الذي جاء فيه كما في الصحيح عن أمراء الجور (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)، وجاء (سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى إمام جائر)!
وقد قال الإمام مالك: (إذا خرج مثل أهل الأهواء على المسلمين وأفسدوا وسفكوا الدماء، فأرى ألا يقاتلوا إلا أن يكون الإمام عدلا، فإن كان عدلا كان حقًّا على المسلمين قتالهم حتى يردوهم إلى العدل والحق، فأما إذا كان الإمام غير عدل فإن للمسلمين ألا يقاتلوهم.)
قال مالك: (فإذا كان مثل هذا فاقعد في منزلك، فإذا أرادوا أخذ مالك، فقاتل بسيفك عن نفسك بعد أن تناشدهم الله.)
قال ابن القاسم: (ولو دخلوا مدينة لا يريدون إلا الإمام وحده، فإنهم لا يقاتلون إذا كان الإمام جائرا ظالما، إلا أن يريدوا مع ذلك من في المدينة من المسلمين وأخذ أموالهم، فإن مثل هؤلاء يقاتلون بعد المناشدة، فإن أبوا قوتلوا.)
وروى عيسى عن ابن القاسم أن مالكا سُئل عن الوالي إذا قام عليه قائم يريد إزالة ما بيده:(هل يجب الدفع عنه؟
فقال مالك: أما مثل عمر بن عبد العزيز فنعم، وأما غيره فلا ودعه وما يريد، فينتقم الله من ظالم بظالم، ثم ينتقم الله منهما جميعا.)
قال يحيى:( والصواب في العتبية ألاَّ يعان فيها بشيء ولا يخرج فيها، ومن أتي في نفسه يريد أخذ نفسه وماله فليدفع عنهما.
ونحوه حكى ابن القاسم عن أصحاب مالك.)
وفي مختصر ابن شعبان، روى ابن القاسم عن مالك أنه قال: (إذا بايع الناس رجلا بالإمارة ثم قام آخر فدعا إلى بيعته فبايعه بعضهم أن المبايع الثاني يقتل إذا كان الإمام عدلا، فإن كان مثل هؤلاء فلا بيعة له تلزم، إذا كانت بيعته على الخوف، والبيعة للثاني إن كان عدلا، وإلا فلا بيعة له تلزم).[1]
فهنا يفرق الإمام مالك وهو إمام أهل السنة والجماعة في عصره بلا منازع بين حالات الخروج على السلطة وصورها:
الأولى: الخروج على إمام عدل كعمر بن عبد العزيز فهذا محرم، ويجب على الأمة قتال من خرج عليه.
الثانية: الخروج على إمام جائر أخذ البيعة بالإكراه بلا شورى ولا رضا، وخرج عليه عدل، فالبيعة للعدل الخارج، ولا بيعة للجائر، ويكون القتال مع العدل الخارج.
الثالثة: الخروج على إمام جائر أخذ البيعة بالإكراه بلا شورى ولا رضا، وخرج عليه مثله في الجور فلا يقاتل مع أحد منهما، ويجب اعتزالهما.
الرابعة: الخروج على الإمام الجائر وعلى الأمة، ويكون الخارج من أهل الأهواء الذين يستحلون الدماء والأموال، فهنا للأمة القتال مع الإمام الجائر لدفع عدوان هذا الخارج الذي يريد دماءهم وأموالهم.
كما نص الإمام مالك هنا وبشكل صريح جلي على أنه لا بيعة تلزم لمن بويع بالقوة وعلى الخوف والإكراه، ولا بيعة للإمام الجائر، ولهذا تعرض للحبس والضرب!
وما قاله الإمام مالك هو عين ما قاله الفاروق عمر بمحضر الصحابة كلهم كما في البخاري: (من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له)!
فانظر إلى فقه هذا الإمام - وهو إمام واحد من أئمة أهل السنة والجماعة - وقارن بينه وبين ما يقرره اليوم إبراهيم السكران وفئته، في طاعة ولي الأمر المتغلب، وقضية الخروج على السلطة، وتنزيلهم كلام الفقهاء في أئمة الجور في ظل دولة الإسلام وخلافته على رؤساء دويلات الحملات الصليبية في المنطقة العربية، الذين يوليهم ويعزلهم باراك أوباما وجورج بوش!
