الثورة العربية
العدل المنشود.. والرشد
المفقود
30 محرم
1441هـ
29 سبتمبر 2019م
هل بات العدل -الذي هاجر لأجله المسلمون من مكة إلى الحبشة فرارا بدينهم
ليتمتعوا به في ظل سلطان النجاشي العادل قبل أن يسلم- حلما يستحيل تحقيقه اليوم في
بلدان العالم العربي كلها حتى في ساحات الثورة والجهاد!
وهل غدت الدعوة إليه مبحثا فلسفيا كلاميا ومجالا جدليا حتى بلغ البؤس السياسي
والترف الفكري حد مناقشة إشكالية (هل الواجب عين العدل العمري أم جنس العدل العمري)!
مع أن أقصى أماني العرب اليوم أن تكون دولهم كالسويد في الرعاية الاجتماعية
وحقوق الإنسان، أو كندا في الحرية السياسية، أو اليابان في المساواة واحترام النظام!
وهذا أقصى ما يطمح إليه العرب الحالمون!
أما الواقعيون منهم فلا يريدون أكثر مما وصلت إليه الدول الأفريقية كجنوب
أفريقيا أو أثيوبيا!
فهل هذا شيء كبير على شعوب قدمت وما تزال تقدم ملايين الشهداء من أجل الحياة
الكريمة لتبتلي بالطغاة قبل الثورة، والدعاة بعدها؟!
وهل أصبحت الحرية وإقامة الحكم الراشد الذي تختار الشعوب العربية فيه من
يتولى شئونها -كباقي أمم الأرض سواء النصرانية الأوربية أم الوثنية الأسيوية والأفريقية-
ضربا من الخيال الجامح والمثالية المفرطة التي على المسلمين اليوم ألا يحلموا بها،
فالواجب شرعا من العدل هو فقط الممكن والمقدور لمن تغلب على أمرها، ولا يكلف الله نفسا
إلا وسعها! والذي يجب له عليها السمع والطاعة، والصبر معه على الجماعة، حتى لا يخرجوا
من دائرة أهل السنة التي ما زالت تضيق بأهلها حتى لم يبق فيها أحد!
شبهٌ تهافت كالزجاج تخالها
حججا وكل كاسر مكسور
هل فعلا أصبح عدل النجاشي الذي لا يُظلم عنده أحد - دع عنك عدل عمر عينه
أو جنسه - شيئا لا يطيقه المسلمون، بل ولا يستطيع إقامته حتى المجاهدون الصالحون! بل
ولا يجب عليهم شرعا إقامته؛ لأنه من التكليف بما لا يطاق! ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها!
فالفقه هو تقديم المصالح، ودفع المفاسد، وتقديم أولى المصلحتين، ودفع أكبر المفسدتين..
إلخ، هذه القواعد التي لم يسمع بها النجاشي وهو يقيم العدل على سجيته بلا تكلف، فلم
تخطر له هذه السفسطة على بال، ولا عبرت له هذه الطلاسم الفقهية في خيال!
ولو أخذ بها لما آوى المهاجرين إليه آنذاك، فقد كانت المصلحة تقتضي أن
يردهم! ولما فرط بعلاقته بمكة وتجارتها، ولما أغضب بطارقته وقساوسته وهم أهل الحل والعقد
الذين أرادوا منه طردهم!
فكان عدل النجاشي النصراني خيرا للمؤمنين المهاجرين آنذاك من سفسطة المجاهدين
الجدد ونظرياتهم السياسية حول عين العدل وجنس العدل!
إن العدل من أوضح الحقائق اللغوية والشرعية المطلقة التي لا نسبية فيها،
فليس هو حسنة بين سيئتين كالكرم بين البخل والإسراف، أو كالشجاعة وسط بين الجبن والطيش،
ليحتاج كل هذا الجدل في تحديد الواجب منه، وكيف يقام في هذا العصر!
بل العدل ممدوح كله، فهو كالحياء خير كله!
