"الفصائل
الجهادية .. والطريق المشروع"
١٤ محرم
١٤٤١هـ
١٣ سبتمبر ٢٠١٩م
محاولة بعض الفصائل الجهادية استدعاء الخطاب السياسي السلطاني المؤول بدلا
من إحياء الخطاب السياسي القرآني المنزل؛ لتبرير التغلب في ساحات الثورة التي كان للشعوب
الدور الرئيس في إحداث التغيير فيها، بل ما كان لهذه الفصائل أصلا أن يكون لها وجود
مسلح لولا الشعوب نفسها؛ ينذر بقرب نهاية هذه الفصائل كما انتهت قبلها قوى (الإسلام
السياسي) التي عولت على التفاهم مع النظام العربي الوظيفي والمنظومة الدولية وتجاهلت
الأمة وشعوبها وثورتها وقدرتها على التغيير فانتهت بالسجون والمنافي والمشانق!
ليتأكد على أرض الواقع أن كل القوى التي كانت قبل الثورة العربية ولم تواكب
حركة الشعوب بوعيها ورؤاها واجتهادها لن تكون قادرة على قيادة الثورة والمضي في معركة
تحرير الأمة وشعوبها من المحتل الدولي!
فالحديث عن الإمارة ووجوب الطاعة في مناطق الثورة المنكوبة التي لا وجود
فيها أصلا للدولة ولا للسلطة الشرعية ولا السلطة الشعبية، بل هي مناطق ثائرة على الدولة
والسلطة والنظام الدولي من أجل الحرية؛ ليس سوى التفاف على الثورة نفسها باسم الجهاد
وإعادة الشعوب الثائرة مرة أخرى إلى حالة الضبط والسيطرة باسم الشرع وطاعة ولي الأمر!
ليتم إخضاعها بعد ذلك للنظام العربي الوظيفي كما يريد النظام الدولي!
إن الحديث عن أحكام السمع والطاعة لأولي الأمر قبل وجودهم، وتحقق أعيانهم،
وتوفر الشروط فيهم، وفي ظل فتنة عامة بل حرب صليبية طاحنة هو ضرب من الهوس لن يقيم
شرعا ولن يصلح واقعا!
فقد تخلى أكثر الصحابة عن علي رضي الله عنه في الفتنة وهو خليفة راشد،
ولم يروا أن له عليهم سمعا وطاعة حتى تعود الجماعة فنزل على التحكيم ورضي به!
فاستدعاء الخطاب السلطاني المؤول، وحشد الأدلة له، والاستدلال بإجماعات
الفقهاء الموهومة على حرمة الخروج على أئمة الجور -الذي هو أحد أسباب تخلف الأمة سياسيا-
لم يحل دون سقوط الخلافة العثمانية وهزيمة جيوشها وتقاسم الحملة الصليبية لأقاليمها!
ولن يحول أيضا من باب أولى دون سقوط ما دونها مما يتوهم أصحابه أنه خلافة أو إمارة
يجب السمع والطاعة لها!
وقد قرر الفقهاء قاعدة أن جماعة المسلمين في كل بلد تقوم مقام الإمامة
الشرعية عند فقدها؛ فيختار المسلمون بالشورى والرضا قاضيا شرعيا يحكم بينهم إن لم يقصدوا
إقامة دولة ذات سيادة وشوكة وقوة، أو أميرا سياسيا يبايعونه على السمع والطاعة إن أرادوا
تأسيس دولة، ويكون أهل الحل والعقد معه يراقبونه ويقومونه ويساعدونه، وهو ما فعله علماء
الجزائر وأهل الحل والرأي منهم باختيارهم السيد عبد القادر الحسني الجزائري ومبايعته
لمواجه المحتل الفرنسي فامتد نفوذ سلطانه حيث امتد أتباعه وأسس أركان الدولة الجزائرية
مدة عشرين سنة، واحتج على شرعية ولايته باختيار المسلمين له!
فالتغلب وحده لا يؤسس لولاية شرعية تجب لها الطاعة الاختيارية بل هو ولاية
جبرية وسلطة قهرية متى وجد من هو أقوى منها انتقلت له السلطة بالمنطق نفسه!
وليس هذا من الشرع وأحكامه ولا الفقه وغاياته في شيء وإنما هو احتجاج بالواقع
نفسه على مشروعيته فمن عزّ بزّ ثم احتج بالشرع!
ولا تقاس ساحات الثورة العربية وفصائلها الجهادية على أفغانستان وطالبان
لاختلاف الصورتين أصلا وفرعا وكم كان القياس نكبة على أهله حين يخطئ مناطه وعلته!
فطالبان حركة علمية منظمة واسعة قادها العلماء والزعماء وهم أهل الحل والعقد
فيها، وقد وحدت أفغانستان بعد الاقتتال الداخلي بين الفصائل بعد انسحاب المحتل الروسي
سنة ١٩٩٠ واستطاعت دخول العاصمة كابل، وبسطت الأمن، وأدارت الدولة مدة خمس سنوات، واعترف
بشرعيتها عموم الشعب حتى جاء المحتل الأمريكي فخاضت معه معركة تحرير مدة ١٨ سنة وما
تزال تجاهده فعبّرت عن الشعب الأفغاني وجهاده ووحدته بشكل منظم يقوده العلماء والزعماء!
