القضاة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم:
وكان ممن تولى بعض القضاء في عهد صلى الله عليه وسلم: عمر وعلي ومعاذ وعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وأبو موسى الاشعري وعقبة بن عامر ومعقل بن يسار وعمارة بن حزم وحذيفة بن اليمان.[27]
أمراء الجيوش في عهد النبوة:
وقد ولى النبي صلى الله عليه وسلم على جيوشه وسراياه عددا من القادة العسكريين الأفذاذ ومنهم أبو عبيدة بن الجراح وحمزة بن عبد المطلب وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة وعلي بن أبي طالب وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص وأسامة بن زيد.
أمراء الحج والجمع والجماعات:
وكان ولاة الأمصار يتولون عادة إمامة الجمع والجماعات، وقد تولى إمارة الحج في السنة 8 هـ عتاب بن أسيد بعد فتح مكة، حين ولاه النبي صلى الله عليه وسلم عليها وعلى الحج والصلاة، ثم تولى أبو بكر الصديق بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم إمارة الحج في الناس سنة 9 هـ.
كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم:
كما تأسس ديوان الكتابة -وهو أشبه ما يكون اليوم بأمانة السر- في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان له كتابه الخاصون، وأمناء الأختام المختصون، كما قال ابن خياط: (زيد بن ثابت كاتب الوحي، وقد كتب له معاوية بن أبي سفيان، وكتب له حنظلة بن ربيعة الأسيدي، وكتب له عبد الله بن سعد بن أبي سرح ثم ارتد ولحق بمكة، وكان يأذن عليه أنسة مولاه، وعلى نفقاته بلال، ومعيقيب بن أبي فاطمة خازنه، ويقال: كان معيقيب على خاتمه).[28]
وسيتطور ديوان الكتابة بتطور النظام السياسي بعد ذلك، وسيصبح الوزراء والوزارة من الكتاب حصرا، وأرباب العلم والقلم خاصة، كما في بداية العصر العباسي!
وبهذا تشكلت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مؤسسات الدولة التنفيذية الرئيسة وهي:
1- الإدارة السياسية: وتتمثل في الولاة على الأمصار وإدارة شئونها.
2- والإدارة المالية: وتتمثل في الجباة لجمع أموال الزكاة والخراج وصرفها على مستحقيها.
3- والإدارة القضائية: وتتمثل في القضاة للفصل بين الخصومات.
4- والإدارة العسكرية: ويتولاها قادة الجيوش وأمراء السرايا.
5- الإمامة للصلوات والجمع وإمارة الحج: ورعاية شئون العبادات والشعائر العامة، ويتولاها أئمة الجمع والحج.
6- ديوان الكتابة: وما يختص به الكتاب من سجلات الدولة ومراسلاتها والإشراف عليها.
وستظل هذه المؤسسات بعد ذلك حجر الأساس لنظام الدولة والخلافة حتى سقوطها.
نواة الوزارة التنفيذية:
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد اتخذ بعض الصحابة وزراء له كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، لا يغيبون عنه في حضر ولا سفر، وكان يعدهم لقيادة الأمة من بعده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يشاور الناس في شئونهم العامة كما أمر الله {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر}، فلا يقطع أمرا عاما حربا أو سلما إلا بالشورى، كما قال أبو هريرة: (ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله).[29]
وقال: (لو كنت مستخلفا أحدا على أمتي من غير مشورة لاستخلفت عليهم عبد الله بن مسعود أو عمار بن ياسر).[30]
وكان كذلك لا يقطع أمرا في الشئون السياسية التنفيذية والإدارية، كتولية رجل على ولاية ونحوها، إلا بشورى وزرائه، حتى قال لأبي بكر وعمر وقد استشارهما في تولية رجل على بني تميم، فاختلفا فيه (لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما).[31]
وقد حدد النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة طبيعة النظام السياسي بعده، وأنه خلافة راشدة، تقوم على الشورى والرضا، ولذا لم يستخلف أحدا بعده.