لقد خاطب القرآن الإنسانية كلها بلسان عربي مبين قبل أن يؤمنوا وأجب عليهم
العدل مطلقا ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾ ﴿وَإِذَا حَكَمْتُم
بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ بلا قيد ولا شرط؛ لوضوح معناه عندهم؛
ولهذا قال من قال من الأصوليين بأن العدل واجب عقلا قبل ورود الشرع، والظلم محرم عقلا
قبل ورود الشرع!
فالجدل اليوم في ساحات الثورة العربية حول حقيقة العدل، وماهيته، وإمكان
تحقيقه، والقدر الواجب منه، ليس راجعا لعدم وضوحه، أو إلى عدم إمكانه في حد ذاته، بل
لتبرير الظلم الذي ينافيه، إما عجزا عن القيام به مما يستوجب إفساح الطريق لمن يستطيع
إقامته، أو ظلما للنفس والغير واتباعا لأهواء النفس الأمّارة بالسوء!
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفة فلعلة لا يظلمُ!
وقد فطر الله العقول والنفوس على معرفة العدل، وحبه، وحب العادل وإن كان
كافرا! وعلى بغض الظلم، وبغض الظالم، وإن كان مسلما!
فهو أوضح حقائق الدين الكلية، الذي يبتدئ بالتوحيد والحكم بما أنزل الله،
وينتهي بإعطاء كل ذي حق حقه، ورد الحقوق إلى أهلها ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن
تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ
بِالْعَدْلِ﴾!
وكل من حكم بالشرع المنزل؛ فقد حكم بالعدل ولا بد!
فقد جعل الله أمر المؤمنين وهم في مكة شورى بينهم ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ﴾ وهو مقتضى الأخوّة الإيمانية، ورأس الأمر هو الإمارة، كما قال عمر: (الإمارة
شورى بين المؤمنين)، فكل من افتأت عليهم في هذا الحق الإلهي -الذي جعله الله لهم وأضافه
إليهم بنص القرآن ﴿وَأَمْرُهُمْ﴾ إضافة استحقاق- وحرمهم منه، أو نازعهم فيه، فقد
ظلمهم، وطغى عليهم، واغتصبهم حقهم، كما قال عمر في صحيح البخاري: (إني قائم العشية
فمحذر الناس هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمرهم .. من بايع رجلا دون شورى المسلمين؛
فلا بيعة له ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا)!
فتولي أمور المسلمين بلا تولية من جمهورهم، ودون بيعة صحيحة من أهل الحل
والعقد الذين يمثلون عمومهم، هو غصب محرم لأحق حقوقهم، يوجب قتل من اعتدى عليهم فيه،
كما قرره عمر بإجماع الصحابة!
فإذا اختارت الأمة من يتولى أمرها العام، أو الخاص في مصر من أمصارها،
بالرضا والاختيار بلا إكراه ولا إجبار، كما شرعه الله لها، فقد أقامت فريضة الشورى
وأصل الأمر الذي هو من الاستجابة لأمر الله، كما قال تعالى عن أخص خصائص أهل الإيمان:
﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون﴾ فجعل الله الشورى فريضة بين ركنين عظيمين
عليهما قطب رحى الإسلام وهما الصلاة والزكاة، وتفصيلا وبيانا لحقيقة الاستجابة لأمره!
ثم يأتي الأصل الثاني من أصول الحكم بالعدل في الإسلام، وهو مشاورة هذا
الإمام -أو الأمير الخاص في قطر من أقطارها-
للأمة في كل شئونها التي تحقق مصالحها، وأن لا يقطع أمرا دون شورى الأمة ورضاها، كما
قال تعالى لنبيه ﷺ في المدينة بعد قيام الدولة والسلطة فيها ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ﴾،
فمن استبد بالأمر دونهم بعد اختيارهم له بالشورى وبيعتهم له، وتصرف في شئونهم بغير
إذنهم؛ فقد ظلمهم وافتأت عليهم، وخرج عن حد الاستقامة التي جاء بها الإسلام التي تنافي
الظلم والطغيان ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ..
وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾!