الوجه الثاني: زعم السكران أن من المؤاخذات على كتاب (الحرية أو الطوفان):
(التغييب التام لنصوص الطاعة في الصحيحين، لأنه ليس لديه جواب عنها ففضل تحاشيها)!
وهذا أوضح دليل على أن إبراهيم السكران لم يقرأ الكتاب آنذاك، أو قرأه وقصد تضليل القراء ليؤكد بأن د حاكم خارجي تكفيري، كما صرح بعد ذلك في مقاله (شبهة حرية المنافقين)، حيث يقول: (والحقيقة أن الدكتور حاكم بعد كتابه الأخير (الفرقان بين حقائق الإيمان وأباطيل الشرك والطغيان) المنشور في 2010م اتضح فيه بشكل حاد مناقضته الجوهرية لتيار التنويريين والاصلاحيين في مسائل (التكفير والخروج) واقترابه من لغة عبد السلام فرج صاحب (الفريضة الغائبة) ...)!
كل هذه الدعوى العريضة ادعاها السكران جزافا مع أني قد عقدت فصلا كاملا في كتاب (تحرير الإنسان) بعنوان (أحاديث الإمارة وبيان معانيها وحل مشكلها) وتحته ما يلي من الأصول:
الأصل الأول: وجوب السمع والطاعة.
الأصل الثاني: وجوب لزوم الجماعة.
الأصل الثالث: الصبر على تصرف السلطة وأداء حقوقها.
الأصل الرابع: صون الإمامة وتحريم الخروج عليها.
ولعله لم يبق حديث من أحاديث الإمارة والسمع والطاعة في الصحيحين وغيرهما إلا وأوردته، وشرحته، وكشفت معانيه، ثم يزعم السكران أني تحاشيت ذكر أحاديث السمع والطاعة في الصحيحين لأنه لا جواب عندي لها!
وكذلك ذكرت في كتاب الحرية الأدلة القرآنية في موضوع الطاعة وقلت: (فقال تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، ففي هذه الآية جعل الله الطاعة له ولرسوله استقلالاً، وجعل طاعة أولي الأمر تبعا، ولهذا عطفها بالواو دون أن يكرر فعل {أَطِيعُوا}، ليؤكد أن طاعة أولي الأمر مقيدة بطاعة الله ورسوله، ولهذا قال {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ}، أي أنتم وأولي الأمر منكم، أو أولي الأمر فيما بينهم { فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}، ليؤكد مبدأ المشروعية ويحدد المرجعية، وأنها القرآن والسنة ابتداءً وانتهاءً .
كما أن في قوله: {وَأُوْلِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} ثلاث إشارات:
الأولى: أنه جاء بلفظ الجمع {أُوْلِي الْأَمْرِ} ولم يقل: (ولي الأمر) لبيان أن أولي الأمر هم جماعة أهل الحل والعقد من العلماء والرؤساء وقادة المجتمع، فهؤلاء هم الذين تجب طاعتهم إذا اتفقوا على رأي ولم يخالف الكتاب والسنة، فإن اختلفوا وتنازعوا فيما بينهم، أو وقع نزاع بينهم وبين الأمة وجب الرد إلى الكتاب والسنة.[2]
الثانية: فيه بيان إمكانية وقوع النـزاع بين أولي الأمر، أو بينهم وبين الأمة، فالواجب حينئذ التحاكم إلى الكتاب والسنة، ولا يلزم أحد أحدًا برأيه واجتهاده.
الثالثة: في قوله: {مِنْكُمْ} إشارة إلى أنه لابد أن يكون أولي الأمر ممثلين للأمة كلها، ومن جميع طوائفها لا طائفة واحدة منها) انتهى بحروفه من الحرية!
وكذلك أوردت في كتاب الحرية أمهات نصوص وجوب السمع والطاعة في الصحيحين ومنها حديث البيعة نفسه (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا)، حيث قلت بعده مباشرة (وقد تضمن هذا الحديث ثلاثة مبادئ سياسية رئيسة:
1- وجوب الطاعة للسلطة ما قامت بواجبها وعدم منازعتها في ذلك...)!