كما حدد صلاحيات الخليفة من بعده وما له وما عليه، فقد سئل صلى الله عليه وسلم: قيل يا رسول الله ما للخليفة بعدك؟ قال: (مثل الذي لي ما عدل في الحكم، وأقسط في القسم، ورحم ذا الرحم، فمن فعل غير ذلك فليس مني ولست منه).[32]
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعد أصحابه للخلافة من بعده، ويحدد لهم معالمها وأصولها وأحكامها...
ثانيا: تطور أنظمة الدولة السياسية في ظل الخلافة:
تولى أبو بكر الصديق عبد الله بن أبي قحافة عثمان بن عامر التيمي القرشي، الخلافة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، يوم الاثنين 12 ربيع الأول سنة 11هـ، وتوفي ليلة الثلاثاء 20 جمادى الآخرة سنة 13هـ، وله 63 سنة، ودفن بجوار النبي صلى الله عليه وسلم، في حجرة عائشة رضي الله عنها، وصلى عليه عمر.
وكان أبرز الإنجازات في عهده على مستوى النظام السياسي والإداري للدولة:
أولا: بروز أهل الشورى وظهور أهل الحل والعقد وتحديد مسئوليتهم السياسية:
فقد كان أبرز حدث سياسي بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم هو اختيار الصحابة رضي الله عنهم للخليفة أبي بكر الصديق بالشورى والرضا في السقيفة، ثم عقدهم البيعة العامة له في المسجد، في اليوم التالي، قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان أهل الشورى في السقيفة هم الصحابة الذين حضروا آنذاك، وفي هذه اللحظة التاريخية الفارقة تزامن ظهور الخلافة كنظام سياسي ورئاسة عامة على الأمة بعد عهد النبوة، واختيار الخليفة كرئيس للدولة بالشورى والرضا، مع ظهور أهل الحل والعقد وأهل الشورى الذين هم من يعقد للخليفة عقد البيعة نيابة عن الأمة كوكلاء عنها.
كما قال القاضي الماوردي: (فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد وطلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها على الكفاية، وإن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان: أحدهما: أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للأمة.
والثاني: أهل الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة، وليس على من عدا هذين الفريقين من الأمة في تأخير الإمامة حرج ولا مأثم.
وإذا تميز هذان الفريقان من الأمة في فرض الإمامة وجب أن يعتبر كل فريق منهما بالشروط المعتبرة فيه.
فأما أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة:
أحدها: العدالة الجامعة لشروطها.
والثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحق الإمامة على الشروط المعتبرة فيها.
والثالث: الرأي والحكمة المؤديان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وبتدبير المصالح أقوم وأعرف، وليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية تقدم بها عليه، وإنما صار من يحضر ببلد الإمام متوليا لعقد الإمامة عرفا لا شرعا؛ لسبوق علمهم بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلده...
فإذا اجتمع أهل العقد والحل للاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجودة فيهم شروطها، فقدموا للبيعة منهم أكثرهم فضلا، وأكملهم شروطا، ومن يسرع الناس إلى طاعته، ولا يتوقفون عن بيعته، فإذا تعين لهم من بين الجماعة من أداهم الاجتهاد إلى اختياره عرضوها عليه، فإن أجاب إليها بايعوه عليها، وانعقدت ببيعتهم له الإمامة، فلزم كافة الأمة الدخول في بيعته والانقياد لطاعته، وإن امتنع من الإمامة ولم يجب إليها لم يجبر عليها، لأنها عقد مراضاة واختيار، لا يدخله إكراه ولا إجبار، وعدل عنه إلى من سواه من مستحقيها).[33]
نشأة مصطلح (أهل الحل والعقد):
ولم يعرف هذا المصطلح (أهل الحل والعقد) في عصر النبوة، ولا في عهد الخلفاء الراشدين، وإنما ظهر متأخرا في العصر العباسي الثاني، فقد كان أبو الحسن الأشعري المتوفى سنة 324 هـ من أوائل من ذكر هذا المصطلح فقال: (وتثبت إمامة علي رضي الله عنه، بعد عثمان رضي الله عنه، لعقد من عقدها له من الصحابة رضي الله عنهم من أهل الحل والعقد).[34]
فقد أطلق أبو الحسن الأشعري على الصحابة الذين شهدوا السقيفة واختاروا أبا بكر خليفة بالشورى والرضا وصف (أهل الحل والعقد)، وإن لم يكن أولئك الصحابة يُعرفون بهذه الصفة آنذاك، ولم تكن الشورى في السقيفة مقصورة على أحد دون أحد، بل توافد إليها الأنصار كافة، ثم المهاجرون جميعا، إلا من اشتغلوا بتجهيز النبي صلى الله عليه وسلم، كما حضرها بعض قبائل المدينة، بلا تحديد أو حصر من أحد، لمن يحضر، ومن لا يحضر، لأنهم جميعا أهل الشورى، كما قال تعالى عن المؤمنين والمسلمين جميعا: {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون}، ولأنهم إخوة سواء، كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة}!