بخلاف الثورة العربية فهي ثورات شعبية قامت بها الشعوب المظلومة من أجل
الحرية وتغيير واقعها الذي فرضته عليها القوى الخارجية والحملة الصليبية بأنظمة وظيفية
دكتاتورية علمانية وإسلامية ملكية وجمهورية!
ولم تصل الثورة بعد إلى تحقيق أهدافها ولم تحرر أرضها ولا عواصم بلدانها
بل ما تزال تخوض حرب تحرير كبرى وقد جاءت الفصائل الجهادية لاحقا لحماية الثورة والدفاع
عنها لتحقق أهدافها، فإذا تحولت هذه الفصائل نفسها إلى قوة ضبط وسيطرة باسم الثورة
بلا ولاية شرعية شعبية يختارها الناس برضاهم واختيارهم -كما يقرره لهم حقهم الطبيعي
بثورتهم التي قدموا فيها ملايين الشهداء والمهجّرين من أجل الحرية والتحرر من الطغيان
والاستبداد والاستئثار بالسلطة والثروة، وكما يقرره لهم الخطاب الشرعي الراشدي المنزل
في قوله تعالى: ﴿وأمرهم شورى بينهم﴾ وكما أجمع عليه الصحابة في خطبة عمر كما في صحيح
البخاري: (من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا)
لا كما يقرره الخطاب المؤول الجبري الذي حذر النبي ﷺ أمته منه ويراد بعثه من جديد باسم طاعة ولي الأمر- فإن ذلك لا يعدو كونه
إعادة إنتاج للطغيان والاستبداد الذي ثارت عليه الشعوب العربية باسم الإسلام والجهاد
وهو عينه الذي حدث في جزيرة العرب بعد سقوط الخلافة برعاية صليبية لإخضاع الشعوب بخطاب
ديني!
فليست المناطق التي حررتها الشعوب العربية بكل قواها برجالها وأموالها
من يد الأنظمة الوظيفية كالمناطق التي تحررها طالبان في أفغانستان من جيوش الأمريكان!
ولا الفصائل الجهادية في ساحات الثورة العربية بتنازع أفكارها ورؤاها وتشرذمها
التنظيمي والعقائدي والفكري والفقهي كحركة طالبان التي تعبر عن الشعب الأفغاني ومذهبه
العقائدي والفقهي الواحد الذي كان من أهم عوامل وحدة الحركة ووقوف الشعب الأفغاني خلفها!
ولا الخطاب المؤول -بل المشوه بالرؤى المضطربة التي لا تقوم على أصول فقهية
منتظمة مطردة- الذي تحاول الفصائل الجهادية في ساحات الثورة العربية فرضه بالقوة وترفضه
عامة القوى فيها، كالخطاب الفقهي المذهبي المؤصل الذي يؤمن به عامة الشعب الأفغاني
وعليه الفتوى والعمل منذ ١٢٠٠ سنة!
ولا حاجة الشعب الأفغاني وظروفه وسبب جهاده كحاجات الشعوب العربية وظروفها
وأسباب ثورتها!
إن أمام الفصائل الجهادية في ساحات الثورة العربية فرصة تاريخية لتظل جزءا
من الأمة وحركة شعوبها بالتخلي تماما عن أوهام التغلب، فالشعوب التي أسقطت الطغاة ودولهم
الوظيفية وتواجه اليوم الحروب الصليبية بدمائها وأبنائها؛ لن تستطيع الفصائل أن تخضعها
بالقوة مهما توهمت إمكانية ذلك، والقبول بمبدأ حق الشعوب نفسها باختيار حكوماتها وإدارة
شئونها وهي التي تحكم نفسها بنفسها؛ لتظل الفصائل جزءا منها لا وصية عليها، وهي التي
تقيم حكم الله باجتهاد علمائها وفقهائها بالشورى لا بوصاية فصيل يفرض اجتهاده عليها
بقوة السلاح، وإنما بمشاركته إياها الرأي والشورى وحمايته بالسلاح لاختيارها وقرارها،
فهذا هو السبيل الوحيد لاستكمال معركة التحرير التي ما تزال في بدايتها، وكما لا يمكن
للأمة وشعوبها الركون للخطاب السياسي الوظيفي الذي يراهن على ترتيبات النظام الدولي
لمستقبل ساحات الثورة العربية، لا يمكن أيضا الرهان أو الركون للخطاب السياسي السلطاني
المؤول بل المبدل الذي يراد منه إخضاع الشعوب العربية بالقوة؛ ليظل الأمن وليس الحرية،
والتغلب وليس الشورى، والتجزئة للبلدان وليست الوحدة؛ الغاية التي يجب على شعوب الأمة
القبول بها والانتهاء إليها بعد كل هذه الدماء! تحت ظل النفوذ الدولي الذي يتحكم بالحدود
والمعابر والأجواء!