بقلم أ.د. حــاكم المطيري
المنسق العام لمؤتمر الأمة
11 صفر 1436هـ
3 ديسمبر 2014م
- هل النظام السياسي الإسلامي نظام شمولي أم نظام تعددي؟
- وكيف جمع بين وحدة الأمة وتوحيدها من جهة، واحترام خصوصية مكوناتها، واختلافها وتنوعها الاجتماعي والسياسي والديني والفكري وتعايشها من جهة أخرى؟
- وعلى أي أساس عقائدي وسياسي أدار هذه التعددية؟
- وكيف نجح في المحافظة على التوازن بين قوى المجتمع على اختلاف مصالحها؟
- وكيف عبرت مكونات المجتمع الإسلامي مع تنوعها القومي والفكري والسياسي عن إرادتها من خلال هذا النظام، حتى شاركت كلها في إدارة شئون الأمة والدولة على نحو فريد لم يعهده العالم؟
إن الإطلالة التاريخية والوقوف على طبيعة دار الإسلام -والتنوع والتعايش المجتمعي والفكري والفقهي الذي كان يشكل أبرز ملامحها- كاف في تصور نمط النظام السياسي الذي كان يحكمها، ويدير شئونها، ومنظومة القيم الدستورية والتشريعية التي تنظم وتضبط العلاقة بين السلطة والمجتمع بكل مكوناته!
فمعرفة طبيعة دار الإسلام السياسية، وامتدادها الجغرافي، وتنوعها السكاني، والديني والثقافي، ونظمها التشريعية والقضائية، هو المدخل لفهم حقيقة التوحيد من جهة كأساس عقائدي وسياسي للدولة التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم، والحرية والتعددية التي أقرها وأدار شئون المجتمع كله على أساسها من جهة أخرى، على نحو غير مسبوق في التاريخ الإنساني! حتى صارت أعظم أمة موحدة عرفها العالم {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس}، هي التي تقوم بحماية أهل الأديان من اليهود والنصارى والمجوس والصابئة، تحت شعار {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّين}، {وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيرًا}، ليتعايش في دار الإسلام كل أهل الأديان والملل -التي ترفض التوحيد وتؤمن بنقيضه- في ظل تعددية دينية فريدة من نوعها!
قال ابن جرير الطبري في تفسير الآية: (وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفاعه الناس بعضهم ببعض، لهدم ما ذكر، من دفعه -تعالى ذكره- بعضهم ببعض، وكفه المشركين بالمسلمين عن ذلك... لولا ذلك لتظالموا، فهدم القاهرون صوامع المقهورين، وبيعهم، ولم يضع الله تعالى دلالة في عقل على أنه عنى من ذلك بعضا دون بعض، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسليم له، فذلك على الظاهر والعموم...
وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: لهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى، وصلوات اليهود، وهي كنائسهم، ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيرا).[1]
الدولة النبوية بين الوحدة السياسية والتعددية المجتمعية:
لقد عم سلطان الدولة النبوية جزيرة العرب كلها، في أواخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا وموحدا في السنة الثامنة من الهجرة، فتجلت حينها التعددية في إطار الوحدة، إذ جعل القبائل معه يوم الفتح تحت راياتها، كما قال ابن إسحاق: (ومرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة قال أبو سفيان ما هذه يا عباس؟ فأقول سليم... مزينة... غفار...).[2]
وقال الحافظ ابن حجر: (والمذكور من القبائل غفار وجهينة وسعد بن هذيم وسليم وأسلم ومزينة وقضاعة وأشجع وتميم وفزارة).[3]
وعن عكرمة عن ابن عباس قال في خبر فتح مكة: (وعبأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، ومرت القبائل على قادتها، والكتائب على راياتها، فكان أول من قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في بني سليم، وهم ألف فيهم لواء يحمله عباس بن مرداس السلمي، ولواء يحمله خفاف بن ندبة، وراية يحملها الحجاج بن علاط...
فلما حاذى خالد العباس بن عبد المطلب وإلى جنبه أبو سفيان بن حرب، كبر ثلاثا، ثم مضوا... ثم مر على إثره الزبير بن العوام في خمسمائة، منهم مهاجرون وأفناء العرب، ومعه راية سوداء، فلما حاذى أبا سفيان كبر ثلاثا وكبر أصحابه...
ومر بنو غفار في ثلاثمائة، يحمل رايتهم أبو ذر الغفاري، ويقال إيماء بن رحضة، فلما حاذوه كبروا ثلاثا...
ثم مضت أسلم في أربعمائة، فيها لواءان يحمل أحدهما بريدة بن الحصيب، والآخر ناجية بن الأعجم، فلما حاذوه كبروا ثلاثا.
قال أبو سفيان للعباس: من هؤلاء؟ قال: أسلم.
قال: يا أبا الفضل مالي ولأسلم؟ ما كان بيننا وبينها مرة قط!
قال العباس: هم قوم مسلمون دخلوا في الإسلام.
ثم مرت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة، يحمل رايتهم بسر بن سفيان، فلما حاذوه كبروا ثلاثا.
ثم مرت مزينة في ألف، فيها ثلاثة ألوية، وفيها مائة فرس، يحمل ألويتها النعمان بن مقرن، وبلال بن الحارث، وعبد الله بن عمرو؛ فلما حاذوه كبروا...
ثم مرت جهينة في ثمانمائة مع قادتها، فيها أربعة ألوية، لواء مع أبي روعة معبد بن خالد، ولواء مع سويد بن صخر، ولواء مع رافع بن مكيث، ولواء مع عبد الله بن بدر، فلما حاذوه كبروا ثلاثا.
ثم مرت كنانة، بنو ليث وضمرة وسعد بن بكر في مائتين يحمل لواءهم أبو واقد الليثي، فلما حاذوه كبروا ثلاثا.
فقال أبو سفيان للعباس: من هؤلاء؟
قال: بنو بكر. قال: نعم أهل شؤم والله! الذين غزانا محمد بسببهم، أما والله ما شوورت فيه، ولا علمته، ولقد كنت له كارها حيث بلغني، ولكنه أمر حم!
قال العباس: قد خار الله لك في غزو محمد صلى الله عليه وسلم، ودخلتم في الإسلام كافة.
ومرت بنو ليث وحدها، وهم مائتان وخمسون، يحمل لواءها الصعب بن جثامة، فلما مر كبروا ثلاثا...