فالمسلمون جميعا والصحابة كلهم آنذاك هم أهل الشورى، وأهل الحل والعقد، بحسب هذا المصطلح الحادث في القرن الثالث، ولهذا أجمع الصحابة على قول عمر: (من بايع رجلا دون شورى المسلمين فلا بيعة له)!
وإنما كان يطلق مصطلح (أهل العقد) في عهد الخلفاء الراشدين على الأمراء والولاة، لما يتولونه من حل الأمور وعقدها بحكم الولاية، كما جاء عن أبي بن كعب فيما رواه عنه قيس بن عباد قال: (قدمت المدينة للقاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان فيهم رجل ألقاه أحب إلي من أبي بن كعب، فأقيمت الصلاة، فخرج عمر، ومعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقمت في الصف الأول، فجاء رجل، فنظر في وجوه القوم، فعرفهم غيري، فنحاني، وقام في مكان، فما عقلت صلاتي، فلما صلى قال: يا فتى، لا يسوءك الله، إني لم آت الذي أتيت بجهالة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: كونوا في الصف الذي يليني، وإني نظرت في وجوه القوم، فعرفتهم غيرك، ثم تحدث ، فما رأيت الرجال متحت أعناقها إلى شيء متوحها إليه، فسمعته يقول: هلك أهل العقد ورب الكعبة، ألا لا عليهم آسى، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين).
وفي رواية: (آسى على من يضلون من المسلمين)...
قال شعبة: (قلت لأبي جمرة: من أهل العقد؟ قال: الأمراء)، قال شعبة: (وحدثني أبو التياح في ذلك المجلس عن الحسن قال: الأمراء).[35]
ممارسة أهل الحل والعقد الشورى لانتخاب الخليفة:
وقد اختار الصحابة رضي الله عنهم أبا بكر يوم السقيفة كأول خليفة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهي أول ممارسة سياسية لشورى أهل الحل والعقد لاختيار خليفة يرأس الدولة، كما كان يرأسها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان رُشح للخلافة يوم السقيفة أربعة: سعد بن عبادة وأبو عبيدة بن الجراح وعمر بن الخطاب وأبو بكر، فكان الاختيار من بينهم عن طريق التعددية وانتخاب أحدهم، كما قال ابن الشهاب القلقشندي: (الطرق التي تنعقد بها الخلافة ثلاث طرق: الأول البيعة: وهي أن يجتمع أهل الحل والعقد ويعقدون الإمامة لمن يستجمع شرائطها، ولذلك حالتان الحالة الأولى: أن يتعدد من اجتمع فيه شروط الإمامة، فيختار أهل الحل والعقد واحدا منهم يقوم بأمر الإمامة وينهض بأعبائها، وعلى ذلك كانت خلافة أبي بكر الصديق، وذلك أنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح البخاري- اجتمعت الأنصار في السقيفة فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فبايعوا أبا عبيدة أو عمر، فقال عمر: بل نبايعك أنت، فبايعه عمر وبايعه الناس).[36]
فقد تعدد هنا المرشحون للخلافة، وتوفرت فيهم جميعا الأهلية للإمامة، وكان الانتخاب والاختيار لواحد منهم بالشورى والرضا الطريق لعقد البيعة له.