فذكرته هنا كأول واجب إذ لا قيام للسلطة بلا سمع وطاعة من الأمة!
بل ذكرت الأصل الثاني من أصول الخطاب السياسي المنزل (وأنه لا دولة بلا سلطة وإمامة) وذكرت الأدلة على ضرورة قيام السلطة في الإسلام، ولا سلطة بلا طاعة!
وقلت أيضا في شروط الطاعة وقيودها في كتاب الحرية:
(فقد قال أبو بكر الصديق في أول خطبة له بعد البيعة (أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإن عصيتهما فلا طاعة لي عليكم).
وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - يبايعون الخلفاء على العمل بالكتاب والسنة والالتزام بهما، كما في بيعة عثمان بن عفان رضي الله عنه.[3]
وكتب عبد الله بن عمر بعد أن اجتمع المسلمون وبايعوا الخليفة عبد الملك بن مروان: (إني أقر بالسمع والطاعة لعبد الله عبد الملك، أمير المؤمنين، على سنة الله وسنة رسوله ما استطعت).[4]
وقال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن استعمل عليكم عبد حبشي)[5]، وفي رواية (فاسمعوا له وأطيعوا ما أقام فيكم كتاب الله). [6]
وقد قيدت السنة النبوية الطاعة للسلطة بثلاثة قيود:
1- القيد الأول: إقامة الصلاة التي هي عمود الدين وشعاره، فإذا ترك الحاكم الصلاة، والدعوة إليها، وإقامتها، فقد سقطت طاعته وفقد مشروعية استمراره في السلطة؛ لحديث: (شرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم) قيل يا رسول الله! أفلا ننابذهم السيف؟ فقال: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة). [7]
وفي هذا الحديث مشروعية الخروج على السلطة عند ترك إقامة الصلاة، سواء قيل: إن ترك الصلاة كفر، أم قيل فسق.
2- القيد الثاني: إقامة الكتاب والحكم بما فيه؛ لحديث: (اسمعوا وأطيعوا، ولو عبد حبشي ما أقام فيكم كتاب الله).
فقيد مشروعية السلطة وحقها بالطاعة ما دامت تحكم بالشريعة، فإن عطلتها فقدت مشروعية استمرارها، سواء قيل: إن تعطيل الحكم بالكتاب كفر، أم فسق!
3- القيد الثالث: عدم ظهور كفر بواح من السلطة يصادم الشريعة؛ لحديث: (وألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفرًا بواحًا عندكم من الله فيه برهان).[8]
أي: فنازعوهم حينئذ الأمر سواء كان ظهور الكفر استحلالاً له أو دون استحلال!
وبهذا قررت الشريعة الإسلامية حق الأمة في مراقبة السلطة، وحقها في مقاومة انحرافها عن دستور الدولة ونظامها العام، فإذا حافظت السلطة على الأصول العامة القطعية؛ بإقامة شعائر الإسلام وأركانه الظاهرة، والحكم بالكتاب وشرائعه، ولم تظهر كفرًا بواحًا فالواجب السمع والطاعة لها بالمعروف وفيما لا معصية فيه لله، حتى وإن خرج الإمام عن حد العدالة بظلم أو فسق قاصر، فإن تعدى ظلمه إلى الأفراد فقد جعل الشارع لهم الحق في مقاومة طغيان السلطة بالدفاع عن دمائهم وأعراضهم وأموالهم) انتهى كلامي بحروفه من كتاب الحرية أو الطوفان.
فثبت بهذه الشواهد من كتاب الحرية - فضلا عن فصل كامل في كتاب التحرير - بطلان دعوى السكران بأنه تم التغييب التام لنصوص الطاعة التي في الصحيحين، وأن د حاكم تحاشاها لأنه لا إجابة عنده عما دلت عليه!
هذا مع أن كتاب (الحرية أو الطوفان) دراسة تاريخية لمراحل الخطاب السياسي الإسلامي، كما في عنوانه، فليس موضوعه أصلا أحاديث الطاعة وشروحها، التي يبحث عنها إبراهيم السكران!
