الأمة والخلافة والحقائق الغائبة:
كما أعادت الثورة العربية المعاصرة وبكل قوة قضية (الخلافة) من جديد إلى ساحة الفكر والسياسة، فقد كشفت كذلك وبكل وضوح عن أزمة عميقة بين دعاتها في تصور حقيقة هذه الخلافة التي يدعون إليها، ليثور الجدل في شأنها أشد ما يكون، داخل التيار الإسلامي نفسه، وبكل ألوان طيفه، بين من لا يرى وجوبها أصلا، فموضوع الحكم والسلطة عندهم موضوع مدني مصلحي تركه الشارع لتطور الزمان واختلاف الأحوال، ومن يرى أنه أصل من أصول الإسلام، وفرض يجب على الأمة إقامته، ثم هؤلاء الذين يدعون إلى (عودة الخلافة) لا يقدمون تصورا صحيحا لحقيقتها، وغايتها، وكيفية عودتها، حتى تصور بعضهم أنه بإمكانهم عرض الخلافة على رئيس من الرؤساء الموجودين اليوم فإن وافق على الإعلان عنها، وإقامة حكم إسلامي، صار خليفة، وعادت الخلافة!
وتصور بعضهم أنه بالسيطرة على مساحة من الأرض وإعلان الخلافة فيها تقوم الخلافة من جديد!
ومنهم من لا يرى للأمة رأي في إقامتها أصلا، ولا حق لها في الشورى واختيار الخليفة، بل ويستخفون بها ويصادرون حقها الذي جعله الله لها بدعوى أن ذلك ديمقراطية وكفر!
فإذا الطغيان الذي مارسه العرب القوميون في سوريا والعراق، والعسكريون الاشتراكيون في مصر والجزائر وليبيا واليمن، والملكيون في الخليج والمغرب والأردن، والليبراليون في تونس، والإسلاميون في السودان، يراد له أن يعود من جديد باسم السنة والخلافة والإسلام، فالمهم ألا يتحرر العرب من ربقة الطغيان تحت أي نظام كان!
وقد تجلت الإشكالية أوضح ما يكون في أربع قضايا رئيسية:
الأولى: في تعريف الخلافة شرعا وفقها ومعرفة حقيقتها وتصورها في ذاتها وغايتها!
الثانية: عدم الاعتراف بالأمة وحقوقها واستشكالهم أن يكون لها حق في اختيار السلطة الذي هو عندهم من اختصاص أهل الحل والعقد فقط، والذين قد يكونون عبارة عن مجلس شورى سري لفصيل من الفصائل لا يعرفهم أحد حتى أفراد تنظيمهم!
الثالثة: استشكال طبيعة العلاقة بين الأمة والسلطة والتي يجب أن تخضع الأمة لسلطانها ولو قهرا.
الرابعة: في تعريف أهل الحل والعقد.
وقد سبق تفصيل القول في تعريف الخلافة في الخطاب القرآني والنبوي والراشدي، وأن حقيقتها هي تحقق الاستخلاف للأمة كلها، أولا بالسيادة والظهور والتمكين في الأرض، ثم اختيار الأمة للخليفة - ثانيا - بالشورى والرضا، وكيلا عنها ينوب عن النبي صلى الله عليه وسلم في تولي الإمامة والخلافة، ليقيم أحكام الله فيها، والعدل والقسط الذي أوجبه الله عليها.