ومع بروز دور أهل الحل والعقد -وهم رؤوس الناس وأشرافهم وأهل الفضل والعلم- يوم السقيفة في اختيار الخليفة، إلا أن الشورى العامة ظلت هي الحكم والفيصل، فلم يكتف الصحابة ببيعة السقيفة، حتى بايع المسلمون جميعا أبا بكر في اليوم التالي البيعة العامة التي صار بموجبها خليفة عليهم، وبعدها خطبهم خطبته المشهورة (إني وليت عليكم ولست بخيركم)، ليحدد فيها معالم سياسته العامة وأصول الحكم في الإسلام ومهمة الخليفة، ومسئولية الأمة تجاه تصرفاته.
ولم يكن أهل الحل والعقد يوم السقيفة طبقة اجتماعية مميزة، أو سياسية محددة، وإنما تداعى لها المهاجرون جميعا لم يتخلف منهم أحد على اختلاف قبائلهم، إلا من انشغلوا بجنازة النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، ولم يتخلف من الأنصار أحد له شأن، كما قال عمر: (إنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة... واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر، فانطلقنا نريدهم).[37]
وتداعى لها كذلك قبائل المدينة التي حولها كقبيلة أسلم وهذيل.
وقد صار المتأخرون يطلقون هذا الاسم على الصحابة جميعا ويصفونهم بأنهم أهل الحل والعقد، كما قال الإمام البغوي المتوفى سنة 516هـ: (ولو مات الإمام ولم يستخلف أحدا، فيجب على أهل الحل والعقد أن يجتمعوا على بيعة رجل يقوم بأمور المسلمين، كما اجتمعت الصحابة رضي الله عنهم على بيعة أبي بكر رضي الله عنه، ولم يقضوا شيئا من أمر تجهيز رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفنه حتى أحكموا أمر البيعة).[38]
وكما علل ابن خلدون الخلاف بين الصحابة في بيعة علي (فرأى علي أن بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دار النبي صلى الله عليه وسلم، وموطن الصحابة، وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة، فيتمكن حينئذ من ذلك، ورأى الآخرون أن بيعته لم تنعقد، لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالآفاق، ولم يحضر إلا قليل، ولا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل والعقد، ولا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم، وإن المسلمين حينئذ فوضى).[39]
الشورى بين العامة والخاصة:
وإذا كانت الشورى في عهد النبوة والخلافة الراشدة حق للأمة كلها، وإنما ينوب عنها من يمثلها من أهل الحل والعقد كوكلاء وعرفاء عنهم لا كأوصياء عليهم، كما في الحديث الصحيح: (أيها الناس إنا لا ندري من رضي منكم، ممن لم يرض، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم)، فإنها ستكون بعد ذلك حصرا على فئة محددة من رجال الدولة وقادتها، بسبب اختلاف الأوضاع المجتمعية والسياسية في دولة الخلافة، ودخول الأمم شيئا فشيئا في الإسلام، واندماج هذه المكونات المجتمعية في مؤسسات الخلافة والدولة، كالفرس في الوزارة وإدارة الدواوين، ثم الترك في السلطنة والجيش، مما أدى إلى تشكل مكونات سياسية داخل مؤسسات الدولة الإدارية، والقضائية، والعسكرية، والتشريعية المتمثلة بالفقهاء وشيوخ المذاهب الفقهية، كما جرى في بيعة المستظهر بالله أحمد بن المقتدي بأمر الله، وقد بويع له في المحرم سنة 487 هـ (وحين دخل عليه أهل الحل والعقد للبيعة، وسائر وجوه الأشراف، والأجناد، والقضاة، كان الوزير عميد الدولة واقفا بين يدي سدّته، ومعه قاضى القضاة أبو الحسن عليّ بن محمد الدامغانيّ، ونقيب النّقباء أبو القاسم عليّ بن طراد الزينبي، وبايعه الخلق كافة).[40]
وقد ذكر أيضا هذا المصطلح الحادث، بعد القرن الثالث: أبو بكر محمد بن الطيب الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ فقال: (إنما يصير الإمام إماما بعقد من يعقد له الإمامة من أفاضل المسلمين، الذين هم من أهل الحل والعقد، والمؤتمنين على هذا الشأن).[41]
وهنا يتحدث الباقلاني عن أفاضل المسلمين الذين هم من أهل الحل والعقد، وليس كل أهل الحل والعقد، إشارة منه للواقع السياسي في العصر العباسي، حيث صار رجال الدولة ومؤسساتها وقادتها وقضاتها هم أهل الحل والعقد، وليس الأمة كلها!