الوجه الثالث:
ما السبب الذي دعا السكران لإثارة قضية (تغييب أحاديث الطاعة)، وقضية (الخروج المسلح)؟
هل يرى السكران أن صمام الأمان للمحافظة على الأمن والاستقرار في عالمنا العربي هو إشاعة أحاديث السمع والطاعة؟ ومن ثم يخشى حين تغيب هذه الأحاديث من وقوع الفتن والاضطرابات والثورات!
أم يتصور أن سبب استقرار وازدهار الأمم في شرق الأرض وغربها من اليابان البوذية، إلى أمريكا وأوروبا المسيحية، هو التزامهم بالسمع والطاعة لولاة أمرهم - لا بالعدل والحرية التي يتمتعون فيها فيما بينهم - ومن ثم يخشى حين تغيب هذه النصوص عن كتاب الحرية أن تضطرب أحوال الأمة وتحدث الفتن!
أم يريد السكران أن يقول - في مقاله المنشور سنة 2009م في مجموعة عبد العزيز قاسم في الإنترنت وهي أكبر مجموعة إعلامية آنذاك - بأن د حاكم خارجي يرى (الخروج المسلح) ولهذا قام بتغييب تام لنصوص الطاعة التي في الصحيحين لتحقيق هذا الغرض!
والسؤال هنا لمن كتب السكران هذا الكلام؟ ومن هو المخاطب الأصلي به؟ وما المصلحة التي يرجوها؟
هناك عدة افتراضات:
1- يحتمل أنه كتبه ردا على سؤال صديقه ناصر الذي سأله عن د حاكم وكتبه، بلا نية تشهير، ولا قصد تحذير، ثم استحسن هو أو صديقه ناصر الإجابة، فاقترح عليه نشرها في أكبر مجموعة إعلامية سعودية لتعم الفائدة العلمية، لا أكثر من ذلك، ولا أقل، فالدافع لكتابة المقال آنذاك دافع علمي محض، فالعلم رحم بين أهله!
2- ويحتمل أنه كتبه حسبة وديانة لتحذير الشباب من د حاكم وفكره الخارجي، وقد يكون السكران لم يقرأ الكتاب، أو قرأ بعضه، أو رأى هذه النصوص في كتاب الحرية التي تحدثت عن وجوب السمع والطاعة للسلطة وفق القيود التي جاءت بها الشريعة نفسها، ورأى أنها أقل من المطلوب، وأنها لا تفي بالغرض لإثبات براءة د حاكم من تهمة الخارجية، ومن ثم فالدافع للكتابة ديني ذاتي بحت، والمؤمن مرآة أخيه، ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لغيره ما يحبه لنفسه من الخير!
3- وأيضا يحتمل أنه كتبه برغبة من تياره الذي صدره ليتصدى لهذا الفكر الذي بدأ يروج بين الشباب، ولم يجد من يتصدى له ويرد عليه، فانبرى السكران لهذه المهمة، وعليه فالدافع حينئذ حزبي محض، والرجل قليل بنفسه كثير بإخوانه، والجماعة رحمة!
4- ويحتمل أنه كتبه لتحذير السلطة نفسها لتأخذ حذرها من د حاكم وكتبه التي تروج لفكر الثورة، ولهذا لم يذكر أحاديث الطاعة التي هي حق للسلطة! وبناء على هذا الافتراض فالدافع لكتابة المقال حينها وطني خالص، لا تشوبه شائبة تزلف للسلطة، ولا تقرب لولي الأمر، وحب الأوطان من الإيمان كما في الحديث المكذوب!
هذه أربع فرضيات ولن أتعجل في ترجيح أي منها على الأخرى، وسأعود لكلام إبراهيم السكران نفسه فقد نجد الإجابة توقيفا من نص كلامه لا اجتهادا واستنتاجا من د حاكم، حيث يقول عن د حاكم والمؤاخذات على كتاب (الحرية أو الطوفان)، والتي حصرها في تغييب تام لنصوص (طاعة ولي الأمر) وأيضا:
(إهدار الاعتبارات الشرعية التي حملت أئمة أهل السنة على ذم (الخروج المسلح): كعمل الصحابة مع المتغلبين، وقاعدة موازنة المصالح والمفاسد، وإشارات النصوص إلى التغلب.