لقد ثارت الشعوب العربية لتحقيق هدف واضح جلي يكاد يكون أوضح أهداف الثورة
على الإطلاق، وهو إقامة العدل، وتحرر الشعوب من الاستبداد والطغيان الذي صادر حريتها
وحقها في اختيار حكوماتها، فلا ترى طاغية، ولا تخاف سجونه، ولا تخشى جلاوزته وجلاديه!
فمن استكثر عليها هذا الحق، وصادره عليها تحت ذريعة السمع والطاعة، والحفاظ
على الجماعة؛ فقد انحاز للثورة المضادة، واصطف في خندق الطغاة الذين ثارت عليهم الشعوب،
واحتج بحججهم، وإن صام وجاهد وزعم أنه ثائر!
لقد انحازت عامة الفصائل الجهادية للثورة العربية منذ بدايتها بعد أن دعا
الشيخ أسامة بن لادن رحمه الله وغيره من قياداتها إلى الوقوف مع شعوب الأمة وثورتها،
حيث أدرك الجميع أهمية الأمة وشعوبها في هذا الصراع مع الطاغوت الدولي ووكيله المحلي،
وحقها في اختيار من يتولى شئونها.
واستطاع النظام الدولي والإقليمي أن يخترق الحالة الجهادية استخباراتيا؛
ليحولها إلى رأس حربة في نحر الثورة العربية فارتدت عليها عبر "تنظيم الدولة"
الذي رفع شعار "الخلافة الراشدة" فإذا هو الوجه الآخر لنظام "البعث
السوري العراقي" بكل إجرامه وظلمه وطغيانه! وتم توظيفه لضرب حاضنة الثورة من الموصل
إلى حلب! ففتك بها فتكا ذريعا، فلم يدع فصيلا ولا قبيلة ولا مدينة سنية لم يقترف فيها
من جرائم القتل ما اقترفه نظام بشار نفسه أو أشد؛ بدعوى البيعة للخليفة المزعوم!
فحقق بذلك ما لم يستطع تحقيقه النظام السوري والعراقي -ومن ورائهما المحتل
الأمريكي الروسي- اللذان فشلا في مواجهة الثورة في كل الساحات!
وكاد شر هذا التنظيم وشرره يصل إلى أفغانستان لولا انهياره وانطفاء ناره!
ونبذت الأمة وشعوبها هذا التنظيم المشبوه فكرا وممارسة وتنظيما، وعرفت
حقيقته ومن يقف وراءه ويمده بكل أسباب القوة؛ ليئد الثورة!
والذي تم الإعلان عن نهايته رسميا بعد أن انتهت مهمته، وبدأ التحضير الأمريكي
الروسي للترتيبات النهائية للقضية السورية خاصة، والثورة العربية عامة، ليتم طي صفحتها
في عام ٢٠١٨ كما تقرر في قمة هلسنكي بين ترامب وبوتين!
إلا أن تلك الترتيبات الدولية فشلت في فرض الحلول النهائية على ساحات الثورة
العربية، التي استعادت عنفوانها من جديد في آخر ٢٠١٨ بالثورة السودانية ثم الجزائرية!
لقد كانت ساحات الثورة المحررة هي أحق الساحات بقيام أنظمة سياسية راشدة،
تتجلى فيها أبرز معالم الخطاب السياسي الإسلامي الذي جاء بالتوحيد والعدل؛ لتحرير الخلق
من كل أشكال العبودية لغير الله، ولرفع كل صور الإكراه والظلم والطغيان: الديني
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، والسياسي ﴿وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾ ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ﴾!
لينعم المسلمون فيها بالحرية والعدل والأمن الذي ثاروا من أجله، وافتقدوه
في دولهم الوظيفية المحتلة!
لقد كان أمام النظام في السودان بعد التغلب مدة ثلاثين عام من ١٩٨٩ -
٢٠١٩ فرصة تاريخية أن يقيم نموذجا عادلا -لا كالعدل العمري الذي يُسفه اليوم من يدعو
إليه بل كالعدل الأوربي- إلا أنه لم يفعل؛ لأن الفقه المؤول الذي تؤمن به الحركة الإسلامية
هناك حال دونه!