وكذا جاء في اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل لعبد الواحد التميمي الحنبلي المتوفى سنة 410 هـ حيث قال في شأن الإمامة: (وأن الفيء يقسمه الإمام فإن تناصف المسلمون وقسموه بينهم فلا بأس به، وأنه إن بطل أمر الإمام لم يبطل الغزو والحج، وأن الإمامة لا تجوز إلا بشروطها: النسب، والإسلام، والحماية، والبيت، والمحتد، وحفظ الشريعة، وعلم الأحكام، وصحة التنفيذ، والتقوى، وإتيان الطاعة، وضبط أموال المسلمين، فإن شهد له بذلك أهل الحل والعقد من علماء المسلمين وثقاتهم، أو أخذ هو ذلك لنفسه ثم رضيه المسلمون جاز له ذلك).[42]
وهنا يشترط التميمي فيما رواه عن الإمام أحمد لصحة الإمامة توفر شروطها، وشهادة علماء الأمة وثقاتها لمن رشح لها بالعدالة والكفاءة والأمانة، وعقدهم البيعة له بالرضا والاختيار ابتداء، أو تحقق رضا الأمة به إن أخذها بلا اختيار انتهاء!
وإنما يعبر التميمي في هذه المرحلة عن ازدياد نفوذ المدارس الفقهية وشيوخها في الدولة العباسية، حيث يتولون المؤسسات القضائية، التي ازداد نفوذها حتى بات لا يعقد للخلفاء إلا بحضور القضاة وعلى رأسهم قاضي القضاة، كما سيأتي بيانه!
وكذا ورد هذا المصطلح -للدلالة على فئة محددة من الأمة تنوب عنها في القيام به- في كلام أبي عمرو الداني المتوفى سنة 444 هـ حيث يقول: (وإقامة الإمام مع القدرة والإمكان: فرض على الأمة لا يسعهم جهله، والتخلف عنه، وإقامته إلى أهل الحل والعقد من الأمة).[43]
ومثله قول الماوردي المتوفى سنة 450 هـ: (والإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل العقد والحل).[44]
وقال شيخ الشافعية عبد الرحمن بن المأمون المتولي المتوفى سنة 478 هـ: (عقد الإمامة لا يشترط فيه إجماع جميع أهل الحل والعقد في ذلك العصر، ولكن إذا حضره من تيسر حضوره من أهل الحل والعقد كفى ذلك).[45]
وقال الشهرستاني -المتوفى سنة 510 هـ- في عقد الإمامة وهل يشترط فيه الإجماع أم الجماعة: (فالقائلون بالإجماع اختلفوا في أن إجماع الأمة عن بكرة أبيهم شرط في ثبوت الإمامة؟ أم يكتفى بجماعة من أهل الحل والعقد؟).[46]
وهنا عبر الشهرستاني عن المذهبين بسبب اختلاف الاستعمال لمصطلح أهل الحل والعقد في العصرين، فمن قالوا باشتراط الإجماع من الأمة لصحة عقد البيعة، كانوا يقيسون على فعل الصحابة في اختيار الخلفاء الراشدين، حيث تحقق اختيارهم بإجماع الأمة، وهم الصحابة جميعا، وهم أيضا أهل الحل والعقد في الوقت ذاته!
