عــــودة الـخــــلافـــة
(3)
ملحمة الثورة وحلم الخلافة
بقلم أ.د. حــاكم المطيري
المنسق العام لمؤتمر الأمة
8 ذو الحجة 1435هـ
2 أكتوبر 2014م
من قبس النبوة:
قال صلى الله عليه وسلم:
(تصالحون الروم صلحا آمنا، حتى تغزون أنتم وهم عدوا من ورائهم،
فتنصرون وتغنمون وتنصرفون، حتى تنزلوا بمرج ذي تلول فيقول قائل من الروم: غلب
الصليب، ويقول قائل من المسلمين: بل الله غلب، فيتداولانها بينهم، فيثور
المسلم إلى صليبهم وهو منهم غير بعيد فيدقه، ويثور الروم إلى كاسر صليبهم
فيقتلونه، ويثور المسلمون إلى أسلحتهم، فيقتتلون، فيكرم الله عز وجل تلك
العصابة من المسلمين بالشهادة، فيقول الروم لصاحب الروم: كفيناك جد العرب، فيغدرون،
فيجتمعون للملحمة، فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفا).[1]
وقال صلى الله عليه وسلم:
(إنما فارس نطحة أو نطحتان ثم لا فارس بعدها أبدا، والروم ذات
القرون، كلما ذهب قرن خلفهم قرن مكانه، أصحاب صخر وبحر، هيهات هيهات إلى آخر
الدهر، هم أصحابكم ما كان في العيش خير). [2]
إنها إذا الروم ذات
القرون وحروبها الصليبية من جديد كلما ذهب قرن خلفه قرن..
إنها الملاحم التي قضى
الله لها أن تكون، منذ أن أنزل الله النبأ العظيم، الذي هم فيه مختلفون..
وقدر الله الأزلي لهذه
الأمة بجهادهم، والتصدي لحملاتهم وأحلافهم وطغيانهم..
وتحمل العرب على وجه
الخصوص تبعات الثورة عليهم وتداعياتها..
إنها الثورة التي تشهدها
المنطقة العربية ومنذ زلزالها في تونس سنة 2010م وإلى اليوم، لتواجه الأمة بعدها
أخطر أنواع الصراع وتنازع الإرادات - سياسيا وعسكريا وإعلاميا وفكريا - بين إرادة
الأمة الداخلية التي تتطلع للاستقلال، وإرادة القوى الاستعمارية الصليبية الخارجية
التي تفرض عليها الاحتلال، لرسم مستقبل المنطقة من جديد، والتي افتتحها جورج بوش
الثاني في مطلع الألفية الثالثة بالإعلان عن طبيعتها وأنها (ستكون حربا صليبية) ليحتل بعدها وبتحالف
دولي أفغانستان والعراق، ويقتل ويهجر الملايين من المستضعفين، ولينشغل الكتاب
الليبراليون في تفسير وتبرير عبارة بوش (ستكون حربا صليبية) [3]!
وإذا كانت الثورة العربية
اليوم تعبر عن ميلاد روح جديد للأمة وشعوبها بعد قرن كامل من الاستعمار الغربي
الذي استلب حريتها وسيادتها من خلال صناعة دول وطنية ضعيفة، وأنظمة وظيفية وضيعة،
فإن تداعي الأمم الصليبية عليها لوأد ثورتها ومنع تحررها، يعبر عن مدى الفراغ
السياسي الذي فشلت هذه الدول الوطنية وأنظمتها الوظيفية في ملئه منذ قيامها، كما
كشفت ذلك بكل جلاء الحرب الإسرائيلية على غزة والحصار المصري لها، والحرب الروسية
الإيرانية على الشعب السوري والحصار الأمريكي المفروض عليه، والحرب الأمريكية
الإيرانية على الشعب العراقي، حتى شنت جيوش هذه الدول القطرية وأنظمتها الوظيفية
الحرب على الأمة وشعوبها وأصبحت أداة من أدوات الاحتلال الأجنبي لأوطانها!
ولا يمكن التنبؤ
بالمستقبل السياسي للعالم العربي بعد الثورة، إلا بعد معرفة كيف تشكل واقع المنطقة
العربية على ما هي عليه اليوم، والوقوف على تاريخها الذي بدأت منه خريطتها
السياسية الحالية، فإذا كان التاريخ يعيد نفسه، فالمستقبل هو ابن التاريخ، ووارث
صفاته، وحامل جيناته!
الحرب الصليبية على
الأمة وخلافتها:
لقد بدأت الحملة الصليبية
على العالم الإسلامي لاحتلاله، وإسقاط الخلافة كنظام سياسي يعبر عن وحدته وسيادته
ورسالته، منذ معاهدة كارلوفجه سنة 1699م، بعد هزيمة الجيش العثماني أمام تحالف
العصبة الصليبية بقيادة النمسا وروسيا، ثم مؤتمر برلين سنة 1878م، والاتفاق الأوربي
على القضاء على الخلافة العثمانية، وتقاسم أقاليمها في آسيا وأفريقيا، ثم اتفاقية
سايكس بيكو سنة 1915م، التي كانت حجر الأساس لتقسيم المنطقة على ما هي عليه اليوم،
بعد بنائها على أساس (دول قطرية وظيفية - وأنظمة علمانية غربية - وتبعية سياسية
وعسكرية)، ثم كانت معاهدة الصلح في لوزون سنة 1923م وشروط كروزون التي فرضها
الحلفاء الأوربيون على تركيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ومنها إلغاء
الخلافة وإقصاء الشريعة وقطع العلاقة بالأقاليم العثمانية التي احتلها الحلفاء،
وقد قام أتاتورك بتنفيذ شروط الاتفاقية، وكان الإعلان عن إلغاء الخلافة رسميا سنة
1924م، ومنذ تلك اللحظة فرض الاستعمار الغربي المحظورات الثلاث على العالم
الإسلامي كله (فلا خلافة تحفظ للأمة وحدتها - ولا شريعة تعبر عن دينها وهويتها -
ولا جهاد يحمي سيادتها)!
وقد صارت الدساتير في
الدول الوطنية الوظيفية التي أقامها الاستعمار على أنقاض الخلافة تنص على منع
الحرب الهجومية، وحتى الحرب الدفاعية لا يحق لها استخدامها إلا حين يسمح الاستعمار
لها بالدفاع عن نفسها!