ثم مرت أشجع -وهم آخر من مر-، وهم ثلاثمائة، معهم لواءان لواء يحمله معقل بن سنان، ولواء مع نعيم بن مسعود.
فقال أبو سفيان: هؤلاء كانوا أشد العرب على محمد!
فقال العباس: أدخل الله الإسلام في قلوبهم، فهذا من فضل الله عز وجل.
فلما طلعت كتيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم الخضراء طلع سواد وغبرة من سنابك الخيل، وجعل الناس يمرون، حتى مر يسير على ناقته القصواء، بين أبي بكر، وأسيد بن حضير، وهو يحدثهما.
قال العباس: هذا رسول الله في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، فيها الرايات والألوية، مع كل بطن من الأنصار راية ولواء، في الحديد لا يرى منهم إلا الحدق، ولعمر بن الخطاب رضي الله عنه فيها زجل، وعليه الحديد، بصوت عال وهو يزعجها، ويقال: كان في الكتيبة ألف دارع.
وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رايته سعد بن عبادة، وهو أمام الكتيبة، فلما مر سعد براية النبي صلى الله عليه وسلم نادى: يا أبا سفيان! اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا!
فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا حاذى أبا سفيان ناداه: يا رسول الله أمرت بقتل قومك؟ زعم سعد ومن معه حين مر بنا قال: "يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة، اليوم أذل الله قريشا" وإني أنشدك الله في قومك، فأنت أبر الناس، وأرحم الناس، وأوصل الناس!
وقال عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: يا رسول الله ما نأمن سعدا أن يكون منه في قريش صولة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اليوم يوم المرحمة، اليوم أعز الله فيه قريشا)!
قال وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فعزله، وجعل اللواء إلى ابنه قيس بن سعد، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللواء لم يخرج من سعد حين صار لابنه، فأبى سعد أن يسلم اللواء إلا بأمارة من النبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعمامته فعرفها سعد فدفع اللواء إلى ابنه قيس).[4]
وعن طاوس وعامر الشعبي قالا: (دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدم خالد بن الوليد، إلا أن راية الأنصار في يد سعد بن عبادة، وقد مات سعد بن معاذ، وصار سعد ابن عبادة سيد القوم، الراية في يده، فبينما هو واقف والأنصار حوله، إذ نظر فلم ير حوله إلا الأنصار فقال:
اليوم يوم الملحمة... اليوم تستحل الحرمة.
ودخل معهم من المهاجرين من لا يفطن له، فاشتد وهم لا يعلمون، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما سمع من سعد بن عبادة، فقال له: أنت سمعته يقول هذا؟ قال: نعم! قال: من ههنا أدعو إلي قيس بن سعد بن عبادة، فجاء الرسول وهو واقف مع أبيه، والراية في يد أبيه، وقال: يا قيس يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه فقال: يا قيس! قال: لبيك يا رسول الله! فقال: اذهب فخذ الراية من سعد، قال: نعم يا رسول الله! قال: فجاءه والأنصار حوله فقال: أعطني الراية! قال: لا، لا أمّ لك! قال: أعطنيها ولا تحمق نفسك، قال: لا، إلا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرك بهذا، قال: أمرني بذلك رسول الله).[5]
وإنما جعل النبي صلى الله عليه وسلم كل قبيلة تحت رايتها وقادتها اعترافا منه صلى الله عليه وسلم بالتنوع المجتمعي، واحتراما للانتماء الطبيعي، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، ولهذا جاءت كتب النبي صلى الله عليه وسلم وعهوده بتقرير هذا الأصل، حين أرسل ولاته وقضاته وجباته إلى كل مدن الحجاز واليمن وعمان والبحرين واليمامة وقبائل نجد وتهامة، ونزل قول الله تعالى: {إِذَا جَاء نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ. وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا}، وهو عام الوفود في السنة التاسعة من الهجرة.
قال ابن إسحاق إمام المغازي والسير: (لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف وبايعت، ضربت إليه وفود العرب من كل وجه).[6]
وقال: (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعث أمراءه وعماله على الصدقات إلى كل ما أوطأ الإسلام من البلدان) [7]:
1- فبعث المهاجر بن أبي أمية بن المغيرة إلى صنعاء.
2- وبعث زيد بن لبيد الأنصاري إلى حضرموت وعلى صدقاتها.
3- وبعث عدي بن حاتم على طيء وصدقاتها، وعلى بني أسد.
4- وبعث مالك بن نويرة اليربوعي على صدقات بني حنظلة.
5- وبعث الزبرقان بن بدر على ناحية من بني سعد، وقيس بن عاصم على ناحية.
6- وبعث العلاء بن الحضرمي على البحرين.
7- وبعث علي بن أبي طالب إلى أهل نجران ليجمع صدقتهم ويقدم عليه بجزيتهم).[8]
فحقق النبي صلى الله عليه وسلم بذلك الوحدة السياسية لجزيرة العرب، ومع ذلك أقر كل قوم على أرضهم، وما في أيديهم، وحمى حقوقهم التي لهم، وترك عليهم أمراءهم الذين ارتضوهم، كما في عهده صلى الله عليه وسلم لنهشل بن مالك الوائلي (باسمك اللهم هذا كتاب من محمد رسول الله لنهشل بن مالك ومن معه من بني وائل لمن أسلم... فإنه آمن بأمان الله، وبريء إليه محمد من الظلم كله، وأن لهم أن لا يحشروا، ولا يعشروا، وعاملهم من أنفسهم).[9]
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمهرة (هذا كتاب من محمد رسول الله لمهري بن الأبيض على من آمن من مهرة، أنهم لا يؤكلون، ولا يغار عليهم، ولا يعركون، وعليهم إقامة شرائع الإسلام، فمن بدل فقد حارب الله، ومن آمن به فله ذمة الله وذمة رسوله).[10]
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبائل بني أسد وكانوا يجاورون قبائل طيء (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي إلى بني أسد سلام عليكم: فإني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فلا تقربن مياه طيء وأرضهم، فإنه لا تحل لكم مياههم، ولا يلجن أرضهم إلا من أولجوا، وذمة محمد بريئة ممن عصاه).[11]
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليزيد بن المحجل الحارثي أن لهم نمرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها، وأنه على (قومه من بني مالك، لا يغزون ولا يحشرون).
وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيس بن الحصين ذي الغصة أمانة لبني أبيه بني الحارث ولبني نهد: (أن لهم ذمة الله وذمة رسوله، لا يحشرون، ولا يعشرون، ما أقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة...).[12]
والحشر هو الإجلاء من بلدانهم، وألا تضيق عليهم أوطانهم بغيرهم، وألا يساقوا إلى القتال كرها، كما يفعل الملوك الطغاة في حشر الناس للقتال معهم، وهو ما يطلق عليه اليوم التجنيد الإجباري، وإنما شرع الإسلام الجهاد الطوعي في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله.
والعشر ما كان يأخذه الملوك لأنفسهم من أموال الناس وتجاراتهم عنوة وقهرا، وإنما شرع الإسلام الزكاة لتصرف لمستحقيها من الفقراء والمساكين، فتؤخذ منهم وترد عليهم.
وكذلك اعترف النبي صلى الله عليه وسلم بأمراء القبائل، وعرفاء كل قوم عليهم، ولم يغير ما هم عليه من العرافة والنيابة عن أقوامهم، وإنما كان إذا رأى من لا يصلح من الأمراء والعرفاء اختار لهم واحدا منهم يكون عريفا عليهم، ولا يختار لهم إلا أفضلهم وأصلحهم، فقد سأل بعض الأنصار فقال: (من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: الجد بن قيس على أن فيه بخلا! قال: وأي داء أدوى من البخل! بل سيدكم وابن سيدكم بشر بن البراء بن معرور).[13]
وجاءه وفد عبد القيس من البحرين وكان على القوم سيدهم الأشج المنذر بن الحارث، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم: (من سيدكم وزعيمكم، وصاحب أمركم؟ فأشاروا بأجمعهم إليه، فقال: ابن سادتكم هذا؟ قالوا: كان آباؤه سادتنا في الجاهلية، وهو قائدنا إلى الإسلام).[14]
وقد بوب البخاري في صحيحه (باب العرفاء على الناس)، وأخرج فيه خبر غنائم هوازن وقول النبي صلى الله عليه وسلم حين اختلفوا عليه في رد الغنائم إلى أهلها: (أيها الناس إنا لا ندري من رضي منكم، ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم).[15]
قال أهل المغازي: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمروا عرفاءكم أن يدفعوا ذلك إلينا حتى نعلم، فكان زيد بن ثابت يطوف على الأنصار يسألهم هل سلموا ورضوا؟ فخبروه أنهم سلموا ورضوا، ولم يتخلف رجل واحد، وبعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى المهاجرين يسألهم عن ذلك، فلم يتخلف منهم رجل واحد، وكان أبو رهم الغفاري يطوف على قبائل العرب، ثم جمعوا العرفاء، واجتمع الأمناء الذين أرسلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتفقوا على قول واحد تسليمهم ورضاهم، ودفع ما كان في أيديهم).[16]
والعرفاء هم نواب القبائل والعشائر الذين يصدرهم قومهم، ويختارونهم كوكلاء عنهم، كما قال الطحاوي: (فكلمهم عرفاؤهم فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه، فاستدل بما في هذا الحديث غير واحد من أهل العلم على قبول الحكام من الوكلاء ما يقرون به على موكليهم فيما وكلوهم به عندهم، لأن العرفاء فيما ذكرنا قد أقامهم الذين هم عرفاء عليهم في أمورهم، أكثر من مقام الوكلاء فيما وكلوهم به عند الحكام، وممن كان يذهب إلى ذلك منهم أبو حنيفة ومحمد بن الحسن...).[17]
وكل ذلك حفاظا من الإسلام على تنوع المجتمع في إطار الوحدة، وحفظ الانتماء الطبيعي لمكوناته، والمحافظة على ما تعارفوا عليه من أعرافهم التي تحقق مصالحهم، ولا تعارض العدل والقسط الذي جاء به الإسلام.
قال الإمام الشافعي: (باب تقويم الناس في الديوان على منازلهم: قال الله عز وجل: {إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُم}، وروي عن الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم عرّف عام حنين على كل عشرة عريفا، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجرين شعارا، وللأوس شعارا، وللخزرج شعارا، وعقد النبي صلى الله عليه وسلم الألوية عام الفتح، فعقد للقبائل قبيلة قبيلة، حتى جعل في القبيلة ألوية، كل لواء لأهله، وكل هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها، وتخف المؤنة عليهم باجتماعهم، وعلى الوالي كذلك، لأن في تفريقهم إذا أريد والأمر مؤنة عليهم وعلى واليهم، وهكذا أحب للوالي أن يضع ديوانه على القبائل، ويستظهر على من غاب عنه، ومن جهل ممن يحضره من أهل الفضل من قبائلهم).[18]
والعرفاء على قسمين:
القسم الأول: من تختارهم قبائلهم وأهل بلدانهم لتمثيلهم، والنيابة عنهم، فهذا حق من حقوقهم، وهم أعرف بمن يستحق السيادة فيهم.