ومن قال باشتراط عقدها من جماعة أهل الحل والعقد رأى عدم إمكانية تحقق الاجتماع والإجماع كما كان عليه حال الصحابة في المدينة آنذاك، واكتفى بجماعة أهل الحل والعقد الذين ترضاهم الأمة، ولا تخرج عما يقررونه نيابة عنها.
وقال الشهرستاني في العدد الذي يشترط لعقد البيعة: (ومن العلماء من نقص من العدد الذي ذكرناه، ومنهم من زاد العدد لعقد البيعة، فقيل تتم البيعة برجل عدل، وقيل برجلين، وقيل بأربعة، وقيل بجماعة من أهل الحل والعقد والاجتهاد والبصيرة بالأمور، ولو عقد واحد ولم يسمع من الباقين نكير كفى ذلك ويجب الإشهاد به).[47]
وهنا يقرر الشهرستاني بأن من قالوا بأنه جائز عقد البيعة من واحد، إنما قالوه بشرط رضا باقي أهل الحل والعقد، ورضا الأمة ومتابعتها، وإلا فلا قيمة للعقد، ولا عبرة به، وقاسوا ذلك على عقد الحسن لمعاوية، ومتابعة الأمة له عام الجماعة.
وقد أشار الشيخ محمد رشيد رضا في رسالته (الخلافة) إلى حدوث الخلل في مفهوم أهل الحل والعقد والمراد منه عند المتأخرين فقال: (من ينصب الخليفة ويعزله: اتفق أهل السنة على أن نَصْبَ الخليفة فرض كفاية، وأن المطالب به أهل الحل والعقد في الأمة، ووافقهم المعتزلة والخوارج على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد...
ولكن اضطرب كلام بعض العلماء في أهل الحل والعقد من هم؟
وهل تشترط مبايعتهم كلهم أم يكتفي بعدد معين منهم؟ أم لا يشترط العدد؟
وكان ينبغي أن تكون تسميتهم بأهل الحل والعقد مانعة من الخلاف فيهم، إذ المتبادر منه أنهم زعماء الأمة وأولو المكانة وموضع الثقة من سوادها الأعظم، بحيث تتبعهم في طاعة من يولونه عليها فينتظم به أمرها، ويكون بمأمن من عصيانها وخروجها عليه.
قال السعد في شرح المقاصد كغيره من المتكلمين والفقهاء: (هم العلماء والرؤساء ووجوه الناس).
زاد في المنهاج للنووي: (الذين يتيسر اجتماعهم).
وعلله شارحه الرملي بقوله: (لأن الأمر ينتظم بهم ويتبعهم سائر الناس).
وهذا التعليل هو غاية التحقيق منطوقًا ومفهومًا فإذا لم يكن المبايعون بحيث تتبعهم الأمة فلا تنعقد الإمامة بمبايعتهم... وهذا هو المأخوذ من عمل الصحابة رضي الله عنهم في تولية الخلفاء الراشدين، فإن عمر عَدّ البدء في بيعة أبي بكر فلتة، لأنه وقع قبل أن يتم التشاور بين جميع أهل الحل والعقد، إذ لم يكن في سقيفة بني ساعدة أحد من بني هاشم وهم في ذروتهم).[48]
وما ذكره الشيخ رشيد رضا هنا فيه نظر، بل هو خطأ محض، فقد تحققت الشورى على أكمل وجه يوم السقيفة، وكانت النتيجة إجماع الصحابة بعدها على خلافة أبي بكر، ولم يشق أحد منهم عصا الطاعة حتى من كان له رأي آخر كسعد بن عبادة إلا إنه لزم الجماعة، والتزم بنتيجة الشورى، والصحيح أن قوله: (فلتة وقى الله شرها) أي: تمت على عجل في السقيفة بلا أناة، مراعاة للظروف التي أحاطت بها، حيث توفي النبي صلى الله عليه وسلم للتو، وقد بدأت حركة الردة قبل وفاته في اليمن واليمامة وأطراف جزيرة العرب، فكان لا بد من المبادرة