لقد كان الإعلان عن إلغاء
الخلافة، تتويجا لنصر تاريخي غير مسبوق للحملات الصليبية على العالم الإسلامي، حيث
استطاعت بعد صراع طويل مع الإسلام لمدة ألف وثلاثمائة سنة تحقيق أهم أهدافها، وكان
أول من عبر عن تلك الهزيمة فكريا وثقافيا علي عبد الرازق سنة 1925م، في كتابه
(الإسلام ونظام الحكم)، الذي أثار الشبهات - بوحي بريطاني حيث كانت مصر حينها تحت
الحماية - حول مشروعية (الخلافة)، ومشروعية (القضاء الشرعي)، ومشروعية (الجهاد)!
وقد تصدى للرد على شبهاته
آنذاك علماء الأمة كشيخ الأزهر محمد الخضر حسين، وشيخ الإسلام مصطفى صبري آخر شيوخ
الإسلام في تركيا، وكان من أبرز من رد عليه ونقض شبهاته حول (الخلافة) الشيخ عبد
الرزاق السنهوري أستاذ القانونيين العرب المعاصرين في رسالة الدكتوراة (فقه
الخلافة) المنشورة بالفرنسية سنة 1926م، حيث يقول: (نحن نعتقد بأن الدليل
العقلي البحت يستوجب وجود سلطة عامة أيا كان شكلها، ولكن الدليل الشرعي هو الذي
يستوجب أن تكون هذه الحكومة قد توفرت فيها الخصائص المميزة لنظام الخلافة، والتي
باجتماعها تكون هذه الحكومة خلافة شرعية).[4]
ونعى السنهوري على علي
عبد الرازق خلطه بين الخلافة كنظام سياسي أجمع المسلمون عليه بعد النبوة، والخلاف
بين الصحابة في اختيار الخليفة الذي يتولى رئاسة هذا النظام، حيث قال: (فهو يخلط بين وجود
(نظام الخلافة)، وبين اختيار (الخليفة)، والمسلمون لم يخلطوا قط بين الأمرين كما
فعل هو، فمن ناحية مبدأ وجوب نظام الخلافة، فقد أجمعوا عليه، منذ وقف أبو بكر فيهم
خطيبا معلنا ضرورة إقامة الخلافة لضمان تنفيذ الشريعة، وأقره جميع الصحابة على
ذلك، وأجمع عليه المسلمون منذ ذلك الحين... فمن الخطأ أن يقال بأن المسلمين لم
يجمعوا قط على وجوب الخلافة لمجرد أنهم اختلفوا على الأشخاص الذين يتولون هذا
المنصب، فالخلاف هنا كان منصبا على الأشخاص لا على المبدأ ذاته).[5]
كما وصف السنهوري دراسة
علي عبد الرازق بأنها (سطحية)[6]، وخلص إلى القول: (إن النبي صلى الله عليه
وسلم قد وضع لحكومته أصلح النظم الممكنة في زمنه، وأقام دولة لا تقل في نظمها عن
الدولة الرومانية في بدايتها، فالسلطات التي باشرها النبي كانت أنظمة مدنية حقيقية
كأي حكومة أخرى، لقد كان حاكما دنيويا مدنيا، إلى جانب صفته كنبي مرسل).[7]
لقد أصبح هاجس
العالم الإسلامي ومنذ إلغاء الخلافة هو كيف ينهض من كبوته الحضارية، وأزمته
السياسية، ليستعيد حريته وسيادته وخلافته، وحضوره المؤثر من جديد في الساحة
الدولية، من خلال استلهام تاريخه وقيمه المشتركة وإعادة صناعة واقعه كما يريد هو
لا كما أراد الاستعمار، وكان حلم (عودة الخلافة) الأساس الذي يرتكز عليه هذا
الطموح، وهو ما انتهى إليه عبد الرزاق السنهوري في توصياته في آخر كتابه (فقه
الخلافة)، حيث دعا إلى ضرورة استعادة نظام الخلافة من جديد بما يتناسب مع تطور
النظم السياسية من جهة، وضرورات العصر واحتياجاته من جهة أخرى، لتحقيق الوحدة بين
دول العالم الإسلامي، وهو ما عبر عنه المفكر الجزائري مالك بن نبي بقوله: (ويجب من الآن أن نعمل
على ظهور سلطة روحية تجمع الرأي وتوحد الصف بالنسبة للمسلمين في العالم كله، وإننا
يجب من الآن أن نعيد النظر في قضية (الخلافة الإسلامية)، فقد باتت ضرورة عالمية
وحيوية.. وليكن لها أي اسم، ولكن ليكن هدفها توحيد الصف الإسلامي والرأي الإسلامي
في كل مكان على ظهر الأرض، وإن كنت أتفاءل بكلمة "مجلس الخلافة" وليشترك
فيها كل العالم الإسلامي، ولكن لنبدأ في إعلان وجودها من الآن... وقد يظن المعارض
لنا أنه يستطيع إفحامنا، متخذًا من ظروف العصر وتشابك مشكلاته، وظهور أنماط الحكم
الجديدة في عالم اليوم، يتخذ من كل هذا ذريعة لإسكات الصوت الإسلامي المطالب
بإحياء منصب الخلافة من جديد، وأما هذه الحجة التي تبدو في مظاهرها وجيهة، لا
تنقصنا الأدلة على بطلانها من أساسها، وهي: كانت الخلافة نظامًا حيًا واقعًا لم
يختف من الحياة السياسية إلا منذ نحو نصف قرن فقط، وكان يضم شعوبًا متعددة الأجناس
والألوان والألسنة والقوميات في عصور لم تتميز بما يمتاز به عصرنا الحاضر من وسائل
الاتصال التي جعلت العالم كله وكأنه رقعة واحدة متصلة الأجزاء والأركان).[8]
إنه حلم استعادة الأمة
لوحدتها، وعودة الاتحاد الإسلامي بين شعوبها، الذي كان من أبرز معالم الخلافة
كنظام سياسي، كما عبر عن ذلك المفكر المصري الأستاذ مصطفى حلمي بقوله (الإسلام نظام عالمي،
قال تعالى: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ
فَاتَّقُونِ} [9].. وإن حركة إلغاء
الخلافة كانت مضادة للتصور الإسلامي ذاته، ومضادة في الوقت نفسه لحركة تطلع الشعوب
إلى الوحدة، وها نحن نرى أن أهل أوربا قد لفظوا القومية وبدأوا في تجاوزها - إذ
تسعى للوحدة في خطوات تدريجية كالسوق الأوربية المشتركة والأحلاف السياسية
والعسكرية، وأيضًا فإن فكرة العالمية بارزة في كلا النظامين: الأمريكي والروسي،
فلِمَ يراد لنا وحدنا أن ينفصل بعضنا عن بعض متفرقين منعزلين؟ لا إجابة مقنعة إلا
الرغبة في استبعادنا ثم القضاء علينا فرادى).[10]
لقد سقطت الخلافة
العثمانية - مع ضعفها وانحرافها قبيل سقوطها - فانحل بعدها الإسلام الدين والهوية،
والإسلام الأمة والوطن، والإسلام السلطة والدولة، والإسلام الشريعة والنظام، ليعيش
المسلمون حالة من الاغتراب السياسي والفكري والثقافي والتشريعي غير مسبوقة في
تاريخهم كله، لتعصف بهم الأحداث السياسية والمحدثات الأيديولوجية، التي فرضتها
الحملة الصليبية، فكان البديل العلمانية بكل تجلياتها القومية والوطنية تارة،
والشيوعية والاشتراكية تارة، والليبرالية والرأسمالية تارة أخرى، التي اجتاحت
العالم العربي والإسلامي، وقامت هنا، وأقيمت هناك، دويلات الطوائف الجمهورية
والملكية والعسكرية، فما ازدادت الأمة معها إلا ضعفا وتشرذما وتخلفا واغترابا!