والقسم الثاني: العرفاء الذين تختارهم السلطة لينوبوا عن أقوامهم، كمن اختارهم النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء من بعده، على الأجناد والصدقات، فهؤلاء لا تختار السلطة إلا الأكفاء الأمناء، كما كتب عمر إلى عدي (إن العرفاء من عشائرهم بمكان، فانظر عرفاء الجند، فمن رضيت أمانته لنا ولقومه، فأثبته، ومن لم ترضه فاستبدل به من هو خير منه، وأبلغ في الأمانة والورع).[19]
وقد جاء رجل للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي شيخ كبير، وهو عريف الماء، وإنه يسألك أن تجعل لي العرافة بعده، فقال: (إن العرافة حق، ولا بد للناس من العرفاء، ولكن العرفاء في النار).[20]
وفي حديث آخر: (لا بد للناس من عريف، والعريف في النار).[21]
قال ابن رجب الحنبلي: (ولم يذكر أنه جعل العرافة له بمجرد كون أبيه عريفا، والإمامة العظمى لا تستحق بالنسب، ولهذا أنكر الصحابة على من بايع لولده، وقال عبد الرحمن بن أبي بكر: (جئتم بها هرقلية، تبايعون لأبنائكم)، وسمع ذلك عائشة والصحابة، ولم ينكروه عليه، فدل على أن البيعة للأبناء سنة الروم وفارس، وأما سنة المسلمين فهي البيعة لمن هو أفضل وأصلح للأمة، وما تزعمه الرافضة في ذلك فهو نزعة من نزعات المشركين في تقديم الأولاد والعصبات، وسائر الولايات الدينية سبيلها سبيل الإمامة العظمى في ذلك).[22]
ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ولا الخلفاء من بعدهم يختارون عريفا على قومه إلا من اختاره قومه، ورضوه وكان سيدا شريفا، كما فعل عمر مع جابر بن عبد الله، وكان والده عبد الله من سادات قومه وأشرافهم، قال جابر بن عبد الله: (لما ولي عمر الخلافة فرض الفرائض، ودون الدواوين، وعرف العرفاء، قال جابر: فعرفني على أصحابي).[23]
وقد أخرج البيهقي حديث جابر وبوب له: (باب في عقد الألوية والرايات وتعريف العرفاء وشعار القبائل وإعطاء الفيء على الديوان).[24]
وقال ابن سعد عن قبيصة بن برمة الأسدي: (وكان قبيصة سيدا شريفا في قومه، وكان عريف قومه، وكان العطاء يبعث به إلى العريف فيقسمه في أهل العطاء، قال: فرأيت العطاء قد حمل إلى قبيصة فدفع إليه).[25]
وقال محمد بن سيرين: (أن عبيدة -السلماني القاضي- كان عريف قومه، فقسم بينهم عطاء لهم).[26]
أحكام الأمصار وخصوصياتها:
وكما راعى الإسلام التنوع الاجتماعي، راعى كذلك التنوع الجغرافي، واحترم الانتماء الطبيعي للبلدان والأمصار، وما يترتب على ذلك من حمية وعصبية، فهذبها وجعلها عصبية بالمعروف والخير والبر، في إطار وحدة الأمة والدولة، فلم يغير النبي صلى الله عليه وسلم -حين وحد جزيرة العرب دينيا وسياسيا- جغرافيا الأرض، ولا حدود البلدان المعروفة، ولا مياه القبائل، ولا الوضع الاجتماعي، بل راعى ما تعارف العرب عليهم من العدل والبر والإحسان، كما هو شأنه {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُم}، فظل أهل عمان على ما كانوا عليه من خصوصية، في ظل الوحدة والتوحيد، وكذا أهل صنعاء، وحضرموت، وأهل البحرين، وأهل اليمامة، وأهل كل بلد، وإقليم، كما هم عليه، فلم يغير معالم الأرض، ولا أسماء البلدان، ولا أمراء القبائل، وإنما أرسل الولاة والقضاة للجميع، وبسط نفوذ دولة الإسلام على كل جزيرة العرب، مع احترام التنوع المجتمعي، والاعتراف بخصوصية كل قوم.
وقد جاءت كثير من الأحكام الشرعية مرتبطة بالبلدان، وبالأرض، ومن ذلك:
1- الزكاة: حيث خص الشارع بزكاة كل بلد أهل ذلك البلد من الفقراء والمساكين، فزكاة أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم، فإن فاض منها شيء جاز صرفه على البلدان الأخرى، كما قال صلى الله عليه وسلم حين بعث معاذ بن جبل إلى اليمن: (وأعلمهم أن الله افترض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم).[27]
قال الإمام الخطابي الشافعي: (وفيه دليل على أن سنة الصدقة أن تدفع إلى جيرانها، وأن لا تنقل من بلد إلى بلد، وكره أكثر الفقهاء نقل الصدقة من البلد الذي به المال إلى بلد آخر، إلاّ أنهم مع الكراهة له قالوا: إن فعل ذلك أجزأه، إلاّ عمر بن عبد العزيز فإنه يروى عنه أنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان).[28]
وقال الإمام البغوي: (وفيه دليل على أن نقل الصدقة عن بلد الوجوب لا تجوز مع وجود المستحقين فيه، بل صدقة أهل كل ناحية لمستحقي تلك الناحية، واختلف فيه أهل العلم، فكره أكثرهم نقلها، واتفقوا مع الكراهية على أنه إذا نقل وأدى يسقط الفرض عنه، إلا عمر بن عبد العزيز، فإنه رد صدقة حملت من خراسان إلى الشام إلى مكانها من خراسان).[29]
وكل ذلك مراعاة لخصوصية كل بلد، واحترام التنوع والتعددية المجتمعية، في إطار الوحدة السياسية للأمة والدولة!
قال الباجي المالكي: (أما موضع تفريق الزكاة فإنه حيث تؤخذ من أربابها، إلا أن يكون بموضع لا فقراء فيه، فإن كان بالموضع فقراء فلا يخلو أن يكون أهل ذلك الموضع أشد حاجة من غيرهم، أو حاجتهم كحاجة غيرهم، أو تكون حاجة غيرهم أشد، فإن كانت حاجتهم أشد أو مساوية لحاجة غيرهم، فأهل موضع الصدقة أولى بصدقتهم حتى يغنوا، ولا ينقل منها إلا ما فضل عنهم، وإن كانت حاجة غيرهم أشد فرق من الصدقة بموضعها بمقدار ما يرى الإمام، وينقل سائرها إلى موضع الحاجة هذا المشهور من مذهب مالك، وفي المجموعة روى ابن وهب وغيره عن مالك لا بأس أن يبعث الرجل ببعض زكاته إلى العراق، ثم إن هلكت في الطريق لم يضمن، فإذا كانت الحاجة كثيرة بموضعه أحببت أن لا تبعث، وهذا إباحة لإخراج الزكاة عن موضعها، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: لا يجوز نقل الصدقات عن مواضعها، والدليل على ما نقوله قوله صلى الله عليه وسلم: (فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم)، فإن قيل: بأن هذا يقتضي نقلها من عدن إلى اليمن؛ لأنه خاطب بذلك أهل اليمن وعدن من اليمن، فالجواب: أن المراد بذلك أن تؤخذ من أغنياء من يعلمه بذلك البلد، فترد على فقرائهم، ومعلوم أن معاذا كان يخاطب بذلك أهل كل بلد، فيقتضي ذلك رد زكاة أغنيائه على فقرائه، ودليلنا من جهة القياس أن هذا نقل صدقته إلى غير بلدها، فلم يجز له تفرقتها مع وجود الحاجة ببلد الصدقة...).[30]
2- الجهاد: حيث أجمع الفقهاء بلا خلاف على أنه يتعين على أهل كل بلد الدفع عنها إذا دهمها العدو، ويكون الجهاد في حق أهل البلد فرض عين، وعلى من قرب من البلدة دون مسافة القصر، ولا يتعين على غيرهم من البلدان، إلا إذا لم يكن في أهل البلد كفاية لدفع العدو.