ولوضوح تلك الحقيقة القرآنية في معنى الخلافة والاستخلاف للمؤمنين في الأرض، كما وعدهم الله {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ}، ولكون المؤمنين جميعا إخوة {ِإنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، جاء الخطاب النبوي والراشدي معبرا عن تلك الحقيقة أوضح تعبير، في اعتبار الأمة هي الأصل في الاستخلاف، والإمامة والسلطة فرع عنها، ولهذا كانت الخيرية والوسطية والعدالة وصف للأمة نفسها التي هي الأصل {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}، وقد أضاف النبي صلى الله عليه وسلم للأمة ملك الأرض في دار الإسلام إضافة ملك واستحقاق، فقال كما في الصحيح: (إن الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها).[1]
وقال عمر رضي الله عنه: (وأيم الله إنها لبلادهم ومياههم، قاتلوا عليها في الجاهلية، وأسلموا عليها في الإسلام، والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرا).[2]
وكما قرر عمر حق الأمة في الأرض، قرر أيضا حق الأمة في اختيار السلطة، حيث قام في الناس خطيبا محذرا من يريد اغتصاب حق الأمة في الخلافة، فقال - كما في صحيح البخاري - (إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم... من بايع رجلا من غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي تابعه، تغرة أن يقتلا).[3]
وفي رواية عبد الرزاق: (إني لقائم عشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا المسلمين أمرهم).[4]
وفي رواية أحمد: (فمن بايع أميرا عن غير مشورة المسلمين فلا بيعة له، ولا بيعة للذي بايعه، تغرة أن يقتلا).[5]
وفي رواية ابن أبي شيبة: (أما بعد فقد بلغني قالة قائلكم: لو مات أمير المؤمنين قمنا إلى فلان فبايعناه، وإن كانت بيعة أبي بكر فلتة، وأيم الله إن كانت لفلتة وقانا الله شرها، فمن أين لنا مثل أبي بكر نمد أعناقنا إليه كمدنا إلى أبي بكر، إنما ذاك تغرة ليقتل، من انتزع أمور المسلمين من غير مشورة فلا بيعة له).[6]
وفي رواية النسائي: (إنه لا خلافة إلا عن مشورة، وأيما رجل بايع رجلا عن غير مشورة، لا يؤمر واحد منهما، تغرة أن يقتلا، قال شعبة: قلت لسعد: ما تغرة أن يقتلا؟ قال: عقوبتهما أن لا يؤمر واحد منهما).[7]
وفي رواية ابن حبان: (إني لقائم إن شاء الله العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يغتصبون الأمة أمرهم).[8]
وفي رواية البزار: (لأقومن العشية في الناس، فلأحذرنهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن يغتصبوا الناس أمورهم).[9]
وكذا قال عمر للستة الذين رشحهم للخلافة بعد أن استشار الناس في شأنهم، ورآهم لا يخرجون عن واحد منهم: (من تأمر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه).[10]
وفي رواية صحيحة عنه: (من دعا إلى إمارة لنفسه من غير مشورة المسلمين فلا يحل لكم إلا أن تقتلوه).[11]
وفي رواية: (من دعا إلى إمرة من غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه).[12]
وكذا قال عبد الرحمن بن عوف، بعد أن استشار الناس فيمن يختارونه للخلافة عثمان أم علي؟ فاختار الأكثر عثمان، (فأرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال أما بعد: إني قد نظرت في أمر الناس فلم أرهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن - يا علي - على نفسك سبيلا)، وقال لعثمان: (أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون).[13]
قال ابن حجر: (وسكوت من حضر من أهل الشورى والمهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد دليل على تصديقهم عبد الرحمن فيما قال، وعلى الرضا بعثمان).[14]
وقال ابن جرير الطبري: (ودار عبد الرحمن لياليه يلقى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن وافى المدينة من أمراء الأجناد، وأشراف الناس يشاورهم، ولا يخلو برجل إلا أمره بعثمان... ثم تكلم فقال: أيها الناس إني قد سألتكم سرا وجهرا عن إمامكم، فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان).[15]
وقال ابن كثير: (نهض عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يستشير الناس فيهما، ويجمع رأي المسلمين، برأي رؤوس الناس جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، سرا وجهرا، حتى خلص إلى النساء في خدورهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يرد من الركبان والأعراب إلى المدينة، وفي مدة ثلاثة أيام بلياليهن).[16]
وقد كان علي رضي الله عنه يرى أن البيعة لا تكون إلا برضا الأمة، ورضا العامة، فقد قال بعد أن ألح عليه الناس ليبايعوه: (لا تفعلوا، فإني لكم وزير خير مني أن أكون أميرا).
فقالوا: لا والله ما نحن بفاعلين حتى نبايعك!