فالواقع السياسي لكل بلد هو انعكاس لقيم السلطة التي تسوده وتتحكم فيه،
فكانت تجربة السودان خلال حكم الإنقاذ بائسة كبؤس أصحابها وفقرهم الفكري والسياسي والأخلاقي
-الذي تجلّى بأوضح صوره في انحياز نظام البشير لنظام بشار بعد كل جرائمه بحق شعبه التي
تقشعر من هولها الأبدان- فانتهى طغيانهم بالسودان إلى انهيار كامل، فلم يصونوا وحدة،
ولا حرية، ولم يحققوا نهضة، ولا سيادة، ولم يردوا الأمر لشعبهم الثائر حتى جاءهم الأمر
من واشنطن ولندن وبرلين، فخرجوا من السلطة صاغرين، كما استولوا عليها غادرين ﴿إِنَّ
اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِين﴾!
وكذا لم تستطع قوى المقاومة في غزة ومنذ تغلب حماس سنة ٢٠٠٦ حتى اليوم
أن تقدم نموذجا راشدا، ولو بأدنى معايير الرشد السياسي ليشاركها شعبها في إدارة شئون
هذا السجن الكبير المسمى قطاع غزة الذي تحاصره مصر وإسرائيل!
لقد كان لدى حماس والفصائل الفلسطينية المقاومة -وكذا في شعب غزة من الكفاءات
السياسية- ما يمكن بهم إقامة سلطة راشدة تحقق العدل والشورى، وفق مشروع إسلامي، بعد
١٣ سنة من الاستئثار بالسلطة، إلا أن ذلك لم يحدث؛ لأن الفقه المؤول سوّغ لها كل ممارساتها
الاستبدادية بذريعة الجهاد والمقاومة وضبط الأمن، وكأنه كُتب على الشعوب العربية المنكوبة
ألا تتمتع بالحرية السياسية في كل قطر عربي، سواء في ظل سلطة قومية أو وطنية، علمانية
أو إسلامية، حتى ولو كان جيبا صغيرا محاصرا كغزة!
وإذا كانت حماس وقوى المقاومة في غزة لا تستطع أصلا أن تقيم حكومة منتخبة
راشدة -التزاما منها بالنظام الذي وصلت من خلاله إلى السلطة التشريعية والتنفيذية بحسب
معاهدة أوسلو في ظل الاحتلال الصهيوني- فإن أمام الفصائل الجهادية في إدلب فرصة سانحة
لتحقيق ذلك، فالشعب السوري إنما ثار أصلا من أجل حريته وكرامته واختيار نظامه الذي
يعبر عن إرادته وهويته، وحرر شمال سوريا من أجل هذا الهدف ذاته؛ وهو في عمومه شعب مسلم
مجاهد، فلا يوجد ما يمنع من إقامة حكومة منتخبة راشدة في المناطق المحررة، وفق نظام
سياسي إسلامي راشد، ليستبق المجاهدون والثوار فيها المحتل الروسي الذي يحاول وضع دستور
لسوريا بلا إرادة شعبها، ليتم فرضه عليه!
ولا يوجد ما يحول دون تحقيق ذلك؛ إذ في شمال سوريا المحرر من الأكفاء والعلماء
في كل المجالات ما يمكن معه تأسيس نواة حكم راشد يكون نموذجا لسوريا المستقبل كلها
بعد تحرير دمشق؛ لولا الفقه السلطاني المؤول الذي يؤمن بالتغلب، والذي بدأ التبشير
به من جديد لاستنساخ تجربة غزة في إدلب!
لقد بدأ التنظير في إدلب لخطاب سياسي جديد لا يدعي وجود الخلافة ووجوب
الطاعة لها كما فعل تنظيم الدولة! بل يدعي وجوب السمع والطاعة لسلطة الأمر الواقع
-قبل اختيار الشعب لنظامه السياسي- بخطاب جهادي مصلحي يروج للخطاب "السلطاني"
بكل أدبياته "السعودية" بما فيها وجوب السمع والطاعة لولي الأمر المعدوم!
وعدم وجوب أخذ الأمير المتغلب برأي مجلس الشورى المزعوم! فالشورى مستحبة
وغير ملزمة!