قال الإمام ابن عبد البر المالكي: (الجهاد ينقسم قسمين: أحدهما: فرض عام متعين على كل أحد ممن يستطيع المدافعة والقتال وحمل السلاح، من البالغين الأحرار، وذلك أن يحل العدو بدار الإسلام محاربا لهم، فإذا كان ذلك وجب على جميع أهل تلك الدار أن ينفروا ويخرجوا إليه خفافا وثقالا وشبابا وشيوخا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مكتر، وإن عجز أهل تلك البلدة عن القيام بعدوهم، كان على من قاربهم وجاورهم أن يخرجوا قلوا أو كثروا، على حسب ما لزم أهل تلك البلدة، حتى يعلموا أن فيهم طاقة على القيام بهم ومدافعتهم، وكذلك كل من علم بضعفهم عن عدوهم، وعلم أنه يدركهم، ويمكنه غياثهم لزمه أيضا الخروج إليهم، فالمسلمون كلهم يد على من سواهم، حتى إذا قام بدفع العدو أهل الناحية التي نزل العدو عليها واحتل بها، سقط الفرض عن الآخرين، ولو قارب العدو دار الإسلام، ولم يدخلوها لزمهم أيضا الخروج إليه).[31]
وقال المواق المالكي عن تعين الجهاد: (قد يتعين في بعض الأوقات على من يفجؤهم العدو.
قال سحنون: إن نزل أمر يحتاج فيه إلى الجميع كان عليهم فرضا، وينفر من بسفاقس لغوث سوسة، إن لم يخف على أهله...
وقال المازري: ولو مع وال جائر...
وقال ابن بشير: إذا نزل قوم من العدو بأحد من المسلمين وكانت فيهم قوة على مدافعتهم فإنه يتعين عليهم المدافعة، فإن عجزوا تعين على من قرب منهم نصرتهم.
وقال المازري: إذا عصى الأقرب وجب على الأبعد).[32]
وكذا قال ابن نجيم الحنفي عن الجهاد وأنه يكون (فرض عين إن هجم العدو فتخرج المرأة والعبد، بلا إذن زوجها وسيده... والولد بغير إذن والديه بالأولى، وكذا الغريم يخرج إذا صار فرض عين بغير إذن دائنه... والمراد هجومه على بلدة معينة من بلاد المسلمين، فيجب على جميع أهل تلك البلدة، وكذا من يقرب منهم إن لم يكن بأهلها كفاية، وكذا من يقرب ممن يقرب إن لم يكن ممن يقرب كفاية، أو تكاسلوا وعصوا، وهكذا إلى أن يجب على جميع أهل الإسلام شرقا وغربا).[33]
وقال الشربيني الشافعي: (والحال الثاني من حال الكفار: أن يدخلوا بلدة لنا مثلا فيلزم أهلها الدفع بالممكن منهم، ويكون الجهاد حينئذ فرض عين، سواء أمكن تأهبهم لقتال أم لم يمكن، علم كل من قصد أنه إن أخذ قتل، أو لم يعلم... ومن هو دون مسافة القصر من البلدة التي دخلها الكفار حكمه كأهلها، وإن كان في أهلها كفاية، لأنه كالحاضر معهم، فيجب ذلك على كل ممن ذكر، حتى على فقير، وولد، ومدين، ورقيق بلا إذن من الأصل، ورب الدين، والسيد، ويلزم الذين على مسافة القصر المضي إليهم عند الحاجة بقدر الكفاية، دفعا لهم، وإنقاذا من الهلكة، فيصير فرض عين في حق من قرب، وفرض كفاية في حق من بعد).[34]
وقال ابن قدامة الحنبلي: (ومن حضر الصف من أهل فرض الجهاد أو حضر العدو بلده تعين عليه)[35]، وقال ابن مفلح: (إذا نزل الكفار ببلد تعين على أهله قتالهم ودفعهم كحاضري الصف).[36]
3- العقل في ديات الجنايات: فكما وضع عمر الديوان على قبائل العرب وحفظ خصوصيتها، وعصبيتها بالمعروف، كذلك جعل أهل الديوان في الأمصار، كالعصبة في العقل عن بعضهم في ديات الجنايات، وهو مذهب فقهاء العراق، كما قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني -ت 189 هـ-: (وإنما جعل العقل فيما نرى والله أعلم على عشيرة الرجل، ولم يجنوا ولم يحدثوا حدثا، على وجه العون لصاحبهم، لأنهم أهل يد واحدة على غيرهم، وأهل نصرة واحدة على غيرهم، ولم يوضع ذلك على النسب، لأن القوم كان يعقل معهم حليفهم، وعديدهم، ويعقلون عنه، وليس بينه وبينهم ولاء ولا قرابة، فلما صارت الدواوين صار أهل الديوان يتناصرون دون ذوي القرابات، وصاروا يدا على غيرهم، وصارت أموالهم الأعطية، ففرض العقل على أهل الديوان لذلك، فهو على أهل الديوان دون القرابات، لأن الأخوين أحدهما يكون ديوانه بالكوفة، والآخر ديوانه بالشام، فلا يعقل واحد منهما عن صاحبه، لأنهما وإن اجتمع نسبهما، فان نصرتهما ويدهما مختلفة، فإنما جعل التعاقل على النصرة واليد الواحدة، ألا ترى أن أهل ديوان الشام لا يعقلون عن أهل ديوان البصرة، وأهل ديوان البصرة لا يعقلون عن أهل ديوان الشام، وإن قربت أنسابهم، لأنهم ليسوا بأهل نصرة ولا يد واحدة، وإنما وضعت المعاقل على ما وصفت لك من النصرة واليد الواحدة والحيطة، فجعل العقل رفدا لبعضهم من بعض، وعونا لبعضهم من بعض... وكذلك لو أن رجلا من أهل البادية قتل رجلا خطأ فلم يقض عليه بشيء حتى قدم مصرا من أمصار المسلمين، فالتحق في الديوان، واتخذه مسكنا، وترك البادية، ثم رفع إلى القاضي، فإن القاضي يقضي على عاقلته بالدية من أهل المصر من أهل الديوان، ولا يقضي على أهل البادية بشيء).[37]
وقال أبو الحسن المرغيناني الحنفي: (والعاقلة أهل الديوان إن كان القاتل من أهل الديوان، يؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين، وأهل الديوان أهل الرايات، وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان، وهذا عندنا.