والعجلة في حسم قضية الفراغ السياسي واختيار الخليفة، وأما التشاور فقد حصل، وحضره الأنصار كلهم لم يتخلف منهم أحد، وعلى رأسهم سيدهم سعد بن عبادة، كما حضره كبار المهاجرين وعلى رأسهم أبو بكر وعمر وأبو عبيدة بن الجراح، وحضرت قبائل من سليم وغيرهم، فقد تحقق التشاور بين أهل الحل والعقد قطعا، ولم يكن اجتماع مجاملة أو مداهنة، بل ارتفعت الأصوات حتى كادت تقع فتنة، وحتى قال الأنصار: (منا أمير ومنكم أمير)، ثم اتفقوا على بيعة أبي بكر، ثم بايع المسلمون البيعة العامة في المسجد من الغد، ولو لم يكن أهل السقيفة أهل حل وعقد موثوقين ومرضيين لما كانت الأمة قد رضيت صنيعهم، ولما تابعتهم على بيعتهم، ولم يكن في المدينة آنذاك عصبية لبني هاشم أو بني عبد مناف، بل كانت العصبية للمهاجرين والأنصار، ولهذا كان الخلاف بين الفريقين، وقد حضر كبارهم سنا وقدرا، فتأخر بعضهم عن حضور السقيفة لا يؤثر في صحة الاجتماع، ولا صحة البيعة التي عقدها من حضر من أهل الحل والعقد من كبار المهاجرين والأنصار.
ثانيا: الفصل بين السلطات:
وهو من أهم الإنجازات في عهد أبي بكر، الذي أدرك الفرق بين إمامة النبوة المعصومة بالوحي، وإمامته وخلافته التي تفتقد للعصمة، فتحتاج لاستكمال نقصها البشري بقوامة الأمة ومراقبتها الدائمة لها، كما قال في أول خطبة له: (إن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت أو زغت فقوموني)، ولهذا بدأ أبو بكر عهده بتوزيع السلطات، فجعل على القضاء عمر بن الخطاب، وعلى بيت المال أبا عبيدة بن الجراح، وعثمان على الكتابة، فكان أول من فصل بين السلطات والوظائف التنفيذية والقضائية والمالية والإدارية، قال ابن خياط: (كان كاتبه عثمان بن عفان وزيد بن ثابت، وعلى أمره كله والقضاء: عمر بن الخطاب، وولى أبا عبيدة بن الجراح بيت المال).[49]
والكتاب هنا هم نواة ديوان الخلافة وجهازها الإداري، كما سيتطور لاحقا بعد ذلك.
وقوله: (وعلى أمره كله: عمر بن الخطاب) دليل على أنه كالوزير المفوض، وهو ما يسمى اليوم رئيس الوزراء، وهو ما يؤكده ما ورد من قضايا بت فيها عمر، ولم يتدخل أو يعترض عليه أبو بكر، كما جرى حين أقطع أبو بكر طلحة بن عبيد الله أرضا، وكتب له بها كتابا، وأشهد له ناسا فيهم عمر، قال: فأتى طلحة عمر بالكتاب، فقال: اختم على هذا، فقال: لا أختم، أهذا كله لك دون الناس؟ قال: فرجع طلحة مغضبا إلى أبي بكر، فقال: والله ما أدري، أنت الخليفة أم عمر؟ فقال: بل عمر، ولكنه أبى.[50]
وفي رواية أخرى: (أن أبا بكر قطع لعيينة بن حصن قطيعة، وكتب له بها كتابا، فقال له طلحة: إنا نرى هذا الرجل سيكون من هذا الأمر بسبيل -يعني عمر- فلو أقرأته كتابك، فأتى عيينة عمر، فأقرأه كتابه... وزاد فيه: أنه بصق في الكتاب ومحاه، قال: فسأل عيينة أبا بكر أن يجدد له كتابا، فقال: والله لا أجدد شيئا رده عمر).[51]
وما زلنا مع تطور النظام السياسي في ظل الخلافة المركزية، ومع التعرف على أبعاد هذه القضية، فللحديث بقية...