وعلى أية حال... فخير مثال على التأثر بالميول السياسية هو كتاب حاكم نفسه، فميوله الثورية الأممية قادته بشكل واضح إلى تغييب نصوص رئيسية في موضوع الطاعة، والتعسف في حمل نصوص أخرى، وهو ضحية لرد فعل حاد تجاه الطرح المشوه لنصوص الطاعة.
ومن عجائب هذا الكتاب – أعني كتاب الحرية أو الطوفان - أنه يضخ من خلاله وعلى طول فقراته كمية هائلة من مبررات وحيثيات (الخروج المسلح)، ثم يتظاهر ببرود مكشوف بأنه لا يرى (الخروج المسلح)! وأتذكر أنني قرأت قديماً لأستاذه د. النفيسي رسالة صغيرة في تعزيز شرعية (الخروج المسلح) ...) انتهى كلام السكران!
فذكر في هذه الفقرة وحدها (الخروج المسلح) أربع مرات:
1- إهدار اعتبارات ذم (الخروج المسلح)!
2- يضخ كمية هائلة من مبررات (الخروج المسلح)!
3- يتظاهر ببرود مكشوف بأنه لا يرى (الخروج المسلح)!
4- متأثر بأستاذه النفيسي في تعزيز شرعية (الخروج المسلح)!
أليس عجيبا هذا التركيز على هذه العبارة وتكريرها أربع مرات في فقرة واحدة!
ثم الأعجب منه أنه لا توجد أصلا عبارة (الخروج المسلح) في كتاب الحرية كله، ولا حتى كتاب التحرير، ولم أستخدمها فيهما ألبتة!
فأنا أذكر الخروج في كتاب الحرية كقضية سياسية وفقهية في تاريخ الخطاب السياسي الإسلامي، وهذا الاستخدام لكلمة (الخروج) لا يحقق الغرض الذي يريده النائب العام إبراهيم السكران! فحتى يؤكد صحة اتهام د حاكم بأنه خارجي يدعو للثورة، كان لا بد من استخدام لفظ يفهمه المتخصصون الأمنيون وهو (الخروج المسلح)!
ثم الأغرب من ذلك الربط بيني وبين د النفيسي، مع أنه لم تكن بيني وبين د النفيسي علاقة حين صدر كتاب (الحرية أو الطوفان) سنة 2004م، ولم يسبق أن التقيته أو رأيته أو حدثته، وربما كان أول لقاء بيني وبين د النفيسي سنة 2005م، بمكة في شهر رمضان بقاعة استقبال الفندق الذي كان يقيم فيه، وكان اللقاء بحضور د سعود مختار الهاشمي - فك الله أسره - ومع د سعود أستاذ آخر وأظنه البرفسور عبد الرحمن الشميري أو عصام بصراوي - فك الله أسرهما - ودار حديث عن الخطر الإيراني على المنطقة وكان المتحدث د النفيسي فقال: علينا أن نأخذ الحذر من هذا الخطر!
فقاطعته: فقلت يا د عبد الله من نحن الذين يجب علينا أخذ الحيطة والحذر من الخطر الإيراني؟
فقال: نحن شعوب الخليج!
فقلت: نحن مستضعفون بلا تنظيم ولا مشروع سياسي يعبر عن الأمة ومشروعها، وليس بأيدينا ما يمكن أن نقوم به تجاه هذا الخطر، فهذه مسئولية الأنظمة الخليجية التي فرطت في أمن شعوبها وحقوقها حتى باتت في مهب الريح، فالمشكلة ليست في إيران وقوتها، بل في ضعفنا وتشرذمنا ووقوعنا تحت الاحتلال الأمريكي الذي احتل العراق حربا، واحتل قبله الخليج سلما، فأزمتنا أنه لا دولة لنا!
وقلت أيضا: إيران خطر قادم بينما أمريكا خطر قائم، فهي التي تحتل الآن العراق، وهي التي شنت الحرب عليه من عمقه العربي الاستراتيجي من الخليج والجزيرة العربية ومصر والأردن!