وقال الشافعي رحمه الله الدية على أهل العشيرة، لأنه كان كذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نسخ بعده، ولأنه صلة والأولى بها الأقارب.
ولنا قضية عمر رضي الله عنه، فإنه لما دون الدواوين جعل العقل على أهل الديوان، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير منهم، وليس ذلك بنسخ بل هو تقرير معنى، لأن العقل كان على أهل النصرة، وقد كانت بأنواع، بالقرابة والحلف والولاء والعد، وفي عهد عمر رضي الله عنه قد صارت بالديوان، فجعلها على أهله إتباعا للمعنى، ولهذا قالوا لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف، فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلف فأهله، والدية صلة، كما قال، لكن إيجابها فيما هو صلة، وهو العطاء أولى منه في أصول أموالهم...
ولا يعقل أهل مصر عن مصر آخر، إذا كان لأهل كل مصر ديوان على حدة، لأن التناصر بالديوان عند وجوده، ولو كان باعتبار القرب في السكنى فأهل مصره أقرب إليه من أهل مصر آخر، ويعقل أهل كل مصر عن أهل سوادهم، لأنهم أتباع لأهل المصر، فإنهم إذا حزبهم أمر استنصروا بهم فيعقلهم أهل المصر باعتبار معنى القرب في النصرة، ومن كان منزله بالبصرة وديوانه بالكوفة عقل عنه أهل الكوفة، لأنه يستنصر بأهل ديوانه لا بجيرانه.
والحاصل أن الاستنصار بالديوان أظهر فلا يظهر معه حكم النصرة بالقرابة والنسب والولاء وقرب السكنى وغيره، وبعد الديوان النصرة بالنسب... ومن جنى جناية من أهل المصر وليس له في الديوان عطاء، وأهل البادية أقرب إليه، ومسكنه المصر عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر، ولم يشترط أن يكون بينه وبين أهل الديوان قرابة، قيل هو صحيح، لأن الذين يذبون عن أهل المصر ويقومون بنصرتهم ويدفعون عنهم أهل الديوان من أهل المصر، ولا يخصون به أهل العطاء...). [38]
وقد عدى الفقهاء هنا الحكم إلى نقابات أهل الحرف والصنائع، وهي كنقابات العمال اليوم، والاتحادات والروابط المهنية، قياسا على فعل عمر في الديوان، فإذا صاروا ينتمون لنقابة واحدة، ويتعاونون فيما بينهم في نوائبهم، صاروا كالعصبة في العقل عن بعضهم فيما وقع من قتل خطأ، فيتحملون جميعا الدية مع من وقع منه القتل الخطأ من أعضاء النقابة، ويؤخذ من رواتبهم كل سنة ثلث الدية، على ثلاث سنين، فإن كانت النقابة تضم آلاف العمال، وفيها فروع يصل أعضاؤها ألف عضو، اقتصر بالدفع على أعضاء الفرع الذي منه القاتل خطأ!
قال الموصلي الحنفي: (فإن كان القاتل من أهل الديوان فهم عاقلته، وهم الذين لهم رزق في بيت المال، وفي زماننا هم أهل العسكر، لكل راية ديوان على حدة، وذلك لأن العرب كانوا يتناصرون بأسباب منها القرابة والولاء والحلف وغير ذلك، وبقوا على ذلك إلى زمن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلما جاء عمر ودوّن الدواوين صار التناصر بالدواوين، فأهل كل ديوان ينصر بعضهم بعضا، وإن كانوا من قبائل متفرقة، وقد صح أن عمر رضي الله عنه فرض العقل على أهل الديوان، وكان قبل ذلك على عشيرة الرجل في أموالهم، لأنه أول من وضع الديوان فجعل العقل فيه، وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فكان إجماعا منهم، وهو على وفاق ما قضى به رسول الله عليه الصلاة والسلام معنى، فإنهم علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به على العشيرة باعتبار النصرة، ثم الوجوب بطريق الصلة، فإيجابه فيما يصل إليهم صلة وهو العطاء أولى، وأهل كل ديوان فيما يصل إليهم من ذلك كنفس واحدة...
وكذلك أهل الديوان إذا لم يتسع الديوان للدية، يضم إليهم أقرب الرايات إليهم نصرة، إذا حزّ بهم أمر، أو دهمهم عدو، وهو مفوّض إلى رأي الإمام إذ هو أعلم بذلك، ومن لا عاقلة له في رواية تجب في بيت المال، لأنه لو مات ولا وارث له، ورثه بيت المال، فإذا جنى يكون عليه، ليكون المغنم بالغرم...
قال: وإن كان ممن يتناصرون بالحرف فأهل حرفته، وإن تناصروا بالحلف فأهله، لما بينا أن المعنى فيه هو التناصر، ومن ليس له ديوان ولا عشيرة، قيل يعتبر المحال، والقرى، والأقرب فالأقرب، وقيل تجب في ماله، وقيل إن كان القاتل مسلما تجب في بيت المال، لأن الدية تجب باعتبار النصرة، وجماعة المسلمين يتناصرون ويذب بعضهم عن بعض، وعلى هذا الخلاف اللقيط، ولا تعقل مدينة عن مدينة، وتعقل المدينة عن قراها، لأن أهل المصر يتناصرون بديوانهم، وأهل سوادهم وقراهم، ولا يتناصرون بأهل ديوان مصر آخر، والباديتان إذا اختلفتا كمصرين).[39]
وكل ما سبق عن عمر رضي الله عنه، وما ذهب إليه فقهاء العراق يؤكد هذا الأصل، وهو حفظ الانتماء المجتمعي للإنسان، سواء للقبيلة، أو البلد، أو الحرفة، وتعزيز العصبية المشروعة بالمعروف، في إطار وحدة الأمة والدولة، واحترام التعددية والتنوع لمكوناتها، وهذا الرأي قال به أيضا فقهاء مذهب مالك، فقد سئل ابن القاسم: (أرأيت الديوان ما قول مالك فيه؟ قال: أما مثل ديوان مصر، والشام، وأهل المدينة، ومثل دواوين العرب، فلم ير مالك به بأسا).[40]
قال القرافي المالكي في شأن العاقلة: (البحث الأول من يحمل وهو ثلاثة:
الأول: العصبة، والثاني: الولاء، والثالث: بيت المال، دون الموالاة، والمحالف.