فقال: (ففي المسجد، فإن بيعتي لا تكون خفيا، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين).
وفي رواية: (إن أبيتم علي فإن بيعتي لا تكون سرا، ولكن أخرج إلى المسجد، فمن شاء أن يبايعني بايعني).
فلما دخل المسجد دخل المهاجرون والأنصار فبايعوه، ثم بايعه الناس.[17]
وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما يرى أن أهل الأمصار كافة لهم حق في الشورى، كأهل المدينة، فقد قال يعاتب أباه: (ألم آمرك - أي أشير عليك - ألا تبايع الناس حتى يبعث إليك أهل كل مصر ببيعتهم؟).
وفي لفظ: (آمرتك ألاّ تبايع حتى يأتيك وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر).
فقال علي رضي الله عنه :(أما مبايعتي قبل مجيء بيعة الأمصار فخشيت أن يضيع هذا الأمر).[18]
وحتى معاوية رضي الله عنه كان يرى هذا الرأي، فقد خطب الناس بعد بيعته وتنازل الحسن له، واجتماع الأمة عليه عام الجماعة، فقال: (أيها الناس! إنكم جئتم فبايعتموني طائعين، ولو بايعتم عبدا حبشيا مجدعا لجئت حتى أبايعه معكم).[19]
وهذا مذهب ابن عمر، إذ كان يشترط للبيعة إجماع الأمة على الإمام، أو اجتماعها عليه، وكان يقول: (والله ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة، ولا أمنعها من جماعة).[20]
ولما وقع الخلاف بين علي ومعاوية لزم عبد الله بن عمر داره، ولم يبايع حتى كان عام الجماعة، وقد قال للحسين بن علي وعبد الله بن الزبير لما خرجا على يزيد (أذكركما الله إلا رجعتما فدخلتما في صالح ما يدخل فيه الناس، وتنظرا؛ فإن اجتمع الناس عليه لم تشذا، وإن افترقوا عليه كان الذي تريدان).[21]
فكان لا يبايع في زمن الفرقة حتى يجتمع المسلمون على رجل واحد، فإذا اجتمعوا عليه بايعه، وإلا لم يبايعه؛ ولهذا لم يبايع معاوية إلا بعد الصلح مع الحسن، ولم يبايع ابن الزبير بمكة لمنازعة مروان له.[22]
عن سعيد بن حرب العبدي قال: (كنت جليسا لعبد الله بن عمر في المسجد الحرام، زمن ابن الزبير، وفي طاعة ابن الزبير رؤوس الخوارج نافع بن الأزرق، وعطية بن الأسود، ونجدة، فبعثوا شابا إلى عبد الله بن عمر يسأله: ما يمنعك أن تبايع لعبد الله بن الزبير أمير المؤمنين؟ فرأيته حين مد يده وهي ترجف من الضعف فقال: والله ما كنت لأعطي بيعتي في فرقة ولا أمنعها من جماعة).[23]
وسأله عبد الله بن صفوان (يا أبا عبد الرحمن ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمنين يعني ابن الزبير؟ فقد بايع له أهل العروض، وأهل العراق، وعامة أهل الشام؟ فقال: والله لا أبايعكم وأنتم واضعوا سيوفكم على عواتقكم تصبب أيديكم من دماء المسلمين).[24]
هذا مع أن كل الأمصار بايعت ابن الزبير بالرضا والشورى إلا أهل الأردن، كما روى أحمد بن حنبل عن أبي بكر بن عياش قال: (ما بقي أرض إلا ملكها ابن الزبير إلا الأردن).[25]
وكذا لم يبايع ابن عمر ابن الزبير حين خالفه عبد الملك، حتى اجتمع الناس على عبد الملك، فكتب إليه: (أما بعد: {اللهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ}، وقد بلغني أن المسلمين اجتمعوا على البيعة لك، وقد دخلت فيما دخل فيه المسلمون. والسلام).[26]
فلم يبايع حتى اجتمع المسلمون على عبد الملك واستقر له الأمر.