فإذا الشعوب العربية التي ثارت على الطغيان السياسي في دولها الوظيفية
يراد إعادتها إلى الباب الذي خرجت منه عبر القوى الجهادية وباسم الإسلام والسنة!
وإذا عبارة "كونوا كأصحاب أبي بكر وعمر؛ نكن لكم كأبي بكر وعمر"
-التي قطع بها بنو أمية الطريق على من يدعوهم إلى رد الأمر للأمة شورى- تعود من جديد
لتبرير نظرية التغلب ولتقوم على أساس جرف هار وهو: بما أن عمر الفاروق هو الباب بين
الأمة والفتنة + وبما أنه قد كسر ولا يمكن أن يكون هناك كعمر وأصحابه إلى يوم القيامة
= فإن استنساخ عدل عمر مستحيل، وحرث في البحر، والفتنة قدر لا حيلة للأمة في دفعها،
وإنما الواجب تحقيق ما أمكن من العدل، فالمطلوب جنس العدل العمري لا العدل العمري نفسه!
وهي شبهات تروج في كل بلد يسيطر عليه الإسلاميون، يسوّغون به ما هم عليه
من جور وطغيان وتغلب، وقد رد عليّ د. غازي صلاح الدين مستشار البشير -وذلك في لقاء
معه في بيته في السودان عام ٢٠٠٦- حين نعيت عليهم عدم رد الأمر شورى للأمة تختار هي
من يسوس شئونها بالعدل؛ فقال: (شعوبنا أحوج إلى العدل منها إلى الحرية)!
فقلت له: (أول العدل الشورى وألا تستأثر بالسلطة والثروة من دونهم بلا
اختيارهم بدعوى إقامة العدل فيهم أو بينهم)!
وهذه شبهات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده من غرق في ظلماتها لم يكد يراها،
وتصورها كاف في إبطالها:
١- فلم يوجب الشارع على الأمة إقامة عين عدل عمر، ولا جنس عدله، وإنما
أمرها بالعدل المعروف عقلا وعرفا وشرعا، والحكم بالكتاب والسنة فهو العدل كله، فمن
حكم بهما فقد حكم بالعدل؛ كما في الحديث الصحيح (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم
بهما: كتاب الله وسنة رسوله)!
٢- كما لم يشترط الشارع قط لتحقيق العدل بأن يكون المسلمون كأصحاب النبي
ﷺ، ولا أن يكون الولاة كأبي بكر وعمر! فإن ذلك من التكليف بما لا يطاق!
ولم يوجب ذلك أحد من الفقهاء! وإنما أوجب الشارع إقامة العدل مطلقا، وأوجب على من جاء
بعد النبي ﷺ وأصحابه لزوم صراطهم المستقيم، واتباعهم بإحسان، والاقتداء بهم، فقال:
﴿وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ﴾ ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم
. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ
مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ﴾، ﴿قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ
أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ وتوعد من خالف سبيلهم ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾، وهذه
السبيل هي سنن وهدايات للحكم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين عضوا عليها بالنواجذ
وإياكم ومحدثات الأمور) (تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا كتاب الله وسنتي) (اقتدوا
باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)... إلخ
فهذا خطاب عام للمؤمنين إلى قيام الساعة بالالتزام بالكتاب والسنة، وخطاب
خاص بالخلفاء والأمراء بالالتزام في باب الإمامة وسياسة شئون الأمة بالكتاب والسنة
وبسنن الخلفاء الراشدين عامة، وسنن أبي بكر وعمر خاصة!
فإذا كان يستحيل استنساخ جيل كجيل الصحابة -وهو أمر مستحيل عقلا وعادة
ولا يحتاج إلى من يحاول إثبات استحالته شرعا- فإن العمل بسننهم ولزوم سبيلهم ممكن عقلا
وشرعا وعادة!
والحدوث كما يقول المناطقة دليل الإمكان!
وقد جاء عمر بن عبد العزير بعدهم على رأس المئة الثانية فأحيا سننهم، واتبع
سبيلهم، واقتدى بهم، وكان خليفة راشدا بإجماع الأمة، ولم يكن أهل عصره كأصحاب رسول
الله، ولا كان هو كأبي بكر وعمر!