أما العصبة فكل عصبة يدخل فيها الأب والابن، وفي دخول الجاني روايتان، ويلحق بالقرابة الديوان لعلة التناصر، فإن كان المعان من أهل ديوان مع غير قومه حملوا عنه دون قومه، لأنهم ناصروه، وإن احتاج أهل ديوان إلى معونة قومهم لقلتهم أو لانقطاع ديوانهم أعانوهم.
وقال أشهب: إنما يحمل عنه أهل الديوان إذا كان العطاء قائما، وإلا فقومه...
الثالث بيت المال عند عدم العصبة والولاء، يأخذ من بيت المال إن كان الجاني مسلما، وإن كان ذميا رجعنا على الذين يؤدون معه الجزية أهل إقليمه، الذين يجمعه وإياهم أداء الجزية، فإذا لم يستقلوا ضم إليهم أقرب القرى منهم.
وإنما العقل في القبائل، كانوا أهل ديوان أم لا، ومصر والشام أجناد، كل جند عليهم جرايرهم، فلا يعقل أهل مصر مع الشام، ولا الشام مع مصر، ولا الحضر مع البدو، ولا البدو مع الحضر، لعدم التناصر، وإن انقطع بدوي فسكن الحضر عقل معهم، كالشامي يستوطن مصر، ثم إن جنى وقومه بالشام وليس بمصر من قومه من يحمل لقلتهم ضم إليه أقرب القبائل لها إلى قومه -أقرب القبائل: يريد في النسب لا في الجوار- وإن لم يكن بمصر أحد، حتى يقود إذ لا يعقل أهل الشام مع مصر...
وكره مالك أن يبعث السلطان في الدية من يأخذها من العاقلة فيدخل فيها فساد كبير.
وقال سحنون: ويضم أهل أفريقية بعضهم لبعض من طرابلس إلى طبنة في العقل...
ومراد ابن القاسم بمصر من أسوان إلى الإسكندرية، ومصر اسم الجميع وهي الكورة، وعن أشهب يقتصر على الفسطاط دون بقية الكورة، وإن لم يكن في قتيل محمل ضم إليه أقرب القبائل من الفسطاط خاصة.
وأهل الصلح يتعاقلون وإن اختلفت قبائلهم.
قال المغيرة: إن كانوا أهل جزية ولهم معقلة يتعاقلون عليها، ويحملها بعض عن بعض دون بعض، حملتهم عليها، وإلا ففي مال الجاني.
قال سحنون: إذا لزمت دية القيروان دخل فيها من بأفريقية من اليهود الذين يحملون معه الخراج، وإن لم يقدروا أسلفهم الإمام من بيت المال ولا يشق عليهم...
وقال الشافعي وأحمد: لا يعقل الديوان، لنا أن عمر رضي الله عنه أول من دون الدواوين، وجعل أهل كل ديوان يحملون جناية من معهم في الديوان، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعا، ونكتة المسألة أن التعاقل مبني على التناصر، ولذلك اختص العاقلة العصبة، وسقطت عن النساء، والصبيان، والمجانين، بعدم النصرة، مع وجود القرابة فيهم، فقد دار العقل مع النصرة وجودا وعدما، وأهل ديوانه ينصرونه أشد من العصبة، والديوان أخص من النسب، لأنه يجمع أهله في موضع واحد، وعطاء واحد، وتكون مودتهم منسجمة، وحميتهم لبعضهم متوفرة.
وإذا جنى بمصر ولم يقم عليه حتى استوطن العراق، فجنايته على مصر، وإذا جنى الساكن بمصر وليس بها من قومه أحد، حمل جنايته أقرب القبائل إليه ممن بمصر).[41]
وكون أهل الديوان هم العاقلة التي تتحمل عن الجاني دية القتل الخطأ هو ما ترجح عند متأخري مذهب مالك، كما قال الدردير: (العاقلة التي تحمل الدية هي العصبة، وأهل الديوان... فبيت المال، وبدئ بالديوان أي بأهله، على عصبة الجاني، إذ الديوان اسم للدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند، وعددهم، وعطاؤهم، إن أعطوا، هذا شرط في التبدئة، لا في كونهم عاقلة، لأنهم عاقلة مطلقا، يعني أنه يبدأ بالدية بأهل الديوان حيث كان الجاني من الجند، ولو كانوا من قبائل شتى، ومحل التبدئة بهم إذا كانوا يعطون أرزاقهم المعينة لهم في الدفتر من العلوفات والجامكيات، ثم إن لم يكن ديوان، أو كان وليس الجاني منهم، أو منهم ولم يعطوا، بُدئ بالعصبة الأقرب فالأقرب من العصبة، وإذا قصر ما في بلد الجاني عن الكفاية، ضم ككور مصر، والأولى أن يحمل كلامه على ما يعم الذمي وغيره، ولا يقصر على الأول، أما الذمي فقد علمت المراد منه، وأما المسلم فمعناه أنه يبدأ بأهل الديوان من أهل بلده إن كان الجاني من الجند، فإن كان فيهم الكفاية فظاهر، وإلا كمل العدد من أقرب بلد فيها أهل الديوان وهكذا، فإذا كان الجاني من أهل القاهرة، ولم يكن في أهل ديوانه كفاية كمل من أهل بولاق، فإن لم يكن فيهم كفاية كمل من أقرب البلاد إليها، مما فيها ديوان، لا مطلق بلد، ولو كان الجاني من أهل منفلوط بدئ بأهل ديوانهم، وكمل من أهل أسيوط وهكذا، وكذا يقال في العصبة والموالي، وقوله: ككور مصر، أي: كور مصر ونحوها من الأقاليم، فمصر إقليم وفيها كور، والشام إقليم آخر وفيه كور، والحجاز إقليم وفيه كور، ولا يضم أهل إقليم لأهل إقليم آخر، ولا دخول لبدوي مع حضري، ولا شامي مع مصري، والصلحي يؤدي عنه أهل صلحه من أهل دينه...