فهذا أول لقاء كان بيني وبين د النفيسي فلماذا يا ترى ربط إبراهيم السكران بيننا؟
ولا يوجد أحد فيما أعلم ذكر أو أشار لمثل هذه العلاقة بين د حاكم ود النفيسي قبل إبراهيم السكران حتى نحسن به الظن ونقول لعله وجد معلومة منشورة عن مثل هذه العلاقة فذكرها بلا سوء قصد!
فما السر وراء مثل هذا الربط غير المسبوق؟
إنه يريد استحضار التاريخ - الذي لا يعرفه الشباب بل يعرفه السياسيون الأمنيون - وما جرى للنفيسي أيام حركة جيهمان، وكتاباته الثورية آنذاك، ليقول السكران د حاكم هو امتداد لفكر النفيسي الذي كان من تاريخه ما كان ضد السعودية فخذوا حذركم!
وتبقى هذه أيضا قرينة لا تصلح كدليل على ترجيح هذا الافتراض!
وسأراجع عبارة السكران مرة أخرى فلعلها تسعفنا في حل هذا اللغز!
وهنا نقف عند هذه العبارة التي قد يكون بين كلماتها وتحت حروفها ما يكشف سر هذا المقال والدافع لكتابته ونشره، حيث يقول السكران: (ومن عجائب هذا الكتاب – أعني كتاب الحرية أو الطوفان - أنه يضخ من خلاله وعلى طول فقراته كمية هائلة من مبررات وحيثيات (الخروج المسلح)، ثم يتظاهر ببرود مكشوف بأنه لا يرى (الخروج المسلح)... )!
فالسكران يعجب أشد العجب من كتاب (الحرية أو الطوفان)، ففي الوقت الذي يتم فيه تغييب نصوص طاعة ولي الأمر بشكل تام، يضخ المؤلف د حاكم خلاله وفي كل فقراته كمية هائلة من مبررات وحيثيات (الخروج المسلح)!
لاحظ هذه الألفاظ (عجائب الكتاب) و (يضخ) و (كمية هائلة) و (طوال فقراته) و (مبررات وحيثيات) و (الخروج المسلح)!
إنها حالة من الانفعال النفسي والذهني أخذت من إبراهيم السكران كل مأخذ، واعتراه بسببها الاندهاش والعجب، حيث يرى رأي العين كمية هائلة من مبررات الخروج المسلح يضخها د حاكم في كل فقرات الكتاب من أوله إلى آخره، ومع ذلك، ومع كل هذه الأدلة التي يراها السكران رأي العين مما تشكل أدلة إدانة قطعية ضد د حاكم ... !
ومع ذلك كله - يقولها السكران في حالة عجب وغضب - (يتظاهر د حاكم ببرود مكشوف بأنه لا يرى (الخروج المسلح)... )!
هذا المقال منشور سنة 2009م يوم أن كانت الأنفاس تعد والكلمات ترصد والخطوات تتبع!
ما أكثر جهة تستخدم عبارة كعبارة (تنظيم مسلح)، وعبارة (مبررات الحكم)، وعبارة (حيثيات القضية)، وعبارة (كميات هائلة من الأسلحة والذخائر)، وعبارة (الخروج على ولي الأمر)؟
لقد ساء السكران أن يفلت د حاكم من بين يدي النائب العام إبراهيم السكران والذي تؤكد له كل فقرات كتاب (الحرية) أنه يرى (الخروج المسلح)، إلا أن د حاكم - ويا للأسف - يتظاهر أمام النائب العام ببرود قاتل مكشوف بأنه لا يرى (الخروج المسلح)!
هل يتصور أن يكون الكاتب إبراهيم السكران قد كتب هذا التقرير الخطير حسبة لوجه الله لتحذير الشباب، أو نصرة لتياره الفكري؟
هذا بعيد جدا!
وهل يتصور أنه كتبه من أجل صديقه ناصر الذي سأله عن د حاكم وكتبه!
أيضا هذا بعيدا جدا جدا!