وعن الحسن البصري قال: (لما كان من أمر الناس ما كان زمن الفتنة، أتوا ابن عمر، فقالوا: أنت سيد الناس، وابن سيدهم، والناس بك راضون، اخرج نبايعك!
فقال: لا والله لا يهراق في محجمة من دم ولا في سببي ما كان في روح).[27]
وعن نافع مولى بن عمر، قال: (قال أبو موسى يوم التحكيم: لا أرى لهذا الأمر غير عبد الله بن عمر.
فقال عمرو بن العاص لابن عمر: إنا نريد أن نبايعك، فهل لك أن تعطى مالا عظيما على أن تدع هذا الأمر لمن هو أحرص عليه منك؟
فغضب، وقام.
فأخذ ابن الزبير بطرف ثوبه، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنما قال: تعطي مالا على أن أبايعك.
فقال: والله لا أعطي عليها، ولا أُعطى، ولا أقبلها إلا عن رضا من المسلمين).[28]
قال الذهبي: (كاد أن تنعقد البيعة له يومئذ، مع وجود مثل الإمام علي وسعد بن أبي وقاص، ولو بويع، لما اختلف عليه اثنان، ولكن الله حماه، وخار له).[29]
وعن القاسم بن عبد الرحمن: (أنهم قالوا لابن عمر في الفتنة الأولى: ألا تخرج فتقاتل، فقال: قد قاتلت والأنصاب بين الركن والباب حتى نفاها الله عز وجل من أرض العرب، فأنا أكره أن أقاتل من يقول لا إله إلا الله، قالوا: والله ما رأيك ذلك، ولكنك أردت أن يفني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعضهم بعضا، حتى إذا لم يبق غيرك قيل بايعوا لعبد الله ابن عمر بإمارة المؤمنين! قال: والله ما ذلك في، ولكن إذا قلتم حي على الصلاة أجبتكم، حي على الفلاح أجبتكم، وإذا افترقتم لم أجامعكم، وإذا اجتمعتم لم أفارقكم).[30]
وقال مروان لابن عمر: (ألا تخرج إلى الشام فيبايعوك؟
قال: فكيف أصنع بأهل العراق؟
قال: تقاتلهم بأهل الشام!
قال: والله ما يسرني أن يبايعني الناس كلهم إلا أهل فدك، وأن أقاتلهم، فيقتل منهم رجل).[31]
وفي رواية: (قال مروان: تضربهم حتى يبايعوا! قال: والله ما أحب أنها دانت لي سبعين سنة، وأنه قتل في سببي رجل واحد).[32]
وعن ميمون بن مهران، قال: (دس معاوية عمرو بن العاص وهو يريد أن يعلم ما في نفس ابن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن! ما يمنعك أن تخرج تبايعك الناس، أنت صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن أمير المؤمنين، وأنت أحق الناس بهذا الأمر.
فقال: قد اجتمع الناس كلهم على ما تقول؟
قال: نعم، إلا نفر يسير.
قال: لو لم يبق إلا ثلاثة أعلاج بهجر لم يكن لي فيها حاجة.
قال: فعلم أنه لا يريد القتال.
فقال: هل لك أن تبايع من قد كاد الناس أن يجتمعوا عليه، ويكتب لك من الأرضين والأموال؟
فقال: أف لك! اخرج من عندي، إن ديني ليس بديناركم ولا درهمكم).[33]
والمراد بالناس في كل هذه النصوص عن ابن عمر هم المسلمون عامة وليس فقط أهل الحل والعقد!
فكل هذه الروايات تؤكد أن مذهب ابن عمر هو أن الخلافة والبيعة للإمام لا تجب ولا تثبت شرعا إلا في حالين، الأولى: إجماع الأمة على من تختاره بالشورى والرضا، وهي الطريقة المشروعة في حال الاختيار، ولا يقتصر فيها على أهل الحل والعقد، بل يرى ابن عمر وجوب إجماع الأمة كلها، حتى لا يشذ منهم أحد، ولو كان عبدا رقيقا من علوج هجر، من باب التأكيد على حق الأمة كلها بمجموعها، لا بآحادها.
الثانية: اجتماع الأمة على من غلب على الخلافة بالسيف، وهي طريقة محرمة ممنوعة بإجماع الصحابة ابتداء، وإنما جازت عند ابن عمر اضطرارا بشرطين، استقرار الأمر لمن غلب عليها، واجتماع الأمة عليه انتهاء، مراعاة للمصلحة الكلية، إذ الاجتماع عليه، واستقرار الأمر له، لا يحدث عادة إلا لتحقق الرضا والرغبة العامة بعدم الاقتتال، وهو ما يحدث عادة في ظل الظروف الاستثنائية وحال الاضطراب والحروب الداخلية، فيميل المجتمع بعدها لمن يحقق له الاستقرار والأمن، حين تبرز قيادة قادرة على جمع الكلمة ولو بالقوة، فاعتبر أهل هذا المذهب هذا المعنى رضا انتهاء لا ابتداء، وليس بالضرورة هو رضا بالخليفة المتغلب نفسه، بل رضا باجتماع الأمة، وترك النزاع، وتحقق السلم الداخلي.
وهو كذلك مذهب ابن عباس ومحمد بن الحنفية رضي الله عنهما، فقد أراد منهما ابن الزبير البيعة، حين بايعه أكثر أهل الأمصار (فأبيا يبايعان له، وقالا: حتى يجتمع لك البلاد، ويتسق لك الناس).[34]
وضيق ابن الزبير على محمد بن الحنفية بمكة ليبايعه، فأبى وقال (دعاني إلى البيعة، فقلت: إنما أنا من المسلمين، فإذا اجتمعوا عليك فأنا كأحدهم).[35]
وأرسل ابن الحنفية إلى ابن عمه عبد الله بن عباس يسأله ما يصنع مع ابن الزبير، فقال له: (لا تطعه، ولا نعمة عين، إلا ما قلت، ولا تزده عليه).[36]
وأراد عبد الملك بن مروان البيعة من ابن حنفية حين قدم الشام، فرد عليه برسالة (بسم الله الرحمن الرحيم من محمد بن علي إلى عبد الملك بن مروان سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فقد عرفت رأيي في هذا الأمر قديما، وإني لست أسفهه على أحد، والله لو اجتمعت هذه الأمة علي إلا أهل الزرقاء ما قاتلتهم أبدا، ولاعتزلتهم حتى يجتمعوا، نزلت مكة فرارا مما كان بالمدينة فجاورت ابن الزبير فأساء جواري، وأراد مني أن أبايعه فأبيت ذلك حتى يجتمع الناس عليك أو عليه، ثم أدخل فيما دخل فيه الناس فأكون كرجل منهم).[37]
وقال أيضا حين حج بأصحابه زمن ابن الزبير ووقف كل فريق بعرفة وحدهم، وسعى بينهم محمد بن سعيد بن جبير بالإصلاح لمنع الفتنة في الحج، فقال ابن الحنفية له: (ما أطلب هذا الأمر إلا أن لا يختلف علي اثنان).
وقال أيضا: (تعلمون أن رأيي لو اجتمع الناس علي كلهم إلا إنسان واحد لما قاتلته).[38]
وحتى ابن الزبير نفسه كان يحتج باجتماع أكثر الأمة عليه بالرضا، فكان يقول: (أنا رجل قد اجتمع علي وبايعني الناس، وهؤلاء أهل خلاف).[39]
وكل هذا الإصرار منهم على هذا المبدأ، ما كان له أن يكون، لولا وضوح أصل قيام الدولة في الإسلام في المدينة، وأنها قامت بعقد البيعة بين النبي صلى الله عليه وسلم والأنصار، بالرضا بلا إكراه ولا إجبار، فبدأ الإسلام دعوته في مكة بالحكمة والموعظة الحسنة، وانتهى في المدينة بدولة على الشورى والرضا، بلا إكراه في الدين، ولا إجبار على الطاعة.
وقد جاء ابن الحنفية بعض شيعته يسأله كيف المخرج من الفتن التي يتعرضون لها بسبب توليهم آل البيت وعداوتهم بني أمية، فقام ابن الحنفية خطيبا (فحمد الله، وأثنى عليه، وشهد أن لا إله إلا الله وشهد أن محمدا عبده ورسوله، ثم قال: أما بعد، فإياكم وهذه الأحاديث؛ فإنها عيب عليكم، وعليكم بكتاب الله تبارك وتعالى؛ فإنه به هدي أولكم، وبه يهدى آخركم، ولعمري لئن أوذيتم لقد أوذي من كان خيرا منكم!
أما قيلك: لقد هممت أن أذهب في الأرض قفرا فأعبد الله حتى ألقاه، وأجتنب أمور الناس لولا أن يخفى علي أمور آل محمد؟
فلا تفعل؛ فإن تلك البدعة الرهبانية، ولعمري لأمر آل محمد أبين من طلوع هذه الشمس.
وأما قيلك: لقد هممت أن أخرج مع أقوام شهادتنا وشهادتهم واحدة على أمرائنا - أي: الخوارج - فيخرجون، فيقاتلون، ونقيم؟
فلا تفعل، لا تفارق الأمة، اتق هؤلاء القوم بتقيتهم.
قال عمر يعني بني أمية: ولا تقاتل معهم.
قال: قلت وما تقيتهم؟
قال: تحضرهم وجهك عند دعوتهم، فيدفع الله بذلك عنك عن دمك ودينك، وتصيب من مال الله الذي أنت أحق به منهم.
قال: قلت: أرأيت إن أطاف بي قتال ليس لي منه بد؟
قال: تبايع بإحدى يديك الأخرى لله، وتقاتل لله؛ فإن الله سيدخل أقواما بسرائرهم الجنة، وسيدخل أقواما بسرائرهم النار، وإني أذكرك الله أن تبلغ عني ما لم تسمع مني، أو أن تقول علي ما لم أقل. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم).[40]
وفي رواية: (بايع بإحدى يديك على الأخرى، وقاتل على نيتك).[41]
وعن الحسن بن محمد بن علي قال: (لم يبايع أبي الحجاج، فلما قتل ابن الزبير بعث الحجاج إليه فجاء، فقال: قد قتل الله عدو الله، فقال ابن الحنفية: إذا بايع الناس بايعت... فلما اجتمع الناس على عبد الملك وبايع ابن عمر، قال ابن عمر لابن الحنفية: ما بقي شيء، فبايع، فكتب ابن الحنفية إلى عبد الملك: بسم الله الرحمن الرحيم. لعبد الله عبد الملك أمير المؤمنين من محمد بن علي أما بعد، فإني لما رأيت الأمة قد اختلفت اعتزلتهم، فلما أفضى هذا الأمر إليك، وبايعك الناس كنت كرجل منهم أدخل في صالح ما دخلوا فيه، فقد بايعتك وبايعت الحجاج لك، وبعثت إليك ببيعتي، ورأيت الناس قد اجتمعوا عليك).[42]
فهنا يحتج ابن الحنفية - وهو إمام أهل ذلك العصر وسيد أهل الحل والعقد آنذاك - بالأمة وبالناس ودخولهم في البيعة، إذ الأمر أمرهم، والحق لهم، فإن رضوا بمن غلب عليهم، فهذا شأنهم، فكما لهم الحق شرعا في مقاومته قبل تغلبه، فلهم الحق كذلك بقبول الأمر الواقع والرضا به، وترك القتال، فهم أعلم بمصالحهم!
وقبول رأي الأمة وشوراها ورضاها هو سبيل المؤمنين، فهذا حكم الله وشرعه، كما قال علي رضي الله عنه بعد أن جاءه المهاجرون والأنصار يريدون بيعته (لا أفعل إلا عن ملأ وشورى).[43]
ثم قال بعد أن بايعه الناس: (هذه بيعة عامة، فمن ردها رغب عن دين المسلمين واتبع غير سبيلهم).[44]
وقال أيضا: (إن هذا أمركم ليس لأحد فيه حق إلا من أمرتم، وقد افترقنا بالأمس على أمر، فإن شئتم قعدت لكم، وإلاّ فلا أجد على أحد).[45]
وهو كذلك مذهب الصحابي عامر بن الطفيل أبي واثلة، فقد أراد ابن الزبير أن يبايعه هو ومحمد بن الحنفية، في نفر من أشراف الكوفة، فأبوا وقالوا: (نحن قوم من أهل الكوفة اعتزلنا أمر الناس حين اختلفوا، وأتينا هذا الحرم لئلا نؤذي أحدا، ولا نؤذَى، فإذا اجتمعت الأمة على رجل دخلنا معهم فيما دخلوا فيه، وهذا مذهب صاحبنا، ونحن معه عليه وله صحبناه).
وكان محمد بن الحنفية يقول: (لو بايعتني الأمة كلها غير سعد مولى معاوية ما قبلتها).[46]
وهذا يؤكد أن مذهبه الدخول فيما دخلت فيه الأمة، فإن أجمعت على إمام بايعه، وإلا لم يبايع أحدا.
وليس اشتراط أهل هذا المذهب إجماع الناس أي أن يرضى به كل واحد من المسلمين، بل المقصود ألا يعترض عليه أحد، ولا ينازعه أحد منهم، فإذا رضي المجموع به، فقد أصبح إماما عامّا.
وقد كان هذا مذهب العامة من الصحابة الذين اعتزلوا الفتنة، ومذهب عامة أهل الأمصار، كما قال ميمون بن مهران: (قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أبا بكر ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد، ثم إن أبا بكر استخلف عمر، واستأمر المسلمين في ذلك فبايعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعون ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد، فلما حضر عمر الموت جعل الأمر إلى شورى ستة نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والحواريين ولم يأل النصيحة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين جهده، فاختار أهل الشورى عثمان بن عفان فبايعه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمعون والتابعون لهم بإحسان ورضوا به من غير قهر ولا اضطهاد... فلم يزل الناس على عهد أبي بكر وعمر مستقيمين، كلمتهم واحدة، ودعواهم جماعة، حتى قتل عثمان بن عفان...
وأما من لزم الجماعة فمنهم سعد بن أبي وقاص، وأبو أيوب الأنصاري، وعبد الله بن عمر، وأسامة بن زيد، وحبيب بن مسلمة الفهري، وصهيب بن سنان، ومحمد بن مسلمة في أكثر من عشرة آلاف من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتابعين لهم بإحسان قالوا جميعا: نتولى عثمان وعليا، ولا نتبرأ منهما... فهؤلاء هم الجماعة، قالوا: نلزم ما فارقنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نلقاه، ولا ندخل في شيء من الفتن.
قال ميمون: فصار الجماعة والفئة التي تدعي عليه الإسلام ما كان عليه سعد بن أبي وقاص وأصحابه الذين اعتزلوا الفتن، حتى أذهب الله الفرقة، وجمع الألفة، فدخلوا الجماعة، ولزموا الطاعة، وانقادوا).
قال الخطابي: (وممن اعتزل تلك الفتنة فلم يكن مع واحد من الفريقين حتى انجلت محمد بن مسلمة الأنصاري وعبد الله بن عمر بن الخطاب في عدة كثيرة من الصحابة).[47]
وكذا كان حال أكثر أهل الأمصار، فقد بعث معاوية مسلم بن عقبة المري إلى دومة الجندل، وكان أهلها قد امتنعوا من بيعة علي ومعاوية جميعًا - وكان الصحابة قد اجتمعوا فيها قبل ذلك للتحكيم بين علي ومعاوية - فدعاهم إلى طاعة معاوية وبيعته، فامتنعوا، وبلغ ذلك عليًا فسير مالك بن كعب الهمداني في جمع إلى دومة الجندل، فلم يشعر مسلم إلا وقد وافاه مالك، فاقتتلوا يوما ثم انصرف مسلم منهزما، وأقام مالك أياما يدعو أهل دومة الجندل إلى البيعة لعلي فلم يفعلوا، قالوا: (لا نبايع حتى يجتمع الناس على إمام). فانصرف وتركهم. [48]
فلم يقاتلهم علي على طاعته ولا على الدخول في بيعته!