ولا دخول لبدوي من عصبة الجاني مع حضري من عصبته، ولا عكسه لعدم التناصر بينهما، ولا شامي مثلا مع مصري مثلا من العصبة أو أهل الديوان مطلقا...).[42]
وقال الصاوي المالكي: (واعلم أنه على القول باعتبار الديوان فالمراد به أهل ديوان الأقاليم، فجند مصر أهل ديوان واحد، وإن كانوا طوائف سبعة عرب وإنكشارية وشراكسة إلخ هذا هو المعتمد... وإذا نقص أهل الديوان عن السبعمائة بناء على أن أقل العاقلة سبعمائة، أو عن الألف بناء على مقابله، ضم إليهم عصبة الجاني الذين ليسوا معه في الديوان، هذا هو الصواب المنقول للمذهب، لا عصبة أهل الديوان، خلافا للأجهوري).[43]
وقال الدسوقي: ([الديوان اسم للدفتر الذي يضبط فيه أسماء الجند وعددهم وعطاؤهم] أي: فينزّل ضبط عددهم وعطائهم بدفتر منزلة النسب، لما جبلوا عليه من التعاون والتناصر، واعلم أن البلد إذا كان جندها طوائف كل طائفة مكتوب عددها وعطاؤها بدفتر هل يكون جند تلك البلد كلهم أهل ديوان، أو كل طائفة منهم أهل ديوان؟
فذهب بعضهم للأول قائلا المراد بأهل الديوان أهل ديوان إقليم، واستظهر غيره الثاني، فجند مصر أهل ديوان واحد، وإن كانوا طوائف سبعة عرب وإنكشارية الخ، فعلى الأول تعقل الطوائف السبعة عمن جنى من أي طائفة، وعلى الثاني لا يعقل عن الجاني إلا طائفته).[44]
فكل هذه الأحكام الفقهية الشرعية عند هؤلاء الفقهاء منوطة بالانتماء الطبيعي، والعصبية المشروعة، ومراعاة ما يقع بين أفرادها من ارتباط، حيث (مودتهم منسجمة، وحميتهم لبعضهم متوفرة)، سواء بالنسب للقبيلة، أو بالاستيطان بالدار، أو بالاشتراك بالديوان والعطاء، أو الاشتراك بالصنعة والحرفة، مما يؤكد طبيعة النظام السياسي الإسلامي، وأنه لا يصادر التعددية في إطار الوحدة، ولا يتعارض التوحيد العقائدي والسياسي فيه، مع التعددية المجتمعية والسياسية والفكرية والدينية.
وما زلنا مع (عودة الخلافة) والتعددية السياسية فللحديث بقية!
[1] جامع البيان (18 / 647 - 650)
[2] رواه ابن إسحاق - كما في السيرة النبوية لابن هشام - (5 / 61) عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس، قال الطحاوي في شرح معاني الآثار 3/319 (هذا حديث متصل الإسناد صحيح).
[3] فتح الباري - ابن حجر - (8 / 8) بتصرف واختصار.
[4] مغازي الواقدي (2 / 818 - 822) حدثني عبد الله بن جعفر المخرمي سمعت يعقوب بن عتبة يخبر عن عكرمة عن ابن عباس به، وهذا إسناد صحيح عند أهل المغازي والسير، وله شواهد كثيرة.
[5] أخبار مكة للفاكهي (5 / 216)
[6] سيرة ابن هشام 5/248.
[7] سيرة ابن هشام 5/302.
[8] سيرة ابن هشام 5/302.
[9] طبقات ابن سعد 1/286.
[10] طبقات ابن سعد 1/284.
[11] طبقات ابن سعد 1/270.
[12] طبقات ابن سعد 1/268.
[13] رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين (3/219) و(4 / 163) وقال: صحيح على شرط مسلم، وفي الرواية الثانية (من سيدكم يا بني عبيد).
[14] رواه البخاري في الأدب المفرد ح 1198 وله شواهد كثيرة.
[15] الصحيح ح رقم 6755.
[16] مغازي الواقدي (3 / 952)
[17] بيان مشكل الآثار (11 / 114)
[18] الأم للشافعي (4 / 158)
[19] الطبقات الكبرى (5 / 396)
[20] أبو داود في السنن ح رقم 2936 وفي إسناده مجاهيل، وله شواهد يتقوى بها، ولهذا سكت عنه أبو داود فهو صالح عنده، وانظر الصحيحة للألباني ح رقم 1417.
[21] رواه أبو يعلى في المسند ح رقم 4136 ، وصححه الألباني في الصحيحة ح رقم 1417 بشواهده.
[22] فتح الباري ـ لابن رجب (3 / 474)
[23] مصنف ابن أبي شيبة (9 / 124) بإسناد صحيح.
[24] المنة الكبرى شرح وتخريج السنن الصغرى (2 / 29)
[25] الطبقات الكبرى (6 / 194)
[26] الطبقات الكبرى (6 / 93) بإسناد صحيح.
[27] رواه البخاري في صحيحه ح رقم 1425 ، ومسلم ح رقم 29.
[28] معالم السنن للخطابي (2 / 38)
[29] شرح السنة (5 / 474)
[30] المنتقى - شرح الموطأ - (2 / 112)
[31] الكافي في فقه أهل المدينة (1 / 462)
[32] التاج والإكليل (5 / 134)
[33] البحر الرائق شرح كنز الدقائق (5 / 78)
[34] الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع (6 / 459)
[35] الشرح الكبير (10 / 368)
[36] المبدع شرح المقنع (3 / 228)
[37] المبسوط للشيباني (4 / 662 - 669)
[38] الهداية شرح البداية (4 / 225 - 227)
[39] الاختيار لتعليل المختار (5 / 65)
[40] المدونة الكبرى (1 / 526)
[41] الذخيرة (12 / 387)
[42] الشرح الكبير للدردير (4 / 282)
[43] بلغة السالك لأقرب المسالك (4 / 203)
[44] حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (18 / 220)
……………………………………..
مواضيع ذات صلة:
الأجزاء السابقة من (عودة الخلافة)
التعددية السياسية وحكم مشاركة الأحزاب المخالفة للنظام الإسلامي
التعددية السياسية والشبه الفكرية
موقف الإسلام من التعددية الدينية والسياسية والمذهبية
التعددية السياسية في النظام الإسلامي (مقطع مرئي)
حل إشكالية الانتماء للوطن مقابل الانتماء للأمة (مقطع مرئي)
الحــريـــــة أو الطــوفـــــان
تحرير الإنسان وتجريد الطغيان
مكتبة الشيخ أ.د. حاكم المطيري