فلم يبق إلا أنه كتبه بروح وطنية لتحذير ولي الأمر من خطورة هذا الفكر الذي يدعو إلى (الخروج المسلح)، حتى وإن تظاهر المؤلف ببرود مكشوف بخلاف ذلك، فالدين النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم!
ويرجح هذا الاحتمال دندنة السكران في هذا المقال من أوله إلى آخره لتأكيد هذه القضية بالذات حيث وردت في مقاله الذي لا يتجاوز صفحتين كل هذه العبارات:
- د. حاكم المطيري بكل اختصار وتركيز "ثائر أممي"!
- مشروعه كله يقوم على إشعال وتأجيج الثورة في نفوس الناس على النظم السياسية!
- وعلى التنديد والاستنكار للحدود السياسية بين الدول القطرية العربية!
- يختزل الاسلام في "الثورة السياسية"!
- الأولوية العظمى عنده هي الثورة السياسية!
- المهم عنده هو كون الشخص يدفع باتجاه الحرية السياسية والثورة على المظالم العامة!
- المعيار عنده هو "حجم المكون الثوري"!
- الوحي والشريعة عنده ليست إلا وسيلة للثورة!
- التغييب التام في كتابه لنصوص الطاعة!
- إهداره الاعتبارات الشرعية التي حملت أئمة أهل السنة على ذم الخروج المسلح!
- إهداره عمل الصحابة مع المتغلبين!
- إهداره إشارات النصوص إلى التغلب!
- ميوله الثورية الأممية قادته بشكل واضح إلى تغييب نصوص رئيسية في موضوع الطاعة!
- يضخ من خلال كتابه وعلى طول فقراته كمية هائلة من مبررات وحيثيات "الخروج المسلح"!
- يتظاهر ببرود مكشوف بأنه لا يرى الخروج المسلح!
- لأستاذه د. النفيسي رسالة صغيرة في تعزيز شرعية الخروج المسلح!
هل يعقل أن يكون إبراهيم السكران كتب كل هذه العبارات الخطيرة في هذا التقرير - عفوا أقصد المقال - عن د حاكم وكتبه لتحذير الشباب سنة 2009م منها، في الفترة نفسها التي خرج فيها كتاب (الغوغائية) لحمد عثمان بتقريض الفوزان، والذي طبع في المملكة ومصر والمغرب، وتوزعه الوزارات والإدارات بالمجان، في كل دول الخليج!
هل الشباب يحتاجون لكل هذه العبارات التي تدور حول (الطاعة) و(التغلب) و(الثورة) و(الخروج المسلح) ليغرق السكران مقاله هذا بسيل من الطوفان من هذه العبارات التي تسقط تنظيما كاملا لو تمت إدانته فضلا عن كاتب أو مفكر!
ومع هذا كله فليس هذا هو الأعجب بالنسبة لي وليست هذه قضيتي!
بل الأعجب هو كيف توهم السكران بأن د حاكم يتظاهر ببرود مكشف بأنه لا يرى (الخروج المسلح)! فالسكران مع ذكائه المفرط يتوصل إلى نتيجة هي بالفعل خطأ في الاستنتاج إذ ليس في كتب د حاكم كلها ما ينفي مشروعية الخروج المسلح حين تقرر الأمة الثورة على الطغيان!
كيف غابت عن إبراهيم السكران مثل هذه الحقيقة مع أن آخر فقرة من كتاب (الحرية أو الطوفان) دعوة صريحة إلى (الشك بمفاهيم المجتمع وتصوراته عن الدين ومجالاته، والشك بالثقافة الإسلامية المعاصرة التي هي نتاج ثقافة المجتمع، الذي تقوم الحكومات بتشكيلها وتوجيهها بوسائل الإعلام والتعليم، بما في ذلك المساجد والمدارس الدينية والكليات الشرعية، التي تم توظيفها في خدمة الحكومات على تفاوت توجهاتها من أقصى اليسار الاشتراكي إلى أقصى اليمين الرأسمالي التي سيطرت على العالم العربي منذ سقوط الخلافة العثمانية، وهيمنة الاستعمار الغربي على شئونه، وإنه من دون الشك لن تصل الأمة إلى برد اليقين، ونعيم الحرية، بل ستظل ترسف في أغلال الوهم وجحيم العبودية، وليس أمامها للخروج من هذا التيه سوى الثورة أو الطوفان)!