الإعداد البريطاني
لتقسيم العالم الإسلامي بعد إسقاط الخلافة:
لقد بدأ الضباط السياسيون
البريطانيون بإعداد خرائط المنطقة منذ احتلالهم مصر سنة 1882م، وبتهيئة المنطقة
للتحولات الخطيرة التي ستحدث فيها بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، والتي طالب
مارك سايكس من تشرشل أن يكون له يد في صناعتها، ليشتغل ضد الدولة العثمانية، حيث
لديه القدرة - كما يقول عن نفسه - على (أن ينشئ فرقة من أوغاد
أهل البلاد، وأن يربح النبلاء إلى جانبه، وأن يقوم بأي عمل غريب آخر)، كما جاء في رسالته
لتشرشل في صيف 1914م، الذي وافق على ضمه إلى لجنة (دو بونسين) تلك اللجنة التي
ستقرر (الأسماء التي ستطلقها على مختلف المناطق التي قد ترغب في تقسيم
الدولة العثمانية إليها، دون حاجة للتقيد بخطوط التقسيمات السياسية التي كانت
قائمة في الدولة العثمانية، وأن لها الحرية في أن تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط
بالشكل الذي يرونه مناسبا، وقد اقترحت اللجنة بقيادة مارك سايكس، إنشاء خمس ولايات
متمتعة بالحكم الذاتي، وهي: الأناضول، سوريا، وفلسطين، والجزيرة، والعراق...
بالإضافة إلى نقل الخلافة جنوبا... وقد كتب سايكس إلى صديقه الحميم عضو مجلس
العموم أوبري هيربرت قائلا: يجب أن تزول تركيا من الوجود، أزمير ستكون يونانية،
وأضاليا إيطالية، وسوريا فرنسية، وفلسطين والعراق بريطانية، وما عدا ذلك بما فيها
القسطنطينية روسية، وسوف أنشد (لنسبحك يا الله) في كنيسة القديسة صوفيا، وسأترنم
في مسجد عمر (الآن أيها السيد تطلق سبيل عبدك فيذهب بسلام) سننشدها بلغة أهل ويلز،
وباللغة البولونية، وباللغة الأرمنية، تكريما للأمم الصغيرة)[11]!
وقد كان لبريطانيا ما
أرادت فإذا الطغاة الذين صنعهم الاحتلال يعبّدون الأمة - تحت ظل الاحتلال الأجنبي
- لأهوائهم السياسية، وشهواتهم الشخصية، من أقصى اليمين الليبرالي إلى أقصى اليسار
الشيوعي، وما بينهما من عبيد الاستعمار، وسخرة جيوشه، وسدنة عروشه، ليتحقق فيها
وفيهم ما جاء في الحديث الصحيح حين حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من (دعاة على أبواب جهنم من
أطاعهم قذفوه فيها، وهم من بني جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا)، وحين جعل المخرج من
هذه الفتن العامة والعصمة منها وحدة الأمة ووحدة الخلافة، فقال صلى الله عليه وسلم
لمن سأله عن المخرج من هذه الفتن العامة: (الزم جماعة المسلمين وإمامهم) وفي رواية: (إن كان لله في الأرض
خليفة فالزمه)! [12]
الخلافة التي ستعود:
إنها العصمة من الفتن
العامة بالوحدة والجماعة {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ
تَفَرَّقُواْ}، وبالخلافة والإمامة، بمفاهيمها الشرعية وحقيقتها التاريخية، بكل ما
تعبر عنه الخلافة كنظام سياسي من وحدة للأمة وشعوبها (الزم جماعة المسلمين)، وما تقتضيه من اتحاد
دولها وحكوماتها (وإمامهم)، لما فيه من تحقق
سيادتها وحريتها، وإقامة نظامها وشريعتها!
إنها الخلافة كما عبرت عن
الإسلام وعن الأمة التي تؤمن به، والتي اشتركت في حمله، والاصطباغ بصبغته، حتى
صهرها بكل قومياتها وثقافاتها لتصبح أمة واحدة، مدة ثلاثة عشر قرنا، فسادت به
العالم، وحافظت على وجودها وهويتها ورسالتها!
إنها الخلافة كما عرفها
المسلمون فقها وشرعا، وعاشوها تاريخا وواقعا، لا كما أرادتها بريطانيا بالأمس
خلافة صورية في الحجاز، أو كما تريدها أمريكا اليوم خلافة قطرية دموية همجية في
العراق!
إنه لا خلافة شرعا بلا
رئاسة عامة واقعية على الأمة كلها أو أكثرها، لا على جزء منها فقط، وفي حال
استقلال الأمة واستخلافها، لا في ظل احتلال العدو لها واستضعافها، كما قال الجويني
في تعريفها بأنها (رئاسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالخاصة
والعامة، في مهمات الدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعية، وإقامة
الدعوة بالحجة والسيف، وكف الحيف والخيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين،
واستيفاء الحقوق من الممتنعين، وإيفاؤها على المستحقين). [13]
إنها الخلافة التي تتطلع
لعودتها الأمة كما بشر بها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (تكون النبوة فيكم ما
شاء الله لها أن تكون، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم يكون ملكا عضوضا، ثم
ملكا جبريا، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة). [14]
لقد انتهى الملك الجبري
وهو اليوم يلفظ آخر أنفاسه، ولن تعود الخلافة إلا كما بشر بها النبي صلى الله عليه
وسلم خلافة راشدة تختارها الأمة - بعد استخلاف الله لها في الأرض - بالشورى والرضا
كما اختار الصحابة رضي الله عنهم الخلفاء الراشدين، وكما أمر الله ورسوله
بالالتزام بسننهم الراشدة كما في الحديث: (تركتكم على البيضاء
ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ وإياكم
ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة وإن كل ضلالة في النار). [15]
لقد أزف أوان عودة
الخلافة الراشدة التي ستقيمها الأمة بعد نهضتها وتحررها ووحدتها بإرادتها وبالشورى
والرضا بلا سيف ولا عسف، إذ ليس بعد الملك العضوض والملك الجبري والطاغوت، إلا
خلافة رشد كخلافة أبي بكر وعمر، لا خلافة إجرام وقتل وقطع لرؤوس المجاهدين، وسفك
لدماء المسلمين في العراق والشام، بدعوى الطاعة لخلافة موهومة، ودولة مزعومة،
والعراق كله ما يزال تحت الاحتلال الأمريكي!
إنها ستعود كما بشر بذلك
النبي صلى الله عليه وسلم خلافة رشد تشارك الأمة في اختيارها عبر من يمثلها من أهل
الحل والعقد من زعمائها ورؤسائها وعلمائها من جميع أقطارها بعد استقلالها، والتي
أدرك مضامينها وعرف حقائقها حتى غير المسلمين، كما قال المؤرخ الأمريكي لوثروب
ستودارد (كانت الخلافة في الحجاز شورية قائمة على قواعد الإسلام الصحيحة،
فالأمة هي التي اختارت أبا بكر وعمر، وولت كلا منهما الخلافة، وكلاهما كان ينزل
على رأي الأمة وحكمها، وذلك على مقتضى الشريعة التي أوحى الله بها إلى نبيه محمد
وهي القرآن الكريم). [16]
وكما قال عنها أمير
البيان شكيب أرسلان (الخلافة في الإسلام ليست بملك ولا سلطنة، وإنما
هي رعاية عامة للأمة لإقامتها على الشرع الحنيف، وردع القوي عن الضعيف، في الداخل،
وصيانة الإسلام ودفع العدوان عليه من الخارج، وهي لا تنعقد إلا بإرادة الأمة،
والسلطان الذي يؤتاه صاحب الخلافة هو من الأمة، لا سلطان له عليها إلا منها، وقد
فهم لوثروب ستودارد هذا الباب حق الفهم، بخلاف كثير من الأوربيين الذين يتبجحون
بزعمهم أن مبدأ كون السلطان من الأمة إنما هو من الأوضاع الغربية الأوربية، ومن
أغرب الأمور أن كثيرا من المسلمين يتابعون الإفرنج في هذا الوهم، ولو تأملوا ما
كان عليه الخلفاء الراشدون الأربعة، وهو أشد صور الحكم الإسلامي انطباقا على
الشرع، لرأوه أمرا شعبيا محضا، وديمقراطيا بحتا، وأبعد شيء عن السلطان المطلق). [17]
استغلال الغرب الصليبي
للشعارات الإسلامية في تنفيذ مخططاته:
وإذا كانت بريطانيا قد
استغلت قضية (الخلافة العربية) والشريف حسين لتسقط بها الخلافة العثمانية، ولتصبح
تركيا العدو الأول للعرب، كما أرادت الحملة الصليبية آنذاك لشق صف الأمة الواحدة،
حيث قام الشريف حسين بن علي - وهو أول خليفة عربي في العصر الحديث - وبتحريض
بريطاني، بإعلان الثورة والحرب على تركيا وليس على بريطانيا وفرنسا!
وكذا استغلت بريطانيا
قضية (الجهاد) من خلال تحريض ابن سعود بإعلان الجهاد على تركيا وليس على بريطانيا
وفرنسا! فإن أمريكا اليوم - وبعد فشلها في القضاء على الثورة العربية في سوريا
والعراق ومصر وليبيا بسبب وقوف تركيا سياسيا وإنسانيا مع الشعوب العربية الثائرة
من أجل الحرية - ستواجه تركيا الصاعدة، والثورة العربية الواعدة، بتوظيف مشروع
الخلافة والجهاد وتنظيم الدولة، تماما كما فعلت بريطانيا مع تركيا من قبل!
لقد استطاعت بريطانيا
بخبرتها الطويلة في المنطقة توظيف قضية (الخلافة) دينيا وسياسيا، واستثمارها
للقضاء على الخلافة العثمانية، وتقسيم العالم الإسلامي، واخترعت فكرة نقل الخلافة
إلى العرب، وإلى من تتوافر فيه شروطها حسب الفقه الإسلامي، وهو أمير مكة الشريف
حسين بن علي، بدلا من السلطان العثماني، وقد كان لها ما أرادت فأسقطت الخلافة
العثمانية بمشروع الخلافة العربية، ثم أسقطت مشروع الخلافة العربية بالدويلات
والحكومات الوطنية القطرية![18]
ومنذ تلك اللحظة بات
موضوع (الخلافة) و(السلطة) و(الدولة) في العالم الإسلامي من اختصاص دوائر
الاستخبارات الغربية العسكرية والسياسية، ومن أخطر مسئولياتها على الإطلاق، خاصة
في المنطقة العربية، وأصبح من المحظورات على الأمة وشعوبها أن تتدخل في هذا الشأن
الذي خرج بقوة الاحتلال من يدها، وصار من صلاحية القوى الدولية الاستعمارية، فهي
التي تقيم الدول، وترسم الحدود، وتختار الحكومات!
وهو ما عبر عنه بكل وضوح
البيان البريطاني الفرنسي المشترك سنة 9 /11 /1918م الموجه للشعوب العربية حيث جاء
فيه: (إن الغاية التي من أجلها خاضت فرنسا وإنجلترا غمار الحرب في الشرق،
هي تحرير الشعوب التي رزحت تحت مظالم الأتراك تحريرا تاما نهائيا، وإقامة
حكومات قومية تستمد سلطتها من اختيار السكان لها اختيارا حرا، ولتحقيق ذلك
اتفقت الدولتان فرنسا وبريطانيا على أن تعينا على إقامة حكومات وطنية في كل من
سوريا والعراق، البلدين الذين حررهما الحلفاء، يختارهما السكان، وأن تضمنا
عدلا يساوي بين الجميع، ويسهل تنمية البلاد اقتصاديا، ونشر العلم)[19].
لقد صار من مهام الحملة
الصليبية البريطانية الفرنسية في العالم العربي (إقامة حكومات قومية
ووطنية)، وهو تماما ما يجري اليوم بعد الثورة العربية حين ظنت شعوب المنطقة
أن من حقها - ككل شعوب العالم - اختيار حكوماتها، وإسقاط أنظمتها وطغاتها، فإذا هي
تواجه أمريكا وروسيا ومنظومة دولية، وحملة صليبية، وانقلابات عسكرية، وتنظيمات
إرهابية، وتدخل مباشر لوأد حريتها، واستلاب إرادتها، وبالذرائع نفسها التي جاءت في
البيان الفرنسي البريطاني قبل مئة عام، فالهدف من التدخل الأمريكي الروسي اليوم،
ومن ومؤتمر جنيف (هو ضمان إقامة حكومات ديمقراطية تختارها الشعوب
بإشراف الاحتلال الأمريكي الروسي)!
المغرب العربي
والاحتلال الفرنسي:
وكما رسمت بريطانيا حدود
المشرق العربي، فقد سبقتها فرنسا في رسم حدود المغرب، منذ احتلالها الجزائر سنة
1830م، وقد كانت ثورة السيد الأمير عبد القادر بن محيي الدين الإدريسي الحسني في
الجزائر على الاحتلال الفرنسي، وتأسيسه الإمارة فيها، بعد انتخابه من علمائها
وقبائلها وبيعتهم له سنة 1832م، أول تجربة للخروج عن هذه الوصاية الصليبية على
الأمة وشعوبها في اختيار حكوماتها منذ دخول الاحتلال الغربي للمنطقة، وقد نجح
الأمير عبد القادر في توحيد الشعب الجزائري في حرب تحرير وجهاد لفرنسا، حتى تم
التحالف والتآمر عليه بين فرنسا وسلطان المغرب، فاستسلم للفرنسيين بعد فرض الحصار
عليه سنة 1847م!
وها هو المشهد اليوم
يتكرر بكل تفاصيله بعد قرن ونصف في سوريا والعراق بالتحالف الأمريكي الخليجي لحصار
الثورة وإخضاع الأمة وشعوبها لشروط الحملة الصليبية!
وكان الأمير عبد القادر
الجزائري قد أرسل رسائله لعلماء عصره يستفتيهم فيما جرى بينه وبين سلطان المغرب
الذي تحالف مع فرنسا ضد ثورة الشعب الجزائري عليها، وجاء فيها[20]:
(من خديم المجاهدين
والعلماء والصالحين عبد القادر بن محيي الدين إلى سادتنا العلماء الأبرار، الأفاضل
الأخيار، رضي الله عنكم وأرضاكم، وجعل الجنة منزلكم ومثواكم، ما جوابكم عما فعله
بنا سلطان المغرب من المنكرات الشرعية التي لا تتوقع من مطلق الناس، فضلا عن
أعيانهم! فأمعنوا نظركم فيها شافيا، وأجيبونا جوابا كافيا، خاليا عن الخلاف ليخلو
قلب سامعه عن الاعتساف، وذلك أنه لما استولى عدو الله الفرانسيس (فرنسا) على
الجزائر، وخلت الإيالة عن الأمير، وانقطعت السبل، وعطلت الأسباب، وطالت شوكة
الكافر، اجتمع ذوو الرأي وتقاضوا على أن يقدموا رجلا من ساداتهم، يؤمن السبل، ويكف
الظالم، ويجمع المسلمين للجهاد، لئلا يبقى الكافر في راحة فتمتد يده، فاختاروا
رجلا منهم، وقدموه لذلك فتقدم، وعمل جهده فيما قدموه له، فتأمنت السبل بحمد الله،
وتيسرت الأسباب بعونه، وجاهد في سبيله، وذلك من لدن سنة الستة والأربعين إلى سنة
ثلاث وستين هذه، ولن نزال كذلك إن شاء الله، فإذا بسلطان المغرب فعل بنا الأفعال
التي تقوي حزب الكافر على الإسلام، وتضعفنا وأضر بنا الضرر الكثير، ولم يلتفت إلى
قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه)، ولا
إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمن لأخيه كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضا)
ولا إلى قوله عليه الصلاة والسلام: (المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم
وهم يد على من سواهم)، إلى غير ذلك من الأحاديث الشريفة، فأول ما فعل بنا:
1- أننا لما كنا حاصرنا
الكافر في جميع ثغوره نحوا من ثلاث سنين، وقطعنا عليه السبل ومادة البر من الحب
والحيوان وغيرهما تضييقا عليه وتضعيفا له، خصوصا من جهة الحيوان؛ لأن قانون عسكره
أنهم إذا لم يأكلوا اللحم يومين، أو ثلاثة يفرون عن طاغيتهم ولا يقاتلون ولا
يلامون حتى بلغت قيمة الثور عندهم مائة ريال دورو، فإذا بالسلطان المذكور أمدهم
وهم في الضيق الشديد بألوف من البقر وغيرها؟
2- الثاني أنه غصب من
عاملنا ألفا وخمسمائة بندقة إنجليزية؟
3- الثالث أنه غصب من
وكيلنا أربعمائة كسوة جوخ أعددناها للمجاهدين؟
4- الرابع أن بعض
المحبين في الله ورسوله من رعيته قطع قطعة من ماله الخاص به ليعين به المجاهدين،
فإذا بالسلطان المذكور زجره ونزعها منه، وقال أنا أحق بها والحال أنه لم يجاهد؟
وأيضا أن بعض القبائل من رعيته عزموا على إعانتنا بأنفسهم في سبيل الله فمنعهم من
ذلك؟ وأعاننا آخر من رعيته بسيوف في سبيل الله فحبسه إلى الآن زجرا له وردعا
لغيره؟[21]
5- الخامس أنه لما وقعت
لهذا السلطان مقاتلته مع الفرانسيس أياما قلائل ثم تصالحا واشترط عليه الفرانسيس
أن لا يتم الصلح بينهما إلا إذا حل أمر هذه العصابة المحمدية المجاهدين ويقبض
رئيسهم، فإما أن يحبسه طول عمره، وإما أن يقتله، وإما أن يمكنه من يد الفرانسيس،
أو يجليه من الأرض، فأجابه السلطان إلى ذلك كله، ثم أمرني بترك الجهاد فأبيت؛ لأنه
ليس له علي ولاية، ولا أنا من رعيته، ثم قطع عن المجاهدين الكيل حتى هام جوعا من
لم يجد صبرا، وأسقط من المجاهدين ركنا، ثم أخذ يسعى في قبضي فحفظني الله منه، ولو
ظفر بي لقتلني، أو لفعل بي ما اشترطه عليه الفرانسيس، ثم أمر بعض القبائل من رعيته
أن يقتلونا ويأخذوا أموالنا وكأنه استحل ذلك فأبوا جزاهم الله خيرا؟!
فإذا تصورتم أيها
السادات هذه الأفعال التي تتفطر منها الأكباد، وتتأثر عند سماعها العباد: فهل يحرم
عليه ذلك؟ ويضمن ما غصب؟ ويُقتل بنا إن قَتلنا؟
حسبما نص عليه المعيار
في أول باب الجهاد وزبدته "أنه إذا نزل الكافر بساحة المسلمين وقال لهم: إن
لم تعطوني فلانا، أو ماله، أو يقتل، استأصلتكم، فإنه لا يسعهم ذلك، ولا يعطوه شيئا
مما طلب، ولو خافوا استئصاله، فإن أعطى ماله ضمنه الآمر به" ونقل ذلك عن نصوص
المالكية والشافعية.
وكما نص على ذلك أيضا
الشيخ ميارة في شرح لامية الزقاق في آخر باب الإمامة الكبرى، ونصه قال ابن رشد
"إذا أمر الإمام بعض أعوانه بقتل رجل ظلما ففعل فلا خلاف أنهما يقتلان
معا" نقله المواق عند قول خليل في باب الجنايات كمكره ومكره،"فإن فعل
المأمور ذلك خوفا على نفسه، فإنه لا يعذر بذلك".
قال ابن رشد أيضا:
" الإكراه على الأفعال إن كان يتعلق به حق لمخلوق كالقتل والغصب فلا خلاف أن
الإكراه غير نافع" نقله أيضا عند قوله في الطلاق "لا قتل مسلم
وقطعه".
ونقله الحطاب في هذا
المحل الثاني ونصه في آخر (معين الحكام): " ومن هدد بقتل، أو غيره على أن
يقتل رجلا، أو يقطع يده، أو يأخذ ماله، أو يزني بامرأة، أو يبيع متاع رجل فلا يسعه
ذلك، وإن علم أنه إن عصى وقع به ذلك، فإن فعل فعليه القود ويغرم ما أتلف ويحد إن
زنى ويضرب إن ضرب ويأثم" ا. هـ.
وهل المهادنة التي
أوقعها فاسدة، ومنقوضة؛ لأن الجهاد تعين عليه قبل أن يفجأه العدو بسبب قربنا منه
وعجزنا عن الجهاد، ولأن منفعتها عائدة على الكفار، ووبالها على الإسلام كما هو
مشاهد؟ حسبما نص على ذلك في المعيار أيضا في باب الجهاد في الجواب عن سؤال
التلمساني وحاصله "أن الخليفة أوقع الصلح مع النصارى والمسلمون لا يرون إلا
الجهاد؟"
فأجابه بما حاصله
"أن مهادنته منقوضة وفعله مردود" ونقل على ذلك نصوصا.
وهل يحمل بيع البقر لهم
في وقت حصرهم المسلمون على حرمة بيع الخيل لهم والشعير وآلة الحرب أم لا؟
وعلى أنه لم تسعه
مخالفة الفرنسيس فيما شرطه عليه من قتلنا وتفريق جماعتنا، وما ينشأ عنه من ترك
الجهاد بالكلية، واقتحم الأمر وشق العصا، وجاءنا بالجيش ليقتلنا، ويأخذ أموالنا،
ويفرق جمعنا، فهل يجوز لنا أن نقاتله؟
بمقتضى ما نقله الشيخ
ميارة أيضا - في شرحه المذكور في الباب ونصه "انظر إذا خلا الوقت من الأمير
وأجمع الناس رأيهم على بعض كبراء الوقت، ليمهد سبيلهم، ويرد قويهم عن ضعيفهم، فقام
بذلك قدر جهده وطاقته، فالظاهر أن القيام عليه لا يجوز، والمتعرض له يريد شق عصا
الإسلام وتفريق جماعتهم" - أم لا يجوز لنا ذلك ونترك الجهاد؟
ليس إلا جوابكم تؤجرون
وتحمدون وعليكم السلام في البدء والختام والحمد لله رب العالمين..
قال الشيخ عليش : فأجبت
بما نصه [22]:
الحمد لله رب العالمين،
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله المهتدين:
نعم يحرم على السلطان
المذكور أصلح الله أحواله جميع ذلك الذي ذكرتم حرمة معلومة من الدين بالضرورة لا
يشك فيها من في قلبه مثقال ذرة من الإيمان!
وما كان يخطر ببالنا أن
يصدر من مولانا السلطان عبد الرحمن وفقه الله تعالى مثل هذه الأمور مع مثلكم، فإنا
لله وإنا إليه راجعون، وما قدر الله سبحانه وتعالى لا بد أن يكون، خصوصا، وأنتم
جسر بينه وبين عدوه، وإن كنا في اطمئنان على إقليمه من استيلاء عدو الله عليه..
وكذا ضمانه لما غصب
ضروري لا يشك فيه مسلم، وكذا استحقاقه القصاص منه بقتله مؤمنا عمدا عدوانا مباشرة
أو بإكراه غيره عليه معلوم من الدين بالضرورة!
والنصوص التي ذكرتم
صحيحة صريحة لا تقبل التأويل، والمهادنة التي أوقعها فاسدة منقوضة، وما نسبتم للمعيار هو
كذلك فيه "وبيع البقر وسائر الحيوان والطعام والعروض" وكل ما ينتفعون به
في النازلة المذكورة حرام قطعا إجماعا ضرورة، لا يشك فيه مسلم، سواء في حال حصر
المسلمين إياهم، وفي حال عدمه؛ إذ قتالهم فرض عين على كل من فيه قدرة عليه، ولو من
النساء والصبيان من أهل تلك البلاد، ومن قرب منها، كأهل عمل السلطان المذكور وفقه
الله تعالى - أي أهل المغرب - فكيف يتخيل مسلم أن معاملتهم بما ينتفعون به ويتقوون
به على البقاء في أرض الإسلام جائزة مع ذلك؟!
قال الحطاب: "وأما
بيع الطعام يعني للحربيين فقال ابن يونس عن ابن حبيب يجوز في الهدنة، وأما من غير
الهدنة فلا، قاله ابن الماجشون" ا هـ .
وظاهر أن هذا فيما
يذهبون به لبلادهم فيما يستعينون به على البقاء في أرض الإسلام، وقتال أهله أولى
بالمنع، وإن اقتحم الأمر وشق العصا وأتاكم بجيشه وجب عليكم قتاله وجوبا عينيا،
إذ هو حينئذ كالعدو، والبغاة المتغلبين الفاجئين القاصدين الأنفس والحريم،
لعدوانه وتجارئه على ما أجمع المسلمون على تحريمه، وهو أنفسكم وحريمكم وأموالكم
ومنعكم مما هو متعين عليكم بالإجماع من جهاد الكفار الفاجئين لكم، والمقتول
منكم في قتاله كالمقتول في قتال الكفار، ليس بينه وبين الجنة إلا طلوع الروح، فصمموا
على قتاله وأعدوا له ما استطعتم من قوة نصركم الله تعالى عليه، وعلى أعداء الدين،
وبارك فيكم وفي كل من أعانكم من المسلمين، وخذل كل من عاداكم وخذلكم كائنا من كان،
وجعل كيده في نحره!
ونص ما في المعيار:
وسئل بعض فقهاء تلمسان جوابكم سيدي عما عمت به البلوى في بلادنا، وعظم من أجله
الخطب، واتسعت فيه المقالات، وذلك أن الخليفة أصلح الله صالح هؤلاء النصارى الذين
أخذوا سواحلنا إلى أجل معلوم، والمسلمون يرون أن جهادهم من أعظم القربات، فصاروا
يغيرون على أطراف بلادهم فيقتلون ويضيقون بهم، هل ذلك طاعة، أو معصية؟ والفرض أن
الخليفة لا يوافق على ذلك ويعاقب عليه أجيبونا أرشدتم ووفقتم؟
فأجاب الحمد لله...
أما بعد سؤالك يتوقف
على تقرير مقدمة بتقريرها يتبين ما يتضح به المسئول عنه، فنقول:
الصلح الواقع بين إمام
المسلمين وأعداء الدين على ضربين:
الضرب الأول حيث يكون
الجهاد فرض كفاية.
والثاني حيث يكون فرض
عين.
أما الأول فحيث يكون
المسلمون طالبين على الكافرين الحربيين، فالصلح لمصلحة يراها الإمام بحسب اجتهاده
جائز عند المالكيين، ونقل ابن عبد البر عن سحنون أنه قال: لا يبعد في المدة، ونقل
ابن شاس عن أبي عمران أنه استحب أن لا تكون المدة أكثر من أربعة أشهر، إلا مع
العجز.
وأما الضرب الثاني
فمهما تعين الجهاد في موضع لم يجز فيه الصلح، كما لو كان العدو
طالبا على المسلمين، وقد يفجأ موضعهم، وهو ضعف عدد المسلمين فأقل لا شدة وعدة على
المشهور عند المحققين، فيتعين على من نزل بهم، ومن قاربهم دفعهم في الحين.
ونقل اللخمي عن الداودي
فرضية الجهاد على من يلي العدو، ويسقط عمن بعد عنه، وقرره المازري بأنه بيان لتعلق
فرض الكفاية لمن حضر محل تعلقه، قادرا عليه دون من بعد عنه لعسره، فإن عصى الحاضر
تعلق بمن يليه.
وحاصل كلام المازري أن
فرض الكفاية الذي هو حكم الجهاد قد يعرض له ما يوجبه على الأعيان في بعض الأحيان.
وفي تلقين القاضي عبد
الوهاب: قد يتعين في بعض الأوقات على من يفجؤهم العدو.
وفي نوازل ابن أبي زيد
عن سحنون إن نزل أمر يحتاج فيه إلى الجميع كان عليهم فرضا، ولو سبى المشركون
النساء والذرية والأموال وجب استنقاذهم على من قوي عليه ما لم يخافوا على أنفسهم،
أو على أهليهم برؤية سفن، أو خبر عنها، فكل ما نقل في تعين فرض الجهاد مانع من
الصلح، لاستلزامه إبطال فرض العين، الذي هو الجهاد المطلوب فيه الاستنقاذ.
وفي العتبية: سئل مالك
أواجب على المسلمين افتداء من أسر منهم؟
قال: نعم أليس واجبا
عليهم أن يقاتلوا حتى يستنقذوهم؟ قال: بلى! قال: فكيف لا يفدونهم بأموالهم؟
وفي مثل هذا أعني حيث
يتعين الجهاد، حكى القاضي ابن رشد الاتفاق على أنه أقوى من الذهاب إلى حجة
الفريضة؛ لأن الجهاد إن تعين كان على الفور، والحج قد قيل فيه إنه على التراخي.
ولما تقررت هذه المقدمة
بما فيها من النصوص للأئمة تعين بها أن الجهاد فرض عين في مسألة السؤال، فيمتنع
فيه الصلح على كل حال، لا سيما إن طالت مدته، فقد عادت على العدو أهلكه الله
مصلحته، وعلى المسلمين مفسدته، وإن تخيلت فيه مصلحة فهي للعدو أعظم من وجوه مكملة،
فإنه يتحصن في تلك المدة، ويكثر من آلات الحرب والعدة، فيتعذر على المسلمين
الاستنقاذ، ويصعب عليهم تحصيل المراد، بعد تيسره..
فما وقع من الصلح هو مفسدة
على الإسلام، فلا يكون له في نفس الأمر إبرام، فالصلح المذكور يجب نقضه؛ لأنه
بمقتضى الشرع غير منبرم، فحكمه غير لازم، عند كل من حقق أصول الشريعة.
قال في التلقين: ولا
يجوز ترك الجهاد لهدنة إلا من عذر.
لا يقال الصلح المسئول
عنه داخل في المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب، والصلح من المسلمين لا يكون في
الغالب إلا من عذر، على أنه حكم اجتهادي من إمام فلا سبيل إلى نقضه؛ لأنا نقول وقع
ذلك عقب الداهية الدهياء وهي انتهاز العدو دمره الله الفرصة في بلاد المغرب، مع
توفر الإسلام والعدد، والعدو ليس له فيها مدد، والمسلمون لا يقصرون عن ضعف العدو
فضلا عن أن يكون عدوهم ضعفهم، فإما أن يكون الصلح لخوف استئصال الكافرين بقية
المسلمين، وإما للخوف من المحاربين، والأول باطل لمخالفته الفرض، والثاني كذلك
أيضا؛ لأن الخوف من المحارب بالفرض مع إمكان انقسام العدد، واتصال المسلمين بحصول
المدد، فالواجب القتال، وإن كان العدو ذا جلد ومعه كثرة العدد، فلا يدخل الصلح في
المستثنى من كلام القاضي عبد الوهاب، وحكم الاجتهاد ينتقض إذا تبين فيه الخطأ، كما
نقل عن سحنون، وطول المدة في الصلح المذكور خطأ فينتقض الصلح، وذلك أيضا؛ لأن
الصلح المذكور فيه ترك الجهاد المتعين، وترك الجهاد ليسكنه ممتنع، فالصلح المذكور
ممتنع، وكل ممتنع غير لازم، والجهاد في الموضوع المذكور لم يزل متعينا من زمن
الوخزة إلى الآن، وعن ابن القاسم إن طمع قوم في فرصة في عدو قربهم وخشوا إن أعلموا
الإمام يمنعهم فواسع خروجهم، وأحب إلى أن يستأذنوه، قال ابن حبيب: سمعت أهل العلم
يقولون إن نهى الإمام عن القتال لمصلحة حرمت مخالفته، إلا أن يزحمهم العدو.
وقال ابن رشد: طاعة
الإمام لازمة، وإن كان غير عدل ما لم يأمر بمعصية، ومن المعصية النهي عن الجهاد
المتعين).[23]
فلم تعجز فرنسا في المغرب
عن أن تجد من أمراء ذلك العصر من توظفه في خدمتها، والقتال في صفها، لتمهيد الطريق
أمام جيوشها لاحتلال الجزائر ثم المغرب كله، والتحالف معها لمواجهة الثورة عليها!
كما لم يعجز ذلك بريطانيا في المشرق!
وما زلنا مع ملحمة (عودة
الخلافة) والحملة الصليبية فللحديث بقية...
[1] رواه أحمد في المسند 4/ 91، وأبو داود في السنن ح
رقم 4292، وابن ماجه ح رقم 4089، وابن حبان في صحيحه ح رقم 6708، والحاكم في
المستدرك على الصحيحين 4/ 421 وصححه ووافقه الذهبي.
[2] مصنف ابن أبي شيبة - (5 / 298) بإسناد صحيح عن ابن محيريز مرسلا،
وله شواهد تقويه، في استمرار الصراع مع الروم إلى آخر الزمان.
[3] من كلمة بوش التي ألقاها بتاريخ 16 سبتمبر2001م،
البيت الأبيض
http://georgewbush-whitehouse.archives.gov/news/releases/2001/09/20010916-2.html
[4] فقه الخلافة ص 84.
[5] فقه الخلافة ص 89.
[6] فقه الخلافة ص 91.
[7] فقه الخلافة 94.
[8] مجلة الوعي الإسلامي - العدد 63 - ربيع أول -
1390هـ - 6 مايو سنة 1970م - ص 70 (المؤتمر الخامس لمجمع البحوث الإسلامية
بالأزهر).
[9] سورة المؤمنون:52
[10] انظر: نظام الخلافة في الفكر الإسلامي - د. مصطفى
حلمي - ص: ح - ن (من المقدمة).
[11] ولادة الشرق 162-164.
[12] صحيح البخاري ح 6673، وصحيح مسلم ح 1847، وسنن أبي
داود ح 4246، وأحمد في المسند 5/ 386.
[13] غياث الأمم في التياث الظلم - الجويني - تحقيق
ودراسة وفهرسة د. عبد العظيم الديب - كلية الشريعة - جامعة قطر - ط 1 - مطابع
الدوحة الحديثة - 1400هـ - ص 22.
[14] رواه أحمد في المسند 4/273 وهو صحيح الإسناد،
وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ح(5).
[15] رواه أبو داود، ح رقم (4607) واللفظ له، والترمذي،
ح رقم (2678)، وابن ماجه، ح رقم (42-4) وقال الترمذي:(حسن صحيح) .
[16] حاضر العالم الإسلامي، ترجمة نويهض، وتعليق الأمير
شكيب أرسلان 1/5.
[17] المصدر السابق 1/240.
[18] راجع تفصيل أخبار تلك المرحلة بوثائقها في كتابي
(عبيد بلا أغلال) المنشور في موقعي.
[19] الجزيرة العربية في
الوثائق البريطانية 5/499. وهذا البيان بعينه ومضمونه هو البيان المشترك الصادر عن
بريطانيا والولايات المتحدة قبل شن الحرب على العراق سنة 2003م واحتلاله بحجة
إقامة الديمقراطية وتنمية العراق وتحريره من حكومته!
[20] فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب الإمام مالك
للشيخ عليش - (2 / 491)
[21] وهو ما يجري اليوم في
دول الخليج العربي لكل من يقف مع الشعب السوري والعراقي في ثورته على الطغيان
والاحتلال!
[22] المجيب هو الشيخ محمد بن أحمد بن عليش مفتي
المالكية في مصر توفي سنة 1299هـ.
[23] فتح العلي المالك في
الفتوى على مذهب الإمام مالك للشيخ عليش - (2 / 491 - 3/ 4).