وكذا كان حال كثير من الخلفاء والأمراء العدول الذين اشتهروا بالعدل والصلاح!
٣- وكما أوجب النبي ﷺ على
الخلفاء والأمراء والولاة بعده اتباع سنته في باب الإمامة ولزوم سنن الخلفاء الراشدين
بعده وحذّر من المحدثات؛ فقد بشر كذلك بعودة الخلافة الراشدة بعد الملك الجبري والعضوض،
فقال: (ثم يكون ملكا جبريا، ثم ملكا عاضا، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة) فدلّ على
إمكانية عودتها خلافة راشدة، وأن ذلك لا يقتضي استنساخ الصحابة، ولا إقامة العدل العمري
عينه أو جنسه، ولا ارتفاع الفتنة بعده!
٤- وليس انتخاب حكومة -تقيم العدل بين شعبها وفق نظام يختارونه ينظم شئونهم-
فكرة مثالية، ولا أحلاما وردية، يسفّه بها المنظرون الجدد في ساحات الثورة من يدعو
إليها؛ بل هو واقع تنعم به أكثر أمم الأرض من اليابان شرقا إلى السويد غربا منذ مئة
عام، ولا يحلم العرب بأكثر من ذلك!
5- ولعل الأخطر هو أن يروّج هؤلاء المنظرون المفتونون هذا الخطاب في ساحات
الثورة اليوم قبل قيام الدولة نفسها؛ لتبرير التغلب الذي قد سوّغه بعض الفقهاء سابقا
لحفظ بيضة الأمة، ووحدة الدولة، واستقرار الخلافة، بعد قيامها، لا قبل وجودها واستقلالها
وسيادتها؛ كما هو حال الأمة اليوم، وشعوبها ما تزال تخضع لاحتلال الحملة الصليبية!
لقد بدأ هذا الخطاب يستعيد كل شبهات الخطاب الفقهي المؤول -الذي شاع في
ظل الخلافة العامة سابقا لظروف تاريخية خاصة- في واقع معاصر لا خلافة فيه للأمة أصلا،
ولا دولة، ولا سيادة؛ بل يروج في ساحات صغيرة منكوبة محاصرة تخضع للنفوذ الخارجي الذي
يتحكم في حدودها ومعابرها وأجوائها؛ كما هو حال قطاع غزة وشمال سوريا!
فإذا الحالة الجهادية، بكل فصائلها في كلا الساحتين، تفشل حتى الآن في
إقامة نموذج حكم إسلامي، ولو بأدنى مستويات الرشد السياسي، وأقله الالتزام بالشورى
وبحق الشعوب في انتخاب حكوماتها، وبمشاركة الفصائل الجهادية نفسها التي سيكون لها الحظ
الأوفر لقيادة هذه الساحات لتكون نموذجا يدعو باقي شعوب الأمة للحذو حذوها لو أحسنت
إدارة هذه المناطق، بعيدا عن السفسطة والجدل البيزنطي حول حقيقة العدل والقدر الواجب
منه وهل الواجب عينه أم جنسه؟ وقبل وجود أصله! في الوقت الذي ما تزال شعوب الأمة تغبط
أكثر أمم الأرض على نعمة العدل والمساواة والحرية التي تتمتع بها في ظل دولها الوثنية!
وليس مطلوبا من الفصائل الجهادية أن تحلّ نفسها، أو تتوقف من عملها، أو
تعطل جهادها؛ بل أن تفتح الطريق لشعوبها لتضع الدستور الإسلامي الذي ينظم شئونها، ولتختار
الحكومة التي توليها أمرها، وانتخاب مجلس الشورى الذي يراقب عملها، وتكون الفصائل كلها
معها ومن ورائها تعينها وتقومها وتحاسبها، فإن فشلت في هذه الساحات الصغيرة عن إقامة
تجربة حكم راشد؛ فهي عما سواها أعجز، وإن نجحت كانت على ما عداها من الساحات أقدر!
وما زلنا مع الثورة العربية والحالة الجهادية، وللحديث بقية!