فأنا أدعو وبشكل صريح إلى الاعتراف بحق الأمة في التغيير بكل وسيلة سلمية أو ثورية أو مسلحة متى ما رأت الأمة ذلك، لأن الشارع جعل لهذا الحق، وفوضها في تغيير المنكر بالقوة إن استطاعت، أو بالكلمة، حيث يقول صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فمن لم يستطع فبلسانه)، ويقول: (فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن)، ويقول: (لتأخذن على يد الظالم) ... الخ
فمن أين استنتج السكران بأن د حاكم يتظاهر ببرود مكشوف بأنه لا يرى (الخروج المسلح)!
وأين هذا النص الذي تظاهرت فيه!
ربما قرأ السكران كلام الشيخ أحمد شاكر - في كتابي الحرية - الذي يرفض فيه الثورة الجامحة فظنه كلامي!
أو ربما قرأ كلام الشيخ مصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية في كتابي الحرية حيث ورد في الحاشية رفضه للثورة المسلحة!
لقد فصلت القول في الحرية والتحرير واخترت قول أهل التحقيق كالعلامة المحدث عبد الرحمن بن يحيى المعلمي حيث قلت: (لقد كان المنع من الخروج - على الجائر - حكما معللا، وهو أن يأمن الناس، وتقام الحقوق، والحدود، والجهاد.. الخ، فإذا فاتت هذه المقاصد فلا معنى للمنع من إسقاط السلطة - إذا استطاعت الأمة - ولهذا فالتحقيق هو الجمع بين النصوص وعدم ضربها ببعض، بل العمل بها كلها حسب الإمكان، مع مراعاة المصالح الكلية، والمقاصد الشرعية، كما قال العلامة المعلمي (كان أبو حنيفة يستحب أو يوجب الخروج على خلفاء بني العباس؛ لما ظهر منهم من الظلم، ويرى قتالهم خيرًا من قتال الكفار، وأبو إسحاق الفزاري ينكر ذلك، وكان أهل العلم مختلفين في ذلك، فمن كان يرى الخروج يراه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والقيام بالحق، ومن كان يكرهه يرى أنه شق لعصا المسلمين وتفريق لكلمتهم، وتشتيت لجماعتهم، وتمزيق لوحدتهم، وشغل لهم بقتل بعضهم بعضا، فتهن قوتهم، وتقوى شوكة عدوهم، وتتعطل ثغورهم، فيستولي عليها عدوهم..
هذا والنصوص التي يحتج بها المانعون من الخروج والمجيزون له معروفة.
والمحققون يجمعون بين ذلك بأنه إذا غلب على الظن أن ما ينشأ عن الخروج من المفاسد أخف جدًا مما يغلب على الظن أنه يندفع به، جاز الخروج وإلا فلا، وهذا النظر قد يختلف فيه المجتهدان).[9]
وما زلنا مع شبهات السكران حول الحرية فللحديث بقية!
[1] العقد المنظم بحاشية تبصرة الحكام 2/195 – 197.
[2] انظر فتح الباري 13/112.
[3] انظر صحيح البخاري مع الفتح 13/194، ح (7207).
[4] صحيح البخاري مع الفتح 13/193 ، ح (7203).
[5] صحيح البخاري مع الفتح 13/121، ح (7142) ، ومسلم 3/1468 ، ح (1838).
[6] رواه أحمد 6/402 ، والحميدي ، ح رقم (359) ، والترمذي ، ح رقم (1706) بإسناد صحيح ، وهو في صحيح مسلم ، ح رقم (1838) بنحوه.
[7] صحيح مسلم ، ح رقم (1855).
[8] صحيح مسلم ح رقم (1709) ، وصحيح البخاري رقم (7056).
[9] التنكيل ص 288 – 289 ويلاحظ أن من منعوا من الخروج عللوا المنع بأن لا يتعطل الجهاد وأن تحمى البلاد وتأمن السبل وينتصف الضعيف من القوى ، فليس هو حكما تعبديا محضًا، بل مصلحي معلل، والحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا .